(295)

قوله تعالى: قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي. قال: إنه يقول:

إنها بقرة لا فارض، ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون " (68) ـ آية.

الفارض: الكبيرة المسنة. وبه قال الجمهور. يقال منه: فرضت البقرة تفرض فروضا. وفرضت تفرض فراضة: إذا أسنت. قال الشاعر:

لعمري لقد اعطيت جازك فارضا * تساق إليه ما تقوم على رجل (1)

وقيل: إن الفارض: التي قد ولدت يطونا كثيرة. فيتسع لذلك جوفها، لان معنى الفارض، في اللغة الواسع. وهو قول بعض المتأخرين. واستشهد بقول الراجز:

يارب ذي ضغن علي فارض * له قروء كقروء الحائض (1)

ومنه قول الراجز:

هدلاء كالوطب تجاه الماخض * له زجاج ولهاة فارض (2)

ويقال لحية فارض: إذا كانت عظيمة. قال الشاعر:

شيب اصداغي فرأسي ابيض * محامل فيها رجال فرض (3)

أي ذو أسنان: وقال الجبائي: الفارض: التي لم تلد بطونا كثيرة، فيتسع لذلك بطنها. قال الرماني وهذا غلط لا يعرف. والبكر: الصغيرة التي لم تحمل.

والبكر من اناث البهائم وبني آدم: ما لم يفتحله الفحل. ـ مكسورة الباء ـ والبكر:

ـ بفتح الباء ـ الفتي من الابل

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قائله علقمة بن عوف. اللسان (فرض) وروايته. (ضيفك) بدل (جارك) و (تجر)

بدل (تساق).

(2) اللسان: " فرض " وروايته: يارب مولى حاسد مباغض وبين البيتين اللذين اثبتهما الشيخ

“ قده " هذا البيت: علي ذي ضغن وضب فارض (3) الثاني في اللسان: " زجج " والزجاج. وهو الحديدة التي تركب في اسفل الرمح.

اللهاة: لحمة حمراء.

" 4 " لرجل من فقيم اللسان. " فرض " واحدهم فارض. (*)

 

===============

(296)

والعوان: النصف التي قد ولدت بطنا أو بطنين قال الفراء: يقال من العوان:

عونت المرأة تعوينا ـ بالفتح والتشديد ـ وعونت: إذا بلغت ثلاثين سنة. وقال أبوعبيدة: إنما قال: " عوان بين ذلك " ولم يقل بينهما، لانه أخرجه على لفظة واحدة، على معنى هذا الكلام الذي ذكرناه. قال رؤبة في صفة العير:

فيه خطوط من سواد وبلق * كأنها في الجلد توليع البهق (1)

قال ابوعبيدة: إن أردت الخطوط، فقل: كأنها، وان اردت السواد والبلق، فقل: كانهما. فقال: كان ذلك وذاك. قال الفراء: إنما يصح ان يكنى عن الاثنين بقولهم ذاك في الفعلين خاصة. ولا يجوز في الاسمين. ألا ترى، انهم يقولون: اقبالك وادبارك يشق علي، لانهما مشتقان من فعل. ولم يقولوا: أخوك وابوك يزورني حتى تقول: يزوراني. وقال الزجاج تقول: ظننت زيدا قائما فيقول القائل ظننت ذلك وذاك. قال الشاعر في صفة العوان:

خرجن عليه بين بكر عويرة * وبين عوان بالعمامة ناصف (2)

بين ذلك يعني بين الكبيرة والصغيرة. هو اقوى ما يكون من البقر واحسنه قال الاخطل:

وما بمكة من شمط محفلة * وما بيثرب من عون وابكار (3)

ويقال بقرة عوان، وبقر عون. قال الاخفش: لا فارض، ولا بكر.

ارتفع ولم ينتصب كما ينتصب النفي لان هذه صفة في معنى البقرة والنفي المنصوب، لا يكون صفة من صفتها. انما هو اسم مبتدأ وخبره مضمر. وهذا مثل قولك:

عبدالله لا قائم ولا قاعد. أدخلت لا للنفي وتركت الاعراب على حاله، لو لم يكن فيه لا، ثم قال: " عوان " فوقع على الابتداء. كأنه قال: هي عوان. ويقال ايضا: عوانة. قال الاعشى:

بكميت عرفاء محمرة مخف * عربها عوانة اوفاق

ـــــــــــــــــــــــ

(1) اللسان: (بهق) وروايته (الجسم) بدل (الجلد).

(2) لم نجده في مراجعنا.

(3) ديوانه 19. وروايته وما بزمزم من شمط محلقة.. يقصد حالقين رؤوسهم وقد ـ (*)

 

===============

(297)

قوله تعالى:

" قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " (69) آية بلا خلاف.

الاعراب:

لونها: رفع لان ما ليست زائدة، بل هي بمعنى أي: كأنهم قالوا: أي شئ لونها؟ وقوله: " يبين ": جزم لانه جواب الامر بغير ياء.

ومعنى الآية: أن قوم موسى قالوا: ياموسى أدع لنا ربك يبين لنا ما لون البقرة التي امرنا بذبحها.

واما قوله: " صفراء " قال الحسن المراد به: سوداء شديدة السواد. تقول العرب:

ناقة صفراء أي سوداء. قال الشاعر:

تلك خيلي منه وتلك ركابي * هن صفر ألوانها كالزبيب (1)

يعني ركابي هن سود. غير أن هذا ـ وان وصفت به الابل، فليس مما توصف به البقر. مع ان العرب لا تصف السواد بالفقوع. وانما تصفه بالشدة وبالحلوكة ونحوها. تقول: اسود حالك وحائك وحنكوك وغربيب ودجوجي، ولا تقول: فاقع. وقال أكثر المفسرين: إنها صفراء اللون من الصفرة المعروفة وهذا الصحيح، لانه الظاهر، ولانه قال: " فاقع لونها " وهو الصافي ولا يوصف السواد بذلك ـ على ما بيناه ـ فاما ما ابيض فيؤكدونه بأنه ناصع، واخضر ناضر واصفر فاقع. وقال سعيد بن جبير: المعنى في الآية: بقرة صفراء القرن والظلف.

وقال مجاهد: صفراء اللون كله: وهو الظاهر لانه قال: فاقع لونها. فوصف جميع اللون بذلك. وقال ابن عباس: أراد بذلك صفراء شديدة الصفرة. وقال غيره:

 

ـــــــــــــــــــــــ

ـ تخللوا من احرامهم: أي قضوا حجهم، الشمط ج اشمط: وهو الذي خالط سواد شعره بياض الشيب "وشمط محفله " يقال منه: رجل ذو حفيل، وذو حفلة: ذو جد واجتهاد. فعلى ما اثبته الشيخ قدس سره، المعنى: انهم جادون في العبادة. (1) للاعشى الكبير. اللسان: " صفر " وروايته " اولادها " بدل " الوانها ". الركاب: الابل التي يسار عليها. والزبيب من العنب معروف. (*)

 

===============

(298)

خالص وقال ابوالعالية وقتادة: الصافي. وقوله: " تسر الناظرين " فالسرور: ما يسر به القلب. والفرح ما فرحت به العين وقيل معناه: تعجب الناظرين. ومن القراء من اختار الوقف على قوله: " صفراء " والصحيح ان الوقف انما يجوز عند تمام النعت كله وقال قوم: النمام عند قوله: " فاقع " ويقال فقع لونها يفقع ـ بالتشديد وضم الياء ـ ويفقع ـ بالتخفيف وفتح الياء ـ فقوعا اذا خلصت صفرته.

قوله تعالى:

" قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ماهي ان البقر تشابه علينا وانا إن شاء الله لمهتدون ". (70) آية واحدة.

القراءة:

القراء كلهم على تخفيف الشين مفتوحة الهاء. وقرأ الحسن: بتشديد الشين، وضم الهاء، وقرأ الاعمش إن البقر متشابه. وكذا هو في مصحف ابن مسعود والمعمول على ما عليه القراء وما هو في المصحف المعروف. تقدير الكلام، قال قوم موسى لما امروا بذبح البقرة لموسى. وترك ذكر موسى، لدلالة الكلام عليه.

اللغة:

واهل الحجاز يؤنثون البقر. فيقولون: هذه بقر وكذلك النخل. وكل جمع كان واحده بالهاء، وجمعه بطرح الهاء، فانهم يؤنثون ذلك وربما ذكروا ذلك قال الله تعالى " كأنهم اعجاز نخل خاوية " (1) ـ بالتأنيث ـ وفي موضع آخر:

" كأنهم اعجاز نخل منقعر " (2) والاغلب عليهم التأنيث. واهل نجد يذكرون وربما انثوا. والتذكير الغالب. فمن ذكر نصب الهاء من " تشابه " يعني التبس واشتبه.

ومن انث رفع الهاء لانه يريد يتشابه علينا.

والبقر، والباقر، والجامل، والجمال بمعنى واحد. وقرأ بعضهم إن الباقر تشابه علينا. وهو شاذ. قال الشاعر:

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الحاقة آية 7 (2) سورة القمر آية 20. (*)

 

===============

(299)

وما ذنبه ان عافت الماء باقر * وما ان تعاف الماء الا لتضربا (1)

وقال آخر:

مالي رأيتك بعد اهلك موحشا * خلقا كحوض الباقر المتهدم

وقال آخر:

لهم جامل لا يهدأ الليل سامره (2)

يريد الجمال. والذي ذهب اليه ابن جريج، وقتادة ورووه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) انهم امروا بادنى بقرة، لكنهم لما شددوا على انفسهم، شدد الله عليهم: وايم الله، لو انهم لم يستثنوا ما تبينت لهم إلى آخر الدهر يعني انهم لو لم يقولوا وانا ان شاء الله لمهتدون بتعريف الله ايانا، وبما شاء له الله من اللطف والزيادة في البيان. وكل من اختار تاخير بيان المجمل عن حال الخطاب استدل بهذه الآية على جواز ذلك. وسنبين ذلك فيما بعد ان شاء الله.

قوله تعالى:

" قال إنه يقول انها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون " (71) آية بلا خلاف.

المعنى ان البقرة التي امرتكم بذبحها، لا ذلول أي لم يذللها العمل باثارة الارض باظلافها. ولا تسقي الحرث. معناه: ولا يستقى عليها الماء، فيسقى الزرع. كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب والعمل. تقول دابة ذلول بين الذل ـ بكسر الذال ـ

وفي مثله من بني آدم رجل ذليل بين الذل والمذلة. قال الزجاج: يحتمل أن يكون اراد ليست بذلول وهي تثير الارض. ويحتمل: انها ليست ذلولة، ولا مثيرة الارض قيل: إنها كانت وحشية في قول الحسن مسلمة. معناه: من السلامة. يقال منها سلمت تسلم، فهي مسلمة من الشية.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ميمون بن قيس ـ الاعشى الكبير ـ اللسان: " ثور ". (2) اللسان: (جمل) قائله الحطيئة. وصدر البيت: فان تك ذا مال كثير فانهم. (*)

 

===============

(300)

لاشية فيها لا بياض فيها، ولا سواد. وقال قتادة مسلمة من العيوب: وبه قال الربيع. وقال ابن جريج: لا عوان فيها. قال المؤرخ: لاشية فيها: أي لا وضح فيها بلغة اردشنوه والذي قال اهل اللغة " لاشبة فيها ": اي لا لون يخالف لون جلدها واصله: وشى الثوب واصله تحسين عيوب الشئ، يكون فيه بضروب مختلفة من الوان سداه، ولحمته يقال منه: وشيت الثوب: اشيه شية ووشيا. ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان، أو غيره واش لكذبه عليه عنده. وتحسينه كذبه عنده بالاباطيل يقال: وشيت به وشاية. قال كعب بن زهير:

يسعى الوشاة بجنبيها وقولهم * انك يابن سلمى لمقتول (1)

يعني: انهم يتقولون الاباطيل، ويخبرونه انه إن الحق بالنبي (صلى الله عليه وآله) قتله وقال بعض اهل اللغة ان الوشي: العلامة واصله: شية من وشيت، لكن لما اسقطت منها الواو وابدلت مكانها الهاء في اخرها: كما قالوا: وزنته زنة ووعدته عدة. وكذلك وشيته شية.

وقالوا: " الآن جئت بالحق " موصولة الهمزة واذا ابتدأت، قطعت الالف الاولى، لان الف الوصل إذا ابتدئ بها قطعت. قال الفراء: والاصل الاوان.

