المعنى: إن قيل إذا كانت التوبة من الذنب لا تصلح إلا بعد فعله، فلم قال: " من بعد ذلك "؟ قيل فائدته أنه يفيد معنى تابوا منه، لان توبتهم من غيره لاتنفع في التخلص منه، كما لا تنفع التوبة من الكبير في التخلص من الصغير، فأما من قال:
إن التوبة من معصية لاتصح مع الاقامة على معصية أخرى، فانه يقول ذلك على وجه التأكيد، فان قيل: إذا كانت التوبة وحدها تسقط العقاب وتحصل الثواب فلم شرط معها الاصلاح؟ قيل الوجه في ذلك إزالة الابهام لئلا يعتقد، أنه إذا حصل الايمان، والتوبة من الكفر لايضر معه شئ من أفعال القبائح، كقوله: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " (1) فذكر مع الايمان عمل الصالحات، لازالة الايهام بأن من كان مؤمنا في الحكم، لم يضره مع ذلك ما عمله من المعاصي. وقبول التوبة واجب، لانها طاعة واستحقاق الثواب بها ثابت عقلا، فأما سقوط العقاب عندها، فانما هو تفضل من الله، ولولا أن السمع ورد بذلك وإلا، فلا دلالة في العقل على ذلك. وقوله: " فان الله غفور رحيم " دخلت؟
لشبهه بالجزاء، إذا كان الكلام قد تضمن معنى إن تابوا " فان الله غفور رحيم " أي يغفر لهم وليست في موضع خبر الذين، لان الذين في موضع نصب بالاستثناء من الجملة الاولى التي هي قوله: " أولئك عليهم لعنة الله... " الاية، وذكر المغفرة في الاية دليل على أن اسقاط العقاب بالتوبة تفضل، لانه لو كان واجبا لما استحق بذلك الاثم بأنه غفور، لانه لايقال هوغفور إلا فيما له المؤاخذة، فأما ما لايجوز المؤاخذة به فلا يجوز تعليقه بالمغفرة.
قوله تعالى:
(إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة حم السجدة آية: 8.
===============
(527)
توبتهم وأولئك هم الضالون) (90) آية بلا خلاف.
المعنى:
قيل في المعني بهذه الاية أربعة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس هي فرقة ارتدت ثم عزمت على إظهار التوبة على جهة التورية، فاطلع الله نبيه على ذلك بانزال هذه الاية. وقال أبوالعالية لم تقبل توبتهم من ذنوب أصابوها مع الاقامة على كفرهم. وقال قتادة: هم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى " ثم ازدادوا كفرا " بمحمد (صلى الله عليه وآله) " فلن تقبل توبتهم " عند حضور موتهم. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله) " فلن تقبل توبتهم " التي كانت في حال إيمانهم، فان قيل: لم لم تقبل التوبة من هذه الفرقة؟ قيل: لانها كفرت بعد إيمانهم ثم ازدادت كفرا إلى انقضاء أجلها، فحصلت على ضلالتها، فلم تقبل منها التوبة الاولى في حال كفرها بعد إيمانها، ولا التوبة الثانية في حال ايجابها. وقيل: إنما لم تقبل توبتهم، لانهم لم يكونوا فيها مخلصين بدلالة قوله: " وأولئك هم الضالون ". وقال الطبري: إنه لايجوز تأويل من قال لن تقبل توبتهم عند حضور موتهم. قال: لانه لاخلاف بين الامة أن الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين في أن حكمه حكم المسلمين في وجوب الصلاة عليه ومواريثه و؟ في مقام المسلمين واجراء جميع أحكام الاسلام عليه، ولو كان إسلامه غير صحيح، لما جاز ذلك. وهذا الذي قاله ليس بصحيح، لانه لا يمتنع أن نتعبد باجراء احكام الاسلام عليه وان كان اسلامه على وجه من الالجاء لا يثبت معه استحقاق الثواب عليه، كما أنا تعبدنا باجراء أحكام الاسلام على المنافقين وإن كانوا كفارا. وإنما لم يجز قبول التوبة في حال الالجاء إليه، لان فعل الملجأ كفعل المكره في سقوط الحمد والذم. وقد قال الله تعالى: " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال اني تبت الان " (1). وقال:
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة النساء آية: 17.
===============
(528)
" فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين. فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " (1) فأما إذا عاد في الذنب، فلا يعود إليه العقاب الذي سقط بالتوبة، لانه إذا تاب منه صار بمنزلة ما لم يعمله، فلا يجوز عقابه عليه كما لايجوز عقابه على ما لم يعمله سواء قلنا أن سقوط العقاب عند التوبة كان تفضلا أو واجبا. وقد دل السمع على وجوب قبول التوبة وعليه إجماع الامة. وقال تعالى: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات " (2) وقال:
" غافر الذنب وقابل التوب " (3) وغير ذلك من الاي.
قوله تعالى:
(إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) (91) آية.
اللغة:
الملء أصله الملا، وهو تطفيح الاناء. ومنه الملا الاشراف، لانهم يملاون العين هيبة وجلالة. ومنه رجل ملئ بالامر، وهو أملا به من غيره. والملا اسم للمقدار الذي يملا. والملا بفتح العين مصدر ملات الاناء ملا. ومثله الرعي بكسر الراء: النبات: وبفتح الراء مصدر رعيته. قال الزجاج: ومن قال: هما سواء فقد غلط.
الاعراب:
وقوله: (ذهبا) نصب على التمييز. والتمييز على ضربين تمييز المقادير وتمييز الاعداد وكله مستحق النصب لاشتغال العامل بالاضافة أو ما عاقبها من النون
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة المؤمن آية: 84 - 85.
" 2 " سورة الشورى آية 25. " 3 " سورة المؤمن آية: 3.
===============
(529)
الزائدة، فجرى ذلك مجرى الحال في اشتغال العامل بصاحبها، ومجرى المفعول في اشتغال العامل عنه بالفاعل. ومثل ذلك، عندي ملء زق عسلا وقدر نحي سمنا.
المعنى:
وقوله: (ولو افتدى به) فالفدية البدل على الشئ في إزالة الاذية. ومنه قوله: " وفديناه بذبح عظيم " (1) لانه بدل منه في ازالة الذبح عنه، ومنه فداء الاسير بغيره، لانه بدل منه في إزالة القتل والاسر عنه. وقيل في معنى الافتداء ههنا قولان:
أحدهما - البيان عن أن ما كلفه في الدنيا يسير في جنب ما يبذله في الاخرة من الفداء الكثير لو وجد إليه السبيل، قال قتادة يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الارض ذهبا، لكنت تفتدي به، فيقول: نعم، فيقال لقد سئلت أيسر من ذلك، فلم تفعل.
الثاني - ما حكاه الزجاج أنه لو افتدى به في دار الدنيا مع الاقامة على الكفر لم يقبل منه. وقيل في دخول الواو في قوله " ولو افتدى به " قولان قال:
قوم: هي زائدة اجاز ذلك الفراء. والمعنى لو افتدى به. قال الزجاج: وهذا غلط، لان الكلام يجب حمله على فائدة إذا أمكن، ولا يحمل على الزيادة. والثاني - أنها دخلت لتفصيل نفي القبول بعد الاجمال، وذلك أن قوله " فلن من أحدهم ملء الارض ذهبا " قد عم وجوه القبول بالنفي ثم أتى بالتفصيل، لئلا يتطرق عليه سوء التأويل، ولو قيل: بغير واو لم يكن قد عم النفي وجوه القبول، فقد دخلت الواو لهذه الفائدة من نفي التفصيل بعد الجملة، فأما الواو في قوله " وليكون من الموقنين " فانها عاطفة على محذوف في التقدير، والمعنى " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض " ليعتبر " وليكون من الموقنين " (2).
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة الصافات آية: 7.
" 2 " سورة الانعام آية: 75.
===============
(530)
قوله تعالى:
(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فان الله به عليم) (92) آية واحدة.
المعنى:
قيل في معنى البر قولان:
أحدهما - البر من الله بالثواب في الجنة. الثاني - البر بفعل الخير الذي يستحقون به الاجر. وقال السدي وعمرو بن ميمون: البر الجنة.
فان قيل: كيف قال " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " والفقير لا يحب عليه الصدقة وينال الجنة، وان لم ينفق؟ قلنا: الكلام خرج مخرج الحث على الصدقة إلا أنه على ما يصح ويجوز من إمكان النفقة، فهو مقيد بذلك في الجملة إلا أنه اطلق الكلام للمبالغة في الترغيب فيه. ويجوز " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " في سبل الخير من الصدقة من وجوه الطاعة. وقال الحسن: هو الزكاة الواجبة وما فرض تعالى في الاموال خاصة. والاولى أن تحمل الاية على الخصوص بأن يقول: هي متوجهة إلى من يجب عليه إخراج شئ أوجبه الله عليه دون من لم يجب عليه، ويكون ذلك أيضا مشروطا بأن لا يعفو الله عنه - على مذهبنا في جواز العفو - أو يقول " لن تنالوا البر " الكامل الواقع على أشرف الوجوه " حتى تنفقوا مما تحبون ". وقوله: (فان الله به عليم) إنما جاء على جهة جواب الشرط وإن كان الله يعلمه على كل حال، لامرين:
===============
(531)
أحدهما - لان فيه معنى الجزاء، فتقديره " وما تنفقوا من شئ فان الله؟
يجازيكم به قل أو كثر، لانه عليم به لا يخفى عليه شئ منه.
الثاني - فانه يعلمه الله موجودا على الحد الذي تفعلونه من حسن النية أو قبحها.
اللغة:
والفرق بين البر، والخير: أن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير يكون خيرا، وان وقع عن سهو. وضد البر العقوق. وضد الخير الشر، فبذلك بين الفرق بينهما.
النظم:
ووجه إتصال هذه الاية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر في الاية الاولى " فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به " وصل ذلك بقوله " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " لئلا يؤدي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة، وما جرى مجراها من وجوه الطاعة.
قوله تعالى:
(كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوارة قل فاتوا بالتوراة؟ تلوها إن كنتم صادقين) (93) آية واحدة.
النظم:
وجه اتصال هذه الاية بما تقدم أنه تعالى، لما ما ذكر الانفاق مما يحب، ومن جملة ما يحب الطعام، فذكر حكمه، وأنه كان مباحا حلالا " لبني إسرائيل إلا ماحرم إسرائيل على نفسه ".
===============
(532)
النزول، والقصة، المعنى:
وكان سبب نزول هذه الاية أن اليهود أنكروا تحليل النبي (صلى الله عليه وآله) لحوم الابل، فبين الله تعالى أنها كانت محللة، لابراهيم، وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه، وحاجهم بالتوراة، فلم يجسروا على إحضار التوارة لعلمهم بصدق النبي (صلى الله عليه وآله) فيما أخبر أنه فيها.
وكان إسرائيل وهو يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم نذر إن برأ من النساء أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهو لحوم الابل وألبانها، فلما برأ وفى لله بنذره. وقال ابن عباس والحسن: إن اسرائيل أخذه وجع العرق الذي يقال له النساء، فنذر إن شفاه الله يحرم العروق ولحم الابل (على نفسه)، وهو أحب الطعام إليه.
