(منهمر) من مادّة (همر) على وزن (صبر) وتعني النّزول الشديد للدموع أو الماء، ويستعمل هذا التعبير أيضاً عندما يستدر الحليب من الضرع حتّى النهاية.
والعجيب هنا أنّه ورد في أقوال المفسّرين أنّ قوم نوح كانوا قد اُصيبوا بالجدب لعدّة سنوات قد خلت، وكانوا يرتقبون بتلهّف سقوط المطر عليهم، وفجأة ينزل المطر ولكن لا ليحيي أرضهم ويزيد خيرهم بل ماحقاً ومميتاً لهم(2).
ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط، بل
1 ـ (انتصر): طلب العون كما في الآية (41) سورة الشورى، وهنا جاءت بمعنى طلب الإنتقام على أساس العدل والحكمة كما فسّرها البعض في التقدير (انتصر لي).
2 ـ روح المعاني هامش الآية مورد البحث.
كان من تفجير العيون في الأرض حيث يقول تعالى: (وفجّرنا الأرض عيوناً)(1)وهكذا إختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة: (فالتقى الماء على أمر قد قدر).
إنّ هذا التعبير يجسّد حالة الطوفان الذي غمر الأرض، إلاّ أنّ بعض المفسّرين فسّروا عبارة (قد قدر) بقولهم: إنّ كميّتي المياه المتدفّقة من الجانبين المتقابلين كانتا متساويتين في مقاديرهما بصورة دقيقة، إلاّ أنّ الرأي الأوّل هو الأرجح.
وخلاصة الأمر: إنّ الماء قد فار من جميع جهات الأرض وفجّرت العيون وهطلت الأمطار من السماء، واتّصل الماء بعضه ببعض وشكّل بحراً عظيماً وطوفاناً شديداً.
وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافياً فتنتقل إلى سفينة نجاة نوح (عليه السلام) حيث يقول تعالى: (وحملناه على ذات ألواح ودسر).
(دسر) جمع (دِسار) على وزن (كتاب)، كما يقول الراغب في المفردات، أنّها في الأصل بمعنى الإبعاد أو النهر بشدّة مقترناً مع حالة عدم الرضا، ولكون المسمار عندما يتعرّض للطرق الشديد يدخل في الخشب وما شاكل فيقال له (دسار).
وذكر قسم من المفسّرين أنّ معنى هذه الكلمة هو (الحبل) مشيرين بذلك إلى حبال أشرعة السفينة وما إلى ذلك، والتّفسير الأوّل هو الأرجح نظراً لذكر كلمة (ألواح).
على كلّ حال، فإنّ التعبير القرآني هنا ظريف، لأنّه كما يقول الباريء عزّوجلّ بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم، الذي غمر كلّ شيء أودعنا أمر نجاة
1 ـ «عيوناً»: يمكن أن تكون تميّزاً للأرض والتقدير فجّرنا عيون الأرض، ثمّ إنّ العيون مفعول به منفصل وقد جاءت بصورة تمييز كي تعبّر عن المبالغة والأهميّة وكأنّ الأرض جميعاً تحوّلت إلى عيون.
نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب، وأنّها أدّت هذه الوظيفة على أحسن وجه، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهيّة العظيمة.
ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير طبيعة البساطة التي كانت عليها سفن ذلك الزمان والتي هي بعيدة عن التعقيد والتكلّف قياساً مع السفن المتقدّمة في العصور اللاحقة. ومع ذلك فإنّ سفينة نوح (عليه السلام) كان حجمها بالقدر المطلوب وطبق الحاجة، وطبقاً للتواريخ فإنّ نوح (عليه السلام) قد أمضى عدّة سنين في صنعها كي يتمكّن من وضع (من كلّ زوجين إثنين) من مختلف الحيوانات فيها.
ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوح (عليه السلام) حيث يقول سبحانه (تجري بأعيننا) أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهيّة، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.