فحذفت الواو. والالف واللام دخلتا في آن لانهما ينوبان عن الاشارة. المعنى انت إلى هذا الوقت تفعل هذا. فلم تعرب الآن كما لم تعرب هذا. ومن العرب من يقول

“ قالوا الآن جئت بالحق " ويذهب الوصل ويفتح اللام، ويحذف الهمزة التي بعد اللام. ويثبت الواو في (قالوا) ساكنا، لانه انما كان يذهبه لسكون اللام. واللام قد تحركت، لانه حول عليها حركة الهمزة قال الشاعر:

وقد كنت تخفي حب سمراء حقبة * فبح لان منها بالذي انت بايح

المعنى:

ومعنى قوله: " الآن جئت بالحق " يحتمل امرين:

احدهما ـ الان بينت الحق. وهو قول قتادة. وهذا يدل على انه كان فيهم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه. الجناب: الناحية. في المطبوعة " بحسنها " بدل " بحنها ". (*)

 

===============

(301)

من يشك في ان موسى (ع) ما بين الحق. وقال عبدالرحمان: يريد انه حين بينها لهم، قالوا هذه بقرة فلان. الآن جئت بالحق وهو قول من حوزانه قبل ذلك لم يجئ بالحق على التفصيل ـ وإن تى به على وجه الجملة ـ وقوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) يحتمل امرين:

احدهما ـ كادوا لا يفعلون اصلا، لغلاء ثمنها، لانه حكي عن ابن عباس ومحمد ابن كعب انهم اشتروها بملء جلدها ذهبا من مال المقتول. وقيل بوزنها عشر مرات.

والثاني ـ ما قال عكرمة ووهب كادوا ألا يفعلوا خوفا من الفضيحة على انفسهم في معرفة القاتل منهم، قال عكرمة ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير.

اللغة:

ومعنى كاد: هم ولم يفعل. ولا يقال كاد أن يفعل. وانما يقال كاد يفعل، قال الله ما كادوا يفعلون قال الشاعر:

قد كاد من طول البلى ان يمصحا (1)

يقال مصح الشئ اذا فني وذهب. يمصح مصوحا. وانشد الاصمعي:

كادت النفس ان تفيض عليه * اذ ثوى حشو ريطة وبرود (2)

ولا يجئ منه إلا فعل يفعل وتثنيتها. وقال بعضهم: قد جاءت بمعنى إيقاع الفعل لا بمعنى الهم والقرب من ايقاعه، وانشد قول الاعشى:

قد كاد يسمو إلى الجرباء وارتفعا الجرباء: السماء: أي سما وارتفع وقال ذو الرمة:

لو أن لقمان الحكيم تعرضت * لعينيه مي سافرا كاد يبرق (3)

أي لو تعرضت لعينيه أي دهش وتحير. وروي عن ابي عبدالله السلمي انه قرأ لا ذلول بفتح اللام غير منون وذلك لا يجوز لانه ليس المراد النفي وانما المراد

ـــــــــــــــــــــــ

(1) اللسان: " مصح ". مصح الشئ مصوحا: ذهب وانقطع.

(2) اللسان: " نفس ". النفس: الروح. الريطة: الملاءة لا برودج يرد وهو الثوب المخطط (3) اللسان: " برق " برق يبرق بروقا: تحير. (*)

 

===============

(302)

بها بقرة غير ذلول وعندنا انه يجوز في البقرة غير الذبح. فان نحر مختارا لم يجز اكله وفيه خلاف، ذكرناه في خلاف الفقهاء.

قد استدل اصحابنا بهذه الآيات على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. فان قالوا ان الله امرهم بذبح بقرة هذة الصفات كلها لها، ولم يبين ذلك في اول الخطاب حتى سألوا عنه وراجعوا فيه، فبين حينئذ المراد لهم شيئا بعد شئ. وهذا يدل على جواز تأخير البيان. فان قيل ولم زعمتم ان الصفات المذكورة في البقرة الاولى التي امروا بذبحها، وما الذي تنكرون انهم امروا بذبح البقرة أي بقرة كانت فلما راجعوا تغيرت المصلحة فأمروا بذبح بقرة اخرى هي لا فارض ولا بكر فلما راجعوا تغيرت المصلحة، فأمروا بذبح بقرة صفراء فاقع لونها فلما راجعوا تغيرت المصلحة فأمروا بذبح بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها.

وانما يصح لكم لو كانت الصفات المذكورة كلها مرادة في البقرة الاولى.

قلنا هذا باطل، لان الكناية في قوله: " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ماهي " لا يجوز ان تكون كناية إلا عن البقرة التي تقدم ذكرها وامروا بذبحها، لانه لم يجر في الكلام ما يجوز ان تكون هذه الكناية عنه إلا البقرة، ويجري ذلك مجرى ان يقول واحد لغلامه: اعطني تفاحة فيقول الغلام ماهي؟ بينها فلا يصرف واحد من العقلاء هذه الكناية إلا إلى التفاحة المأمور باعطائه اياها. ثم يقال بعد ذلك انها بقرة لا فارض ولا بكر وقد علمنا ان الهاء في قوله: انه يقول كناية عنه تعالى، لانه لم يتقدم ما يجوز ان يكون كناية عنه إلا اسمه تعالى. وكذا يجب ان يكون قوله انها كناية عن البقرة المتقدم ذكرها وإلا فما الفرق بين الامرين؟ وكذلك الكلام في الكناية الثانية والثالثة سواء. ولا خلاف بين المفسرين ان الكناية في الآية من اولها إلى آخرها: كناية عن البقرة المأمور بها في الاول.

وقالت المعتزلة: انها كناية عن البقرة التي تعلق التكليف المستقبل بها.

ولا خلاف بين المفسرين ان جميع الصفات المذكورات للبقرة اعوز اجتماعها للقوم حتى توصلوا إلى اجتماع بقرة لها هذه الصفات كلها بملء جلدها ذهبا. وروي اكثر

 

===============

(303)

من ذلك. ولو كان الامر على ما قاله المخالف لوجب ان لا يعتبروا فيما ببتاعونه إلا الصفات الاخيرة دون ما تقدمها، وتلغي الصفات المتقدمة اجماعهم على ان الصفات كلها معتبرة. دليل على ان الله تعالى أخر البيان. فان قيل لم عنفوا على تأخيرهم امتثال الامر الاول مع ان المراد بالامر الاول تأخر؟ ولم قال فذبحوها وما كادوا يفعلون؟ قلنا ما عنفوا بتأخير امتثال الامر الاول: وليس في الظاهر ما يدل عليه بل كان البيان يأتي شيئا بعد شئ كما طلبوه من غير تعنيف فلا قول يدل على انهم بذلك عصاة. فاما قوله: في اخر القصة: " فذبحوها وما كادوا يفعلون ".

فانما يدل على انهم كادوا يفرطون في اخر القصة، وعند تكامل البيان. ولايدل على انهم فرطوا في اول القصة.

ويقوي ذلك قوله تعالى بعد جمع الاوصاف: " الان جئت بالحق " اي جئت به على جهة التفصيل. وان كان جاءهم بالحق مجملا. وهذا واضح بحمد الله، وقد استوفينا الكلام في هذه الآية وغيرها في العدة في اصول الفقه مالا مزيد عليه.

قوله تعالى:

" واذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون " (72). آية تقدير الآية: واذكروا إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. وهو عطف على قوله: " واذكروا نعمتي التي انعمت عليكم ". وهو متقدم على قوله: " واذ قال موسى لقومه ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة " لانهم انما امروا بذبح البقرة بعد تدارئهم في امر المقتول.

ومعنى ادارأتم: اختلفتم واصله تدارأتم. فادغمت التاء في الدال بعد ان سكنت، وجعلوا قبلها ألفا لتمكن النطق بها. قال ابوعبيدة: اداراتم: بمعنى اختلفتم فيها. من التدارؤ، ومن الدرء وقيل الدراء: العوج: اي اعوججتم عن الاستقامة، ومنه قول الشاعر:

 

===============

(304)

فنكب عنهم درء الاعادي * وداووا بالجنون من الجنون

اي اعوجاج الاعادي وقال قوم: الدرء المدافعة. ومعناه تدافعتم في القتل.

ومنه قوله: " ويدرأ عنها العذاب ". وقال رؤبة ابن العجاج:

ادركتها قدام كل مدره * بالدفع عني درء كل عنجه (1)

ويقال: فلان لا يداري ولا يماري اي: لا يخالف. ومنه قوله: " والله مخرج ما كنتم تكتمون " اي: مظهر ما كنتم تسرون من القتل.

قوله تعالى: " فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموت ويريكم آياته لعلكم تعقلون ". (73) آية بلا خلاف.

روي ابن سيرين عن ابي عبيدة السلماني قال: كان رجل من بنى اسرائيل عقيما، وله مال كثير. فقتله وارثه وجره، فقدمه على باب اناس آخرين، ثم اصبح يدعيه عليهم حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء، وارادوا ان يقتتلوا (2) فقال ذووا النهى:

أتقتتلون (3) وفيكم نبي الله؟ فامسكوا حتى اتوه، فامرهم أن يذبحوا بقرة، فيضربوه ببعضها. فقالوا: اتتخذنا هزوا. قال: اعوذ بالله ان اكون من الجاهلين. قال: فوجدوها عند رجل. فقال: لا ابيعها إلا بملء جلدها (4)

ذهبها. وكان بارا بابيه. فعوضه الله عن ذلك وجازاه عن بره بابيه، اذ باع البقرة بملء جلدها ذهبا فضربوه ببعضها. فتكلم. فقال: قتلني فلان، ثم عاد ميتا فلم يورث قاتل بعده. واختلفوا (في البعض من البقرة المضروب به القتيل) (5).

فقال الفراء: ضرب بذنبها. وقال البعض اقل من النصف. وقال ابن زيد: ضرب ببعض ارابها. وقال ابوالعالية: ضرب بعظم من عظامها. وقال السدي: ضرب

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه. المدره: هو المدافع العتجة ذو الكبر والعظم. ومنه العنجهية.

(2 و 3) في المطبوعة (تقتلون) (4) في المطبوعة (الا بملء ذهبا).

(5) ما بين القوسين زدناهم عن " مجمع البيان " ليتم المعنى. وهذه عبارة التبيان مخطوطته ومطبوعته " في أي موضع ضرب من القتيل. " (*)

 

===============

(305)

بالبضعة التي بين الكتفين. وقال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: ضرب بفخذ البقرة.

والهاء في قوله فاضربوه كناية عن القتيل والهاء في قوله: ببعضها كناية عن البقرة.

وهذه الاقاويل كلها محتملة الظاهر. والمعلوم ان الله تعالى امر ان يضرب القتيل ببعض البقرة. ولا يضر الجهل بذلك البعض بعينه، وانما امرهم بذلك لانهم اذا فعلوه احيي الميت. فيقول فلان قتلني: فيزول الخلف، والتداري بين القوم. والقديم تعالى، وان كان قادرا على الاخبار بذلك فان هذا اظهر. والاخبار به أعجب لانه معجز خارق للعادة.

والتقدير في الآية فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه فحيي كما قال: " اضرب بعصاك الحجر فانفلق " تقديره فضرب، فانفلق. وكذلك قوله: " يحيي الموتى " فيه اضمار كانه قال: فقلنا اضربوه ببعضها فحيي كذلك يحيي الله الموتى. اي اعلموا ان ما عاينتموه ان الله قادر على ان يحيي الموتى للجزاء، والحساب الذي اوعدكم به.

ولما ضربوه ببعض البقرة، احياه الله تعالى، فقال: قتلني ابن اخي ثم قبض. وكان اسمه عاميل. فقال بنو اخيه والله ما قتلناه وكذبوا الحق بعد معاينته. وانما جعل سبب احيائه الضرب بموات لا حياة فيه، لئلا يلتبس على ذي شبهة ان الحياة انتقلت اليه مما ضرب به لتزول الشبهة، وتتأكد الحجة.

وقوله: " كذلك يحيي الله الموتي " يحتمل ان يكون حكاية عن قول موسى لقومه. ويحتمل ان يكون خطابا من الله تعالى لمشركي قريش.

وقوله: " لعلكم تعقلون " اي لتعقلوا. وقد كانوا عقالا قبل ذلك، لان من لا عقل له، لا تلزمه الحجة، لكنه اراد تنبيههم، وان يقبلوا ما يدعون اليه، ويطيعوه ويعرفوه حق معرفته.

قوله تعالى:

" ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة او اشد قسوة وان من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وان منها لما يشقق فيخرج منه الماء وان منها

 

===============

(306)

لما يهبط من خشية الله وما لله بغافل عما تعملون " (74). آية واحدة بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وحده هاهنا عما يعملون بالياء الباقون بالتاء.

الخطاب بقوله: " قلوبكم " قيل فيمن يتوجه اليه قولان:

احدهما ـ انه اريد بنواخى المفتول حين انكروا قتله بعد ان سمعوه منه عند احياء الله تعالى له، انه قتله فلان. هذا قول ابن عباس.

والثاني ـ قول غيره: أنه متوجه إلى بني اسرائيل كلهم. قال: وقوله:

" من بعد ذلك " اي من بعد آيات الله كلها التي اظهرها على يد موسى. وعلى الوجه الاول يكون ذلك اشارة إلى الاحياء.

ومعنى " قست قلوبكم " اي: غلظت ويبست وعتت.