فان قيل: كيف يجوز للانسان أن يحرم على نفسه شيئا، وهو لايعلم ماله فيه من المصلحة مما له فيه المفسدة؟ قلنا: يجوز ذلك إذا أذن الله له في ذلك وأعلمه، وكان الله أذن لا سرائيل في هذا النذر، فلذلك نذر. وفي الناس من استدل بهذه الاية على أنه يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يجتهد في الاحكام، لانه إذا كان أعلم ورأيه أفضل كان اجتهاده أحق وهذا الذي ذكروه إن جعل دليلاعلى أنه كان يجوزان يتعبد النبى بالاجتهاد، كان صحيحا "، وان جعل دليلا " على انه كان متعبدا به، فليس فيه دليل عليه، لانا قد بينا أن اسرائيل ما حرم ذلك إلا باذن الله، فمن أين إن ذلك كان محرما له من طريق الاجتهاد، فأما من امتنع من جواز تعبد النبي (صلى الله عليه وآله) بالاجتهاد، بأن ذلك يؤدي إلى جواز مخالفة أمته له إذا اداهم الاجتهاد إلى خلاف
اجتهاده فقد أبعد، لانه لايمتنع أن يجتهد النبي (صلى الله عليه وآله) الاجتهاد إلى خلاف ما أدى اجتهاد الامة إليه، فوجب اتباعه ولا يلتفت إلى اجتهاد من يخالفه، كما أن الامة يجوز أن تجمع على حد عن اجتهاد، وإن لم يجز مخالفتها فبطل قول الفريقين.
قوله تعالى:
" فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فاولئك هم
===============
(533)
الظالمون " (94).
اللغة:
الافتراء: اقتراف الكذب وأصله قطع ما يقدر من الادم، يقال فرى الاديم يفريه فريا: إذا قطعه، فقيل للكذب الفرية، لانه يقطع به على التقدير من غير تحقيق.
المعنى:
فان قيل: كيف قال: " افترى على الله الكذب " وعلى للاستعلاء، فما معناها هاهنا؟ قلنا: معناها إضافته الكذب إليه من جهة أنه أمر بما لم يأمر به الله فأوجب ما لم يوجبه، وكذب عليه بخلاف كذب له، لان كذب عليه يفيد أنه كذب فيما يكرهه، وكذب له قد يجوز فيما يريده. فان قيل كيف قيد وعيد المفتري على الله الكذب ب " من بعد ذلك " وهو يستحق الوعيد بالكذب عليه على كل حال؟ قلنا: المراد به البيان أنه يلزم من بعد إقامة الحجة على العبد فيه، لانه لو كذب على الله (عزوجل) فيما ليس بمحجوج فيه لجرى مجرى كذب الصبي الذي لا يستحق الوعيد به. وإنما وصف المفتري على الله كذبا بأنه ظالم، من حيث كان ظالما لنفسه، ولمن استدعى إلى مذهبه فيما يكذب به، لان ذلك الكذب يستحق به العقاب.
والظلم والجور واحد وإن كان أصلهما مختلفا، لان أصل الظلم النقصان للحق.
الجور العدول عن الحق، ولذلك قيل في ضد الظلم الانصاف. وفي ضد الجور العدل. والانصاف هو إعطاء الحق على التمام.
قوله تعالى:
(قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
===============
(534)
المشركين) (95) آية.
المعنى:
معنى قوله: " قل صدق الله " البيان عن أن الخبر بأن " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " صدق، لان الله تعالى أخبر به.
وقوله: (فاتبعوا) فالاتباع إلحاق الثاني بالاول لما له به من التعلق فالقوة للاول، والثاني يستمد منه، فهم يلحقون بابراهيم (ع) لتمسكهم بملته والتابع ثان متدبر بتدبير الاول متصرف بتصريفه في نفسه، والصحيح أن شريعة نبينا ناسخة لشريعة كل من تقدم من الانبياء، وأن نبينا لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم.
وإنما وافقت شريعته شريعة إبراهيم، فلذلك قال الله تعالى " فاتبعوا ملة إبراهيم " وإلا فالله هو الذي أوحى بها إليه وأوجبها عليه، وكانت شريعة له. فان قيل إذا كانت الشرائع بحسب المصالح، فكيف رغب في شريعة الاسلام بأنها ملة إبراهيم؟
قلنا: لان المصالح إذا وافقت ما تميل إليه النفس ويتقبله العقل بغير كلفة كانت أحق بالرغبة، كما أنها إذا وافقت الغنى بدلا من الفقر، كانت أعظم في النعمة، وكان المشركون يميلون إلى اتباع ملة إبراهيم، فلذلك خوطبوا بذلك. والحنيف: المستقيم:
الدين الذي على شريعة إبراهيم في حجه ونسكه وطيب مأكله، وتلك الشريعة هي الحنيفية. وأصل الحنف الاستقامة وإنما وصف المائل القدم بالاحنف تفاؤلا بها وقيل أصله الميل وإنما قيل الحنيف بمعنى المائل إلى الحق فيما كان عليه إبراهيم من الشرع.
قوله تعالى:
(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا؟ وهدى للعالمين) (96) آية بلا خلاف.
===============
(535)
المعنى، واللغة، والاعراب:
أول الشئ ابتداؤه، ويجوز أن يكون المبتدأ له آخر، ويجوز أن لايكون له آخر، لان الواحد أول العدد. ولانهاية، لاخره، ونعيم أهل الجنة له أول، ولا آخر له، فعلى هذا إنما كان أول بيت، لانه لم يكن قبله بيت يحج إليه.
وروي عن علي (ع) أنه قال: أول بيت وضع للعبادة البيت الحرام. وقد كانت قبله بيوت كثيرة. وقيل أول بيت رغب فيه، وطلب به البركة مكة. وقال مجاهد: لم يوضع قبله بيت. وإنما دحيت الارض من تحتها. وبه قال قتادة.
وروى أصحابنا: أن أول شئ خلق الله من الارض موضع الكعبة، ثم دحيت الارض من تحتها. وبكة قيل معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن شهاب وضمرة بن ربيعة: بكة هو المسجد، ومكة الحرم كله تدخل فيه البيوت، وهو قول أبي جعفر (ع) وقال أبوعبيدة: بكة هي بطن مكة، وقال مجاهد: هي مكة.
وأصل بكة من البك، وهو الزحم تقول بكه يبكه بكا إذا زحمه وتباك الناس بالموضع إذا ازدحموا، فبكة مزدحم الناس للطواف. وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام، ومنه البك: دق العنق، لانه فكه بشدة زحمة، فقيل:
سميت بكة، لانها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم لم يمهلوا. وأما مكة، فقال الزجاج يجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة. وابدلت الميم من الباء، كقولهم: ضربة لازب ولازم، ويجوز أن يكون من قولهم: امبك الفصيل ما في ضرع الناقة إذا مص مصا شديدا حتى لا يبقى منه شيئا، فسميت مكة بذلك لازدحام الناس فيه. قال والاول أحسن، ويقال مك المشاش مكا إذا تمشش بفيه.
ونصب قوله: " مباركا " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون حالا من الضمير الذي فيه. الثاني - على الظرف من بكة على معنى الذي استقر ببكة مباركا. وعلى هذا القول لا يكون قد وضع قبله بيت
===============
(536)
كما يجوز في التقدير الاول. وقوله: " وهدى للعالمين " معناه أنه دلالة لهم على الله من حيث هو المدبر لهم بما لا يقدرون عليه من أمن الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبي، فلا يعدو عليه وحتى يأنس الطير فلا يمتنع منه كمايمتنع من غيره إلى غير ذلك من الاثار والبينة فيه مع البركة التي يجدها من حج إليه مع ماله من الثواب الجزيل عليه. وأصل البركة الثبوت من قولك برك بركا وبروكا إذا ثبت على حاله، فالبركة ثبوت الخير بنموه وتزايده ومنه البركاء: الثبوت في الحرب. ومنه البركة شبه حوض يمسك الماء، لثبوته فيه. ومنه قول الناس: تبارك الله، لثبوته لم يزل، ولا يزال وحده، ومنه البرك الصدر، لثبوت الحفظ فيه.
وقوله تعالى:
(فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين) (97) آية.
القراءة:
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " حج البيت " بكسر الحاء. الباقون بفتحها فمن فتح أراد المصدر الجاري على فعله، ومن كسر أراد الاسم المعنى:
الايات التي بمكة أشياء، منها ما قال مجاهد في مقام إبراهيم، وهو أثر قدميه داخلة في حجر صلد بقدرة الله تعالى، ليكون ذلك علامة يهتدى بها، ودلالة يرجع إليها مع غير ذلك من الايات التي فيه من أمن الخائف، وإمحاق الجمار على كثرة الرامي. وامتناع الطير من العلو عليه. واستشفاء المريض من ماء به. ومن تعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة على عادة كانت جارية. ومن إهلاك أصحاب الفيل
===============
(537)
لما قصدوا، لتخريبه. وروي عن ابن عباس أنه قرأ " آية بينة مقام إبراهيم " فجعل مقام إبراهيم هو الاية. والاول عليه القراء، والمفسرون. وقوله: " مقام إبراهيم " رفع بأنه خبر ابتداء محذوف. وتقديره هي مقام إبراهيم وغير مقام إبراهيم، وقيل التقدير منها مقام إبراهيم. وقوله: (ومن دخله كان آمنا) قيل فيه قولان:
أحدهما - الدلالة على ماعطف عليه قلوب العرب في الجاهلية، من أمر من جنى جناية، ثم لاذ بالحرم، ومن تبعة تلحقه أو مكروه ينزل به. فأما في الاسلام فمن جنى فيه جناية أقيم عليه الحد إلا القاتل، فانه يخرج منه، فيقتل في قول الحسن، وقتادة. وعندنا أنه إذا قتل في الحرم قتل فيه.
الثاني - أنه خبر، والمراد به الامر، ومعناه أن من وجب عليه حد، فلاذ بالحرم والتجأ إليه، فلا يبايع ولا يشاري ولا يعامل حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد - في قول ابن عباس وابن عمر - وهو المروي عن أبي عبدالله وأبي جعفر (ع) وأجمعت الصحابة على أن من كانت له جناية في غيره ثم عاذ به أنه لايؤاخذ بتلك الجناية فيه. وأجمعوا أيضا أن من أصاب الحد فيه أنه يقام عليه الحد فيه. وإنما اختلفوا فيما به يخرج ليقام عليه الحد.
وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال: من دخله عارفا بجميع ما أوجب الله عليه، كان آمنا في الاخرة من أليم العقاب الدائم والسبيل الذي يلزم بها الحج، قال ابن عباس، وابن عمر: هي الزاد، والراحلة.
وقال ابن الزبير، والحسن: ما يبلغه كائنا ما كان. وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف. وعندنا هو وجود الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع إلى كفاية عند العود إما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة والسلامة وزوال الموانع وإمكان المسير.
وقوله: (ومن كفر) معناه من جحد فرض الحج فلم يره واجبا في قول
===============
(538)
ابن عباس، والحسن، والضحاك. فأما من تركه وهو يعتقد فرضه، فانه لا يكون كافرا وإن كان عاصيا. وفي الاية دلالة على فساد مذهب المجبرة إن الاستطاعة مع الفعل، لان الله تعالى أوجب الحج على المستطيع. ومن لا يستطيع، فلا يجب عليه وذلك لايكون إلا قبل فعل الحج. وقال قوم: معنى " ومن كفر " يعني ترك الحج والسبب في ذلك أنه لما نزل قوله: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا " (1)
قالت اليهود نحن المسلمون فأنزل الله هذه الاية فامرهم بالحج إن كانوا صادقين فامتنعوا، فقال الله تعالى ومن ترك من هؤلاء فهو كافر، والله غني عن العالمين.
قوله تعالى:
(قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعلمون) (98) آية.