إنّ التعبير (بأعيننا) كناية ظريفة للدلالة على المراقبة والرعاية للشيء ويتجسّد هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى في الآية (37) من سورة هود: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا).
بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من (تجري بأعيننا) هو الإشارة إلى الشخصيات المهمّة التي كانت على ظهر السفينة، وبناءً على هذا فإنّ المقصود من قوله تعالى: (تجري بأعيننا)(1) أنّ تلك السفينة كانت تحمل عباد الله الخالصين المخلصين، ونظراً لطبيعة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في الآيات القرآنية الاُخرى فإنّ الرأي الأوّل هو الأصحّ.
ويحتمل أيضاً أنّ المراد بجملة (بأعيننا) هو الملائكة التي كان لها الأثر في هداية سفينة نوح (عليه السلام)، ولكن هذا الرأي ضعيف أيضاً لسبب أعلاه.
ثمّ يضيف تعالى: (جزاءً لمن كان كفر)(2).
1 ـ «أعين» جمع عين، وإحدى معانيها العين الباصرة، والمعنى الآخر لها هو: الشخصية المعتبرة. ولها معان اُخرى.
2 ـ يجدر بالملاحظة هنا أنّ فعل (كفر) مبني للمجهول، والمراد به نوح (عليه السلام) الذي كُفِر به، وليس فعلا معلوماً يشير إلى الكفّار.
نعم إنّ نوح (عليه السلام) كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهيّة عظيمة وموهبة من مواهبة الكبيرة على البشرية، إلاّ أنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته(1).
ثمّ يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصّة العظيمة موضع العظّة والإعتبار: (ولقد تركناها آية فهل من مدّكر).
والحقيقة أنّ كلّ ما كان يستحقّ الذكر في هذه القصّة قد قيل، وكلّما ينبغي للإنسان الواعي المتّعظ أن يدركه فهو موجود.
وإستناداً إلى هذا التّفسير المنسجم مع الآيات السابقة واللاحقة، فإنّ الضمير في (تركناها) يرجع إلى قصّة الطوفان وماضي نوح (عليه السلام) ومخالفيه. ولكن البعض يرى أنّ المراد هو (سفينة نوح) لأنّها بقيت مدّة من الزمن شاخصة لأنظار العالم، وكلّما يراها أحد تتجسّد أمامه قصّة الطوفان الذي حلّ بقوم نوح (عليه السلام). ومع علمنا بأنّ بقايا سفينة نوح (عليه السلام) كانت حتّى عصر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنّ البعض من المعاصرين ادّعى رؤية بقاياها في جبال (آرارات) في القفقاز، عندئذ يمكن أن يكون المعنيان مقصودين في الآية الكريمة.
ولهذا فإنّ قصّة نوح (عليه السلام) كانت آية للعالمين، وكذا سفينته التي بقيت ردحاً من الزمن بين الناس(2).
وفي الآية اللاحقة يطرح الله سبحانه سؤالا معبّراً ومهدّداً للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه: (فكيف كان عذابي ونذر).
هل هذه حقيقة واقعة، أم قصّة واُسطورة؟
1 ـ إذا لم يكن في الآية شيء مقدّر فيكون نائب الفاعل للفعل (كفر) هو شخص نوح (عليه السلام) حين أنّه (عليه السلام) يكون النعمة التي (كفر) بها، أمّا إذا قلنا أنّ للآية محذوف مقدّر، فيكون تقديره (كفر به) فعندئذ تكون إشارة إلى عدم الإيمان بنوح (عليه السلام)وتعاليمه.
2 ـ لقد ذكرت أبحاث مفصّلة حول قصّة قوم نوح (عليه السلام) في هامش الآيات الكريمة 25 ـ 49 من سورة هود.
ويضيف مؤكّداً هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى: (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر).