اللغة:

القسوة: ذهاب اللين، والرحمة والخشوع، والخضوع. ومنه يقال: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة. وقوله من بعد ذلك اي من بعد احياء الميت لكم ببعض من اعضاء البقرة بعد ان تدارأوا فيه واخبرهم بقاتله، والسبب الذى من اجله قتله. وهذه آية عظيمة كان يجب على من شاهد هذا ان يخضع ويلين قلبه. ويحتمل ان يكون من بعد احياء الميت. والآيات الاخرى التي تقدمت كمسخ القردة والخنازير ورفع الجبل فوقهم وانبجاس الماء من الحجر وانفراق البحر وغير ذلك. وانما جاز ذلك وان كانوا جماعة. ولم يقل ذلكم، لان الجماعة: في معنى الجمع والفريق. فالخطاب في لفظ الواحد ومعناه جماعة.

 قوله: " فهي كالحجارة " يعني قلوبهم، فشبهها بالحجارة في الصلابة واليبس والغلظ والشدة: اي اشد صلابة، لامتناعهم بالافرار اللازم من حقه الواجب من طاعته بعد مشاهدة الآيات. ومعنى " أو " في الآية: يحتمل امور:

احدها ذكره الزجاج: فقال هي بمعنى التخيير كقولك جالس الحسن او ابن

 

===============

(307)

سيرين ايهما جالست جائز، فكانه قال: ان شبهت قلوبهم بالحجارة جاز، وان شبهتها بما هو اصلب كان جائزا.

والثاني ان تكون " او " بمعنى الواو. وتقديره: فهي كالحجارة واشد قسوة، كما قال: " وارسلناه إلى مأة الف او يزيدون " (1) ومثله قول جرير:

نال الخلافة او كانت له قدرا * كما اتى ربه موسى على قدر (2)

وقال توبة ابن الحمر:

وقد زعمت ليلى باني فاجر * لنفسي تقاها او عليها فجورها

اي وعليها. ومثله قوله تعالى: " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن او آباء بعولتهن "... الآية (3).

والثالث ان يكون المراد الابهام على المخاطبين كما قال ابوالاسود الدؤلي:

احب محمدا حبا شديدا * وعباسا وحمزة والوصيا

فان يك حبهم رشدا اصبه * ولست بمخطئ إن كان غيا (4)

وأبوالاسود لم يكن شاكا في حبهم ولكن ابهم على من خاطبه. وقيل لابي الاسود حين قال ذلك: شككت قال كلا ثم استشهد بقوله تعالى: " قل الله وإنا واياكم لعلى هدى او في ظلال مبين " (5) افتراه كان شاكا حين اخبر بذلك.

والرابع ـ ان يكون اراد بل اشد قسوة، ومثله " وارسلناه إلى مأة الف او يزيدون " اي بل يزيدون، ولا تكون بل للاضراب عن الاول بل مجرد العطف.

والخامس ـ انها كالحجارة، أو اشد قسوة عندكم.

والسادس: ان يكون اراد مثل قول القائل اطعمتك حلوا وحامضا وقد

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة الصافات آية: 147.

(2) ديوانه: والممدوح هو عمر ابن عبدالعزيز. وروايته (اذ كانت). وقد مر في 1: 92.

(3) سورة النور آية: 31.

(4) ديوانه: والاغاني " 1130 ورواية الديوان " وفيهم اسوة ان كان غيا ".

(5) سورة سبأ آية: 25 (*)

 

===============

(308)

اطعمه النوعين جميعا. وهو انه لم يشك انه اطعمه الطعمين معا فكأنه قال: فهي كالحجارة او اشد قسوة. ومعناه ان قلوبهم لا تخرج من احد هذين المثلين. اما ان تكون مثلا للحجارة القسوة. واما ان تكون اشد منها. ويكون معناه على هذا بعضها كالحجارة قسوة وبعضها اشد قسوة من الحجارة. وكل هذه الاوجه محتملة واحسنها الابهام على المخاطبين. ولا يجوز ان يكون المعنى الشك، لان الله تعالى عالم لنفسه لا يخفى عليه خافية. وكذلك في امثال ذلك نحو قوله: " فكان قاب قوسين او ادنى " وغير ذلك وانشدوا في معنى او يراد به بل قول الشاعر:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى * فصورتها او انت في العين املح

الاعراب:

يريد بل انت. والرفع في قوله: " أو اشد قسوة " يحتمل امرين:

احدهما ـ ان يكون عطفا على معنى الكاف التي في قوله: كالحجارة، لان معناها، فهي مثل الحجارة.

والآخر: ان يكون عطفا على تكرير هي، فيكون التقدير فهي كالحجارة او هي اشد قسوة من الحجارة.

وقرئ بنصب الدال شاذا فيكون نصبه على ان موضعه الجر بالكاف وانما نصب على انه وزن افعل لا ينصرف.

وقوله: " وان من الحجارة لما يتفجر منه الانهار ".

المعنى:

معناه ان من الحجارة ما هو انفع من قلوبهم الفاسية، يتفجر منها انهار، وان منها لما يهبط من خشية الله، والتقدير ان من الحجارة حجارة يتفجر منها انهار الماء فاستغنى بذكر الانهار عن ذكر الماء. وكرر قوله منه للفظ ما.

اللغة:

والتفجر: التفعل من فجر الماء: وذلك اذا نزل خارجا من منبعه وكل سائل

 

===============

(309)

شخص خارجا من موضعه، ومكانه فقد انفجر. ماء كان او دماء او حديد او غير ذلك.

قال عمر بن لحاء:

ولما أن قربت إلى جوير * ابى ذو بطنه إلا انفجار (1)

يعني خروجا وسيلانا.

وقوله: " وان منها لما يشقق فيخرج منه الماء " تشقق الحجارة انصداعها واصله يتشقق، لكن التاء ادغمت في الشين فصارت شينا مشددة. وقوله: " فيخرج منه الماء ".

المعنى:

يعني فيخرج منه الماء فيكون عينا نابعة لا انها جارية حتى يكون مخالفا للاول. وقال الحسين بن علي المغربي: الحجارة الاولى حجارة الجبال تخرج منها الانهار. والثانية حجر موسى الذي ضربه فانفجر منه عيون، فلا يكون تكرارا.

وقوله: " وان منها لما يهبط من خشية الله ". قال ابوعلي والمغربي: معناه بخشية الله، كما قال: يحفظونه من امر الله اي بامر الله. قال وهي حجارة الصواعق والبرد. والكناية في قوله منها قيل فيها قولان:

احدهما: انها ترجع إلى الحجارة، لانها اقرب مذكور. وقال قوم: انها ترجع إلى القلوب لا إلى الحجارة. فيلون معنى الكلام. وان من القلوب لما يخضع من خشية الله، ذكره ابن بحر وهو احسن من الاول. ومن قال بالاول اختلفوا فيه. فمنهم من قال: إن المراد بالحجارة الهابطة البرد النازل من السحاب. وهذا شاذ، لم يذكره غير ابي علي الجبائي. وقال الاكثر إن المراد بذلك الحجارة الصلبة، لانها اشد صلابة. وقالوا في هبوطها وجوها:

احدها ـ ان هبوط ما يهبط من خشية الله تفيئ ظلاله.

وثانيها انه الجبل الذي صار دكا تجلى له ربه.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) طبقات فحول الشعراء 369. والاغاني 8. 72 وروايته الا " انحدارا "

“ وذو بطنه " كناية عما يشمأز من ذكره. (*)

 

===============

(310)

وثالثها ـ قاله مجاهد: إن كل حجر تردى من رأس جبل فهو من خشية الله ورابعها ـ ان الله تعالى اعطى بعض الجبال المعرفة، فعقل طاعة الله تعالى، فاطاعه كالذي روي في حنين الجذع. وما روي عن النبي " ص " انه قال: إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لا اعرفه الآن.

وهذا الوجه فيه ضعف، لان الجبل ان كان جمادا، فمحال ان يكون فيه معرفة الله. وان كان عارفا بالله وبنيته بنية الحي فانه لا يكون جبلا. وأما الخبر عن النبي (ع) فهو خبر واحد. ولو صح، لكان معناه ان الله تعالى احيا الحجر فسلم على النبي " ص " ويكون ذلك معجزا له " ع ". واما حنين الجذع فان الله تعالى خلق فيه الحنين، فكان بذلك خارقا للعادة، لانه اذا استند اليه النبي " ص " سكن واذا تنحى عنه، حن. وقال قوم: يجوز ان يكون الله تعالى بنى داخله بنية حي، فصح منه الحنين وقال قوم: معنى " يهبط من خشية الله " إنه يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه. كما قيل ناقة تاجرة. اذا كانت من نجابتها وفراهتها، تدعو الناس إلى الرغبة فيها: كما قال جرير بن عطية:

واعور من نبهان اما نهاره * فاعمى، واما ليله فبصير (1)

فجعل الصفة لليل والنهار. وهو يريد صاحبه النبهاني الذي يهجوه بذلك من اجل انه كان فيهما على ما وصفه به. والذي يقوى في نفسي ان معنى الآية الابانة عن قساوة قلوب الكفار، وان الحجارة ألين منها، لو كانت تلين لشئ، للانت وتفجرت منها الانهار، وتشققت منها المياه، وهبطت من خشية الله. وهذه القلوب لا تلين مع مشاهدتها الآيات التي شاهدتها بنو اسرائيل: وجرى ذلك مجرى ما يقوله تعالى: " لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " (2)

ومعناه لو انزلنا هذا القرآن على جبل، وكانت الجبال ما تخشع لشئ ما، لرأيته خاشعا متصدعا وكقوله تعالى: " ولو ان قرأنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض " (3) إلى آخرها سواء. وادخلت هذه اللامات فيها تأكيدا للخبر.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه: 206 (2) سورة الحشر آية: 21. (3) سورة الرعد آية: 33. (*)

 

===============

(311)

ويجوز في قوله " فهي كالحجارة " اسكان الهاء وقد قرئ به، لان الفاء مع الهاء قد جعلت الكلمة بمنزلة تخذ فتحذف الكسرة استثقالا.

المعنى:

والمعنى في الآية: انه تعالى لما اخبر عن بني اسرائيل وما انعم عليهم به، واراهم من الآيات، وغير ذلك، فقال مخبرا عن عصيانهم، وطغيانهم " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة، أو اشد قسوة " ثم اخبر تعالى انه لا امتناع عند الحجارة مما يحدث فيها من امره، وان كانت قاسية، بل هي متصرفة على مراده لا يعدم شئ مما قدر فيها. وبنو اسرائيل مع كثرة نعمه عليهم وكثرة ما أراهم من الآيات، يمتنعون من طاعته، ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه، بل تقسو وتمتنع من ذلك. وقوله: " وإن منها لما يهبط من خشية الله " أي عند ما يحدث فيها من الآية الهائلة: كالزلازل وغيرها، واضاف الخشية إلى الحجارة. وان كانت جمادا على مجاز اللغة والتشبيه. والمعنى في خشوع الحجارة انه يظهر فيها ما لوظهر في حي مختار قادر، لكان بذلك خاشعا. وهو ما يرى من حالها. وانها منصرفة لا متناع عندها مما يراد بها. وهو كقوله: " جدارا يريد ان ينقض " (1) لان ما ظهر فيه من الميلان، لو ظهر من حي لدل على انه يريد أن ينقض، ليس ان الجدار يريد شيئا في الحقيقة، ومثله " وإن من شئ الا يسبح بحمده " (2) وقوله: " ولله يسجد من في السموات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس " (3) وقوله: " والنجم والشجر يسجدان " (4) وقال زيد الخيل:

بجمع تظل البلق في حجراته * ترى الا كم فيه سجدا للحوافر (5)

فجعل ما ظهر في الاكم من آثار الحوافر، وقلة امتناعها عليها، مدافعتها لها كما يدافع الحجر الصلب الحديد الصلب سجودا لها، ولو أن الاكم كانت في صلابة

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الكهف آية 78 (2) سورة الاسرى آية 44 (3) سورة الحج آية 18 (4) سورة الرحمان آية 6 (5) زيد الخيل بن مهلهل الطائي الفارس المشهور. ـ (*)

 

===============

(312)

الحديد حتى يمتنع من الحوافر، ولا تؤثر فيها، ولا تذهب يمينا ولا شمالا، ولا تظاهر بكثرة تزداد الحوافر عليها، ما جاز ان يقال: انها تسجد للحوافر. وقال ابن حمزة:

وعرفت من شرفات مسجدها * حجرين طال عليهما القصر

ركب الخلاء فقلت اذ بكيا * ما بعد مثل بكاهما صبر

وقال جرير:

لما اتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع

فصيرها متواضعة. والعرب يفهم بعضها مراد بعض بهذه الاشياء. فمن تعلق بشئ من هذا ليطعن به، فانما يطعن على لغة العرب بل على لغة نفسه من اهل أي لغة كان. فان هذا موجود متعارف في كل لغة، وعند كل جيل.

وقوله: " وما الله بغافل عما تعملون " من قرأ بالتاء، قال: الخطاب متوجه إلى بني اسرائيل فكأنه قال: وما الله بغافل يا معشر المكذبين بآياته والجاحدين بنبوة محمد " ص " عما تعملون. ومن قرأ بالتاء فكان الخطاب لغيرهم والكناية عنهم.

والغفلة عن الشئ تركه على وجه السهو والنسيان فأخبرهم الله تعالى انه غير غافل عن اعمالهم السيئة ولاساه عنها.