المعنى:
قوله: " يا أهل الكتاب " خطاب لليهود والنصارى. وإنما أجرى عليهم أهل الكتاب مع أنهم لا يعملون به، ولم يجز ذلك في أهل القرآن حتى يقال، فيمن لا يعمل بالقرآن أنه من أهل القرآن لامرين:
أحدهما - أن القرآن اسم خاص لكتاب الله، فأما الكتاب فيجوز أن يراد به يا أهل الكتاب المحرف عن جهته، والاخر - الاحتجاج علهيم بالكتاب، لاقرارهم به، كأنه قيل يا من يقر بأنه من أهل كتاب الله " لم تكفر بآيات الله " وآيات الله المراد بها ههنا معجزات نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) التي كانت له، والعلامات التي وافقت في صفته، مما تقدمت به البشارة، وخاطبهم الله في هذه بأن قال له " قل لم تكفرون بآيات الله " على وجه التلطف في استدعائهم إلى الحق، وتوجيه الخطاب إليهم. وقال في موضع آخر " يا أهل الكتاب لم تكفرون " (2) على وجه الاهانة
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة آل عمران آية: 85.
" 2 " سورة آل عمران آية: 70.
===============
(539)
لهم لصدهم عن الحق بتوجيه الخطاب إلى غيرهم وإنما جاء لفظ التوبيخ في الاية على لفظ الاستفهام، لانه كسؤال التعجيز عن إقامة البرهان، فكذلك سؤال التوبيخ سؤال تعجيز عن إقامة العذر كأنه قيل: هات العذر في ذلك إن أمكنك، كما قيل له هات البرهان إن كنت محقا في قولك ومذهبك.
اللغة:
وأصل لم لما وحذفت الالف في الاستفهام منها، ولم تحذف في الخبر لانها في الاستفهام ظرف يقوى فيه التغيير قياسا على حروف الاعراب ونحوها، وأما الخبر فانها تقع وسطا إذا كانت موصولة، لان تمامها أخر صلتها والجزاء يجري مجرى الصلة، لان (ما) فيه عاملة.
قوله تعالى:
(يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون) (99)
آية بلا خلاف.
المعنى:
قوله: " لم تصدون " معناه لم تمنعون، لان الصد المنع. وقيل في كيفية صدهم عن سبيل الله قولان:
أحدهما - أنهم كانوا يغزون بين الاوس، والخزرج، بتذكيرهم الحروب التي كانت بينهم حتى تدخلهم العصبية وحمية الجاهلية فينسلخون عن الدين - هذا قول زيد بن أسلم - وقال الاية في اليهود خاصة. وقال الحسن الاية في اليهود والنصارى معا ومعناها لم تصدون بالتكذيب بالنبي (صلى الله عليه وآله) وإن صفته ليست في كتبهم ولاتقدمت البشارة به عندهم وقوله: " من آمن " موضعه النصب بأنه
===============
مفعول تصدون. وقوله: (تبغونها عوجا) الكناية راجعة إلى السبيل، ومعناه تطلبون لها عوجا يعني عدو لاعن طريق الحق، وهو الضلال كأنه قال تبغونها ضلالا.
اللغة:
والعوج - بفتح العين، هو ميل كل شئ منتصب، نحو القناة والحائط، وبكسر العين - إنما هو الميل عن الاستواء في طريق الدين، وفي القول، وفي الارض. ومنه قوله: " ولا ترى فيها عوجا " (1) وقال عبد بني الحسحاس:
بغاك وما تبغيه حتى وجدته * كأنك قد واعدته أمس موعدا (2)
أي طلبك وما تطلبه هذا في بغيت الحاجة فأما بغى عليه، فمعناه تطاول بظلمه له. وتقول: إبغني كذا بكسر الهمزة أي أطلبه لي. وإذا قلت: أبغني بفتح الهمزة، فمعناه أعني على طلبه. ومثله إحملني وأحملني والمسنى وألمسني. واحلب لي واحلبني أي أعني على الحلب. وأصل ذلك ابغ لي غير أنه حذفت اللام لكثرة الاستعمال.
المعنى:
وقوله: (وأنتم شهداء) قيل فيه قولان:
أحدهما - " أنتم شهداء " على بطلان صدكم عن دين الله، وتكون الاية مختصة بقوم معاندين، لانهم جحدوا ما علموه ويجوز أن تكون في الجميع، لاقرارهم بأنه لايجوز الصد عن دين الله، فلذلك صح ما ألزموا.
الثاني - " وأنتم شهداء " أي عقلاء كما قال الله تعالى " أو القى السمع وهو شهيد " (3) أي وهو عاقل، وذلك أنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة طه آية: 107.
" 2 " ديوانه: 41 وروايته (الا) بدل (حتى) وقد ذكره ابن هشام في المغني 1:
111، وقال: الا بمعنى حتى.
" 3 " سورة ق آية: 37.
===============
(541)
قيل يتعلق بالدين ويؤديه إليه.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين اوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) (100) آية.
النزول:
قال زيد بن أسلم والسدي أن هذه الاية نزلت في الاوس والخزرج لما أغزى قوم من اليهود بينهم ليفتنوهم عن دينهم.
اللغة، والاعراب، والمعنى:
وقوله: " إن تطيعوا " فالطاعة موافقة الارادة الجاذبة للفعل بالترغيب فيه، والاجابة موافقة الارادة الداعية إلى الفعل ولذلك يجوز أن يكون الله تعالى مجيبا للعبد إذا فعل ما دعا العبد به، ولم يجز أن يكون مطيعا له. و (يا) حرف النداء وأي هو المنادى. و (ها) للتنبيه وهو اسم مبهم يحتاج أن يوصف بالواحد والجميع لشدة إبهامه من حيث، لا يوقف عليه دون ما يوضحه. ولم يجز مثل ذلك في هذا، وإن كان اسما مبهما، لانه يدخله التثنية، والجمع، نحو هؤلاء وهذان وليس كذلك أي فان قيل لم جاز صفة المبهم بالموصول ولم يجز بالمعطوف؟ قيل: لان الموصول بمنزلة اسم واحد لنقصانه عن التمام إلا بصلته، فعومل لذلك معاملة المفرد، وليس كذلك المعطوف، لانه اسم تام، فلذلك لم يجز يا أيها الطويل والقصير على الصفة، وجاز يا أيها الذي أكرم زيدا على الصفة، ويجوز يا أيها الطويل والقصير على أن يكون القصير منادا أيضا ويجوز أن تقول يا هذا وتقف عليه. ولايجوز أن تقول يا أيها وتقف. وإن كانا مبهمين لا يحتاجان إلى صلة، لان أي وصلة إلى نداء
===============
(542)
ما فيه الالف واللام، كما أن الذي وصلة إلى صفة المعرفة بالجملة، ولذلك جاز النصب في يا هذا الكريم، ولم يجز في يا أيها الكريم. ومعنى الاية النهي عن طاعة الكفار وبيان أن من أطاعهم يدعوه ذلك إلى الارتداد عن دينه بعد أن كان مؤمنا ورجوعه كافرا.
قوله تعالى:
(وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) (101) آية.
النزول:
روي عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الاية أنه كانت بين الاوس، والخزرج حرب في الجاهلية كل شهر، فبينماهم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح فنزلت هذه الاية وما بعدها. وقال الحسن نزلت في مشركي العرب.
المعنى، واللغة:
" وكيف " موضوعة للاستفهام، ومعناها ههنا التعجب وإنما استعملت في ذلك، لانها طلب للجواب عما حمل على الفساد فيما لا يصح فيما لا يصح فيه الاعتذار. والتعجب هو حدوث إدراك مالم يكن يقدر لخفاء سببه، وخروجه عن العادة في مثله، ولذك لم يجز في صفة القديم، ولكن يجوز في صفة تعجيب العباد من بعض الامور. وصيغة التعجب في اللغة ما أفعله، وأفعل به إلا أنه قد يجئ كلام متضمن بمعنى التعجب، وإن لم يكن في الاصل مما وضع له. وقوله: (وفيكم رسوله)
خطاب للذين عاصروه، فأما اليوم، فقد قال الزجاج: يجوز أن يقال: فينا رسول الله، ويراد به أن أثاره قائمة فينا، وأعلامه ظاهرة، وذلك بمنزلة لو كان
===============
(543)
موجودا فينا. وقوله: (ومن يعتصهم بالله) معناه يمتنع والعصم: المنع. تقول عصمه يعصمه عصما، ومنه قوله: " لا عاصم اليوم من أمر الله " (1) أي لامانع.
والعصم: الاوعال لامتناعها بالجبال. والمعصم لانه يمتنع. والعصام: الحبل، والسبب، لانه يعتصم به.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (102) آية بلا خلاف.
المعنى:
ذكر ابن عباس وطاوس أن هذه الاية محكمة غير منسوخة. وقال قتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد: هي منسوخة بقوله " فاتقوا الله ما استطعتم " (2)
وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله (ع) لانهم ذهبوا إلى أنه يدخل فيه القيام بالقسط في حال الخوف، والامن، وأنكر أبوعلي الجبائي نسخ الاية وذلك، لان من اتقى جميع معاصيه، فقد اتقى الله حق تقاته. ومثل هذا لايجوز أن ينسخ، لانه إباحة لبعض المعاصي. قال الرماني: والذي عندي أنه إذا وجه على " اتقوا الله حق تقاته " بأن تقوموا له بالحق في الخوف والامن لم يدخل عليه ما ذكروه أبوعلي. وهذا صحيح، لانه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله على كل حال ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس، كما قال: " إلا من أكره وقلبه مطمئن الايمان " (3) وأنكر البلخي أيضا نسخ الاية وقال: لان في ذلك ايجاب الامر بما لا يستطاع. قال الرماني: وهذا أيضا لا يلزم، لان " وما استطعتم " إنما هو من غير تحمل مشقة بتحريم التقية.
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة سورة هود آية: 43. " 2 " سورة التغابن آية: 16.
" 3 " سورة النحل آية: 106.
===============
(544)
وقيل في معنى قوله: " حق تقاته " قولان:
أحدهما - قال ابن مسعود، والحسن، وقتادة: إن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فال ينسى، وهو المروي عن أبي عبدالله (ع). وقال الجبائي:
هو أن يتقى جميع معاصيه. وظاهر الاية يقتضي أنه خطاب للمؤمنين خاصة، ويجوز أن يحمل من جهة المعنى على جميع المكلفين على التغليب، لانه معلوم أنه يجب عليهم من ذلك مثل ما يجب على المؤمنين من اتقاء جميع معاصي الله.
اللغة:
وقوله: " تقاته " هو من وقيت. وقال الزجاج: يجوز فيه ثلاثة أوجه تقاة ووقاة واقاة وحمله على قياس وجوه وأجوه وإن كان هذا المثال لم يجئ منه شئ على الاصل نحو تخمة ونكاة ونقاة غير أنه حمله على الاكثر من نظائره وجعل اختصاص هذا البناء في الاستعمال، لايمنع من حمله على نظيره في القياس، لان بازاء قوة الاستعمال قوة النظير في الباب.