نعم إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها، وحيوية عباراته وصراحتها في عرض المطالب ترغيباً وتهديداً، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير بالإضافة إلى قوّة دلائله وأحكامها ومنطقه المتين، وإحتوائه على كلّ ما يلزم من عناصر التأثير ... لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول الحقّ والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة، والشاهد على هذا أنّ التأريخ الإسلامي يذكر لنا قصصاً عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.
ولكن ما العمل حينما تكون النطفة لبذرة ما ميتة، حتّى لو هيّأ لزراعتها أخصب الأراضي، وسقيت بماء الكوثر، واعتني بها من قبل أمهر المزارعين، فإنّها لن تنمو ولن تزهر وتثمر أبداً.
* * *
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانِ عَذَابِى وَنُذُرِ ( 18 ) إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْس مُّسْتَمِرٍّ ( 19 ) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْل مُّنقَعِر ( 20 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( 21 ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرِ ( 22 )
تستعرض الآيات الكريمة أعلاه وبإختصار أخبار نموذج آخر من الكفّار والمجرمين بعد قوم نوح، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحقّ والهداية الإلهية.
وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى: (كذّبت عاد).
لقد بذل هود (عليه السلام) غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحقّ الذي جاء به من عند الله، وكان (عليه السلام) كلّما ضاعف سعيه وجهده لإنتشالهم من الكفر والضلال إزدادوا إصراراً ونفوراً ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشىء من الثراء والإمكانات المادية، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة إنغماسهم في الشهوات، جعلتهم صمّ الآذان،
عميّ العيون، فجازاهم الله بعقاب أليم وعذاب شديد، ولهذا تشير الآية الكريمة بإختصار حيث يقول سبحانه: (فكيف كان عذابي ونذر).
كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه: (إنّا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر).
«صرصر» من مادّة (صرّ) على وزن (شرّ)، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز، لذا اُطلق عليها (صرصر).
أمّا (نحس) ففي الأصل معناها (الإحمرار الشديد) الذي يظهر في الاُفق أحياناً، كما يطلق العرب أيضاً كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان، ثمّ أطلق هذا المصطلح على كلّ (شؤم) مقابل (السعد).
«مستمر» صفة لـ (يوم) أو لـ (نحس) ومفهومه في الحالة الاُولى هو إستمرار حوادث ذلك اليوم كما في قوله تعالى: (سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً، فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية).(1)
وتعني في الحالة الثانية إستمرار نحوسة ذلك اليوم حتّى هلك الجميع.
كما يفسّر البعض معنى (النحس) بأنّه حالة الجو المكفهر المغبّر، لأنّ العاصفة كانت مغبرة إلى درجة أنّها لم تسمح برؤية بعضهم البعض. وعندما شاهدوا العاصفة من بعيد ظنّوا أنّها غيوم محملة بالأمطار متّجهة نحوهم، وسرعان ما تبيّن لهم أنّها ريح عاتية لا تبقي ولا تذر أُمرت بعذابهم والإنتقام منهم، كما في قوله تعالى: (فلمّا رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم).(2)
إنّ هذين التّفسيرين غير متنافيين، ويمكن جمعهما في معنى الآية الكريمة
1 ـ الحاقّة، 7.
2 ـ الأحقاف، 24.
مورد البحث.
ثمّ يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله: (تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل منقعر).
«منقعر» من مادّة (قعر) بمعنى أسفل الشيء أو نهايته، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشيء من أساسه.
كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا التعبير أنّ ضخامة الهياكل وقوّة الأبدان التي كان عليها قوم عاد لم تغنهم من فتك الريح بهم وهلاكهم حيث ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوم عاد حاولوا التخلّص من العذاب الذي باغتهم وذلك بأن التجأوا إلى حفر عميقة وملاجىء تحت الأرض لحفظ أنفسهم، ولكن دون جدوى حيث أنّ الريح كانت من القوّة بحيث قلعتهم من أعماق تلك الحفر وقذفت بهم من جهة إلى اُخرى، حتّى قيل أنّها كانت تدحرجهم وتجعل أعلى كلّ منهم أسفله وتفصل رؤوسهم عن أجسادهم.
