ثمّ تتناول الآية مسألة (ابتغاء فضل الله ورضاه) حيث تؤكّد هذه الحقيقة وهي: أنّ هجرتهم لم تكن لدنيا أو لهوى نفس، ولكن لرضا الله وثوابه.
وبناءً على هذا فـ (الفضل) هنا بمعنى الثواب. و «الرضوان» هو رضا الله تعالى الذي يمثّل مرحلة أعلى من مرتبة الثواب. كما بيّنت ذلك آيات عديدة في القرآن الكريم، ومنها ما جاء في الآية 29 من سورة الفتح، حيث وصف أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الوصف ( تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلا من الله ورضواناً).
ولعلّ التعبير بـ (الفضل) إشارة إلى أنّ هؤلاء المؤمنين يتصوّرون أنّ أعمالهم قليلة جدّاً لا تستحقّ الثواب، ويعتقدون أنّ الثواب الذي غمرهم هو لطف إلهي.
ويرى بعض المفسّرين «الفضل» هنا بمعنى الرزق، أي رزق الدنيا، فقد ورد في بعض الآيات القرآنية بهذا المعنى أيضاً، ولكن بما أنّ المقام هو مقام بيان إخلاص المهاجرين، لذا فإنّ هذا المعنى غير مناسب، والمناسب هو الجزاء
1 ـ «للفقراء» بدل وتفسير لابن السبيل.
والثواب الإلهي.
كما لا يستبعد أن يكون المراد من «الفضل» إشارة للنعم الجسمية، و«الرضوان» هو إشارة للنعم الروحية والمعنوية، والجميع مرتبط بالآخرة وليس بالدنيا.
ثمّ إنّ «المهاجرين» ينصرون المبدأ الحقّ دائماً، وعوناً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يتوقّفوا في جهادهم بهذا السبيل لحظة واحدة (يرجى ملاحظة: أنّ فعل (ينصرون) بصيغة المضارع، وهو دليل على الإستمرار).
ومن هنا يتّضح أنّ هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الإدّعاءات الفارغة، بل هم رجال حقّ وجهاد، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرّة.
وفي مرحلة ثالثة يصفهم سبحانه بالصدق، ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع، إلاّ أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الاُمور: بالإيمان، وفي محبّة الرّسول، وفي التزامهم بمبدأ الحقّ ..
ومن الواضح أنّ هذه الصفات كانت لأصحاب الرّسول في زمن نزول هذه الآيات، إلاّ أنّنا نعلم أنّ أشخاصاً من بينهم قد فرّطوا بالنعم الإلهية التي غمرتهم، وسلكوا سبيل الضلال كالذين أشعلوا نار حرب الجمل في البصرة، وصفين في الشام، وحاربوا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان واجب الطاعة بإجماع المسلمين، وأراقوا دماء الآلاف من المسلمين ...
وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضاً وصف رائع ومعبّر جدّاً عن طائفة الأنصار، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين، فيقول سبحانه: ( والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم).
«تبؤوا» من مادّة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة اُخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما)، هذا التعبير
كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أنّ طائفة الأنصار ـ أهل المدينة ـ قد هيّؤوا الأرضية المناسبة للهجرة، وكما يخبرنا التاريخ فإنّ الأنصار قدموا مرّتين إلى «العقبة» ـ وهي مضيق قرب مكّة ـ وبايعوا رسول الله متنكّرين، ورجعوا إلى المدينة مبلّغين، ومعهم «مصعب بن عمير» ليعلّمهم اُمور دينهم وليهيء الأرضية المناسبة لهجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبناءً على هذا فإنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لإستقبال المهاجرين فحسب، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.
والتعبير ( من قبلهم) يوضّح لنا أنّ كلّ تلك الاُمور كانت قبل هجرة مسلمي مكّة، وهذا أمر مهمّ.
وإنسجاماً مع هذا التّفسير، فإنّ أنصار المدينة كانوا مستحقّين لهذه الأموال، وهذا لا يتنافى مع ما نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه أعطى شخصين أو ثلاثة أشخاص من الأنصار ـ فقط ـ من أموال بني النضير، إذ من الممكن أن لا يكون بين الأنصار أشخاص فقراء ومساكين غير هؤلاء، بعكس المهاجرين فإنّهم إن لم يكونوا مصداقاً للفقير، فيمكن إعتبارهم مصداقاً لأبناء السبيل(1).