قوله تعالى:

" أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون " (75) آية

 بلا خلاف.

المعنى:

الالف في قوله أفتطمعون ألف استفهام والمراد به الانكار، كقوله:

 

ـــــــــــــــــــــــ

ـ والبلق جمع ابلق وبلقاء: الفرس المحجلة. والحجرات جمع حجرة: الناحية والباء " بجمع " متعلقة ببيت سابق، هو:

بني عامر تعرفون اذا غدا * ابومكنف قد شد عقد الدوابر (*)

 

===============

(313)

" ألم يأتكم نذير قالوا بلى " (1) فاذا كان في الاول نفيا، كان الجواب بلى واذا لم يكن نفيا كان الجواب لا. وهذا خطاب لامة النبي " ص " فكأنه قال: أفتطمعون أيها المؤمنون أن يؤمنوا لكم من طريق النظر والاعتبار، ونفي التشبيه، والانقياد للحق وقد كان فريق منهم: أي ممن هو في مثل حالهم من اسلافهم يسمعون كلام الله ثم يعلمون انه الحق، ويعاندون فيحرفونه ويتأولونه، على غير تأويله.

وقوله: " وقد كان فريق منهم " والفريق جمع كالطائفة لا واحد له من لفظه وهو فعيل من الفرق سمي به الجمع كما سميت الجماعة بالحزب من التحزب قال اعشى بن تغلبة:

اخذوا فلما خفت ان يتفرقوا * فريقين منهم مصعد ومصوب (2)

وقوله: " منهم " يعني من بني اسرائيل، وانما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعد: من بني اسرائيل من اليهود الذين قال الله تعالى لاصحاب محمد " ص " افتطمعون أن يؤمنوا لكم، لانهم كانوا آباؤهم واسلافهم، فجعلهم منهم اذ كانوا عشائرهم وفرقهم واسلافهم.

وقوله: " يسمعون كلام الله " قال قوم منهم مجاهد والسدي: إنهم علماء اليهود يحرفون التوارة، فيجعلون الحلال حراما والحرام حلالا ابتغاء لاهوائهم واعانة لمن يرشوهم. وقال ابن عباس والربيع وابن اسحاق والبلخي: انهم الذين اختارهم موسى من قومه، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا امره، وحرفوا القول في اخبارهم لقومهم حتى رجعوا اليهم وهم يعلمون انهم قد حرفوا. وهذا اقوى التأويلين، لانه تعالى اخبر عنهم بانهم يسمعون كلام الله والذين سمعوا كلام الله. بلا واسطة هم الذين كانوا مع موسى. فاما هؤلاء فانما سمعوا ما يضاف إلى كلامه بضرب من العرف دون حقيقة الوضع. ومن قال بهذا. قال: هم الذين سمعوا كلام الله الذي اوحى الله إلى موسى. وقال قوم هو التوراة التي علمها علماء اليهود.

وقوله: " ومن بعد ما عقلوه وهم يعلمون ". قيل فيه وجهان:

احدهما ـ وهم يعلمون انهم يحرفونه.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الملك: آية 8 و 9 (2) ديوانه. اجد السير: انكمش فيه واسرع. مصعد: مبتدئ في الصعود إلى نجف والحجاز. ومصوب: منحدر في رجوعه إلى العراق. (*)

 

===============

(314)

والثاني ـ من بعد ما تحققوه وهم يعلمون ما في تحريفه من العقاب. والذي يليق بمذهبنا في الموافاة أن نقول: ان معناه وهم يعلمون انهم يحرفونه. فان قيل فلماذا اخبر الله عن قوم بانهم حرفوا وفعلوا ما فعلوا من المعاندة ما يجب أن يؤيس من ايمان من هو في هذا الوقت، وأي علقة بين الموضوعين والحالين؟ قيل: ليس كلما يطمع فيه يؤيس منه على وجه الاستيقان بانه لا يكون، لان الواحد من افناء العامة (1) لا يطمع ان يصير ملكا. ومع ذلك لا يمكن القطع على كل حال ان ذلك لايكون ابدا. ولكن لا يطمع فيه لبعده، والله تعالى نفى عنهم الطمع ولم يؤيسهم على القطع والثبات وانما لم يطمع فيهم لبعد ذلك من الوهم منهم مع احوالهم التي كانوا عليها.

وشبههم باسلافهم المعاندين، وقد كانوا قادرين على ان يؤمنوا وكان ذلك منه جائزا. وهؤلاء الذين عاندوا ـ وهم يعلمون ـ كان قليلا عددهم، يجوز على مثلهم التواطؤ والاتفاق وكتمان الحق، وانما يمتنع ذلك في الجمع العظيم والخلق الكثير، لامر يرجع إلى اختلاف الدواعي. فأما على وجه التواطؤ والعمد فلا يمتنع فيهم ايضا، فيبطل بذلك قول من نسب فريقا إلى المعاندة دون جميعهم وان كانوا باجمعهم كفارا.

قوله تعالى:

" وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ". (76) آية.

هذه الآية فيها اخبار عمن رفع الله الطمع في ايمانهم من يهود بني اسرائيل الذين كانوا بين اظهرهم فقال: افتطمعون ايها المؤمنون ان يؤمنوا لكم، وهم القوم الذين كان فريق منهم يسمعون كلام، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، وهم الذين اذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا: أي صدقنا بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبما صدقتم به واقررنا بذلك. فأخبر الله بانهم تخلقوا باخلاق المنافقين وسلكوا منهاجهم. " واذا

ـــــــــــــــــــــــ

(1) اي لا يعلم ممن هو (*)

 

===============

(315)

خلا بعضهم إلى بعض ": أي اذا خلا بعض هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم، إلى بعض منهم فصاروا في خلاء الناس، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم، قالوا  يعني بعضهم لبعض ـ: اتحدثونهم بما فتح الله عليكم. وقال ابن عباس بما فتح الله عليكم أي بما ألزمكم الله به. فيقول له آخرون انما نستهزئ بهم ونضحك. وروى سعيد ابن جبير عن ابن عباس ان معناه قالوا لا تحدثوا العرب بهذا. فانكم قد كنتم تستفتحون به عليهم. فانزل الله هذه الآية: أي تقرون بانه نبي وقد علمتم انه قد اخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبركم بانه النبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا. اجحدوه ولا تقروا به لهم. فقال الله تعالى: " اولا يعلمون ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " (1)

وقال ابوالعالية: اتحدثونهم بما فتح الله عليكم: اي بما انزله في كتابكم من بعث محمد (صلى الله عليه وآله) وبه قال قتادة وقال مجاهد: ذلك قول يهود بني قريظة حين سبهم النبي (صلى الله عليه وآله) بانهم اخوة القردة والخنازير. قالوا من حدثك بهذا ـ حين ارسل اليهم عليا (ع) فاذوا محمدا (صلى الله عليه وآله) ـ فقال: يااخوة القردة والخنازير قال بعضهم لبعض: ما اخبره بهذا إلا منكم اتحدثونهم بما فتح الله عليكم، ليكون لهم حجة عليكم؟ وقال السدي: هؤلاء ناس آمنوا من اليهود ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض: اتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به، ليقولوا نحن احب إلى الله منكم واكرم عليه منكم؟ ومثله روي عن ابي جعفر " ع " واصل الباب الفتح في لغة العرب: القضاء والنصرة والحكم.

يقال اللهم افتح بيني وبين فلان: أي احكم بيني وبينه، ومنه قوله تعالى:

" ويقولون متى هذا الفتح " (2) يعني هذا القضاء فقال تعالى: " قل يوم الفتح (3)

يعني يوم القضاء. وقال الشاعر:

ألا ابلغ بني عصم رسولا * فاني عن فتاحتكم غني (4)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة البقرة آية 77 (2) سورة آلم السجدة آية 28. (3) سورة آلم السجدة آية 29 (4) ينسب للاشعري الجعفي ومحمد بن حمران بن ابي حمران. أمالي القالي: 281. اللسان:

" فتح " وبنو عصم هم رهط عمروبن معديكرب الزبيدي. (*)

 

===============

(316)

ويقال للقاضي الفتاح قال الله تعالى: " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وانت خير الفاتحين " (1) يعني احكم به. ويقال فتح بمعنى علم، فقال افتح على هذا أي اعلمني بما عندك فيه. واذا كان معنى الفتح ما وصف فقد بان ان معنى الآية.

اتحدثونهم بما حكم الله عليكم وقضاه فيكم، ومن حكمه ما أخذ به ميثاقهم من الايمان بمحمد " ص " بما بينه في التوراة ومن قضائه انه جعل منهم القردة والخنازير. فاذا ثبت ذلك، فان اقوى التأويلات: قول من قال: اتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد " ص " وصفته في التوارة، وانه رسول الله " ص " إلى خلقه.

وروي عن ابي جعفر " ع " انه قال: كان قوم من اليهود ليسوا بالمعاندين المتواطئين، اذا لقوا المسلمين، حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد " ص " فنهاهم كبراؤهم عن ذلك، وقالوا: لاتخبروهم بما في التوراة من صفة محمد " ص " فيحاجوكم به عند ربكم، فنزلت الآية.

ومعنى قوله: " افلا تعقلون " افلا تفهمون ايها القوم أن اخباركم محمد " ص " واصحابه، بما تحدثونهم به واقراركم لهم بما تقرون لهم من وجودكم بعث محمد في كتبكم وانه نبي مبعوث حجة عليكم عند ربكم يحتجون بها عليكم. وقال ابوعبيدة

“ بما فتح الله عليكم " أي بما من عليكم واعطاكم ليحاجوكم به. وقال الحسن:

في قوله " ليحاجوكم به عند ربكم " أي في ربكم فيكونوا اولى منكم اذا كانت حجتهم عليكم. قال الحسن: ثم رجع إلى المؤمنين فقال: " افلا تعقلون " ايها المؤمنون فلا تطمعوا في ذلك. قوله تعالى:

" أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " (77) آية بلا خلاف.

المعنى:

معناه: اولا يعلمون ان الله يعلم سرهم وعلانيتهم، فكيف يستخيرون أن

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الاعراف آية: 89. (*)

 

===============

(317)

يسروا إلى اخوانهم النهي عن التحدث بما هو الحق وليسوا كسائر المنافقين، وان كانوا يسرون الكفر فانهم غير عالمين بان الله يعلم سرهم وجهرهم، لانهم جاحدون له.

وهؤلاء مقرون. فهم من هذه الجهة ألوم واعجب شأنا واشد جزاء. وقال قتادة في

“ اولا يعلمون ان الله يعلم ما يسرون " من كفرهم وتكذيبهم محمدا (صلى الله عليه وآله) اذا خلا بعضهم إلى بعض. " وما يعلنون " اذا لقوا اصحاب محمد " ص " قالوا آمنا يغرونهم بذلك. ومثله روي عن ابي العالية.

قوله تعالى: " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون " (78) آية بلا خلاف.

القراءة:

قرأ ابوجعفر المدني: اماني مخففا والباقون بالتشديد.

المعنى:

قوله: " ومنهم " يعني هؤلاء اليهود الذين قص الله قصتهم في هذه الآيات وقطع الطمع في ايمانهم. وقال اكثر المفسرين: سموا اميين، لانهم لا يحسنون الكتابة، ولا القراءة. يقال منه: رجل امي بين الامية. ومنه قوله " ع " أما امة اميون لا يكتب ولا يحسب وانما سمي من لا يحسن الكتابة اميا لاحد امور. قال قوم: هو مأخوذ من الامة أي هو على اصل ما عليه الامة من انه لا يكتب. لا يستفيد الكتابة بعد اذ لم يكن يكتب الثاني ـ ان الامة: الخلقة. فسمي اميا لانه باق على خلقته. ومنه قول الاعشى:

وان معاوية الا كرمي * ـ ن حسان الوجوه طوال الامم (1)

والثالث ـ انه مأخوذ من الام. وانما اخذ منه، لاحد امرين:

احدهما ـ لانه على ما ولدته امه من انه لا يكتب.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) اللسان " امم " الامم جمع امة يريد طوال القامات. في المخطوطة والمطبوعة " معونة " بدل " معاوية ". (*)

 

===============

(318)

والثاني ـ نسب إلى امه، لان الكتابة كانت في الرجال دون النساء فنسب من لا يكتب من الرجال إلى امه، لجهلها دون ابيه. وقال ابوعبيدة الاميون هم الامم الذين لم ينزل عليهم كتاب. والنبي الامي: الذي لا يكتب، وانشد لتبع:

له امة سميت بالزبو * ر امية هي خير الامم

وروي عن ابن عباس: ان الاميين قوم لم يصدقوا رسولا ارسله الله عزوجل ولا كتابا انزله، وكتبوا كتابا بايديهم، وقالوا: لقوم جهال هذا من عند الله.

وقال: قد اخبر انهم يكتبون بايديهم، ثم سماهم اميون لجحودهم كتاب الله عزوجل ورسله. والوجه الاول اوضح في اللغة. وهذا الوجه مليح لقوله في الآية الثانية

“ فويل للذين يكتبون الكتاب بايديهم " فأثبت انهم يكتبون ومن قال بالاول يحتاج، ان يجعل هذا مستأنفا لغير من تقدم ذكره، أو لبعضهم.