«أعجاز» جمع (عجز) ـ على وزن (رجل) ـ بمعنى خَلْفُ أو تحت، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدّة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها، وبقيت أجسادهم المقطّعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطّعة الرؤوس، ثمّ قُلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.
وللسبب المذكور أعلاه، يكرّر الله سبحانه وتعالى إنذاره للكفّار بقوله: (فكيف كان عذابي ونكر).
فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان، فعليكم أن تتفكّروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه!!
وفي نهاية القصّة يؤكّد قوله سبحانه: (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر) فهل هنالك من آذان صاغية وقلوب واعية لهذا النداء الإلهي والإنذار
الربّاني؟.
والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه: (فكيف كان عذابي ونذر) حيث تكرّرت مرّتين: الاُولى: في بداية الحديث عن قصّة قوم عاد، والثانية: في نهايتها. ولعلّ سبب هذا الإختلاف بين قوم عاد والأقوام الاُخرى، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وإنتقاماً، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.
* * *
الشيء المتعارف بين الناس، هو أنّ بعض الأيّام سعيدة ومباركة، والبعض الآخر نحس ومشؤوم، مع وجود إختلاف كثير في تشخيصها.
ويدور الحديث حول مدى قبولها إسلامياً، وهل أنّها مأخوذة من تعاليم الإسلام أم لا؟.
من الناحية العقلية لا يعدّ إختلاف أجزاء الزمان من هذه الجهة محالا، بأن يتّصف بعضها بالنحوسة والاُخرى بالبركة والسعد. ولا نملك أي إستدلال عقلي لإثبات أو نفي هذا المعنى، ولهذا نستطيع القول: إنّ هذا الأمر بهذا القدر شيء ممكن، ولكنّه غير ثابت من الناحية العقلية.
وبناءً على ذلك فإذا كانت لدينا دلائل شرعية لهذا المعنى ثبتت عن طريق الوحي فلا مانع من قبولها، بل الإلتزام بها.
وحول (نحس الأيّام) تشير الآيات القرآنية مرّتين إلى هذا الموضوع، الاُولى في الآيات مورد البحث، والثانية: في قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً
صرصراً في أيّام نحسات)(1)(2).
وفي مقابل «النحوسة» فإنّنا نلاحظ في بعض الآيات القرآنية تعبير (مبارك) كما في قوله تعالى حول ليلة القدر: (إنّا أنزلناه في ليلة مباركة).(3)
وقلنا إنّ «نحس» مأخوذ في الأصل من صورة الإحمرار الشديد في الاُفق، الذي يشبه النار المتوهّجة الخالية من الدخان والتي يطلق عليها (النحاس). وبهذه المناسبة إستعمل في معنى الشؤم.
ومن هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يتطرّق لهذه المسألة إلاّ من خلال إشارة مغلقة فقط. لكنّنا حينما نقرأ في الكتب الإسلامية، يواجهنا العديد من الرّوايات في هذا المجال، مع العلم أنّ الكثير منها ضعيف، وأنّ البعض الآخر منها موضوع أو ملفّق، أو مشوب بالخرافات. وليست جميعاً كذلك، بل هناك ما هو معتبر منها وموضع إطمئنان كما يؤكّد المفسّرون صحّة ذلك من خلال تفسير الآيات أعلاه.
ويذكر لنا المحدّث الكبير العلاّمة المجلسي روايات عديدة في هذا المجال في بحار الأنوار(4).