المعنى، واللغة:
وقوله: (ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون) معناه لا تتركوا الاسلام وإنما قال: " فلا تموتن " بلفظ النهي عن الموت من حيث أن الموت لابد منه، فكأنه قال كونوا على الاسلام، فاذا ورد عليكم الموت صادفكم على الاسلام، فالنهي في الحقيقة عن ترك الاسلام، لئلا يهلكوا بالاقتطاع عن التمكين منه بالموت إلا أنه وضع كلام موضع كلام على جهة تصرف الابدال، لحسن الاستعارة، وزوال اللبس، لانه لما كان يمكنهم أن يفارقوه بالاسلام فترك الاسلام صار بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم ومثله قولهم لا أراك ههنا أي لا تكونن ههنا، فان من كان ههنا رأيته إلا أن هذا خرج مخرج النهي لغير المنهي عنه فتباعد عن الاصل، فالاول أحسن. لانه أعدل. وروي عن أبي عبدالله (ع) " وأنتم مسلمون "
===============
(545)
بالتشديد، ومعناه إلا وأنتم مستسلمون لما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله) ومنقادون له.
قوله تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) (103) آية.
المعنى، واللغة، والاعراب:
ومعنى قوله: " واعتصموا " امتنعوا بحبل الله واستمسكوا به أي بعهد الله، لانه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر أو نحوها. ومنه الحبل الامان، لانه سبب النجاة. ومنه قوله: " إلا بحبل من الله وحبل الناس " (1)
ومعناه بأمان، قال الاعشى:
وإذا تجوزها حبال قبيلة * أخذت من الاخرى إليك حبالها (2)
ومنه الحبل الحمل في البطن وأصله الحبل المفتول قال ذو الرمة:
هل حبل خرقاء بعد اليوم مرموم * أم هل لها آخر الايام تكليم
وفي معنى قوله: " بحبل الله " قولان قال أبوسعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كتاب الله. وبه قال ابن مسعود. وقتادة والسدي. وقال ابن زيد " حبل الله " دين الله أي دين الاسلام. وقوله: " جميعا " منصوب على الحال. والمعنى اعتصموا بحبل الله مجتمعين على الاعتصام به. وقوله: " ولا تفرقوا " أصله ولا تتفرقوا،
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة آل عمران آية: 112.
" 2 " ديوانه: 24 رقم القصيدة 3 في المطبوعة (أجوزها) بدل (تجوزها) وهو أيضا في اللسان (حبل) ومشكل القرآن: 358 وغيرها كما أثبتناه. والبيت من قصيدته في قيس ابن معد يكرب يصف ناقة يقول: لا تحتاج إلى حث بل هي سريعة الجرى عارفة طرق القبائل.
===============
(546)
فحذفت احدى التائين، لاجتماع المثلين. والمحذوفة الثانية، لان الاولى علامة الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي وعلامة الجزم سقوط النون. وقال ابن مسعود وقتادة: معناه ولا تفرقوا عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة. وقال الحسن: معناه ولا تفرقوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقوله: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء) معناه ما كان بين الاوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مئة وعشرين سنة إلى أن ألف بين قلوبهم بالاسلام، وزالت تلك الاحقاد، هذا قول ابن اسحاق. وقال الحسن: هو ما كان من مشركي العرب من الطوائل.
وقوله: (وكنتم على شفا حفرة من النار) معنى الشفا الحرف، لان شفا الشئ حرفه، ويثنى شفوان، لانه من الواو، وجمعه اشفاء. ولا يجوز فيه الامالة. وإنما قال: " فانقذكم منها " وإن لم يكونوا فيها، لانهم كانوا بمنزلة من هو فيها من حيث كانوا مستحقين لدخولها. وإنما أنقذهم النبي (صلى الله عليه وآله) بدعائهم إلى الاسلام، ودخولهم فيه، فصاروا بمنزلة الخارج منها.
وأصل الاخ أن الاخر مقصده مقصد أخيه، وكذلك في الصداقة أن تكون إرادة كل واحد منهما موافقة الاخر يقولون: يتوخى فلان شأن فلان أي يقصده في سيره، ويقولون: خذ على هذا الوخي أي على هذا القصد. وقوله: (كذلك يبين الله لكم آياته) الكاف في موضع نصب، والمعنى مثل البيان الذى تلي عليكم " يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون " معناه لتهتدوا وتكونوا على رجاء هداية.
والهاء في قوله فأنقذكم منها كناية عن الحفرة فترك شفا، وردت الكناية على الحفرة. ومثل ذلك قول العجاج.
طول الليالي أسرعت في نقضي * طوين طولي وطوين عرضي
فترك الطول وأخبر عن الليالي. فان قالوا إذا كان الله هو الذي ألف بين قلوبهم وأنقذهم النار، فقد صح أن أفعال الخلق فعل له وخلق من خلقه؟
قيل: لا يجب ذلك، لانا نقول أن النبي (صلى الله عليه وآله) ألف بين قلوب العرب وأنقذهم من
ــــــــــــــــــــــ
سورة البقرة آية: 2.
===============
(547)
النار، ولا يجب من ذلك أن تكون أفعالهم أفعالا للنبي (صلى الله عليه وآله)، ولا مشاركا لهم.
ومعنى ألف بين قلوبهم وأنقذهم من النار أنهم دعاهم إلى الايمان وبين لهم وهداهم، ورغبهم وحذرهم، فلما كان إسلامهم ونجاتهم بمعونته ودعائه، كان هو المؤلف لقلوبهم، والمنقذ لهم من النار على هذا المعنى، لاأنه صنع أفعالهم، وأحدثها.
فان قيل: فقد فعل الله مثل ذلك بالكافرين هلا قلتم أنه ألف بينهم؟ قلنا: لاتقول ذلك وإن كان فعل بهم في الابتداء مثل الذي فعل بالمؤمن، لانه لم يوجد منهم إيمان، فلايجوز إطلاق ذلك عليهم، ولما وجد من المؤمن ذلك جاز إضافة ذلك إلى الله تعالى وجرى ذلك مجرى قوله " هدى للمتقين " أنه اضيف إلى المتقين من حيث اهتدوا به. وان كان هداية للكافرين أيضا. ويجوز أن يقال: ألف الله بين الكفار، فلم يأتلفوا وانقذهم، فلم يستنقذوا، فيقيد ذلك، كما قال: " وإما ثمود، فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " (1) ولا يجوز أن يقال: هدى الله ثمود ويسكت. ومثل ذلك لو أن إنسانا اعطى ولدين له مالا وإمرهما بالتجارة وبين لهما وجوه المكاسب فكسب أحدهما ما لا واستغنى، وضيع الاخر، فافتقر جاز أن يقال أن فلانا أغنى ولده الغني، ولا يجوز أن يقال اغنى ولده الفقير على أنا لا نقول ان الله تعالى فعل بالكافر جميع ما فعل بالمؤمن، لان الذي سوى بينهما ما يتعلق بازاحة العلة في التكليف من الاقدار والاعلام والدلالة، وما به يتمكن من فعل الايمان، فأما الالطاف التي يفعلها الله بالمؤمن بعد إيمانه التي علمها له بعد الايمان ولم يعلمها للكافر، فلا نقول أنه فعل بالكافر مثلها، ولا يمتنع أن تكون هذه الزيادة من الالطاف مشروطة بحال الايمان، فالاطلاق لايصح على كل حال.
قوله تعالى:
(ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة حم السجدة آية: 17.
===============
(548)
وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون) (104) آية.
الاعراب، والمعنى:
قوله: " ولتكن " أمر واللام لام الامر وإنما سكنت مع الواو ولم يكن لام الاضافة لان تسكين لام الامر يؤذن بعملها أنه الجزم، وليس كذلك لام الاضافة.
ولم يسكن مع ثم، لان ثم بمنزلة كلمة منفصلة. وقوله: (منكم أمة) " من " ههنا للتبعيض على قول أكثر المفسرين، لان الامر بانكار المنكر، والامر بالمعروف متوجه إلى فرقة منهم غير معينة، لانه فرض على الكفاية فأي فرقة قامت به سقط عن الباقين. وقال الزجاج التقدير " وليكن " جميعكم و (من) دخلت لتخص المخاطبين من بين سائر الاجناس، كما قال: " فاجتنبوا الرجس من الاوثان " (1)
وقال الشاعر:
أخو رغائب يعطيها ويسلبها * يأبى الظلامة منه النوفل الزفر (2)
لانه وصفه باعطاء الرغائب، والنوفل الكثير الاعطاء للنوافل. والزفر: الذي يحمل الاثقال، فعلى هذا الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فرض الاعيان لا يسقط بقيام البعض عن الباقين. وهو الذي اختاره الزجاج، وبه قال الجبائي، واختاره.
اللغة:
والامة في اللغة تنقسم خمسة أقسام:
أحدها - الجماعة. والثاني - القامة. والثالث - الاستقامة. والرابع - النعمة والخامس القدوة. والاصل في ذلك كله القصد من قولهم: أمه يؤمه. أما إذا
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة الحج آية: 30.
" 2 " قائله أعشى باهلة اللسان (زفر) وأمالي الشريف المرتضى 2: 21 وهو من قصيدة من المراثي المضلة المشهورة بالبلاغة والبراعة وروايته (بسألها) بدل (يسلبها).
===============
(549)
قصده، فالجماعة سميت أمة لاجتماعها على مقصد واحد. والامة: القدوة، لانه تأتم به الجماعة. والامة النعمة، لانها المقصد الذي هو البغية. والامة القامة، لاستمرارها في العلو على مقصد واحد. والمعروف هو الفعل الحسن الذي له صفة زائدة على حسنه. وربما كان واجبا أو ندبا، فان كان واجبا فالامر به واجب.
وان كان ندبا فالامر به ندب. والمنكر هو القبيح فالنهي عنه كله واجب.
والانكار هو إظهار كراهة الشئ لما فيه من وجه القبح، ونقيضه الاقرار وهو إظهار تقبل الشئ من حيث هو صواب حسن.
المعنى:
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف وأكثر المتكلمين يذهبون إلى أنه من فروض الكفايات. ومنهم من قال من فروض الاعيان، وهو الصحيح على ما بيناه. واختلفوا، فقال جماعة ان طريق وجوب انكار المنكر العقل، لانه كما تجب كراهته وجب المنع منه إذا لم يمكن قيام الدلالة على الكراهة.
وإلا كان تاركه بمنزلة الراضي به. وقال آخرون وهو الصحيح عندنا: إن طريق وجوبه السمع وأجمعت الامة على ذلك، ويكفي المكلف الدلالة على كراهته من جهة الخير وما جرى مجراه وقد استوفينا ما يتعلق بذلك في شرح جمل العلم.
فان قيل هل يجب في إنكار المنكر حمل السلاح؟ قلنا: نعم إذا احتيج إليه بحسب الامكان، لان الله تعالى قد أمر به، فاذا لم ينجح فيه الوعظ والتخويف، ولا التناول باليد وجب حمل السلاح، لان الفريضة لا تسقط مع الامكان إلا بزوال المنكر الذي لزم به الجهاد إلا أنه لايجوز أن يقصد القتال إلا وغرضه إنكار المنكر.
وأكثر أصحابنا على أن هذا النوع من انكار المنكر لايجوز الاقدام عليه إلا باذن سلطان الوقت. ومن خالفنا جوز ذلك من غير الاذن مثل الدفاع عن النفس سواء. وقال البلخي: إنما يجوز لسائر الناس ذلك إذا لم يكن إمام، ولا من نصبه، فأما مع وجوده، فلا ينبغي، لاحد أن يفعل ذلك إلا عند الضرورة. وقوله:
===============
(550)
(وأولئك هم المفلحون) معناه هم الفائزون بثواب الله، والخلاص من عقابه.
قوله تعالى:
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (105) آية.