ثمّ يتطرّق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اُخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامّة، حيث يقول تعالى: ( يحبّون من هاجر إليهم).
فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم.
والأمر الآخر: ( ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أتوا) فهم لا يطمعون بالغنائم التي اُعطيت للمهاجرين، ولا يحسدونهم عليها، ولا حتّى يحسّون بحاجة
1 ـ إلاّ أنّه وطبقاً لتفسير آخر فإنّ (والذين تبوّؤا الدار) تكون مبتدأ، و (يحبّون) خبرها، وإجمالا فإنّها تشكّل جملة مستقلّة، ولا ترتبط بالجملة السابقة التي تتحدّث حول مصاريف الفيء، إلاّ أنّ من الواضح أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.
إلى ما اُعطي للمهاجرين منها، وأساساً فإنّ هذه الاُمور لا تخطر على بالهم. وهذه الصورة تعكس لنا منتهى السمو الروحي للأنصار.
ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(1).
ومن هذه السمات الثلاث: «المحبّة» و «عدم الطمع» و «الإيثار»، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميّزة.
ونقل المفسّرون قصصاً متعدّدة في شأن نزول هذه الآية:
يقول ابن عبّاس: إنّ الرّسول بيّن للأنصار يوم الإنتصار على يهود بني النضير، إذا كنتم ترومون المشاركة في حصّة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم أموالكم وبيوتكم، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شيء لكم من هذه الغنائم؟ فقال الأنصار: علام نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم، نقدّم المهاجرين علينا ولا نطمع بشيء من الغنائم؟ فنزلت هذه الآية تعظّم هذه الروح العالية(2).
ونقرأ في حديث آخر أنّ شخصاً أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منزله، فقالت زوجته: ما عندنا إلاّ الماء، فقال رسول الله: من لهذا الرجل الليلة، فتعهّده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته، ولم يكن لديه إلاّ القليل من الطعام لأطفاله. وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج، ثمّ قال لزوجته: نوّمي الصبية، ثمّ جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا بالأكل ولم يضعوا شيئاً في أفواههم، وظنّ الضيف أنّهم يأكلون معه، فأكل حتّى شبع وناموا الليلة، فلمّا أصبحوا قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر إليهم وتبسّم (دون أن يتكلّم)، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم.
1 ـ «خصاصة» من مادّة (خصاص) على وزن (أساس) بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت، ولأنّ الفقر في حياة الإنسان يمثّل شقّاً، لذا عبّر عنه بالخصاصة.
2 ـ مجمع البيان، ج9، ص260.
ونقرأ في الروايات التي وصلتنا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المضيف هو الإمام علي (عليه السلام) وأطفاله الحسن والحسين (عليهم السلام)، والمرأة التي نوّمت الصبية جياعاً هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)(1).
ويجدر الإنتباه هنا إلى أنّ القصّة الاُولى يمكن أن تكون سبباً لنزول الآية، والقصّة الثانية من مصاديق تطبيق هذه الآية الكريمة.
وبناءً على هذا فإنّ نزول الآيات حول الأنصار لا يتنافى مع كون المضيف هو الإمام علي (عليه السلام).
وذكر البعض ـ أيضاً ـ أنّ هذه الآية نزلت في مقاتلي غزوة اُحد، حيث أنّ سبعة أشخاص منهم جرحوا في المعركة وقد أنهكهم العطش، فجيء بماء يكفي لأحدهم، فأبى أن يشرب وأومأ إلى صاحبه، وكان الساقي كلّما ذهب إلى أحدهم يشير إلى الآخر ويؤثره على نفسه مع شدّة عطشه، إلى أن وصل إلى الأخير فوجده قد فارق الحياة ثمّ رجع إلى الأوّل فوجده قد فارق الحياة أيضاً، وحتّى انتهى إليهم جميعاً وهم موتى فأثنى الله تعالى على إيثارهم هذا(2).
ولكن من الواضح أنّ هذه الآية نزلت في بني النضير، وبسبب عمومية مفهومها فإنّها قابلة للتطبيق في موارد متشابهة.
وفي نهاية الآية ـ ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق ـ يضيف سبحانه: ( ومن يوق شحّ نفسه فاُولئك هم المفلحون).
«الشحّ» كما يقول الراغب في المفردات: البخل مقترناً بالحرص عادةً.