وفي هذا المجال نستطيع إيراد الملاحظات التالية:
أ ـ لقد ذكروا في روايات عديدة (سعد ونحس) الأيّام، وكذلك الحوادث التي وقعت فيها، حيث نقرأ في الرّواية التالية في أسئلة الشامي لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: (أخبرني عن يوم الأربعاء والتطيّر منه وثفله، وأي أربعاء هو)، قال (عليه السلام): «آخر أربعاء من الشهر، وهو المحاق، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه، ويوم الأربعاء أرسل
1 ـ يجدر الإنتباه إلى أنّ نحسات جاءت صفة للأيّام، وذلك يعني أنّ الأيّام المذكورة وصفت بالنحوسة، في الوقت الذي ذكرت كلمة (يوم) في الآية الكريمة (في يوم نحس مستمر) إضافة لـ (النحس) وليست وصفاً ولكن بقرينة الآية أعلاه يجب القول: إنّ الإضافة هنا تكون إضافة موصوف إلى صفة (يرجى الإنتباه).
2 ـ فصّْلت، 16.
3 ـ الدخان، 3.
4 ـ بحار الأنوار، ج59 كتاب السماء والعالم، ص1 ـ 91 وما بعدها.
الله عزّوجلّ الريح على قوم عاد»(1).
ومن هنا فإنّ الكثير من المفسّرين يرتّبون أثراً على هذه الرّوايات، ويعتبرون أنّ آخر أربعاء من كلّ شهر هو يوم نحس، ويطلقون عليه (أربعاء لا تدور) أي لا تتكرّر.
ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ اليوم الأوّل من كلّ شهر هو سعد ومبارك، وذلك لأنّ آدم (عليه السلام) خلق في هذا اليوم، وكذلك فإنّ اليوم 26 من كلّ شهر يوم مبارك، حيث: (ضرب موسى فيه البحر فانفلق)(2).
كما أنّ اليوم الثالث من كلّ شهر، هو يوم نحس، نُزع عن آدم وحواء لباسهما وأُخرجا من الجنّة(3).
كما أنّ اليوم السابع من كلّ شهر هو يوم مبارك، لأنّ نوح (عليه السلام) قد ركب في السفينة (ونجا من الغرق)(4).
ونقرأ في الحديث التالي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المعنى حول يوم (النوروز) حيث يقول:
«... يوم مبارك إستوت فيه سفينة نوح على الجودي، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرائيل على النبي، وهو اليوم الذي حمل فيه رسول الله أمير المؤمنين على منكبه حتّى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام فهشّمها ... وهو اليوم أمر النّبي أصحابه أن يبايعوا علياً بإمرة المؤمنين ...»(5).
وقد إقترن سعد ونحس الأيّام بذكر بعض الوقائع التأريخية الحسنة والسيّئة كما في العديد من الرّوايات، فمثلا ما ذكر عن يوم عاشوراء الذي إعتبره الاُمويون
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص183 حديث (25).
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص105.
3 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص58.
4 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص61.
5 ـ بحار الأنوار، ج59، ص92.
يوم سعد لمّا حقّقوا فيه وبظنّهم من إنتصار على أهل البيت (عليهم السلام) ... نلاحظ الرّوايات تنهى بشدّة عن التبرّك في مثل هذا اليوم، كما تحذر من إدّخار الأقوات السنوية فيه، والإبتعاد عن أجواء الإحتفالات التي كان يقيمها الاُمويون في هذا اليوم وكذلك تؤكّد على تعطيل الأعمال فيه.
ومن ملاحظة مجموعة الرّوايات السابقة، دفع البعض أن يفسّر مسألة سعد ونحس الأيّام على أنّها مجعولة من أجل شدّ المسلمين بهذه الحوادث التاريخيّة المهمّة، وحثّهم عمليّاً على تطبيق ما تستلزمه تلك الحوادث من التفاعل وما تفرزه من معطيات، وكذلك الإبتعاد عن محطّات الحوادث السيّئة وإجتناب سبلها.
ويمكن أن يصدّق هذا التّفسير في قسم من هذه الرّوايات ولا يصدق على القسم الآخر منها، ذلك لأنّ المستفاد من البعض منها أنّ هنالك تأثيراً ملموساً في بعض الأيّام (إيجاباً وسلباً) وليس لنا تفسير أو علم لهذا التأثير.