المعنى:
قال الحسن، والربيع: المعنى بهذا التفرق في الاية اليهود والنصارى، فكأنه قال يا أيها المؤمنون " لا تكونوا كالذين تفرقوا " يعني اليهود والنصارى. وقوله:
(من بعد ما جاءهم البينات) معناه من بعد ما نصبت لهم الادلة ولا يدل ذلك على عناد الجميع، لان قيام البينات إنما يعلم بها الحق إذا نظر فيها واستدل بها على الحق، فان قيل إذا كان التفرق في الدين هو الاختلاف فيه، فلم ذكر الوصفان؟ قلنا: لان معنى " تفرقوا " يعني بالعداوة واختلفوا في الديانة، فمعنى الصفة الاولى مخالف لمعنى الصفة الثانية، وفيمن نفى القياس، والاجتهاد من استدل بهذه الاية على المنع من الاختلاف جملة في الاصول والفروع، واعترض من خالف في ذلك بأن قال لايدل ذلك على فساد الاختلاف في مسائل الاجتهاد، كما لا يدل على فساد الاختلاف في المسائل المنصوص عليها، كاختلاف حكم المسافر والمقيم في الصلاة والصيام، وغير ذلك من الاحكام، لان جميعه مدلول على صحته إما بالنص عليه وأما بالرضى به، وهذا ليس بشئ، لان لمن خالف في ذلك أن يقول: الظاهر يمنع من الاختلاف على كل حال إلا ما أخرجه الدليل، وما ذكره أخرجناه بالاجماع فالاجود في الطعن أن يقال: وقد دل الدليل على وجوب التعبد بالقياس والاجتهاد ! قلنا: إن يخص ذلك أيضا ويصير الكلام في صحة ذلك أو فساده، فالاستدلال بالاية إذا صحيح على نفي الاجتهاد. وقوله: " وجاءهم البينات " إنما حذفت منه علامة التأنيث إذا تقدم، فكذلك لا يلحقه علامة التأنيث لشبهها علامة التثنية والجمع.
===============
(551)
قوله تعالى:
(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فاما الذين اسودت وجوههم اكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)
(106) آية بلا خلاف.
الاعراب:
العامل في قوله: " يوم " قوله " عظيم " وتقديره عظيم عذابهم يوم تبيض وجوه. ولا يجوز أن يكون العامل فيه عذاب موصول، قد فصلت صفته بينه، وبين معموله، لكن يجوز أن تعمل فيه الجملة، لانها في معنى يعذبون يوم تبيض وجوه، كما تقول المال لزيد يوم الجمعة فالعامل الفعل والجملة خلف منه.
المعنى:
والمعني بهذه الاية الذين كفروا بعد إيمانهم. وقيل فيهم أربعة أقوال:
أحدها - قال الحسن: الذين كفروا بعد اظهار الايمان بالنفاق.
الثاني - قال قتادة الذين كفروا بالارتداد.
الثالث - قال أبي بن كعب: إنهم جميع الكفار، لاعراضهم عما يوجبه الاقرار بالتوحيد حين أشهدهم الله على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا.
الرابع - ذكره الزجاج وأبوعلي الجبائي. الذين كفروا من أهل الكتاب بالنبي (صلى الله عليه وآله) بعد إيمانهم به أي بنعته وصفته قبل مبعثه، وهذا الوجه، والوجه الاول يليق بمذهبنا في الموافاة، فأما الارتداد عن الايمان الحقيقي، فلا يجوز عندنا على ما مضى في غير موضع.
فان قيل إذا كان " الذين اسودت وجوههم " كفارا " والذين ابيضت وجوههم " مؤمنين هلا دل ذلك على أنه لا واسطة بين الكفر، والايمان من
===============
(552)
الفسق؟ قلنا لا يجب ذلك، لان ذكر اسوداد الوجوه وابيضاضها لا يمنع أن يكون هناك وجوه أخر مغبرة أو نحوها من الالوان أو يكون أدخلوا في جملة الكفار الذين اسودت وجوههم على التغليب لاعظم الصفتين كما يغلب المذكر على المؤنث، وليس ذكر اليوم بأنه تسود فيه وجوه وتبيض وجوه بمانع من أن يكون فيه وجوه عليها الغبرة، كما أن القائل إذا قال هذا يوم يعفو فيه السلطان عن قوم ويعاقب فيه قوما لا يدل على أنه ليس هناك من لايستحق واحدا من الامرين على أن الاية تدل على أن " الذين اسودت وجوههم " هم المرتدون، لانه قال " أكفرتم بعد إيمانكم " وليس كل الكفار هذه صورتهم، جاز لنا إثبات فاسقين مثل ذلك، وليس قوله: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " يجري مجرى قوله:
" وإذا بشر أحدهم بالانثى ظلل وجهه مسودا " (1) لان ذاك إنما ذكر على وجه المثل، كأنه قال حال الذي يبشر بالانثى بمنزلة حالة من اسود وجهه، لما حدث فيه من التغير: وإن لم يسود في الحقيقة. وعرفنا عن ذلك دليل، وليس في هذه الاية ما يدلنا على العدول عن ظاهرها.
وجواب أما في قوله: " فأما الذين اسودت " محذوف وتقديره " فأما الذين اسودت وجوههم " فيقال لهم " أكفرتم بعد ايمانكم " فحذف لدلالة اسوداد الوجوه على حال التوبيخ حتى كأنه ناطق به، وقد يحذف القول في مواضع كثيرة استغناء بما قبله من البيان، كقوله: " ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا " (2) أي يقولون ربنا لدلالة تنكيس الرأس من المجرم على سؤال الاقالة. وقيل في قوله تعالى: " وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا " (3) معناه يقول " ربنا تقبل منا " ومثله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم " (4) أي يقولون " سلام عليكم " ونظائر ذلك كثيرة جدا.
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة النحل آية: 68. " 2 " سورة الم السجدة آية: 12.
" 3 " سورة البقرة آية: 127. " 4 " سورة الرعد آية: 25.
===============
(553)
قوله تعالى:
(وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107).
إن قيل: لم ذكر تعالى حال الكافرين وحال المؤمنين ولم يذكر حال الفاسقين؟
قلنا: ليقابل اسوداد الوجوه لا بيضاض الوجوه بالعلامتين، وحال الفاسقين موقوفة على دلالة أخرى وآية أخرى. وقوله: " ففي رحمة الله " قيل في معناه قولان:
أحدهما - انهم في ثواب الله وان الرحمة هي الثواب.
والثاني - انهم في ثواب رحمة الله، فحذف، كما قال: " واسأل القرية " (5) ذكره الزجاج. والاول أجود، لان الرحمة ههنا هي الثواب وإذا صح حمل الكلام على ظاهره من غير حذف كان أولى من تقدير محذوف منه من غير ضرورة. والاية تدل على أن ثواب الله تفضل، لان رحمة الله إنما هي نعمته، وكل نعمة فانه يستحق بها الشكر، وكل نعمة تفضل، ولو لم تكن تفضلا لم تكن نعمة. وقيل في وجه كونه تضلا قولان:
أحدهما - إنما كان تفضلا، لان السبب الذي هو التكليف تفضل.
والثاني - إنه تفضل لانه بمنزلة ايجاز الوعد في أنه تفضل مستحق، لان المبتدئ به قد كان له أن لا يفعله، فلما فعله وجب عليه الوفاء به، لانه لايجوز الخلف، وهو مع ذلك تفضلا، لانه جر إليه تفضل، واختار الرماني هذا الوجه.
وإنما كرر الظرف في قوله: " ففي رحمة الله هم فيها خالدون " لامرين:
أحدهما - للتأكيد، والثاني - للبيان عن صحة الصفتين أنهم في رحمة الله، وانهم فيها خالدون، وكل واحدة قائمة بنفسها.
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة الصافات آية: 7.
===============
(554)
قوله تعالى:
(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين) (108) آية بلا خلاف.
المعنى:
قال الفراء معنى " تلك آيات الله نتلوها عليك " أي مواعظه وحججه ومعنى " نتلوها " أي نقرأها عليك. والفرق بين تلك، وهذه أن تلك إشارة إلى ما هو بعيد فجازت الاشارة بها إليه لا نقضاء الاية وصلح هذه لقربها في التلاوة، ولو كانت بعيدة لم يصلح أحدهما مكان الاخر. وانما قال " آيات الله نتلوها عليك بالحق " فقيده (بالحق)، لانه لما حقق الوعيد بأنه واقع لامحالة نفى عنه حال الظلم كعادة أهل الخير، ليكون الانسان على بصيرة في سلوك الضلالة مع الهلاك أو الهدى مع النجاة، ومعنى " نتلوها عليك بالحق " أي معاملتي حق، ويحتمل أن يكون المراد " نتلوها " المعنى الحق، لان معنى التلاوة حق من حيث يتعلق معتقدها بالشئ على ما هوبه.
اللغة، والمعنى:
والفرق بين تلوت عليه، وتلوت لديه أن عليه يدل على إقرار التلاوة، لان معنى عليه استعلاء الشئ، فهي تنبئ عن استعلائه بالظهور للنفس، كما يظهر لها بعلو الصوت وليس كذلك لديه، لان معناه عنده. وفي الاية دلالة على فساد قول المجبرة: أن الله تعالى يريد الظلم، لانه لو أراد ظلم بعضهم لبعض، لكل قد أراد ظلمهم وكذلك لو أراد ظلم الانسان لغيره، لجاز أن يريد أن يظلمه هو، لانه لا فرق بينها في القبح، ويدل أيضا على أنه لا يفعل ظلمهم، لانه لا يفعل ما لا يريده.
===============
وقوله: (وما الله يريد ظلما للعالمين) فيه نفي لارادة ظلمهم على كل حال بخلاف ما يقولونه.
قوله تعالى:
(ولله ما في السماوات وما في الارض وإلى الله ترجع الامور)
(109) آية.
النظم:
وجه اتصال هذه الاية بما قبلها، وجه اتصال الدليل بالمدلول عليه، لانه لما قال: " وما الله يريد ظلما للعالمين " وصله بذكر غناه عن الظلم إذ الغني عنه العالم بقبحه، ومعناه لايجوز وقوعه منه.
المعنى:
وقوله: (وإلى الله ترجع الامور) لا يدل على أن الامور كانت ذاهبة عنه، لامرين:
أحدهما - لانها بمنزلة الذاهبة بهلاكها وفنائها ثم اعادتها، لانه تعالى يعيدها للجزاء على الاعمال والعوض على الالام.
والثاني - لانه قد ملك العباد كثيرا من التدبير في الدنيا فيزول جميع ذلك في الاخرة ويرجع إليه كله. وقوله: " ولله ما في السماوات " معناه ولله ملك ما في السماوات. والملك: هو ماله أن يتصرف فيه. ولا يجوز أن يقول مكان ذلك ولله خلق ما في السماوات، لان ذلك يدخل فيه معاصي العباد، والله تعالى منزه عنها والاية خرجت مخرج التعظيم لله تعالى، وذكر عظيم المدح.
وفي وقوع المظهر بموقع المضمر في قوله: " وإلى الله ترجع الامور " فيه قولان:
===============
(556)
أحدهما - ليكون كل واحد من الكلامين مكتفيا بنفسه.
والثاني - لان المظهر في اسم الله تعالى أفخم في الذكر من المضمر وصفة ملكه موضع تفخيم، وليس كقول الشاعر (1)
لا أرى الموت يسبق الموت شئ * نغص الموت ذا الغنى والفقيرا (2)
لان البيت مفتقر إلى الضمير والاية مستغينة عنه وإنما احتاج البيت إليه، لان الخبرالذي هو جملة لا يتصل بالمخبر عنه إلا بضمير يعود إليه. (وما) تقع على ما يعقل وما لا يعقل إذا ذهب به مذهب الجنس، فما يعقل داخل فيه حقيقة ولو قال بدلا منه ولله ومن في السماوات بلفظه (من) لما دخل فيه إلا العقلاء أو الكل على جهة التغليب دون الحقيقة قوله تعالى:
(كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) (110) آية واحدة.