وقوله: " لا يعلمون الكتاب " أي لا يعلمون ما في الكتاب الذي انزله الله عزوجل، ولايدرون ما أودعه من حدوده وأحكامه وفرائضه، كهبئة البهائم.

وانما هم مقلدة لا يعرفون ما يقولون. والكتاب المعني به التوراة. وانما ادخل عليه لام التعريف، لانه قصد به قصد كتاب معروف بعينه. ومعنى الآية فريق لا يكتبون ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه، والذي هو عندكم، وهم ينتحلونه، ويدعون الاقرار به من احكام الله عزوجل وفرائضه وما فيه من حدوده التي بينها فيه إلا اماني.

قال ابن عباس ومجاهد إلا قولا يقولون بافواههم كذبا. وقال قتادة الاماني انهم يتمنون على الله ما ليس لهم. وقال آخرون: الاماني احاديث. وقال الكسائي والفراء وغيرهما: معناه إلا تلاوة، وهو المحكي عن ابي عبيدة على ما رواه عنه عبدالملك بن هشام، وكان ثقة. وضعف هذا الوجه الحسين بن علي المغربي، وقال هذا لا يعرف في اللغة. ومن صححه استدل بقوله تعالى: " اذا القى تمنى الشيطان في امنيته " (1). قال كعب بن مالك:

 

ـــــــــــــــــــــــ

(4) سورة الحج آية 52 (*)

 

===============

(319)

تمنى كتاب الله اول ليلة * واخره لا في حمام المقادر

وقال آخر:

تمنى كتاب الله بالليل خاليا * تمني داود الزبور على رسل

وقال ابومسلم محمد بن بحر الاصفهاني: الاماني التقدير. قال الشاعر:

ولا تقولن لشئ سوف افعله * حتى يبين ما يمني لك الماني

أي ما يقدر لك المقدر " وإلا " هاهنا استثناء منقطع. ومعناه لكن اماني وكل موضوع يعلم ان ما بعد إلا خارج عن الاول فهو بمعنى لكن، كقوله " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " وكقولهم ما في الدار واحد إلا حمارا، والا وتدا قال الشاعر:

ليس بيني وبين قيس عتاب * غير طعن الكلى وضرب الرقاب (1)

وقال آخر:

حلفت يمينا غير ذي مثنوية * ولا علم إلا حسن ظن بصاحب (2)

معناه لكن حسن ظني بصاحبي. ومثله (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) (3). ومثله (لا عاصم اليوم من امر الله إلا من رحم) (4). ولولا ولوما وهلا وإلا الثقيلة بمعنى واحد قال الشاعر:

تعدون عقر النيب افخر مجدكم * بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا (5)

يعني هلا. وقال آخر:

اتيت بعبد الله في القيد موثقا * فهلا سعيدا ذا الجناية والعذر

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قائله: عمر وبن الايهم التغلبي، وقيل اسمه: عمر وقيل هو اعشى تغلب.

(2) قائله: نابغة بني ذبيان. ديوانه. مثنوية: استثناء (3) سورة النساء اية 91.

(4) سوره هود آية 43.

(5) قائله: جرير، من قصيدة يهحو بها الفرزدق. عقر الناقة: ضرب قوائمها. النيب ج ناب: الناقة المسنة. ضوطرى: الرجل الضخم اللئيم. والضوطرى: الامرأة الحمقاء. الكمي: الشجاع (*)

 

===============

(320)

ثم قال آخر:

وما شيخوني غير اني ابن غالب * واني من الاثرين عند الزغايف

واحدهم زغيف: وهو التابع. وكل موضوع حسن ان يوضع فيه مكان إلا (لكن) فاعلم انه مكان استثناء منقطع. ولو قيل هاهنا ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون لكان صحيحا.

والاماني واحدها امنية مثقل ومن خفف الياء قال، لان الجمع يكون على غير واحده بنقصان أو زيادة. والاماني كلهم يخففونها لكثرة الاستعمال، وكذلك الاضاحي. واولى التأويلات قول ابن عباس ومجاهد: من ان الاميين الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، وانهم لا يفقهون من الكتاب الذي انزل اليه على موسى شيئا لكنهم متخرصون الكذب. ويقولون: الباطل. والتمني في الموضوع تخلق الكذب وتخرصه. يقال منه تمنيت اذا افتعلته وتخلقته. ومنه ما روي عن بعض الصحابة انه قال: ما تعنيت ولا تمنيت أي ما تخرصت الباطل، ولا تخلقت الكذب والافك، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية: (وان هم إلا يظنون) فبين أنهم يتمنون ما يتمنون من الكذب ظنا لا يقينا، ولو كان المعنى انهم يتلونه لما كانوا ظانين وكذلك لو كانوا يتمنونه، لان الذي يتلوه اذا تدبر علمه، ولا يقال فيمن يقرأ كتابا لم يتدبره، وتركه انه ظان لما يتلوه إلا ان يكون شاكا فيما يتلوه ولا يدري أحق هو ام باطل، ولم يكن القوم الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله) من اليهود شاكين في التوراة انها من عند الله، وكذلك التمني. لا يجوز ان يقال: هو ظان بتمنيه، لان التمني من المتمني اذا وجد لا يقال فيه شاك فيما هو عالم به، لانه ينافي العلم. والمتمني في حال وجود تمنيه لا يجوز ان يقال هو يظن تمنيه.

وقوله: (وان هم إلا يظنون) قال جميع المفسرين معناه يشكون. والذي اقوله ان المراد بذلك نفي العلم عنهم، وقد ينتفي العلم تارة بالشك وتارة بالظن. واما في الحقيقة فالظن غير الشك، غير ان المعنى متفق عليه هاهنا. (*)

 

===============

(321)

قوله تعالى:

" فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عندالله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون " (79) آية بلا خلاف.

اللغة والاعراب:

قال الزجاج: الويل كلمة يستعملها كل واقع في هلكة. واصله في اللغة العذاب والهلاك وارتفع بالابتداء، وخبره الذين. ولو كان في غير القرآن، لجاز بالنصب على معنى جعل الله ويلا للذين. والرفع على معنى ثبوت الويل للذين، ومثله الويح والويس اذا كان بعدهن لام رفعتهن. واما التعس والبعد وما اشبههما فهو نصب ابدا. فان اضفت ويل وويح وويس نصب من غير تنوين. تقول ويل زيد وويس زيد. ولا يحسن في التعس والبعد الاضافة بغير لام فلذلك لم ترفع. وقد نصب قوم مع اللام فيقولون ويلا لزيد، ويحا لخالد. قال الشاعر:

كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها * فويلا لتيم من سرابيلها الخضر (1)

المعنى:

قال ابن عباس: " الويل " في الآية العذاب. وقال الاصمعي هو التقبيح.

ومنه قوله: " ولكم الويل مما تصفون ". وقال المفضل: معناه الحزن. وقال قوم:

هو الهوان والخزي، ومنه قول الشاعر:

يا زبرقان اخا بني خلف * ما انت ويل ابيك والفخر (2)

وقال ابوسعيد الخدري: الويل واد في جهنم. وقال عثمان بن عفان: هو جبل في النار.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قائله جرير. اللسان: (ويل) (2) البيت للمخبل اللسان: (ويل) وروايته (ويب) بدل (وبل). ومعنى ويب: التصغير والتحقير. (*)

 

===============

(322)

وقوله: " يكتبون الكتاب بايديهم " معناه انهم يقولون كتبته، ثم يضيفونه إلى الله، كقوله " خلقت بيدي " (1) " وعملت ايدينا " (2) أي نحن تولينا ذلك ولم نكله إلى احد من عبادنا. ومثله رأيته بعيني وسمعته باذني ولفيته بنفسي. والمعنى في جميع ذلك التأكيد، ولانه قد يأمر غيره بالكتابة، فتضاف اليه مجازا. فلذلك يقول الامي كتبت إلى آل فلان بكذا، وهذا كتابي اليك، وكما تقول: حملت إلى بلد كذا. وانما امرت بحمله. فاعلمنا الله تعالى انهم يكتبونه بايديهم، ويقولون هو من عندالله، وقد علموا يقينا اذا كتبوه بايديهم انه ليس من عند الله. وفي الآية دلالة على ابطال قول المجبرة، لانه تعالى عابهم بهذا القول، اذ نسبوا ما كتبوه من التحريف إلى انه من عند الله، وجعل عليهم الويل. واذا كان تحريفه من الكتاب ـ ليس من عند الله، من جهة القول والحكم ـ فليس ذلك منه من جهة القضاء والحكم ولا التقدير والمشيئة.

وقال ابن السراج: معنى " بايديهم " أي من تلقاء انفسهم.

وقوله " ليشتروا به ثمنا قليلا ". قال قوم: أي انه عرض الدنيا لانه قليل المدة، كما قال تعالى: " قل متاع الدنيا قليل " (3) ذهب اليه ابوالعالية. وقال آخرون: إنه قليل لانه حرام.

وروي عن ابي جعفر (ع)، وذكره ايضا جماعة من اهل التأويل أن أحبار اليهود كانت غيرت صفة النبي (صلى الله عليه وآله) ليوقعوا الشك للمستضعفين من اليهود.

وقوله: " ويل لهم مما كانوا يكسبون " يقولون مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم. واصل الكسب العمل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر، وكل عامل عملا بمباشرة منه لما عمل. ومعناه هاهنا الاحتراف فهو كاسب لما عمل. قال لبيد ابن ربيعة:

لمغفر قهد تنازع شلوه * غبس كواسب لا يمن طعامها (4)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة ص: آية 75. (2) سورة يس: آية 71. (3) سورة النساء: آية 76.

(4) معلقته. اللسان: (عفر) في المخطوطة والمطبوعة (بمعفر فهد) بدل (لمعفر قهد) ـ (*)

 

===============

(323)

وقيل الكسب عبارة عن كل عمل بجارحة يجتلب به نفع، أو يدفع به مضرة ومنه قيل للجوارح من الطير: كواسب.

قوله تعالى:

" وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون " (80) آية بلا خلاف.

المعنى:

قوله: " وقالوا " يعني اليهود الذين قالوا لن تمسنا النار، ولن ندخلها إلا اياما معدودة. وانما لم يبين عددها في التنزيل، لانه تعالى اخبر عنهم بذلك، وهم عارفون بعدد الايام التي يوقتونها في النار، فلذلك نزل تسمية عدد الايام، وسماها معدودة، لما وصفنا.

وقال ابوالعالية وعكرمة والسدي وقتادة: هي أربعون يوما. ورواه الضحاك عن ابن عباس. ومنهم قال: انها عدد الايام التي عبدوا فيها العجل.

وقال ابن عباس: إن اليهود تزعم انهم وجدوا في التوراة مكتوبا ان ما بين طرفي جهنم مسيرة اربعين سنة، وهم يقطعون مسيرة كل سنة في يوم واحد، فاذا انقطع المسير، انقطع العذاب وهلكت النار. وقال مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس: إنها سبعة ايام، لان عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وانهم يعذبون بعدد كل ألف سنة يوما واحدا من ايام الآخرة، وهو كألف سنة من ايام الدنيا. ولما قالت اليهود ما قالت من قولها: لن تمسنا النار إلا اياما معدودة على ما بيناه، قال الله تعالى لنبيه: " قل اتخذتم عند الله عهدا " بما تقولون من ذلك أو ميثاقا، فالله

ـــــــــــــــــــــــ

ـ وفي المطبوعة (غبش) بدل (غبس). والمعفر: الذي القي في العفر، وهو التراب. والقهد: ولد البقر. والشلو: العضو من اللحم. وغبس: غبر ولا يمن طعامها: تكسب طعامها بنفسها. (*)

 

===============

(324)

لا ينقض عهده " ام تقولون على الله ما لاتعلمون " من الباطل جهلا وجراءة عليه القراءة:

وفي القراء من قرأ " أوتخذتم " بادغام الذال في التاء. ومنهم من لم يدغم.

واصل أتخذتم أأتخذتم. دخلت ألف الاستفهام على ألف القطع من نفس الكلمة، فكره اجتماعهما فحذفت الاصلية، وبقيت التي للاستفهام، لانها لمعنى ـ وهي وان كانت للاستفهام في الاصل ـ فالمراد بها هاهنا النكير، والتوبيخ، والاعلام لهم ولغيرهم أن الامر بخلاف ما قالوه، وانهم يقولون بغير علم. والدليل على انها ألف استفهام كونها مفتوحة. ولو كانت اصلية لكانت مكسورة في إتخذتم، ولذلك يدخل بينهما المد كما قالوا في " آلله اذن لكم " (1)، لان قوله: " اذن الله " لو اخبر بها لكانت مفتوحة. ولو لم تدخل المدة لاشتبهت ألف الاستفهام بهمزة الخبر، وليس كذلك هاهنا، لان الفتحة تختص للاستفهام وفي الخبر تكون مكسورة. وفي المفتوحتين لابد من الجمع بين الهمزتين. ومنهم من يفصل بينهما بمدة. ومنهم من لا يفصل، نحو قوله " أأمنتم من في السماء " (2)

قوله تعالى:

" بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (81) آية بلا خلاف.

