أموالهم في سبيل الله المرياء دفعا عن انفسهم.
قوله تعالى:
وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولايأتون الصلوة إلاوهم كسالى ولاينفقون إلا وهم كارهون (55) آية.
قرأ اهل الكوفة الا عاصما " ان يقبل " بالياء. الباقون بالتاء. وجه قراءة من قرأ بالياء ان التأنيث ليس بحقيقي فجاز أن يذكر كقوله " فمن جاء موعظة " (1)
ومن قرأ بالتاء فعلى ظاهر التأنيث.
والمنع أمر يضاد الفعل وينافيه. والمعنى هاهنا أن هؤلاء المنافقين منعوا انفسهم ان يفعل بهم قبول نفقاتهم، كما يقول القائل: منعته بري وعطائي.
وقوله " ان تقبل " في موضع نصب، وتقديره وما منعهم من أن تقبل وحذف (من). وقوله " إلا أنهم كفروا بالله ورسوله " انهم في موضع رفع والعامل في اعراب انهم يحتمل احد امرين: احدهما - ما منعهم من ذلك إلا كفرهم.
والثاني - أن يكون تقديره ما منعهم الله منه إلا لانهم كفروا بالله. وعندنا ان الكافر لايقع منه الانفاق على وجه يكون طاعة، لانه لو أوقعها على ذلك الوجه لاستحق الثواب. والاحباط باطل، فكان يؤدي إلى ان يكون مستحقا للثواب.
وذلك خلاف الاجماع وعند من خالفنا من المعتزلة وغيرهم يصح ذلك، غير انه ينحبط بكفره فأما الصلاة فلا يصح أن تقع منهم على وجه تكون طاعة بلا خلاف، لان الصلاة طريقها الشرع فمن لايعترف بالشرع لايصح أن يوقعها طاعة، وليس كذلك الانفاق، لان العقل دال على حسنه غير انهم وإن علموا ذلك لايقع منهم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 2 البقرة آية 275
(*)
===============
(238)
كذلك على ما بيناه.
وقوله " ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى " اي يقومون اليها على وجه الكسل وذلك ذم لهم بانهم يصلون الصلاة على غير الوجه الذي امروا به، من النفاق الذي يبعث على الكسل عنها دون الايمان الذي يبعث على النشاط لها.
وقوله " ولا ينفقون إلا وهم كارهون " اخبار منه تعالى بأنهم لاينفقون ما ينفقونه لكونه طاعة بل ينفقونه كارهين لذلك وذلك يقوي ما قلناه.
قوله تعالى:
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (56) آية.
هذا نهي للنبي (صلى الله عليه وآله) والمراد به المؤمنون والمعنى: لا يروق ناظر كم ايها المؤمنون ظاهر حسنها يعني اموال المنافقين والكفار واولادهم تستحسنونه بالطبع البشري. وانما قلنا ذلك. لان النبي (صلى الله عليه وآله) مع زهده لايجوز ان يعجب بها اعجاب مشته لها. وقوله " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " وقيل في معنى ذلك وجوه: احدها - قال ابن عباس وقتادة والفراء: ان فيه التقديم والتأخير والتقدير فلا تعجبك اموالهم ولا اولادهم في الحياة الدنيا انما يريد الله ليعذبهم بها في الاخرة، فيكون الظرف على هذا متعلقا بأموالهم وأولادهم، ومثله قوله تعالى " فالقه اليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون " (1) وتقديره فالقه اليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم الثاني - قال ابن زيد: معناه انما يريد الله ليعذبهم بحفظها والمصائب فيها مع حرمان النفقة بها. والثالث - قال الجبائي: تقديره انما
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 27 النمل آية 28
(*)
===============
(239)
يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا عند تمكن المؤمنين من اخذها وغنمها فيتحسرون عليها ويكون ذلك جزاء على كفرهم نعم الله تعالى بها. والرابع - قال البلخي والزجاج: ان معناه فلا تعجبك اموالهم، فانها وبال عليهم، لان الله يعذبهم بها اي بما يكلفهم من انفاقها في الوجوه التي امرهم بها فتزهق انفسهم لشدة ذلك عليهم لانفاقهم، وهم مع هذا كله كافرون وعاقبتهم النار فيكون قوله " وهم كافرون " اخبارا عن سوء احوالهم وقلة نفع المال والولد لهم ولايكون عطفا على ما مضى.