ب ـ ممّا يجدر الإنتباه إليه أنّ هنالك من يفرط في موضوع سعد ونحس الأيّام، بحيث إنّهم يمتنعون من الشروع بأي عمل إلاّ بالإعتماد على هذه الخلفية، وبذلك يفوتون عليهم فرصاً كثيرة يمكن الإستفادة منها.
وبدلا من التعمّق في البحث الموضوعي الذي تحسب فيه حسابات الربح والخسارة والإستفادة من الفرص والتجارب الثرية ... فإنّهم يرجعون كسب الأرباح إلى سعد الأيّام والإنتكاسات والخسارة إلى شؤم الأيّام ... وهذا المنهج يعبّر عن الإنهزام من الواقع والهروب من الحقيقة والإفراط في التعليل الخرافي لحوادث الحياة الذي يجب أن نحذّره ونتجنّبه بشدّة.
والجدير بنا في هذه المسائل أن لا نعطي آذاناً صاغية لأقوال المنجّمين والإشاعات المنتشرة في الأجواء الإجتماعية المتخلّفة، ولا لحديث اُولئك الذين يدّعون المعرفة المستقبلية لفأل الأشخاص، ونستمرّ في حياتنا العملية بجهد حثيث وخطى ثابتة وبالتوكّل على الله وبروح موضوعية بعيدة عن التأثّر بهذه
الحكايات والأقاويل، ونستمدّ من الله وحده العون والرعاية.
ج ـ إنّ مسألة الإهتمام بموضوع (سعد ونحس) الأيّام بالإضافة إلى أنّها ترشدنا للكثير من الحوادث التأريخيّة ذات العظة والعبرة، فإنّها أيضاً عامل للتوسّل بالله والتوجّه إلى رحاب عظمته السامقة، وإستمداد العون من ذاته القدسيّة، وهذا ما نلاحظه في روايات عديدة.
ففي الأيّام النحسة مثلا نستطيع أن نطمئن نفسيّاً لممارستنا العملية وبكلّ تفاؤل وموفّقية، وذلك حينما ندعو الله ونطلب منه العون ونتصدّق على الفقراء، ونقرأ شيئاً من الآيات القرآنية ونتوكّل على الذات الإلهيّة المقدّسة.
روي عن علي بن عمر العطّار، أنّه قال: دخلت على أبي الحسن العسكري يوم الثلاثاء، فقال: لم أرك أمس؟ قال: كرهت الحركة في يوم الإثنين، قال: «ياعلي من أحبّ أن يقيه الله شرّ يوم الإثنين، ليقرأ في أوّل ركعة من صلاة الغداة (هل أتى على الإنسان ...) ثمّ قرأ أبو الحسن: (فوقّاهم شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نضرةً وسروراً)»(1).
وفي هذا الصدد نقرأ الرّواية التالية أيضاً عن الحلبي عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام)، أيكره السفر في شيء من الأيّام المكروهة، الأربعاء وغيره؟ قال: «افتتح سفرك بالصدقة، واقرأ آية الكرسي إذا بدا لك»(2).
وذكر أيضاً عن الحسن بن مسعود أحد أصحاب الإمام علي الهادي (عليه السلام) أنّه قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمّد (عليهما السلام)، وقد نكبت إصبعي، وتلقّاني راكب فصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي. فقلت: كفانا الله شرّك من يوم فما أشأمك!، فقال (عليه السلام) لي: «ياحسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له».
1 ـ بحار الأنوار، ج59، ص39، حديث 7.
2 ـ المصدر السابق، ص28.
قال الحسن: فأناب إليّ عقلي، وتبيّنت خطأي، فقلت يامولاي: إستغفر لي.
فقال (عليه السلام): «ياحسن، ما ذنب الأيّام حتّى صرتم تتشاءمون منها إذا جوزيتم بأعمالكم».
قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً، وهي توبتي، يا ابن رسول الله.