«يوق» من مادّة وقاية، وبالرغم من أنّه بصيغة فعل مجهول، إلاّ أنّه من الواضح أنّ الفاعل هو الله سبحانه، ويعني أنّ كلّ شخص حفظه الله سبحانه من هذه الصفة الذميمة فإنّه سيفلح.
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ مجمع البيان، ج9، ص260.
ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه: أتدري ما الشحّ؟ فأجاب: هو البخيل، قال (عليه السلام): «الشحّ أشدّ من البخل، إنّ البخيل يبخل ممّا في يده، والشحيح يشحّ بما في أيدي الناس، وعلى ما في يده، حتّى لا يرى في أيدي الناس شيئاً إلاّ تمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام، ولا يقنع بما رزقه الله عزّوجلّ»(1).
ونقرأ في حديث ثان: «لا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب رجل مسلم، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخّان جهنّم في جوف رجل مسلم»(2).
وبالجملة، فما يستفاد بوضوح من الآية أعلاه أنّ ترك المرء للشحّ يوصله إلى الفلاح، ومن يتّصف بهذه الصفة المذمومة فإنّه يهدم بناء سعادته.
وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين، الذين عرفوا بيننا بإصطلاح القرآن الكريم بـ (التابعين)، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة.
يقول تعالى: ( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم).
بالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد حدّد مفهوم هذه الآية بمجموعة من الأشخاص الذين التحقوا بالمسلمين بعد إنتصار الإسلام وفتح مكّة، إلاّ أنّه لا يوجد دليل على هذه المحدوديّة الخاصّة بل تشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة، وعلى فرض أنّ هذه الآية ناضرة إلى فئة خاصّة، إلاّ أنّها عامّة من حيث الملاك والمعيار والنتيجة.
وبهذا فإنّ الآيات الثلاثة المتقدّمة تشمل جميع مسلمي العالم، الذين
1 ـ نور الثقلين، ج5، ص291، حديث64.
2 ـ مجمع البيان، ج9، ص262.
ينضوون إلى واحدة من هذه الطوائف الثلاثة، وهم: (المهاجرون والأنصار والتابعون).
جملة ( والذين جاؤوا ...) حسب الظاهر عطف على ( للفقراء المهاجرين)وذلك لبيان هذه الحقيقة، وهي أنّ أموال «الفيء» لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور.
ويحتمل أيضاً أنّ الجملة مستقلّة (بأن تكون جملة ( والذين جاؤوا ...) مبتدأ (ويقولون) خبر) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل ـ بالنظر إلى إنسجامه مع الآيات السابقة ـ هو الأنسب.
والملاحظ هنا هو أنّ الآية تذكر ثلاث صفات للتابعين:
الاُولى: أنّهم يفكّرون في إصلاح أنفسهم، وطلب العفو والمغفرة والتوبة من الله تعالى.
والثّانية: النظرة المقترنة بالإكبار والإجلال والإحترام إلى من سبقهم بالإيمان، ويطلبون لهم أيضاً العفو والمغفرة من الله تعالى.
الثّالثة: أنّهم يسعون بكلّ وسيلة إلى تهذيب أنفسهم وتطهيرها من الحقد والحسد والبغض والعداء، ويطلبون العون من الله الرؤوف الرحيم لمساعدتهم في هذا الطريق.
وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي: (تربية النفس) و (الإحترام للسابقين في الإيمان) و (الإبتعاد عن الحسد والبغضاء).
«غِلّ» على وزن (سِلّ)، جاءت في الأصل بمعنى نفوذ الشيء بخفية، ولذا يقال للماء الجاري بين الأشجار (غلَل) ولأنّ الحسد والعداوة والبغضاء تنفذ في قلب الإنسان بصورة خفيّة، يقال لها: «غِلْ». وبناءً على هذا فإنّ (الغِلّ) ليس فقط بمعنى الحسد، ولكنّه مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الخفيّة والقبيحة أخلاقياً.
والتعبير بـ (إخوان) والإستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاُخوّة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع. فكلّ شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب، بل للآخرين أيضاً، ولتشمل المجتمع بصورة عامّة، وبذلك تطهّر القلوب من كلّ أنواع العداء والبغضاء والحسد والحرص، وهذا هو المجتمع الإسلامي النموذجي.