والخامس - أن يكون المعنى أن مفارقتها وتركها والخروج عنها بالموت صعب عليهم شديد، لانهم يفارقون النعم ولايدرون إلى ماذا يصيرون بعد الموت فيكون حينئذ عذابا عليهم. بمعنى ان مفارقتها غم وعذاب. ومعنى " وتزهق انفسهم " اي تهلك وتذهب بالموت يقال: زهق بضاعة فلان اي ذهبت اجمع. السادس - قال الحسن: اخبر الله تعالى عن عاقبتهم انهم يموتون على النفاق. وقال: ليعذبهم بزكاتها وانفاقها في سبيل الله، وهو قول البلخي ايضا والزجاج مع اعتقادهم ان ذلك ليس بقربة، فيكون ذلك عذابا أليما.
واللام في قوله " ليعذبهم " يحتمل ان يكون بمعنى (أن) والتقدير إنما يريد الله أن يعذبهم. والزهق الخروج بصعوبة. وأصله الهلاك، ومنه قوله " قل جاء " الحق وزهق الباطل " (1) وكل هالك زاهق، زهق يزهق زهوقا. والزاهق من الدواب السمين الشديد السمن، لانه هالك يثقل بدنه في السير والكر والفر. وزهق فلان بين ايدي القوم إذا زهق سابقا لهم حتى يهلك منهم. والاعجاب السرور بما يعجب منه تقول: اعجبني حديثه اي سرني بظرف حديثه.
وليس في الاية ما يدل على ان الله تعالى اراد الكفر على ما يقوله المجبرة، لان قوله " وهم كافرون " في موضع الحال كقولك اريد ان تذمه وهو كافر واريد ان تضربه وهو عاص وأنت لاتريد كفره ولاعصيانه بل تريد ذمه في حال
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 17 الاسرى آية 81
(*)
===============
(240)
كفره وعصيانه، وتقديره الاية إنما يريد الله عذابهم وازهاق انفسهم اي اهلاكها في حال كونهم كافرين، كما يقول القائل للطبيب: اختلف الي كل يوم وأنا مريض، وهو لايريد المرض، ويقول لغلامه: اختلف الي وأنا محبوس، ولايريد حبس نفسه.
قوله تعالى:
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (57) آية.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين انهم يقسمون بالله انهم لمنكم يعني من المؤمنين وعلى دينهم الذي يدينون به. ثم قال الله تعالى مكذبا لهم " وما هم منكم " اي ليسوا مؤمنين مثلكم ولا مطيعين لله في اتباع دينه كما انتم كذلك، ولكنهم قوم يفرقون اخبار منه تعالى ان هؤلاء المنافقين يفرقون من اظهار الكفر لئلا يقتلوا والفرق انزعاج النفس بتوقع الضرر. وأصله من مفارقة الامن إلى حال الانزعاج.
قوله تعالى:
لو يجدون ملجا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (58) آية.
قرأ يعقوب " أو مدخلا " بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها. وقرأ شاذ " مدخلا " بضم الميم وسكون الدال.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين انهم لو وجدوا ملجأ. ومعناه لو ادركوا مطلوبهم، يقال: وجدت الضالة وجدانا ووجدت على الرجل وجدا وموجدة.
والملجأ الموضع الذي يتحصن فيه ومثله المعقل والموئل، والمعتصم والمنتصر. وقال
===============
(241)
ابن عباس: معناه هاهنا حرزا. وقال مجاهد: أي حصنا، ومثله يستعمل في الناصر والمساعد. وقوله " أو مغارات " اي لو وجدوا مغارات، وهي جمع مغارة وهي المداخل الساتر من دخل فيه. وقال ابن عباس: معناه المغارات والغيران والغار الثقب الواسع في الجبل، ومنه غارت العين من الماء إذا غابت في الارض، وغارت عينه إذا دخلت في رأسه. والمدخل المسلك الذي يتدسس بالدخول فيه وهو مفتعل من الدخول كالمتلج من الولوج. وأصله متدخل. وقال ابن عباس وأبوجعفر (عليه السلام) والفراء: المدخل الاسراب في الارض. وقوله " لولوا اليه وهم يجمحون " فالجماح مضي الماء مسرعا على وجهه لايرده شئ عنه. وقال الزجاج: فرس جموع، وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام. وقيل: هو المشئ بين المشيين قال مهلهل:
لقد جمحت جماحا في دمائهم * حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا وقال الزجاج: معنى (مدخلا) اي لو وجدوا قوما يدخلون في جملتهم أو قوما يدخلونهم في جملتهم يعتصمون بهم لفعلوا.