النظم:
وجه اتصال هذه الاية بما قبلها اتصال المدح على الفعل الذي تقدم به الامر، لانه قد تقدم إيجاب الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر ثم مدح على قبوله والتمسك به، ويجوز أيضا ان يكون اتصال التعظيم لله تعالى بمدح المطيعين له في الاشياء التي بينت، لانهم بلطف الله تعالى أطاعوا.
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " هو؟ بن زيد. وقيل انه ينسب إلى ولده سوادة بن عدي. ونسبه بعضهم لاميه بن أبي الصلت.
" 2 " حماسة البحتري: 98 وشعراء الجاهلية: 468، وسيبويه 1: 30 وخزانة الادب 1: 183، 3: 534، 4: 552 وأمالي بن الشجري 1: 243، 288 وشرح شواهد المغني 296 وهو من أبيات متفرقة؟ هذه الكتب وغيرها من الحكم في التأمل في الحياة والموت.
===============
(557)
المعنى:
وقوله: (كنتم خير أمة) إنما لم يقل أنتم لاحد أمور:
أحدها - قال الحسن أن ذلك لما قد كان في الكتب المتقدمة ما يسمع من الخير في هذه الامة من جهة البشارة. وقال نحن آخرها وأكرمها على الله. وكذلك روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال (أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) فهو موافق لمعنى أنتم خير أمة إلا أنه ذكر " كنتم " لتقدم البشارة به، ويكون التقدير " كنتم خير أمة " في الكتب الماضية فحققوا ذلك بالافعال الجميلة.
الثاني - أن كان زائدة ودخولها وخروجها بمعنى، إلا أن فيها تأكيد وقوع الامر لا محالة، لانه بمنزلة ما قد كان في الحقيقة، كما قال " واذكروا إذ أنتم قليل " (1) وفي موضع آخر " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " (2) ونظيره قوله: " وكان الله غفورا رحيما " لان مغفرته المستأنفة كالماضية في تحقيق الوقوع
لا محالة.
الثالث - أن (كان) تامة ههنا ومعناه حدثتم خير أمة ويكون خير أمة نصبا على الحال.
والرابع " كنتم خير أمة " في اللوح المحفوظ.
والخامس - كنتم مذ أنتم ليدل على أنه كذلك مذ أول أمرهم. واختلف المفسرون في المعني بقوله: " كنتم خير أمة " فقال قوم: هم الذين هاجروا مع النبي (صلى الله عليه وآله) ذكره ابن عباس، وعمر بن الخطاب، والسدي. وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل. وقال الضحاك: هم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة. وقال مجاهد معناه " كنتم خير أمة " إذا فعلتم، ما تضمنته الاية من الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
والايمان بالله والعمل بما أوجبه. وقال الربيع: معناه " كنتم خير أمة "، لانه لم
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة الانفال آية: 26.
" 2 " سورة الاعراف آية: 85.
===============
(558)
يكن أمة أكثر استجابة في الاسلام، من هذه الامة. فان قيل: لم قيل للحسن معروف مع أن القبيح أيضا يعرف أنه قبيح، ولايجوز أن يطلق عليه اسم معروف؟ قلنا: لان القبيح بمنزلة ما لا يعرف لخموله وسقوطه. والحسن بمنزلة النبيه الذي يعرف بجلالته وعلو قدره. ويعرف أيضا بالملابسة الظاهرة والمشاهدة فأما القبيح، فلا يستحق هذه المنزلة. وقوله: (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم) معناه لو صدقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) وقوله: " منهم المؤمنون " يعني معترفون بما دلت عليه كتبهم في صفة نبينا (صلى الله عليه وآله)، والبشارة به. وقيل: إنها تناولت من آمن منهم كعبد الله بن سلام، وأخيه، وغيرهما. وقوله: (وأكثرههم الفاسقون)
يعني من لم يؤمن منهم، وإنما وصفهم بالفسق دون الكفر الذي هو أعظم، لان الغرض الاشعار بأنهم خرجوا بالفسق عما يوجبه كتابهم من الاقرار بالحق في نبوة النبي (صلى الله عليه وآله). وأصل الفسق الخروج. ووجه آخر وهو أنهم في الكفار بمنزلة الفساق في العصاة بخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي أشنع وأفظع من حال من لم يقدم إليه ذكر فيه، وليس في الاية ما يدل على أن الاجماع حجة على ما بيناه في أصول الفقه. وتلخيص الشافي، وجملته أن هذا الخطاب لايجوز أن يكون المراد به جميع الامة، لان أكثرها بخلاف هذه الصفة بل فيها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. ومتى كان المراد بها بعض الامة، فنحن نقول ان في الامة من هذه صفته، وهو من دل الدليل على عصمته، فمن أين لو أنا، فرضنا فقدهم، لكان إجماعهم حجة واستوفينا هناك ما تقتضيه الاسئلة والجوابات، فلانطول بذكره ههنا.
قوله تعالى:
(لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لاينصرون) (111) آية.
النظم:
وجه اتصال هذه الاية بما قبلها اتصال البشارة بالغلبة بما تقدم من الامر
===============
(559)
بالمحاربة، لانه قد تقدم الامر بانكار المنكر، فالفريضة اللازمة إذ لم تترك إلا بالمحاربة.
المعنى، والاعراب:
والاذى المذكور في الاية هو أن يسمعوا منهم كذبا على الله يدعونهم به إلى الضلالة في قول الحسن، وقتادة يقول أهل الحجار آذيتني إذا أسمعته كلاما يثقل عليه. وقال البلخي، والطبري الاستثناء منقطع ههنا، لان الاذى ليس من الضرر في شئ، وهذا ليس بصحيح، لانه إذا أمكن حمله على الاستثناء الحقيقي لم يجز حمله على المنقطع. والمعنى في الاية لن يضروكم إلا ضررا يسيرا، فالاذي وقع موقع المصدر الاول. وإذا كان الاذى ضررا فالاستثناء متصل. والمنقطع لايكون فيه الثاني مخصصا للاول، كقولك ما في الدار أحد إلا حمارا، وكقولك ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر. وقوله: (وإن يقاتلوكم) جزم، لانه شرط " ويولوكم " جزم لانه جزاء. وقوله: (ثم لاينصرون) رفع على الاستئناف، ولم يعطف ليجري الثاني على مثال الاول، لان سبب التولية القتال. وليس كذلك منع النصر، لان سببه الكفر. والرفع أشكل برؤس الاي المتقدمة، وهو مع ذلك عطف جملة على جملة وفي الاية دلالة على النبوة، لوقوع مخبرها على ما تضمنته قبل وقوع مخبرها، لان يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير، وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوه (صلى الله عليه وآله) والمسلمين ما قاتلوهم قط إلا ولوا الادبار منهزمين.
قوله تعالى:
(ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بانهم
===============
(560)
كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) (112) آية بلا خلاف.
المعنى، واللغة، والاعراب:
قال الحسن: المعني بقوله: " ضربت عليهم الذلة " اليهود أذلهم الله عز وجل، فلا عزلهم ولا منعة، وأدركتهم هذه الامة. وإن المجوس لتجبيهم الجزية " وضربت " مأخوذ من الضرب، وإنما قيل ضربت، لانها ثبتت عليهم كما ثبتت بالضرب كما أخذت منه الضريبة، لانها تثبت على صاحبها كما تثبت الضرب. وقوله: " أينما ثقفوا " أي أينما وجدوا، يقال: يقفته أي وجدته، ولقيته. فان قيل: كيف جاز عقابهم على ما لم يفعلوه من قتل الانبياء. وإنما فعله أسلافهم دونهم. قلنا:
عنه جوابان:
أحدهما - أنهم عوقبوا على رضاهم بذلك. وأجرى عليهم صفة القتل لعظم الجرم في رضاهم به، فكأنهم، فعلوه على نحو " يذبح أبناءهم " وإنما أمر به.
والثاني - أن تكون الصفة تعم الجميع، فيدخلوا في الجملة ويجري عليهم الوصف على التغليب كما يغلب المذكر على المؤنث إذا اجتمعا، فكذلك غلب القاتل على الراضي. وقوله: (إلا بحبل من الله) فالحبل هو العهد من الله، وعهد من من الناس على وجه الذمة، وغيرها من وجوه الامان في قول ابن عباس، والحسن ومجاهد، وقتادة، والسدي، والربيع. وسمي العهد حبلا، لانه يعقد به الامان كما يعقد بالحبل من حيث يلزم به الشئ كما يلزم بالحبل. وقال الاعشى:
فاذا تجوزها حبال قبيلة * أخذت من الاخرى اليك حبالها (1)
والعامل في الباء من قوله " إلا بحبل من الله " يحتمل أن يكون العامل محذوفا المعنى إلا أن تعتصموا بحبل من الله على قول الفراء وأنشد:
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " ديوانه: 24 رقم القصيدة 3 انظر 2: 545 من هذا الكتاب فثم تخريج البيت.
===============
(561)
رأتني بحبليها فصدت مخافة * وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق (1)
أراد رأتني أقبلت بحبليها فحذف العامل في الباء وقال آخر: (2)
قريب الخطو يحسب من رآني * ولست مقيدا أني بقيد (3)
قال الرماني، على بن عيسى ما ذكره الفراء ضعيف من وجهين:
أحدهما - حذف الموصول وذلك لايجوز عند البصريين في شئ من الكلام لانه إذا احتاج إلى صلة تبين عنه فالحاجة إلى البيان عنه بذكره أشد. وإنما يجوز حذف الشئ للاستغناء بدلالة غيره عليه، فلو دل دليل عليه لحذف مع صلته، لانه معها بمنزلة شئ واحد. والوجه الاخر أن الكلام إذا صح معناه من غير حذف لم يجز تأويله على الحذف. وقوله (إلا بحبل) قيل في هذا الاسثناء قولان:
أحدهما - أنه منقطع، لان الدلالة لازمة لهم على كل حال، فيجري مجرى قوله: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " (4) فعامل الاعراب موجود والمعنى على الانقطاع. ومثله " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما " (5)
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " قائله حميد بن ثور الهلالي ديوانه: 35، ومعاني القرآن للفراء 1: 230، واللسان (نسع)، (فرق)، (حبل) ورواية الديوان:
فجئت بحبليها فردت مخافة * إلى النفس روعاء الجنان فروق
ورواية اللسان مختلفة ففي مادة (حبل) مثل التبيان وفي مادة (فرق):
رأتني مجليها فصدت مخافة * وفي الخيل روعاء الفؤاد فروق
وفي مادة (نسع):
رأتني بنسعيها فردت مخافتي * إلى الصدر روعاء الفؤاد فروق
" 2 " هو أبوالطمحان القينى، حنظلة بن الشرقي من بني كنانة بن القين وهو؟
المعمرين. وقيل انه لعدي بن زيد. وقيل للسحاج بن سباع الضبي.
" 3 " كتاب المعمرين: 57 ومعاني القرآن للفراء 1: 230، والاغاني طبعة دار؟ - بيروت - 2: 313، 316، وطبعة ليدن 12: 347 وحماسة البحتري: 202 وامالي القالي 1: 110 وأمالي الشريف المرتضى 1: 46، 257 واللسان (ختل) وغيرها كثير.
" 4 " سورة النساء آية: 91.