الاعراب والقراءة:

قرأ اهل المدينة خطيئاته على الجمع. الباقون على التوحيد.

قوله " بلى " جواب لقوله: " لن تمسنا النار إلا اياما معدودة " فرد الله عليهم بأن قال: " بلى من احاطت به خطيئته " ابدا. وبلى تكون جوابا للاستفهام الذي اوله جحود. وتكون جوابا للجحد وان لم تكن استفهاما، كقوله: " تقول

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة يونس: آية 59. (2) سورة الملك: آية 16. (*)

 

===============

(325)

حين ترى العذاب " إلى قوله " بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها " (1). ويقول القائل لم افعل كذا وكذا فيقول له غيره: بلى قد فعلت. بلى ونعم جوابان:

أحدهما ـ يدخل فيما لا يدخل فيه الآخر، لان بلى تدخل في باب الجحود.

وقال الفراء: انما امتنعوا من استعمال نعم في جواب الجحد، لانه اذا قال لغيره مالك علي شئ فقال له نعم، فكأنه قد صدقه، وكأنه قال نعم ليس لي عليك شئ، فلهذا اختلف نعم وبلى.

وقوله: " سيئة " فمن همز اتى بيائين بعدهما همزة. ومن ترك الهمزة على لغة أهل الحجاز يقول " سية " مثل عية. ومن لين قال " سيئة " كأنه يشير إلى الهمزة ويسكنها.

المعنى:

قال مجاهد، وابن عباس وابووايل، وقتادة وابن جريج: " السيئة " هاهنا الشرك. وقال السدي: الذنوب التي وعد الله عليها النار. والذي يليق بمذهبنا هاهنا قول مجاهد، لان ما عدا الشرك لا يستحق عندنا عليه الخلود في النار.

" وأحاطت به خطيئته ". قال ابن عباس ومجاهد انها الشرك. وقال الربيع ابن خيثم: من مات عليها. وقال ابن السراج: هي التي سدت عليه مسالك النجاة.

وقال جميع المعتزلة: انه اذا كان ثوابه اكثر من عقابه. والذي نقوله: الذي يليق بمذهبنا ان المراد بذلك الشرك والكفر. لانه الذي يستحق به الدخول مؤبدا. ولا يجوز ان يكون مرادا بالآية.

وقوله: " واحاطت به خطيئته " يقوي ذلك، لان المعنى فيه ان تكون خطاياه كلها اشتملت عليه ولا يكون معه طاعة يستحق بها الثواب، تشبيها بما احاط بالشئ من كل وجه. ولو كان معه شئ من الطاعات، لكان مستحقا للثواب فلا تكون السيئة محيطة به، لان الاحباط عندنا باطل فلا يحتاج إلى تراعي كثرة

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الزمر آية 58، 59. (*)

 

===============

(326)

العقاب، وقلة الثواب، لان قليل الثواب عندنا يثبت مع كثرة العقاب، لما ثبت من بطلان التحايط بادلة العقل. وليس هذا موضع ذكرها، لان الآية التي بعدها فيها وعد لاهل الايمان بالثواب الدائم. فكيف يجتمع الثواب الدائم والعقاب الدائم، وذلك خلاف الاجماع؟ ومتى قالوا احدهما يبطل صاحبه، قلنا الاحباط باطل ليس بصحيح على ما مضى.

قوله تعالى:

" والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82) آية.

هذه الآية متناولة (1) لمن آمن بالله وصدق به، وصدق النبي (صلى الله عليه وآله) وعمل الصالحات التي اوجبها الله تعالى عليه، فانه يستحق بها الجنه خالدا ابدا. وظاهرها يمنع من ان مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لانه اذا كان مؤمنا مستحقا للثواب الدائم، فلا يجوز ان يستحق مع ذلك عقابا دائما، لان ذلك خلاف ما اجمع المسلمون عليه ومتى عادوا إلى الاحباط، كلموا فيه بينهم وبين بطلان قولهم.

قوله تعالى:

" وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وانتم معرضون (83)

آية بلا خلاف.

القراءة:

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: " لا يعبدون " بالياء. الباقون بالتاء.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) في المخطوطة والمطبوعة (متأولة) بدل (متناولة). (*)

 

===============

(327)

وقرأ " حسنا " بنصب (1) الحاء والسين (2) حمزة والكسائي الباقون " حسنا " بضم الحاء وإسكان السين وتقدير الآية: واذكروا ايضا يا معشر بني اسرائيل اذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، فلما اسقطت ان، رفع. كما قال الشاعر:

ألا ايهذا اللائمي اشهد الوغى * وان اشهد اللذات هل انت مخلدي (3)

ومثله قوله: " افغير الله تأمروني اعبد ". ومن قرأ بالياء، تقديره انه اخبر انه تعالى أخذ ميثاقهم، لايعبدون إلا الله، وبالوالدين احسانا، ثم عدل إلى خطابهم فقال: " وقولوا للناس حسنا ". والعرب تفعل ذلك كثيرا. وانما استخاروا ان يصيروا إلى المخاطبة بعد الخير، لان الخبر انما كان عمن خاطبوه بعينه، لاعن غيره.

وقد يخاطبون، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الخبر عن المخاطب. مثال الاول قول الشاعر:

شطت مزار العاشقين فاصبحت * عسرا علي طلابك ابنة مخزم (4)

مزار نصب. والتاء من اصبحت كناية عن المرأة فأخبر عنها ثم خاطبها. ومثال الثاني قول الشاعر:

اسيئي بنا أو احسني لا ملومة * لدنيا ولا مقلية ان تقلت (5)

وقال زهير:

فاني لو إلاقيك اجتهدنا * وكان لكل منكره كفاء

وابري موضحات الرأس منه * وقد يبرى من الجرب الهناء

ومن قرأ بالتاء فان الكلام من أوله خطاب.

وتقديره: واذ اخذنا ميثاق بني اسرائيل، قلنا لا تعبدوا الا الله. قال بعض النحويين: المعنى واذ أخذنا ميثاق بني اسرائيل لا تعبدون الا الله، وبالوالدين

ـــــــــــــــــــــــ

(1) في المخطوطة والمطبوعة هكذا والصحيح بفتح (2) في المطبوعة " الصواب وبفتح الحاء والسين " زائدة. (3) قائله طرفه بن العبد البكري ديوانه: 317. من معلقته المشهورة.

وروايته: " الزاجر " بدل " اللائم ". واحضر ـ في الموضعين ـ بدل (اشهد). (4) قائله عنترة بن شداد. اللسان (شطط) وروايته (طلابها) بدل (طلابك) وفي معلقته هكذا:

حلت بارض الزائرين فاصبحت * عسرا علي طلابك ابنة مخرم

(5) قائله كثير عزة، ديوانه 1: 53. قلاه يقليه قلى فهو مقلي: كرهه. وتقلى أي استعمل من القول أو الفعل ما يدعو إلى بغضه. (*)

 

===============

(328)

احسانا، حكاية، كأنه قال استحلفناهم لا يعبدون إلا الله، اذ قلنا لهم: والله لو قالوا والله لا تعبدون. والاول اجود.

وقوله تعالى: " وبالوالدين احسانا " عطف على موضع أن المحذوفة في

“ تعبدون إلا الله وبالوالدين احسانا " فرفع لا تعبدون، لما حذفت أن، ثم عطف بالوالدين على موضعها: كما قال الشاعر:

معاوي اننا بشر فاسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا (1)

فعطف (2) ولا الحديد على موضع الجبال. واما الاحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدى عن معناه، قوله (3) " وبالوالدين " اذ كان مفهوما معناه.

وتقدير الكلام واذ اخذنا ميثاق بني اسرائيل بان لا تعبدوا إلا الله وان تحسنوا إلى الوالدين احسانا. وفاكتفى بقوله: " بالوالدين " عن ان يقول بان تحسنوا إلى الوالدين احسانا، اذ (4) كان مفهوما بما ظهر من الكلام. وقال بعض اهل العربية: تقديره وبالوالدين فاحسنوا، فجعل الياء التي في الوالدين من صلة الاحسان مقدمة عليه. وقال آخرون: الا تعبدوا إلا الله واحسنوا بالوالدين احسانا، فزعموا ان الباء في وبالوالدين من صلة المحذوف. اعني من احسنوا. فجعلوا ذلك من كلامين والاحسان الذي اخذ عليهم الميثاق بان يفعلوه إلى الوالدين ما فرض على امتثالهما من فعل المعروف، والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء لهما بالخير، وما اشبهه مما ندب الله تعالى إلى الفعل بهما.

وقوله: " ذي القربي " أي وبذي القربى ان تصلوا قرابة منهم، ورحمة.

اللغة:

والقربى مصدر على وزن فعلى من قولك: قرب مني رحم فلان قرابة، وقربى وقربا بمعنى واحد.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قائله عقيبة بن هبيرة الاسدي، جاهلي اسلامي. الخزانة: 343. (2) في المطبوعة

“ فعطت " " 3 " في المطبوعة والمخطوطة " وقوله " على ما يظهر ان الناسخ زاد الواو لانه لم يفهم معنى الكلام. " 4 " في المطبوعة والمخطوطة " اذا " الالف ايضا زيادة من الناسخ. (*)

 

===============

(329)

واليتامى جمع يتيم: مثل اسير واسارى. ويدخل في اليتامى الذكور منهم والاناث المعنى:

ومعنى ذلك: اخذنا ميثاق بني اسرائيل بان لا تعبدوا إلا الله وحده، دون ما سواه من الانداد، وبالوالدين احسانا وبذي القربى ان يصلوا رحمه، ويعرفوا حقه. وباليتامى ان يتعطفوا عليهم بالرأفة، والرحمة، وبالمساكين أن يوفوهم حقوقهم التي ألزمها الله في اموالهم.

والمسكين هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة وهو مفعيل من المسكنة وهي ذل الحاجة والفاقة.

وقوله: " وقولوا للناس حسنا " فيه عدول إلى الخطاب بعد الخبر على مامضى القول فيه. وقد ذكرنا اختلاف القراء في حسنا وحسنا. واختلف اهل اللغة في الفرق بينهما فقال بعض البصريين هو (1) على احد وجهين:

أحدهما ـ أن يكون أراد بالحسن الحسن. ويكون لمعنيين مثل البخل والبخل واما ان يكون جعل الحسن هو الحسن في التشبيه، لان الحسن مصدر والحسن هو الشئ الحسن، فيكون ذلك: كقول القائل: انما انت أكل وشرب قال الشاعر:

وخيل قد دلفت لها بخيل * تحية بينهم ضرب وجيع (2)

فجعل التحية ضربا وقال آخر: بل الحسن هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن، والحسن هو البعض من معاني الحسن، ولذلك قال تعالى اذ (3) وصى بالوالدين

“ ووصينا الانسان بوالديه حسنا " (4) يعني بذلك انه وصاه بجميع معاني الحسن:

وقرئ في الشواذ: حسنى. لايقرء بها لشذوذها حكاها الاخفش. وذلك لا يجوز لان فعلى، وافعل لا يستعمل إلا بالالف واللام. نحو الاحسن والحسنى والافضل

ــــــــــــــــــــ

(1) في المطبوعة والمخطوطة (المصريين) وهو خطأ. (2) قاله عمرو بن معد يكرب.

الخزانة 4: 54. يقال دلفت الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب: أي تقدمت. (3) في المطبوعة والمخطوطة (اذا) بزيادة الالف وهو خطأ. (4) سورة العنكبوت: آية 9 (*)

 

===============

(330)

والفضلى قال الله تعالى: " للذين احسنوا الحسنى " (1) وروي عن أبي جعفر محمد ابن علي الباقر " ع " وعن عطا انهما قالا: وقولوا للناس حسنا للناس كلهم. وعن الربيع بن انس قولوا للناس حسنا: أي معروفا. وعن ابن الحنفية انه قال: " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " هي مسجلة للبر والفاجر. يريد بمسجلها انها مرسلة. ومنهم من قال: امروا بان يقولوا لبنى اسرائيل حسنا. قال ابن عباس يأمرون بألا اله الا الله، من لم يقبلها ويرغب عنها حتى يقولها: كما قالوها. فان ذلك قربة لهم من الله قال: والحسن ايضا من لين القول ـ من الادب الحسن الجميل ـ والخلق الكريم وهو مما ارتضاه (2) الله تعالى واحبه. وقال ابن جريج: قولوا للناس حسنا: أي صدقا في شأن محمد " ص " وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر وقوله: " واقيموا الصلاة " ادوا بحدودها الواجبة عليكم.

" وآتوا الزكاة " معناه واعطوها اهلها كما اوجبها عليكم. والزكوة: التي فرضها الله على بنى اسرائيل. قال ابن عباس: كان فرض في اموالهم قربانا تهبط اليه نار فتحملها. وكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك، كان غير متقبل.

وروي عنه أيضا ان المعني به طاعة الله والاخلاص.