قوله تعالى:
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون (59) آية.
قرأ يعقوب " يلمزك " بضم الميم. الباقون بكسرها، وهما لغتان، وهذه الاية فيها اخبار أن من جملة المنافقين الذين ذكرهم من يلمزك يا محمد (صلى الله عليه وآله) في الصدقات اي يعيبك. وفي قول الحسن. واللمز العيب على وجه المساترة، والهمز العيب - بكسر العين وغمزها - في قول الزجاج - تقول: لمزه يلمزه ويلمزه - بالكسر والضم - وهي صفتهم قال الشاعر:
===============
(242)
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة * وان تغببت كنت الهامز اللمزه (1)
وقال رؤبة:
قالت بين عنقي وجمزي * في ظل عصري باطلي ولمزي (2)
وقال ابوعبيدة: يلزمك معناه يعيبك. وقال قتادة: معناه يطعن عليك.
والهمز الغيبة. ومنه قوله " هماز مشاء بنميم " (3). وقيل لاعرابي: أتهمز الفأزة؟ قال: الهر يهمزها، فأوقع الهمز على الاكل، والهمز كاللمز، ومنه قوله " أيحب احدكم ان يأكل لحم اخيه ميتا " (4) والصدقات جمع صدقة وهي العطية للفقير على وجه البر والصلة، والصدقة الواجبة في الاموال حرام على رسول الله وأهل بيته كأنهم جعلوا في تقدير الاغنياء، فأما البر على وجه التطوع فهو مباح لهم.
وقوله " فان أعطوا منها رضوا " يعني من الصدقات رضوا بذلك وحمدوك عليه وان لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " يعني إذا لم يعطوا ما طلبوه من الصدقات سخطوا وغضبوا. والصدقة محرمة على من كان غنيا.
واختلفوا في حد الغني، فقال قوم: هو من ملك نصابا من المال. وقال آخرون:
هو من كانت له مادة تكفيه، ملك النصاب أو لم يملك، والذي كان يلمز النبي صلى الله عليه اله في الصدقات بلتعة بن حاطب، وكان يقول: إنما يعطي محمد الصدقات من يشاء فربما أعطاه النبي (صلى الله عليه وآله) فيرضى وربما منعه فسخط، فتلكم فيه، فنزلت الاية فيه.
قوله تعالى:
ولو أنهم رضوا ما آتيهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائله زياد الاعجم مجاز القرآن 1 / 263 واللسان " همز " ومقاييس اللغة 6 / 66 وتفسير الطبري 14 / 301 وفيه اختلاف كثير في الرواية.
(2) ديوانه: 64 وتفسير الطبري 14 / 300 (3) سورة 68 القلم آية 11 (4) سورة 49 الحجرات آية 12
(*)
===============
(243)
الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (60) آية.
اخبر الله تعالى في هذه الاية ان هؤلاء المنافقين الذين طلبوا منك الصدقات وعابوك بها لو رضوا بما اعطاهم الله ورسوله " وقالوا " مع ذلك " حسبنا الله " اي كفانا الله وانه سيعطينا الله من فضله وانعامه ويعطينا رسوله مثل ذلك وقالوا " انا إلى الله راغبون " والجواب محذوف والتقدير لكان خيرا لهم وأعود عليهم وحذف الجواب في مثل هذا ابلغ لانه لتأكيد الخبر به استغنى عن ذكره.
قوله تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (61) آية.
اخبر الله تعالى في هذه الاية انه ليست الصدقات التي هي زكاة الاموال إلا للفقراء والمساكين ومن ذكرهم في الاية.