" 5 " سورة الواقعة آية: 25. وكان في المطبوعة " لا يسمعون فيها لغوا الا قيلا سلاما " والايات التي يحتمل أن يستشهد بها الشيخ اثنتان الاولى هي التي أثبتناها، والثانية في سورة مريم آية: 62 وهي " لايسمعون فيها لغوا الا سلاما ". ولا يوجد في القرآن آية مطابقة لما في المطبوعة الا بزيادة أو نقيصة.
===============
(562)
وكل انقطاع فيه فانما هو لازالة الايهام الذي فيه يلحق الكلام فقوله: " لايسمعون فيها لغوا " قد يتوهم أنه من حيث لا يسمعون فيها كلاما، فقيل لذلك " إلا قيلا سلاما " وكذلك " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا " قد يتوهم أنه لايقتل مؤمن مؤمنا على وجه، فقيل لذلك " إلا خطأ ". وكذلك " ضربت عليهم الذلة " قد يتوهم أنه من غير جواز موادعة، فقيل إلا بحبل من الله.
الثاني - أن الاستثناء متصل، لان عز المسلمين عز لهم بالذمة، وهذا لا يخرجه من الذلة في أنفسهم. وقوله: " وباؤا بغضب من الله " أي رجعوا بغضب الله الذي هو عقابه ولعنه. وقوله: (وضربت عليهم المسكنة) قيل اريد بالمسكنة الذلة لان المسكين لايكون إلا ذليلا فسمي الذليل مسكينا. وقيل، لان اليهود أبدا يتفاقرون وان كانوا أغنياء لما رماهم الله به من الذلة. وقد بينا فيما تقدم أن قوله:
" ويقتلون الانبياء بغير حق " (1) لايدل على أن قتلهم يكون بحق وإنما المراد أن قتلهم لايكون إلا بغير حق، كما قال " ومن يدع مع الله الها آخر لا برهان له به " والمراد ان ذلك لايكون إلا بغير برهان وكقول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره (2)
ومعناه لامنار هناك فيهتدى به وقوله: (يعتدون) قد بينا فيما تقدم معنى الاعتداء وهو أن معناه تجاوز الحد مأخوذ من العدوان.
قوله تعالى:
(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) (113) آية.
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة آل عمران آية 21 وسورة البقرة آية 61 ولكن هناك في الا؟
(النبيين) وفي هذه الاية (الانبياء).
" 2 " انظ 2: 356
===============
(563)
النزول:
قال ابن عباس، وقتادة، وابن جريج سبب نزول هذه الاية أنه لما أسلم عبدالله بن سلام وجماعة معه قالت احبار اليهود ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فأنزل الله تعالى " ليسوا سواء " إلى قوله: " وأولئك من الصالحين ".
اللغة، والاعراب، والمعنى:
فان قيل لم ذكر مع سواء أحد الفريقين دون الاخر، ولايجوز مثله أن يقول سواء علي قيامك حتى يقول أم قعودك قلن عنه جوابان:
أحدهما - أنه محذوف لدلالة ما تقدم من الكلام عليه، كما قال أبوذؤ؟:
عصاني إليها القلب إني لامرها * مطيع فما أدري أرشد طلابها؟
ولم يقل أم غي، لان الكلام يدل عليه، لانه كان يهواها فما يبالي أرشد أم غي طلابها. وقال آخر:
أراك فلا أدري أهم هممته * وذو الهم قدما خاشع متضائل
ولم يقل أم غيره، لان حاله في التغير ينبئ أن الهم غيره أم غيره مما يجري مجراه، وهذا قول الفراء، وضعفه الزجاج، وقال، ليس بنا حاجة إلى تقدير محذوف، لان ذكر أهل الكتاب قد جرى في قوله: " يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء " فتبين أن فيهم غير المؤمنين، فلا يحتاج أن يقدر وأمة غير قائمة.
الثاني - إن يكون ليسوا سواء منهم الجواد، والشجاع، فعلى القول الاول يكون رفع أمة على معنى الفعل، وتقديره لايستوي أمة هادية وأمة ضالة. وعلى القول الثاني يكون رفعها بالابتداء. وقال الطبري لا يجوز الاقتصار في سواء على أحد الذكرين دون الاخر. وأنما يجوز في ما أدري وما أبالي. قال الرماني: وهذا غلط، لانه ذهب عليه الفرق بين الاقتصار والحذف لان الحذف لابد فيه من خلف يقوم مقامه. والاقتصار ليس كذلك، لانه كالاقتصار على أحد المفعولين
===============
(564)
في أعطيت، وحذفه في حسبت مر تجلا أي لنا. والخلف فيه دلالة الحال، فأما أعطيت زيدا، فلا محذوف فيه، لانه ليس معه خلف يقوم مقامه.
وقوله: (قائمة) فيه أربعة أقوال: قال الحسن وابن جريج معناه عادلة.
وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: معناه ثابتة على أمر الله. وقال السدي معناه قائمة بطاعة الله وقال الاخفش، والزجاج: معناه ذو أمة مستقيمة، وهذا ضعيف لانه عدول عن الظاهر في أمة والحذف لادلالة عليه. وقوله: (أناء الليل)
قيل في واحده قولان:
أحدهما - اني مثل نجي.
والثاني - اني مثل معي. وحكى الاخفش أنو، والجمع أناء. قال الشاعر:
حلو ومر كعطف القدح مرته * بكل اني حداه الليل ينتعل (1)
وروي ينتشر. وقال الحسن، والربيع، وعبدالله بن كثير معناه ساعات الليل. وقال ابن مسعود يريد صلاة العتمة، لان أهل الكتاب لا يعلمونها، وقال الثوري عن منصور هو الصلاة بين المغرب والعشاء. وقال السدي يعني جوف الليل. وقوله: (وهم يسجدون) فيه قولان:
أحدهما - السجود المعروف في الصلاة.
الثاني - قال الفراء، والزجاج معناه يصلون. وبه قال البلخي، وغيره، لان القراءة لاتكون في السجود، ولا في الركوع، وهذا ترك للظاهر، وعدول عنه.
ومعنى الاية يتلون آيات الله أناء الليل وهم مع ذلك يسجدون، فليست الواو حالا وإنما هي عطف جملة على جملة، والضمير في قوله (ليسوا) عائد على أهل الكتاب، لتقدم ذكرهم، وقال أبوعبيدة هو على لغة أكلونى البراغيث. ومثله قوله:
ــــــــــــــــــــــ
1 قائله؟ الهذلي وقد نسبه بعضهم إلى المنخل السعدي.
ديوان الهذليين 2: 35 ومجاز القرآن 1: 102 وسيرة بن هشام 2: 206 ورواية اللسان (انى) والازهري عن ابن الانباري:
السالك الثغر مخشيا موارده *، بكل اني قضاه الليل ينتعل
وفي الديوان (حذاه) بدل (حداه) فقط
===============
(565)
" عموا وصموا كثير منهم " (1) وقال الشاعر:
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي * فاعرضن عني بالخدود النواضر (2)
قال الرماني، وهذا غلط، لان هذه اللغة ردية في القياس والاستعمال أما القياس، فلان الجمع عارض، والعارض لايؤكد علامته، لانه بمنزلة ما لا يعتد به، في سائر أبواب العربية وليس كالثابت للزومه فتقدم له العلامة لتؤذن به قبل ذكره ومع ذلك فجائز تركها فيه، فكيف بالعارض، ولزوم الفعل للفاعل يغني عن التثنية والجمع فيه، فلا يدخل جمع على جمع كما لا يدخل تعريف على تعريف. وأما الاستعمال، فلان أكثر العرب على خلافه.
قوله تعالى:
(يؤمنون بالله واليوم الاخر يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين) (114)
آية واحدة.
المعنى:
هذه الاية فيها صفة الذين ذكرهم في الاية التي قبلها في قوله: " أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون " فاضاف إلى ذلك أنهم مع ذلك يصدقون بالله واليوم الاخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقد بينا أن الامر بالعروف والنهي عن المنكر واجبان، وأنه ليس طريق وجوبهما العقل، وإنما طريق وجوبهما السمع، وعليه إجماع الامة. وإنما الواجب بالعقل كراهة المنكر، فقط غير أنه إذا ثبت بالسمع وجوبه، فعلينا إزالة المنكر بما يقدر عليه من الامور الحسنة دون القبيحة، لانه لايجوز إزالة قبيح بقبيح آخر، وليس لنا أن تترك أحدا
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة المائدة آية: 74.
" 2 " شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك 1: 399 وغيرها من كتب النحو كثير.
===============
(566)
يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها سواء كانت المعصية من أفعال القلوب مثل اظهار المذاهب الفاسدة أو من أفعال الجوارح، ثم ننظر، فان أمكننا إزالته بالقول، فلا نزيد عليه، وإن لم يمكن إلا بالمنع من غير إضرار لم نزد عليه، فان لم يتم إلا بالدفع بالحرب، فعلناه على ما بيناه فيما تقدم، وان كان عند أكثر أصحابنا هذا الجنس موقوف على السلطان أو اذنه في ذلك. وانكار المذاهب الفاسدة، لا يكون إلا باقامة الحجج والبراهين والدعاء إلى الحق، وكذلك إنكار أهل الذمة فأما الانكار باليد، فمقصور على من يفعل شيئا من معاصي الجوارح، أو يكون باغيا على إمام الحق، فانه يجب علينا قتاله ودفعه حتى يفئ إلى الحق، وسبيلهم سبيل أهل الحرب، فان الانكار عليهم باليد والقتال حتى يرجعوا إلى الاسلام أو يدخلوا في الذمة. وقوله: (ويسارعون في الخيرات) يحتمل أمرين:
أحدهما - أنهم يبادرون إليها خوف الفوات بالموت.
والثاني - يعملونها غير متثاقلين فيها لعلمهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها.
اللغة:
والفرق بن السرعة والعجلة ان السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الابطاء وهو مذموم. والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها الاناة وهي محمودة.
قوله تعالى:
" وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين " (115) آية بلا خلاف.
القراءة والحجة والاعراب:
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء فيهما. الباقون بالتاء إلا أبا عمرو، فانه
===============
(567)
كان يخبر، ووجه القراءة بالياء أن يكون كناية عمن تقدم ذكره من أهل الكتاب ليكون الكلام على طريقة واحدة، ووجه التاء أن يخلطهم بغيرهم من المكلفين، ويكون خطابا للجميع في أن حكمهم واحد.
وإنما جوزي ب (ما) ولم يجاز ب (كيف) لان (ما) أمكن من (كيف) لانها تكون معرفة ونكرة، لانها للجنس و (كيف) لاتكون إلا نكرة، لانها للحال والحال لاتكون إلا نكرة، لانها للفائدة اللغة والمعنى:
وقوله: (فلن يكفروه) مجاز كما أن الصفة لله بأنه شاكر مجاز. وحقيقته أنه يثيب على الطاعة ثواب الشاكر على النعمة، فلما استعير للثواب الشكر واستعبر لنقيضه من منع الثواب الكفر، لان الشكر في الاصل هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، والكفر ستر النعمة من المنعم عليه بتضييع حقها. ومعنى الاية فلن يمنعوا ثوابه، وسمي منع الجزاء كفرا، لانه بمنزلة الجحد له بستر، لان أصل الكفر الستر، ولذلك قيل لجاحد نعم الله ومن جرى مجراه في الامتناع من القيام بحقها: كافر، فالكافر هو المضيع لحق نعمة الله بما يجري مجرى الجحود.