* * *
يصرّ بعض المفسّرين ـ بدون الإلتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكلّ من المهاجرين والأنصار والتابعين ـ على إعتبار جميع الصحابة بدون إستثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم، وكلّ خلاف صدر منهم أحياناً سواء في زمن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه، وبهذا اعتبروا كلّ مهاجر وأنصاري وتابع شخصاً محترماً ومقدّساً بصورة عامّة، دون الإلتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.
إلاّ أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين.
ففي «المهاجرين»: الإخلاص والجهاد والصدق.
وفي «الأنصار»: المحبّة للمهاجرين والإيثار، والإبتعاد عن كلّ حرص وبخل.
وفي «التابعين»: بناء أنفسهم، والإحترام للسابقين في الإيمان، والإبتعاد عن
كلّ بغض وحسد.
ومع كلّ هذا، كيف يمكن أن نحترم الأشخاص الذين قاتلوا الإمام علي (عليه السلام)في معركة الجمل وشهروا سيفهم عليه، ولم يراعوا اُخوته في الله، ولم يطهّروا قلوبهم من البغض والحسد تجاهه، ولا احترموا أسبقيته في الإيمان، وبعد كلّ ذلك لا يجوز لنا إنتقادهم، بل يجب علينا التسليم وبدون نقاش لأحاديث هذا وذاك دون تمحيص وتثبّت.
وبناءً على هذا فإنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم وملفّ فعالهم، سواء على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التأريخ الإسلامي، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد، ونقطعها أو نحدّدها ـ بما يناسب ـ مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل.
* * *
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَنِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ(11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلَّنَّ الاَْدْبَـرَ ثُمَّ لاَ يُنصَرونَ(12) لاََنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (13) لاَ يُقَـتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرىً مُّحَصَّنَة أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (14)
نقل بعض المفسّرين سبباً لنزول الآيات أعلاه، والذي خلاصته ما يلي:
إنّ قسماً من منافقي المدينة ـ كعبدالله بن اُبي وأصحابه ـ أرسلوا شخصاً إلى يهود بني النضير وأبلغهم بما يلي: أثبتوا في أماكنكم بقوّة، ولا تخرجوا من بيوتكم، وحصّنوا قلاعكم، وسيكون إلى جنبكم ألفا مقاتل من قومنا مدد لكم، وإنّنا معكم حتّى النهاية. كما أنّ بني قريظة وقبيلة غطفان والمتعاطفين معكم سيلتحقون بكم أيضاً.
إنّ هذه الرسالة ـ التي وجّهها المنافق عبدالله بن اُبي إلى يهود بني النضير ـ أوجدت لديهم الإصرار والعناد على مخالفة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخروج عن أمره، وفي هذه الحالة انبرى (سلام) أحد كبار يهود بني النضير إلى «حي بن أخطب» الذي كان أحد وجوه بني النضير وقال له: لا تهتّموا بكلام عبدالله بن اُبي، إنّه يريد أن يدفعكم لقتال محمّد ويجلس في داره ويسلّمكم للحوادث، قال حي: نحن لا نعرف شيئاً إلاّ العداء لـ (محمّد) والقتال له، فأجابه سلام: اُقسم بالله أنّي أراهم سيخرجوننا قريباً ويهدرون أموالنا وشرفنا وتؤسر أطفالنا ويقتل مقاتلونا(1).
وأخيراً تبيّن الآيات أعلاه نهاية المطاف لهذا المشهد.
ويعتقد البعض أنّ هذه الآيات نزلت قبل قصّة يهود بني النضير، حيث تتحدّث عن الحوادث المستقبلية لهذه الوقائع، وبهذا اللحاظ فإنّهم يعتبرونها إحدى المفردات الغيبية للقرآن الكريم.
ورغم أنّ التعابير التي وردت في الآيات الكريمة كانت بصيغة المضارع وبذلك تؤيّد وجهة النظر هذه، إلاّ أنّ العلاقة بين هذه الآيات والآيات السابقة التي نزلت بعد إندحار بني النضير وإبعادهم عن المدينة، تؤكّد لنا أنّ هذه الآيات أيضاً نزلت بعد هذا الحادث، ولذا كان التعبير بصيغة المضارع بعنوان حكاية الحال. «فتدبّر»
1 ـ روح البيان، ج9، ص439، وجاء نفس هذا المعنى بإختلافات عديدة في تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص199.
بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة، وبيان حالة الأصناف الثلاثة من المؤمنين (المهاجرين والأنصار والتابعين) وخصوصيات كلّ منهم في الآيات مورد البحث، يتعرّض القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم في هذا الحادث، وبيان حالهم بالقياس مع الآخرين، وهذا هو منهج القرآن الكريم، حيث يعرّف كلّ طائفة بمقارنتها مع الاُخرى.
وفي البداية يتحدّث مع الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول سبحانه: ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وان قوتلتم لننصرنّكم).
وهكذا فانّ هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود باُمور ثلاثة، وجميعها كانت كاذبة:
الأوّل: إذا أخرجتم من هذه الأرض فإنّنا سوف لن نبقى بعدكم نتطلّع إلى خواء أماكنكم ودياركم.
والأمر الآخر: إذا صدر أمر ضدّكم من أي شخص، وفي أيّ مقام، وفي أي وقت، فإنّ موقفنا الرفض له وعدم الإستجابة.
والأمر الثالث: إنّه إذا وصل الأمر للقتال فإنّنا سوف نقف إلى جانبكم ولا نتردّد في نصرتكم أبداً.
نعم، هذه هي الوعود التي أعطاها المنافقون لليهود قبل هذا الحادث، إلاّ أنّ الحوادث اللاحقة أوضحت كذب إدّعاءاتهم ووعودهم.
ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة ( والله يشهد أنّهم لكاذبون).
كم هو تعبير رائع ومثير ومقترن بتأكيدات عديدة، من شهادة الله عزّوجلّ، وكون الجملة إسمية، وكذلك الإستفادة من (إنّ) واللام للتأكيد، وكلّها تفيد أنّ
الكذب والنفاق ممتزجان بهم لحدّ لا يمكن فصلهما، لقد كان المنافقون كاذبين دائماً، والكاذبون منافقين غالباً.
والتعبير بـ (إخوانهم) يوضّح لنا طبيعة العلاقة الحميمة جدّاً بين «المنافقين» و «الكفّار»، كما ركّزت الآيات السابقة على علاقة الاُخوة بين المؤمنين، مع ملاحظة الإختلاف بين الفصيلتين، وهو أنّ المؤمنين صادقون في اُخوتهم لذلك فهم لا يتبرّمون بكلّ ما يؤثرون به على أنفسهم، على عكس المنافقين حيث ليس لهم وفاء أو مواساة بعضهم لبعض، وتتبيّن حقيقتهم بصورة أوضح في اللحظات الحرجة حيث يتخلّون عن أقرب الناس لهم، بل حتّى عن إخوانهم، وهذا هو محور الإختلاف بين نوعين من الاُخوة، اُخوة المؤمنين واُخوة المنافقين.
وجملة: ( ولا نطيع فيكم أحداً أبداً) تشير إلى موقف المنافقين الذي أعلنوه لليهود بأنّهم سوف لن يراعوا التوصيّات والإنذارات التي أطلقها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فيهم.
ثمّ .. للإيضاح والتأكيد الأكثر حول كذب المنافقين يضيف سبحانه:
( لئن اُخرجوا لا يخرجون معهم).
( ولئن قوتلوا لا ينصرونهم).
( ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار).
( ثمّ لا ينصرون).
إنّ اللحن القاطع والقوي لهذه الآيات قد أدخل الرعب والهلع في قلوب المنافقين وأقلق بالهم.
وبالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد معيّن، إلاّ أنّها ـ من المسلّم ـ لا تختص به، بل بيان أصل عامّ في علاقة المنافقين مع سائر أعداء الإسلام، بالإضافة إلى الوعود الكاذبة التي يمنحها كلّ منهم للآخر، وتقرّر بطلان وخواء كلّ هذه الروابط والوعود.
ولا يختّص هذا الأمر بما حدث تأريخياً في صدر الإسلام، بل إنّنا نلاحظ اليوم بأعيننا نماذج وصوراً حيّة لا تخفى على أحد، في طبيعة تعامل المنافقين في الدولة الإسلامية مع مختلف الفصائل المعادية للإسلام، وسوف تصدق أيضاً في المستقبل القريب والبعيد. ومن المسلّم أنّ المؤمنين الصادقين إذا التزموا بواجباتهم فإنّهم سينتصرون عليهم، ويحبطون خططهم.
والآية اللاحقة تتحدّث عن سبب هذا الإندحار، حيث يقول سبحانه: ( لأنتم أشدّ رهبةً في صدورهم من الله).