قال (عليه السلام): «والله ما ينفعكم ولكنّ الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه، أما علمت ياحسن أنّ الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا وآجلا؟».
قلت: بلى يامولاي.
قال (عليه السلام): «لا تعد ولا تجعل للأيّام صنعاً في حكم الله».
قال الحسن: بلى يا ابن رسول الله(1).
إنّ هذا الحديث الهامّ يشير إلى أنّ التأثير الممكن حصوله في الأيّام مردّه إلى أمر الله، وليس للأيّام تأثير مستقل على حياة الإنسان، ولابدّ من إستشعار لطف الله دائماً، الذي لا غنى لنا عنه أبداً، وبذلك لا ينبغي أن نتصوّر الحوادث التي هي بمثابة كفّارة لأعمالنا وسيآتنا غالبا على أنّها مرتبطة بتأثير الأيّام ونبرّيء أنفسنا منها، ولعلّ هذا البيان أفضل طريق للجمع بين الأخبار المختلفة في هذا الباب.
* * *
1 ـ تحف العقول، عن بحار الأنوار، ج59، ص2 بإختصار.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( 23 ) فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِى ضَلَـل وَسُعُر ( 24 ) أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ( 25 ) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاَْشِرُ ( 26 ) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ( 27 ) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْب مُّحْتَضَرٌ ( 28 ) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ( 29 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( 30 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الُْمحْتَظِرِ ( 31 ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر ( 32 )
تكملة للأبحاث السابقة، تتحدّث الآيات الكريمة بإختصار عن ثالث قوم ذكروا في هذه السورة، وهم (قوم ثمود) الذين عاشوا في (حجر) الواقعة في شمال الحجاز، ليستفاد من قصّتهم الدروس والعبر.
لقد بذل نبيّهم «صالح» (عليه السلام) أقصى الجهد من أجل هدايتهم وإرشادهم ولكن دون جدوى.
قال تعالى: (كذّبت ثمود بالنذر).
قال بعض المفسّرين: أنّ كلمة (نذر) تعني (الأنبياء المنذرين) ولذا فإنّهم يرون بأنّ تكذيب قوم ثمود لنبيّهم صالح (عليه السلام) كان بمثابة تكذيب لكلّ الأنبياء، ذلك أنّ دعوة الأنبياء أجمع هي دعوة واحدة ومنسجمة، لكن الظاهر أنّ (نذر) جاءت هنا جمع (إنذار) وهو الكلام الذي يتضمّن التهديد، والذي هو الطابع العام لكلام الأنبياء جميعاً (عليهم السلام).
ويستعرض سبحانه سبب تكذيبهم (الأنبياء) حيث يقول على لسان قوم ثمود: (فقالوا أبشراً منّا واحداً نتّبعه، إنّا إذاً لفي ضلال وسعر).
نعم، إنّ الكبرياء والغرور والنظرة المتعالية تجاه الآخرين، بالإضافة إلى حبّ الذات كانت حاجزاً عن الإستجابة لدعوة الأنبياء (عليهم السلام)، لقد قالوا: إنّ (صالح) شخص مثلنا وليست له أيّ إمتيازات علينا ليصبح زعيماً وقائداً نطيعه ونتّبعه، كما لا يوجد سبب لإتّباعه.
وهذا هو الإشكال الذي تورده جميع الأقوام الضالّة على أنبيائها بأنّهم أشخاص مثلنا، ولذا لا يمكن أن يكونوا أنبياء إلهيين.
وإستفاد قسم آخر من المفسّرين من تعبير (واحداً) أنّ قوم صالح كانوا ينظرون إلى نبيّهم أنّه شخص (عادي) وليس له مال وفير ولا نسب رفيع يمتاز به عليهم.
كما يفسّر البعض كلمة (واحداً) أنّه شخص واحد لا يمتلك العمق والإمتداد الإجتماعي الذي يتطلّبه الموقع القيادي في ذلك العصر، حيث النصرة والمؤازرة.