وقوله: (والله عليم بالمتقين) إنما خص المتقين بالذكر، لان الكلام اقتضى ذكر جزاء المتقين، فدل على أنه لا يضيع شئ من عملهم، لان المجازي به عليم، وأنهم أمر أمرهم الفجار تعويلا على ما ذكره في غيرها من أي الوعيد.
قوله تعالى:
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (116) آية.
المعنى:
لما ذكر تعالى أن عمل المتقين لن يضيع، وأنهم يجازون به، أستأنف حكم
===============
(568)
الكافرين، وبين انه " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم " شيئا من الله وإنما خص الاموال، والاولاد بالذكر في أنهم لا يغنون عن الكافر شيئا وإن كان لا يغني عنهم غير هؤلاء أيضا شيئا، لانهما معتمد ما يقع به الاعتداد، ومما يعول عليه الانسان ويرجوه للشدائد ويفيد النفي العام، لانه إذا لم يغن عنه من هو حقيق بالغناء لمنع من لا يعجزه شئ فغناء من دونه أبعد.
اللغة:
وقوله: (وأولئك أصحاب النار) إنما سموا أصحاب النار، للزومهم فيها كما يقال هؤلاء أصحاب الصحراء إذا كانوا ملازمين لها، وقد يقال أصحاب العقار بمعنى ملاكه وأصحاب الرجل أتباعه وأعوانه وأصحاب العالم من يعني به الاخذون عنه، والمتعلمون عنه، فالاضافة مختلفة. ومعنى " لن تغني عنهم " أي لن تدفع عنهم ضرر الولاء النازل بهم ولو قيل أغناه كذا عن كذا أفاد أن أحد الشيئين صار بدلا من الاخر في نفي الحاجة، والغنى الاختصاص بما ينفي الحاجة، فان اختص بمال ينفي الحاجة، فذلك غنى. وكذلك الغنى بالجاه والاصحاب وغير ذلك، فأما الغنى في صفت الله فاختصاصه بكونه قادرا على وجه لا يعجزه شئ، وقولنا فيه: أنه غنى معناه أنه لايجوز عليه الحاجة.
وأصل النار النور، وهو مصدر. والنار جنس تجري مجرى الوصف في تضمنه معنى الاصل وزيادة عليه، لانها جسم لطيف فيه حرارة ونور. ومنه امرأة نوار أي نافرة عن الشر عفية، لانها كالنار في الامتناع. ومنه المنار الاعلام، لانها كالنور في البيان. ومنه المنارة التي يسرج عليها.
قوله تعالى:
(مثل ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فاهلكته وما ظلمهم الله ولكن
===============
(569)
أنفسهم يظلمون) (117) آية.
النزول:
قيل ان هذه الاية في أبي سفيان، وأصحابه يوم بدر، لما تظاهروا على النبي (ص) في الانفاق. وقيل بل نزلت في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حروب المشركين على وجه النفاق للمؤمنين.
المعنى:
والمثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما مشبه به، فلما كان إنفاق المنافق والكافر ضائعا، ويستحق عليه العقاب والذم أشبه الحرث المهلك، فلذلك ضرب به المثل. وفي الاية حذف، وتقديرها مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك " ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم " فحذف الاهلاك لدلالة آخر الكلام عليه وفيه تقدير آخر، مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح، فيكون تشبيه ذلك الانفاق بالمهلك من الحرث بالرياح.
اللغة:
والريح جمعه رياح ومنه الروح، لدخول الريح الطيبة على النفس، وكذلك الارتياح. والتروح الراحة من التعب، لانه بمنزلة الروح الذي يدخل على النفس بزوال التعب. ومنه الاستراحة، والمراوحة، لانها تجلب الريح. ومنه الروح، لانها كالريح في اللطا؟ ومنه الرائحة، لان الريح تحملها إلى الحس، ومنه الرواح، لانه رجوع كالريح، للاستراحة.
وقول: " فيها صر " قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد، والضحاك: هو البرد وأصله الصوت من الصرير. قال الزجاج: الصر صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح ويجوز أن يكون الصر صوت الريح الباردة
===============
(570)
الشديدة، وذلك من صفات الشمال، فانها توصف بان لها قعقعة.
المعنى:
وقوله: (وما ظلمهم الله) نفي للظلم عن الله تعالى يعني في نفي استحقاقهم للثواب، واستحقاقهم للعقاب، وإن ذلك ليس بظلم منه تعالى " ولكن أنفسهم يظلمون " بذلك. وإنما وصفهم بأنهم ظلموا أنفسهم، لامرين:
أحدهما - أن ظلمهم اقتضى هلاك حرثهم عقوبة لهم، لانه لو هلك على جهة الابتلاء والمحنة لم يعتد بعاجل المضرة، للعوض الموفى عليه في العاقبة.
الثاني - أن يكونوا ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقت الزراعة، فجاءت الريح فأهلكته تأديبا من الله لهم في وضع الشئ غير موضعه الذي هو حقه.
وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدروهم أكبر قد بينا لكم الايات إن كنتم تعقلون) (118)
آية بلا خلاف.
المعنى:
ذكر ابن عباس، الحسن: أن قوما من المؤمنين خافوا بعض المشركين في اليهود، والمنافقين المودة لما كان بينهم في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك بهذه الاية. والبطانة معناها ههنا خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره ويسمون دخلاء أي لا تجعلوا من هذه صفته من غير المؤمنين.
===============
(571)
اللغة، والاعراب والبطن خلاف الظهر، فمنه بطانة الثوب خلاف ظهارته، لانها تلي بطنه.
وبطانة الرجل خاصته، لانها بمنزلة ما يلي بطنه من ثيابه في القرب منه، ومنه البطنة وهو امتلاء البطن بالطعام. والبطان حزام البعير، لانه يلي بطنه.
وقوله: (من دونكم) (من) تحتمل وجهين:
أحدهما - أن تكون دخلت للتبعيض، والتقدير لاتتخذوا بعض المخالفين في الدين بطانة.
والثاني - أن يكون دخولها لتبين الصفة كأنه قيل: لا تتخذوا بطانة من المشركين. وهو أعم وأولى، لانه لايجوز أن يتخذ مؤمن كافرا بطانة على حال وقال بعضهم إن (من) زائدة، وهذا ليس بجيد، لانه لايجوز أن يحكم بالزيادة مع صحة حملها على الفائدة.
وقوله: (لا يألونكم خيالا) معناه لا يقصرون في أمركم خبالا من قولهم ما ألوت في الحاجة جهدا، ولا أألو الامر ألوا أي لا أقصر جهدا. وقال الشاعر:
جهراء لاتألو إذا هي أظهرت * بصرا ولا من علية تغنيني (1)
أي لاتقصر بصرا ولاتبصر، لانها جهراء تطلب ذلك، فلا تجده.
ومنه الالية اليمين. ومنه قوله: " ولا يأتل أولو الفضل منكم " (2) معناه لا يقصر، وقيل لا يحلف. والاصل التقصير والخبال معناه النكال. وأصله الفساد يقال في قوائمه خبل، وخبال أي فساد من جهة الاضطراب. ومنه الخبل الجنون، لانه فساد العقل، ورجل مخبل الرأي أي فاسد الرأي. ومنه الاستخبال طلب إعادة المال لفساد الزمان.
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " قائله أبوالعيال الهذلي. ديوان الهذليين 2. 263، واللسان (ألا) و (جهر)
وهو من شعر في؟ بينه وبين بدر بن عامر الهذلي. الجهراء: هي التي لا تصر في الشمس.
" 2 " سورة النور آية 22.
===============
(572)
المعنى:
وقوله: (ودوا) معناه أحبوا " ما عنتم " معناه إدخال المشقة عليكم وقال السدي: معناه " ودوا " ضلالكم عن دينكم، لان الحمل بالضلال مشقة.
وقبل معناه " ودوا " أن يفتنوكم في دينكم أي يحملونكم على المشقة ذكره ابن جريج.
اللغة:
وأصل العنت المشقة: عنت الرجل عنتا إذا دخلت عليه المشقة. ومنه أكمة عنوت أي صعبة المسلك لمشقة السلوك فيها. وفلان يعنت فلانا أي يحمله على المشقة الشديدة في ما يطالبه به. ومنه قوله تعالى: " ولو شاء الله لا عنتكم " (1).
الاعراب، والمعنى:
وموضع ودوا يحتمل أن يكون نصبا لانه صفة لبطانة ويجوز أن يكون له موضع من الاعراب، لانه استئناف جملة. وقوله: (قد بدت البغضاء من أفواههم) أي ظهر منها ما يدل على البغض " وما تخفي صدورهم أكبر قد بينالكم الايات " يعني العلامات " إن كنتم تعقلون " يعني موضع نفعه لكم ومبلغ عائدته عليكم. وقيل: معناه " إن كنتم تعقلون " الفصل بين ما يستحقه الولي والعدو.
قوله تعالى:
(ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قارا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) (119) آية بلا خلاف.
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة البقرة آية: 220.
===============
(573)
المعنى، واللغة، والاعراب:
هذا خطاب للمؤمنين أعلمهم الله تعالى أن منافقي أهل الكتاب لا يحبونهم وأنهم هم يصبحون هؤلاء المنافقين بالبر والنصيحة، كما يفعله المحب، وإن المنافقين على ضد ذلك، فأعلمهم الله مايسره المنافقون في باطنهم، وذلك من آيات النبي (صلى الله عليه وآله) قال الفراء: العرب إذا جاءت إلى اسم مكنى قد وصف بهذا، وهذان، وهؤلاء، فرقوا بين (ها) وبين (ذا) فجعلوا المكنى منهما في جهة التقريب، لا غير يقولون:
أين أنت، فيقول القائل: هأنذا، ولا يكادون يقولون ها أنا. ومثله في التثنية والجمع. ومثله قوله: " ها أنتم أولاء تحبونهم " وربما أعادوها فوصلوها بذا، وهذان وهؤلاء، فيقولون ها أنت هذا قائما، وها أنتم هؤلاء. قال الله تعالى: " ها أنتم هؤلاء جادلتم " (1) فان كان الكلام على غير تقرب أو كان على خبر يكتفي كل واحد منهما بصاحبه بلا فعل، والتقريب لابد فيه من فعل لنقصانه وأحبوا أن يفرقوا بين معنى التقريب، وبين معنى الاسم الصحيح، قال الازهري: يحتمل أولا أن يكون منادى كأنه فال يا أولاء. وقال نحاة البصريين (ها)
للتنبيه. وأنتم مبتدأ وأولاء خبره ويحبونهم حال. وقال الفراء: يحبونهم خبر.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون أولاء بمعنى الذين ويحبونهم صلة ويكون التقدير الذين يحبونهم. ويجوز أن يكون حالا بمعنى " ها أنتم أولاء " محبين لهم. ويكون " أنتم مبتدأ وأولاء خبره. ويحبونهم حالا والمعنى انظروا إلى أنفسكم محبين لهم ولا يجوز أن تقول: ها قومك أولاء، كما جاز " ها أنتم أولاء "، لان المضمر أحق ب (ها) التي للتنبيه، لانه كالمبهم في عموم ما يصلح له. وليس كذلك الظاهر.
وقال الفراء: إنما ذاك على جهة التقريب في المضمر، والاعتماد على غيره في الخبر. قال الحسن بن علي المغربي أولاء يعني به المنافقين، كما تقول ما أنت زيدا يحبه، ولا يحبك. وهذا مليح غير أنه يحتاج أن يقدر عامل في أولاء ينصبه، يفسره قوله:
ــــــــــــــــــــــ
" 1 " سورة النساء آية: 108