ولأنّهم لا يخافون الله، فإنّهم يخافون كلّ شيء خصوصاً إذا كان لهم أعداء مؤمنون مثلكم ( ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون).
«رهبة» في الأصل بمعنى الخوف المقترن بالإضطراب والحذر، فهو خوف عميق له جذور وتظهر آثاره في العمل.
وبالرغم من أنّ الآية أعلاه نزلت في يهود بني النضير وأسباب إندحارهم أمام المسلمين، إلاّ أنّ مقصودها حكم عام وكلّي، لأنّه لن يجتمع في قلب الإنسان خوفان: الخوف من الله، والخوف من غيره. لأنّ كلّ شيء مسخّر بأمر الله، وكلّ إنسان يخشى الله ويعلم مدى قدرته لا ينبغي أن يخاف من غيره.
إنّ مصدر جميع هذه الآلام هو الجهل وعدم إدراك حقيقة التوحيد، ولو كان مسلمو اليوم بالمعنى الواقعي (يعني مؤمنين موحّدين حقّاً) فإنّهم لا يقفون بشجاعة أمام القوى الكبرى بإمكاناتها المادية والعسكرية فحسب، بل إنّ القوى الكبرى هي التي تخشاهم وتخاف منهم، كما نلاحظ نماذج حيّة لهذا المعنى، حيث نرى دولا كبرى مع ما لديها من الأسلحة والوسائل المتطوّرة تخشى شعباً صغيراً لأنّه مسلّح بالإيمان ومتّصف بالتضحية.
وشبيه هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى: ( سنلقي في قلوب الذين كفروا
الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزّل سلطاناً ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين)(1).
ثمّ يستعرض دليلا واقعياً واضحاً يعبّر عن حالة الخوف والإضطراب حيث يقول سبحانه: ( لا يقاتلونكم جميعاً إلاّ في قرى محصنة أو من وراء جدر).
«قرى» جمع قرية، أعمّ من المزروعة وغير المزروعة، وتأتي أحياناً بمعنى الناس المجتمعين في مكان واحد.
«محصّنة» من مادّة (حصن) على وزن «جسم» بمعنى مسوّرة، وبناءً على هذا فإنّ (القرى المحصّنة) تعني القرى التي تكون في أمان بوسيلة أبراجها وخنادقها والمواضع التي تعيق تقدّم العدو فيها.
«جُدُر» جمع جدار، والأساس لهذه الكلمة بمعنى الإرتفاع والعلو.
نعم، بما أنّهم خرجوا من حصن الإيمان والتوكّل على الله، فإنّهم بغير الإلتجاء والإتّكاء على الجدران والقلاع المحكمة لا يتجرّؤون على مواجهة المؤمنين.
ثمّ يوضّح أنّ هذا ليس ناتجاً عن جهل بمعرفة فنون الحرب، أو قلّة في عددهم وعدّتهم، أو عجز في رجالهم، بل إنّ ( بأسهم بينهم شديد).
إلاّ أنّ المشهد الذي عرض يتغيّر في حالة مواجهتهم لكم ويسيطر عليهم الرعب والإضطراب بصورة مذهلة.
وهذا الأمر تقريباً يمثّل أصلا كليّاً في مورد إقتتال الفئات غير المؤمنة فيما بينهم، وكذلك محاربتهم للمؤمنين.
ونشاهد مصاديق هذا المعنى بصورة متكرّرة أيضاً في التأريخ المعاصر، حيث نلحظ عند إشتباك مجموعتين غير مؤمنتين مع بعضهما شدّة الفتك وقسوة الإنتقام وشراسة المواجهة بينهما بصورة لا تدعو للشكّ في قوّة كلّ منهما ... ولكن لو تغيّرت المعادلة، وأصبحت المواجهة بين مجموعة غير مؤمنة بالله واُخرى مؤمنة مستعدّة للشهادة في سبيل الله، عند ذلك نرى أعداء الحقّ يلوذون إلى القلاع
1 ـ آل عمران، الآية 151.
المحكمة ويخفون أنفسهم في المواضع ووراء المتاريس وخلف الأسلحة، ويسيطر عليهم الخوف ويهيمن عليهم الرعب ويملأ كلّ وجودهم، والحقيقة أنّ المسلمين إذا جعلوا إيمانهم وقيمهم الإسلامية هي الأساس فإنّهم منتصرون ومتفوقون على الأعداء بلا ريب.