وقوله: " ثم توليتم إلا قليلا منكم وانتم معرضون " خبر من الله تعالى عن يهود بني اسرائيل انهم نكثوا عهده، ونقضوا ميثاقه بعد ما اخذ ميثاقهم على الوفاء له، بان لا يعبدوا غيره، وبان يحسنوا إلى الآباء والامهات، ويصلوا الارحام، ويتعطفوا على الايتام، ويردوا حقوق المساكين، ويأمروا عباد الله بما امرهم به، ويقيموا الصلاة بحدودها، ويؤتوا زكاة اموالهم، فخالفوا امره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده، وميثاقه. ووصف هؤلاء بأنهم قليل بالاضافة إلى من لم يؤمن. وقال بعضهم: أراد " ثم توليتم إلا قليلا منكم، وانتم معرضون ": اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله). وعنى

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة يونس: آية 26 (2) في المطبوعة " ارتضا " بدون الهاء. (*)

 

===============

(331)

بسائر الآية اسلافهم، كأنه ذهب إلى ان معنى الكلام: ثم توليتم إلا قليلا منكم ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ثم قال: وانتم معاشر بقاياهم معرضون ايضا عن الميثاق الذي اخذ عليكم. وقال قوم: يلى قوله: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وانتم معرضون) خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجري رسول الله " ص " من يهود بنى اسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق، الذي اخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم امر الله وركوبهم معاصيه.

وروي عن ابن عباس انه قال: قوله " وقولوا للناس حسنا " نسخ بقوله:

قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية. وقال آخرون: ليست منسوخة لكن امروا بأن يقولوا حسنا في الاحتجاج عليهم، اذا دعوا إلى الايمان، وبين ذلك لهم. وقال قتادة نسختها آية السيف. الصحيح انها ليست منسوخة، وانما امر، الله تعال بالقول الحسن في الدعاء اليه والاحتجاج عليه، كما قال تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله)

“ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " (1) وبين في آية اخرى، فقال: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (2) وليس الامر بالقتال ناسخا لذلك، لان كل واحد منهما ثابت في موضعه قوله تعالى:

" وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون " (84) آية بلا خلاف المعنى:

قد بينا فيما مضى أن الميثاق هو العهد. والمعنى في الآية: واذكروا اذ اخذنا ميثاق اسلافكم الذين كانوا في زمن موسى، والانبياء الماضين (ع)، وانما اضاف اليهم لما كانوا أخلافا (3) لهم على ما مضى القول فيه. وتقدير الاعراب في هذه

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة النحل آية: 125 (2) سوره الانعام آية: 108.

(3) هذه عبارة المخطوطة وفي المطبوعة: " كانوا خلافا على ". (*)

 

===============

(332)

الآية مثل الآية الاولى سواء.

واما سفك الدم، فانه صبه واراقته. ومعنى " لا تسفكون دماءكم ولاتخرجون انفسكم من دياركم " النههي عن أن يقتل بعضهم بعضا، وكان في قتل الرجل منهم قتل نفسه اذا كانت ملتهما واحدة، ودينهما واحد وكان اهل الدين الواحد في ولاية بعضهم بعضا بمنزلة رجل واحد. كما قال النبي (صلى الله عليه وآله): انما المؤمنون في تعاطفهم وتراحمهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر. فهذا قول قتادة وابي العالية. ويحتمل ان يكون المراد لا يقتل الرجل منكم غيره فيقاد به قصاصا. فيكون بذلك قاتلا نفسه، لانه كالسبب فيه واضيف قتل الولي اياه قصاصا اليه بذلك. كما يقال لرجل يعاقب لجناية جناها على نفسه: انت جنيت على نفسك. وفيه قول ثالث: وهو ان قوله: " انفسكم " اراد به اخوانكم، لانهم كنفس واحدة.

وقوله: " ثم اقررتم وانتم تشهدون " اي اقررتم بذلك ايضا، وبذلتموه من انفسكم، وانتم شاهدون على من تقدمكم باخذنا منهم الميثاق، وما بذلوه من انفسهم.

فذكر تعالى اقرارهم وشهادتهم، لان اخذ الميثاق كان على اسلافهم ـ وإن كان لازما للجميع، لتوكيد الحجة عليهم. ـ وقال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في بني قريظة والنضير.

يقول: حرم الله في الكتاب ان تسفكوا دماءكم، اي لا تقتتلوا فيقتل بعضكم بعضا (1)، ولا تتركوا اسيرا في يد الآسرين ليقتلوه " ولا تخرجوا انفسكم من دياركم " معناه لا تغلبوا احدا على داره، فتخرجوه، فقبلتم ذلك واقررتم به. وهو اخذ الميثاق " وانتم تشهدون " بذلك.

واما النفس فمأخوذة من النفاسة، وهي الجلالة فنفس الانسان انفس مافيه. والدار هي المنزل الذي فيه ابنية المقام، بخلاف (2) منزل الارتحال. وقال الخليل: كل

ـــــــــــــــــــــــ

(1) في المخطوطة " لا تقلوا ". وعبارة المطبوعة هكذا: " لا يقتلوا فيقتل بعضكم ولا تتركوا... ".

(2) في المطبوعة " بجلال ". (*)

 

===============

(333)

موضع حل فيه قوم فهو دار لهم ـ وان لم يكن فيه ابنية. وقيل ايضا: إن معنى قوله: " ثم اقررتم وانتم تشهدون " ان اقرارهم هو الرضاء به، والصبر عليه: كما قال الشاعر:

الست كليبيا اذ سيم خطة * اقر كاقرار الحليلة للبعل

وقوله: " وانتم تشهدون " يحتمل امرين:

احدهما ـ وانتم تشهدون على انفسكم بالاقرار.

والثاني ـ وانتم تحضرون دماءكم. ويخرجون انفسكم من دياركم.

وحكي عن ابن عباس انه قال: ذلك خطاب من الله تعالى لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجري رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيام هجرته اليهم موبخا لهم على تضييعهم احكام ما في ايديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها. فقال الله تعالى لهم: " ثم اقرتم " يعني بذلك اقر أو لكم وسلفكم وانتم تشهدون على اقرارهم، باخذ الميثاق عليهم بان لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا انفسهم من ديارهم، ويصدقوا بان ذلك حق من ميثاقي عليكم. وقال ابوالعالية: ذلك خبر من الله عن أوائلهم. ولكنه اخرج الخبر مخرج المخاطبة عنهم على النحو الذي وصفناه في سائر الآيات. " وانتم تشهدون " اي وانتم شهود.

قوله تعالى:

" ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب، وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى اشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون " (85) آية بلا خلاف. (*)

 

===============

(334)

القراءة:

قرأ اهل الكوفة تظاهرون هاهنا، وفي التحريم بتخفيف الظاء. الباقون بالتشديد فيهما. وقرأ حمزة " أسرى " بفتح الهمزة، وسكون السين بغير الف بعدها. وقرأ اهل المدينة، وعاصم، والكسائي ويعقوب (تفادوهم) بضم التاء وبألف.

وقوله " ثم انتم هؤلاء " يحتمل وجهين:

احدهما ـ ان يكون اريد به ثم انتم يا هؤلاء فترك يا استغناء، لدلالة الكلام عليه: كما قال " يوسف: اعراض عن هذا " (1) ومعنى الكلام ثم انتم يامعشر يهود بني اسرائيل بعد اقراركم بالميثاق الذي اخذته عليكم: ألا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا انفسكم من دياركم، وبعد شهادتكم على انفسكم بذلك انه حق لازم لكم الوفاء به تقتلون انفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم متعاونين عليهم في اخراجكم اياهم بالاثم، والعدوان.

والتعاون هو التظاهر، وانما قيل للتعاون: التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض.

فهو تفاعل من الظهر. هو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض. قال الشاعر:

تظاهرتم اشباه نيب تجمعت * على واحد لازلتم قرن واحد

ومنه قوله تعالى: " وان تظاهروا عليه فان الله هو مولاه " وقوله " والملائكة بعد ذلك ظهير " (2) وقوله: " ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (3) وقوله:

" سحران تظاهرا " (4) وقوله: " وكان الكافر على ربه ظيرا " (5) ويقال: اتخذ معك نفرا ونفرين ظهيرين يعني عدة، والوجه الآخر أن يكون معناه: ثم انتم القوم تقتلون انفسكم فيرجع إلى الخبر عن (انتم) وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم (هؤلاء) كما تقول العرب: انا ذا أقوم، وانا ذا أجلس. ولو قيل أنا هذا يجلس لكان صحيحا. وكذلك انت ذاك تقوم، وقال بعض النحويين: ان هؤلاء (في) (6)

قوله: " ثم انتم هؤلاء " تنبيه، وتوكيد لانتم. وزعم أن انتم: وان كان كناية عن

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة يوسف: آية 30. (2) سورة التحريم: آية 4. (3) سورة الاسرى: آية 88 (4) سورة القصص: آية 48. (5) سورة الفرقان: آية 55 (6) زودنا (في) ليتم المعنى (*)

 

===============

(335)

اسماء جميع المخاطبين فانما جازان يؤكد بهؤلاء. وأولاء يكنى بها عن المخاطبين كما قال خفاف بن ندبة

اقول له والرمح يأطر متنه * تبين خفافا انني انا ذلكا (1)

يريد انا هو، وكما قال " حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ". (2)

والاثم قيل معناه: هو ما تنفر منه النفس ولم يطمئن اليه القلب. ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله) لنواس بن سمعان، حين سأله عن البر والاثم، فقال (صلى الله عليه وآله): البر ما اطمأنت اليه نفسك والاثم ما حك في صدرك. وقال قوم: معنى الاثم (3) ما يستحق عليه الذم، وهو الاصح.

والعدوان مجاوزة الحق. وقال قوم: هو الافراط في الظلم. واسرى جمع اسير واسارى جمع اسرى. كما قالوا: مريض ومرضى وجريح وجرحى وكسير وكسرى. هذا قول المفضل بن سلمة قال ابوعمرو بن العلاء: الاسارى هم الذين في الوثاق والاسرى الذين في اليد. ان لم يكونوا في الوثاق.

ومعنى تفادوهم أو تفدوهم: طلب الفدية من الاسير الذي في ايديهم من اعدائهم قال الشاعر:

قفي فادي اسيرك إن قومي * وقومك ما أرى لهم اجتماعا

وكان هذا محرما عليهم ـ وان كان مباحا لنا ـ فذكر الله تعالى توبيخا لهم في فعل ما حرم عليهم. وقال آخرون: انه افتداء الاسير منهم اذا اسره اعداؤهم. وهذا مدح لهم ذكره من بعد ذمهم انهم خالفوه في سفك الدماء، وتابعوه في افتداء

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الاغاني 2: 329، 13: 134، 135، 16: 134 وقد مر في 1: 51 من هذا الكتاب. قال هذا في مقتل ابن عمه معاوية بن عمرو: أخي الخنساء. اقول له: أي لمالك ابن حمار الذي مر ذكره في البيت السابق وهو:

فان تك خيلي قد اصيب صميمها * فعمدا على عين تيممت مالكا

واطر الشئ: ان تقبض على احد طرفي الشئ ثم تعوجه، وتعطفه وتثنيه. واراد ان حر الطعنة جعله منثني من المها ثم ينثني ليهوي صريعا اذ أصاب الرمح مقتله.

في المطبوعة " ناظر فنه " بدل " يأطر متنه " وهو تحريف.

(2) سورة يونس آية 22. (3) في المخطوطة والمطبوعة " الاسم " (*)

 

===============

(336)

الاسرى استشهادا على هذا الباطل بقوله: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " وقال قوم: الفرق بين تفدوهم وتفادوهم، ان تفدوهم هو افتكاك بمال وتفادوهم هو افتكاك الاسرى بالاسرى. اختلفوا فيمن عنى بهذه الآية فروى عكرمه عن ابن عباس انه قال: " ثم انتم هؤلاء تقتلون انفسكم " إلى قوله: والعدوان أي اهل الشرك، حتى يسفكوا دماءهم معهم، ويخرجوهم من ديارهم معهم قال:

انبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء اسراهم. وكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع (1) وانهم حلفاء الخزرج. وحلفاء النضير وقريظة، وانهم حلفاء الاوس. وكانوا اذا كانت بين الاوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع (2) مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الاوس، يظاهر كل فريق حلفاءه على اخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبايديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم ولهم. والاوس والخزرج اهل شرك يعبدون الاوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا، ولا قيامة ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما، فاذا وضعت الحرب اوزارها افتدوا اسراهم تصديقا لما في التوارة، واخذا به يفتدي بنو قينقاع من كان (من) (3) اسراهم في ايدي الاوس، ويفتدي بنو النضير وقريظة ما كان في ايدي الخزرج. ويطلبون ما اصابوا من الدماء، وما قتلوا من قتلوا منهم، فيما بينهم مظاهرة لاهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى حين انبأهم بذلك: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ " أي تفادونهم بحكم التوراة وفي حكم التوراة ان لا يقتل ويخرج من داره ويظاهر (4) عليه من يشرك بالله ويعبدو الاوثان من دونه ـ ابتغاء عرض الدنيا ـ ففي ذلك من فعلهم مع الاوس والخزرج نزلت هذه القصة. وذكر فيه اقوال اخر تزيد وتنقص لا فائدة في ذكرها، معناها متقارب لما اوردناه.