ولهذا السبب ـ وإستمراراً لما ورد في نفس الآية ـ نستعرض سبباً آخر من أسباب إندحار المنافقين، حيث يقول سبحانه: ( تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون).
«شتّى» بمعنى (شتيت) أي متفرّق.
إنّ القرآن الكريم في تحليل المسائل بشكل دقيق جدّاً وملهم يؤكّد على أنّ (التفرقة والنفاق الداخلي) وليدة (الجهل وعدم المعرفة) لأنّ الجهل عامل الشرك، والشرك عامل للتفرقة، والتفرقة تسبّب الهزيمة. وبالعكس فإنّ «العلم» عامل لوحدة العقيدة والعمل والإنسجام والإتّفاق، وهذه الصفات بحدّ ذاتها مصدر للإنتصار.
وهكذا فإنّ الإنسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والإتفاقيات العسكرية والإقتصادية يجب ألاّ تخدعنا أبداً، لأنّ وراءها قلوب متناحرة متنافرة، ودليلها واضح وهو إنهماك كلّ منهم بمنافعه المادية بشكل شديد، وبما أنّ المنافع غالباً ما تكون متعارضة، فعندئذ تبرز الإختلافات والشحناء فيما بينهم، ولن تغني عن ذلك العهود والإتّفاقيات وشعارات الوحدة والإنسجام الظاهري. في الوقت الذي تكون فيه وحدة وإنسجام المؤمنين على قواعد واُصول ربّانية كأصل الإيمان والتوحيد والقيم الإلهية، وإذا اُصيب المسلمون بإنتكاسة في أعمالهم فإنّ ذلك دليل على إبتعادهم عن حقيقة الإيمان وما لم يعودوا إلى الإيمان فإنّ وضعهم لن يتحسّن.
* * *
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَـنِ إِذْ قَالَ لِلإنسَـنِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَـلَمِينَ (16) فَكَانَ عَـقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَـلِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَؤُا الظَّـلِمِينَ(17) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَد وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنَسـهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ(18) لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـبُ النَّارِ وَأَصْحَـبُ الْجَنَّةِ أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
يستمرّ البحث في هذه الآيات حول قصّة بني النضير والمنافقين ورسم
خصوصية كلّ منهم في تشبيهين رائعين:
يقول سبحانه في البداية: ( كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم)(1).
تحدّثنا هذه الآية عن ضرورة الإعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين كانوا من قبلهم وما جرى لهم، خاصّة وأنّ الفترة الزمنية بين الحادثتين غير بعيدة.
ويعتقد البعض أنّ المقصود بقوله: ( الذين من قبلهم) هم مشركو مكّة الذين ذاقوا مرارة الهزيمة بكلّ كبريائهم في غزوة «بدر»، وأنهكتهم ضربات مقاتلي الإسلام، لأنّ هذه الحادثة لم يمرّ عليها وقت طويل بالنسبة لحادثة بني النضير، ذلك لأنّ حادثة بني النضير ـ كما أشرنا سابقاً ـ حدثت بعد غزوة «اُحد»، وغزوة بدر قبل غزوة اُحد بسنة واحدة، وبناءً على هذا فلم يمض وقت طويل بين الحادثتين.
في الوقت الذي يعتبرها كثير من المفسّرين إشارة إلى قصّة يهود «بني قينقاع»، التي حدثت بعد غزوة بدر، وإنتهت بإخراجهم من المدينة.
وطبيعي أنّ هذا التّفسير مناسب أكثر ـ حسب الظاهر ـ بإعتباره متلائماً أكثر مع يهود بني النضير، لأنّ يهود بني قينقاع كيهود بني النضير كانوا ذوي ثراء ومغرورين بقدرتهم القتالية، يهدّدون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين بقوّتهم وقدرتهم العسكرية ـ كما سنذكر ذلك تفصيلا إن شاء الله ـ إلاّ أنّ العاقبة لم تكن غير حصاد التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
«وبال» بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من (وابل) بمعنى المطر الغزير، لأنّ المطر الغزير غالباً ما يكون مخيفاً ويقلق الإنسان من عاقبته المرتقبة، كالسيول الخطرة والدمار وما إلى ذلك.
1 ـ هذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: مثلهم كمثل الذين من قبلهم.
ثمّ يستعرض القرآن الكريم تشبيهاً للمنافقين حيث يقول سبحانه: ( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال انّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين)(1).