وقوله " يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض

ـــــــــــــــــــــــ

(1 و 2) في المخطوطة والمطبوعة " قيقاع " وهو خطأ.

(3) زدنا " من " لانه لا يتم المعنى بدونها.

(4) في المخطوطة والمطبوعة " ان لا يقتل ويخرجونه من وتظاهر.. ". (*)

 

===============

(337)

الكتاب وتكفرون ببعض " القصد بذلك توبيخهم وتعنيفهم على سوء افعالهم. فقال:

ثم انتم بعد اقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: " لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا انفسكم من دياركم " تقتلون انفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا. وانتم مع قتلكم من تقتلون منكم. اذا وجدتم اسيرا منكم في ايدي غيركم من اعدائكم تفدونهم. ويخرج بعضكم بعضا من ديارهم، وقتلكم اياهم واخراجكم اياهم من ديارهم حرام عليكم كما حرام عليكم تركهم اسرى في ايدي عدوكم. فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم. وتستجيزون قتلهم وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم سواء، لان الذي حرمت عليكم من قتلهم واخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم اسرى في ايدي عدوهم. " أفتؤمنون ببعض الكتاب " الذي فرضت عليكم فيه فرائضي وبينت لكم فيه حدودي، واخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي، فتصدقون به فتفادون اسراكم من ايدي عدوكم، وتكفرون ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرمت عليكم قتله، من اهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم وقد علمتم ان في الكفر منكم ببعضه نقضا منكم في عهدي وميثاقي.

وقوله: " فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا " فالخزي:

الذل، والصغار يقال خزي الرجل يخزى خزيا. " في الحياة الدنيا " يعني في عاجل الدنيا قبل الآخرة. ثم اختلفوا في الخزي الذي خزاهم الله بما سلف منهم من المعصية فقال بعضهم: ذلك حكم الله الذي انزله على نبيه (صلى الله عليه وآله) من اخذ القاتل بما قتل، والقود به قصاصا، والانتقام من الظالم لمظلوم.

وقال آخر: بل ذلك هو الجزية منهم ـ ما اقاموا على دينهم ـ ذلة لهم وصغارا وقال آخرون: الخزي الذي خزوا به في الدنيا إخراج رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني النضير من ديارهم لاول الحشر. وقيل: مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم.

وكان ذلك خزيا في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم ومعنى قوله: " يوم القيامة يردون إلى اشد العذاب " أي اسوء العذاب، يعني بعد الخزي الذي يحل بهم في الدنيا يردهم الله إلى اشد العذاب ـ الذى اعده الله لاعدائه.

 

===============

(338)

وقال بعضهم: يردهم يوم القيامة إلى اشد العذاب، يعني اشد من عذاب الدنيا

ـ والاول اقوى: انه من أشد العذاب يعني اشد جنس العذاب. وذلك يقتضي العموم ولا يخص إلا بدليل.

وقوله: " وما الله بغافل عما تعملون ". منهم من قرأ بالياء، رده إلى من أخبر عنهم.

ومن قرأ بالتاء، رده إلى المواجهين بالخطاب. والياء اقوى، لقوله: " فما جزاء من يفعل ذلك ".

وقوله: " ويوم القيامة يردون " فالرد إلى هذا أقرب من قوله: " أفتؤمنون ببعض الكتاب " فاتباع الاقرب أولى من إلحاقه بالاول. والكل حسن. والمعنى وما الله بساه عن اعمالهم الخبيثة بل هو محص لها وحافظ لها حتى يجازي عليها.

فان قيل: ظاهر الآية يقتضي ان يصح الايمان ببعض الاشياء، وان كفروا بالبعض الآخر، وذلك مناف لمذهبكم في الارجاء والموافاة. لان المعنى في ذلك إظهار التصديق بالبعض، والمنع بالتصديق بالبعض الآخر. ويحتمل ان يكون المراد ان ذلك على ما يعتقدونه، لانكم اذا اعتقدتم جميع ذلك ثم عملتم ببعضه دون بعض، فكأنكم آمنتم ببعضه دون بعض.

قوله تعالى:

" أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون " (86) آية بلا خلاف.

المعنى:

قوله: " أولئك " إشارة إلى الذين اخبر عنهم يؤمنون ببعض الكتاب، فيفادون أساراهم من اليهود، ويكفرون ببعض فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من اهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرم الله اخراجه. وهم الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا. ومعناه ابتاعوها على الضعفاء واهل الجهل والغباء منهم. وانما وصفهم

 

===============

(339)

بانهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لانهم رضوا بالدنيا بكفرهم الله عزوجل فيها عوضا من نعيم الآخرة الذي اعده الله للمؤمنين. فجعل تركهم حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه من خسيس الدنيا بما اخبر الله انه لا حظ لهم في نعيم الآخرة، وان لهم في الآخرة عذابا غير مخفف عنهم فيها العقاب. وقوله:

" ولا هم ينصرون " أي لا ينصرهم احد في الآخرة فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله تعالى قوله تعالى:

" ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم، فريقا تقتلون " (87)

آية بلا خلاف.

القراءة:

قرأ أهل الكوفة الرسل مثقل في جميع القرآن. وقرأ ابن كثير القدس بسكون الدال حيث وقع. الباقون بتثقيلها، المعنى:

ومعنى قوله " اتينا موسى الكتاب " انزلناه اليه واعطيناه. والكتاب بالمراد به التوراة. وقوله " وقفينا " معناه واردفنا، واتبعنا بعضه خلف بعض، كما بقفو الرجل الرجل: اذا سار في اثره من ورائه واصله من القفا. يقال فيه قفوت فلانا اذا صرت خلف قفاه. كما يقال دبرته اذا صرت في دبره قال امرؤ القيس:

وقفى على اثارهن بحاصب * فمر العشى البارد المتحصب (1)

ومعنى قوله: " بالرسل " من بعد موسى. والمراد بالرسل الانبياء، وهم جمع رسول يقال: رسول ورسل، كما يقال: رجل صبور وقوم صبر. ورجل شكور، وقوم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه 38. وروايته " فقفي " بدل وقفا وعجزه وغيبة شؤبوب من الشد ملهب والعجز الموجود اعلاه غير موجود في ديوان امرئ القيس. (*)

 

===============

(340)

شكر. والمعنى في " قفينا " اتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد، وشريعة واحدة، لان كان من بعثه الله نبيا بعد موسى إلى زمن عيسى بن مريم (ع) فانما بعثه باقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ما فيها، فلذلك، قال: " وقفينا من بعده بالرسل " يعني على منهاجه وشريعته.

وقوله: " واتينا عيسى بن مريم البينات " اعطينا عيسى بن مريم الحجج والدلالات على نبوته من احياء الموتى وابراء الاكمه والابرص ونحو ذلك من الآيات التي دلت على صدقه وصحة نبوته.

وقوله: " وايدناه بروح القدس " أي قويناه واعناه. يقال منه ايدك الله، أي قواك الله. وهو رجل ذو ايد وذو اياد أي ذو قوة ومنه قول العجاج:

من ان تبدلت بآدي آدا (1)

يعني بقوة شبابي قوة الشيب قال الشاعر:

ان القداح اذا اجتمعن فرامها * بالكسر ذو جلد وبطش أيد (2)

يعنى بالايد القوي قال قتادة والسدي والضحاك والربيع: روح القدس هو جبرائيل " ع ". قال: ابن زيد ايد الله عيسى بالانجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله كما قال: " وكذلك أوحينا اليك روحا من امرنا ". وروى الضحاك عن ابن عباس ان الروح: الاسم الذي كما يحيى به الموتى. واقوى الاقوال قول من قال:

هو جبرائيل (ع) لان الله تعالى ايد عيسى به كما قال تعالى " يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي التي انعمت عليك وعلى والدتك إذ ايدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا واذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل " (3) فاخبر انه ايده به ناو كان المراد به الانجيل لكان ذلك تكرارا. وانما سمي الله تعالى جبرائيل روحا واضافه إلى القدس، لانه كان بتكوين الله روحا من عنده من غير ولادة والد ولده. وقال قوم سمي روحا لانه كان بمنزلة الارواح للابدان تحيى بما يأتي به من

ـــــــــــــــــــــــ

(1) اللسان " ايد " والبيت الذي بعده: لم يك ينآد فامسى انآدا. وفي المطبوعة باد آذا (2) مروج الذهب 3: 104. قائله عبدالله بن عبدالاعلى.

(3) سورة المائدة آية 113. (*)

 

===============

(341)

البينات وقال آخرون: سمي بذلك، لان الغالب على جسمه الروحانية لرقته وكذلك سائر الملائكة وانما خص به تشريفا والتقديس والتطهير والقدس: الطهر وقال السدي:

القدس هاهنا البركة يقال: قدس عليه: برك عليه. ويكون اضافته إلى نفسه كقوله

“ حق اليقين " وقال الربيع: القدس الرب. وقال ابن زيد القدس هو الله، وايده بروحه، واحتج بقوله " الملك القدوس ". وقال القدوس والقدس واحد. وروي عن ابن عباس ان القدس الطاهر وقال الراجز:

الحمد لله العلى القادس وقال رؤبة:

دعوت رب القوة القدوسا وقوله: " افكلما جاءكم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون " فالخطاب بذلك متوجه إلى يهود بني اسرائيل وكأنه قال: يامعشر يهود بني اسرائيل لقد اتينا موسى التوراة وتابعنا من بعده الرسل اليكم واتينا عيسى ابن مريم الحجج والبينات اذ بعثناه اليكم وايدناه بروح القدس وانتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه انفسكم استكبرتم عليهم تجبرا وبغيا وكذبتم منهم بعضا وقتلتم بعضا، وظاهر الخطاب وان كان خرج مخرج التقدير فهو بمعنى الخبر.

قوله تعالى:

" وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون " (88) آية واحدة.

القراءة:

القراء المعرفون على تسكين اللام من قوله غلف. وقال ابن محيص غلف بضم اللام المعنى:

وروي عن ابن عباس ذلك فمن قرأ بالتسكين قال: معني غلف الواحد منها

 

===============

(342)

اغلف وغلف مثل احمر وحمر فكأنهم قالوا: قلوبنا أوعية فلم لا تعي ما تأتينا به قالوا كما " قالوا قلوبنا في اكنة مما تدعونا اليه وفي اذانا وقرو من بيننا وبينك حجاب " أي لا تفقه لانها في حجاب. ومنه يقال للرجل الذي لم يختن اغلف والمرأة غلفاء ويقال للسيف اذا كان في غلاف اغلف وقوس غلفاء: وجمعها غلف وكذلك كل لغة على وزن افعل للذكر والانثى فعلاء يجمع على فعل مضمومة الاول ساكنة الثاني نحو احمر وحمر واصفر وصفر فيكون ذلك جمعا للتذكير والتأنيث ولا يجوز ثقيل عين الفعل إلا في ضرورة الشعر. قال طرفه:

ايها الفتيان في مجلسنا * جردوا منها ورادا وشقر (1)

فحرك لضرورة الشعر. ومن قرأ " غلف " مثقلا قال: هو جمع غلاف مثل مثال ومثل وحمار وحمر. فيكون معناه إن قلوبنا اوعية للعلم فما بالها لا تفهم، وهي اوعية للعلم. ويجوز ان يكون التسكين عين التثقيل (2) مثل رسل ورسل. وقال عكرمة غلف: أي عليها طابع. والمعنى عندنا ان الله اخبر ان هؤلاء الكفار ادعوا ان قلوبهم ممنوعة من القبول وذهبوا إلى ان الله منعهم من ذلك، فقال الله ردا عليهم

“ بل لعنهم الله بكفرهم " أي انهم لما كفروا فالفوا كفرهم واشتد اعجابهم به ومحبتهم اياه، منعهم الله، من الالطاف والفوائد ـ ما يؤيته المؤمنين ثوابا على ايمانهم وترغيبا لهم في طاعتهم، وزجر الكافرين عن كفرهم، لان من سوى بين المطيع والعاصي له، فقد اساء اليها. وفي الآية رد على المجبرة ايضا، لانهم قالوا: مثل ما يقول اليهود من أن على قلوبهم ما يمنع من الايمان ويحول بينهم وبينه، وكذبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم وذمهم. فدل على أنهم كانوا مخطئين، كما هم مخطئون. وقال ابوعلي الفارسي: ما يدرك به المعلومات من الحواس وغيرها، اذ اذكر بانه لا يعلم وصف بان عليه مانعا كقوله تعالى: " افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها " (3).

فان الفعل لما كان مانعا من الدخول إلى المقفل عليه شبه القلوب به. ومثله قوله:

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه اشعار الستة الجاهليين. جردوا قدموا للفارة. وتجرد الفرس تقدم الحلبة فخرج منها. وراد جمع ورد " فتح فسكون " وهو من الخيل بين الكميت والاشفر.

(2) هذه عبارة المخطوطة وفي المطبوعة سقط. (3) سورة محمد آية 24. (*)