واختلفوا في الفرق بين الفقير والمسكين، فقال ابن عباس والحسن وجابر وابن زيد والزهري ومجاهد: الفقير المتعفف الذي لايسأل، والمسكين الذي يسأل، ذهبوا إلى أنه مشتق من المسكنة بالمسألة. وروى أبوهريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال (ليس المسكين الذي ترده الاكلة والاكلتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى فيغنيه ولايسأل الناس إلحافا) وقال قتادة: الفقير ذو الزمانة من اهل الحاجة. والمسكين من كان صحيحا محتاجا. وقال قوم: هما بمعنى واحد إلا انه ذكر بالصفتين لتأكيد امره قال الشاعر:
انا الفقير كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سبد (1)
ـــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (وفق). الحلوبة: الناقة التي تحلب (وفق العيال) على قدر =
(*)
===============
(244)
ويسمى المحتاج فقيرا تشبيهابأن الحاجة كأنها قد كسرت فقار ظهره يقال:
فقر الرجل فقرا وأفقره الله افقارا وافتقر افتقارا، وتفاقر تفاقرا. وسمي المسكين بذلك تشبيها بأن الحاجة كأنها سكنته عن حال اهل السعة والثروة. قال الله تعالى " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " (1) فمن قال: المسكين أحسن حالا احتج بهذه الاية. ومن قال هما سواء قال: السفينة كانت مشتركة بين جماعة لكل واحد منهم الشئ اليسير.
وقوله " والعاملين عليها " يعني سعاة الزكاة وجباتها، وهو قول الزهري وابن زيد وغيرهم. وقوله " والمؤلفة قلوبهم " معناه أقوام أشراف كانوا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) فكان يتألفهم على الاسلام ويستعين بهم على قتال غيرهم ويعطيهم سهما من الزكاة. وهل هو ثابت في جميع الاحوال ام في وقت دون وقت؟ فقال الحسن والشعبي:
ان هذا كان خاصا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله). وروى جابر عن ابي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) ذلك. واختار الجبائي انه ثابت في كل عصر الا ان من شرطه ان يكون هناك امام عدل يتألفهم على ذلك.
وقوله " وفي الرقاب " يعني المكاتبين واجاز اصحابنا ان يشترى به عبد مؤمن إذا كان في شدة ويعتق من مال الزكاة، ويكون ولاؤه لارباب الزكاة، وهو قول ابن عباس وجعفر بن مبشر.
وقوله " والغارمين " قال مجاهد وقتادة والزهري وجميع المفسرين، وهو قول ابي جعفر (عليه السلام) انهم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف فتقضى عنهم ديونهم، و " في سبيل الله " يعني الجهاد بلا خلاف. ويدخل فيه عند أصحابنا جميع مصالح المسلمين، وهو قول ابن عمر وعطاء. وبه قال البلخي، فانه قال: تبنى به المساجد والقناطر وغير ذلك، وهو قول جعفر بن مبشر. و " ابن السبيل " وهو المسافر
ـــــــــــــــــــــــ
= حاجتهم و (السبد) كناية عن القليل وأصله الوبر وهو الشعر الضعيف.
(1) سورة 18 الكهف آية 80.
(*)
===============
(245)
المنقطع به فانه يعطى من الزكاة وان كان غنيا في بلده من غير ان يكون دينا عليه، وهو قول مجاهد وقتادة قال الشاعر:
انا ابن الحرب ربتني وليدا * إلى ان شبت واكتهلت لداتي (1)
وقال بعضهم: جعل الله الزكاة لامرين: احدهما - سد خلة. والاخر - تقوية ومعونة لعز الاسلام. واستدل بذلك على ان المؤلفة قلوبهم في كل زمان.
واختلفوا في مقدار ما يعطى الجابي للصدقة، فقال مجاهد والضحاك: يعطى الثمن بلا زيادة. وقال عبدالله بن عمر بن العاص والحسن وابن زيد: هو على قدر عمالته، وهو المروي في اخبارنا. وقال ابن عباس وحذيفة وعمر بن الخطاب وعطاء وابراهيم وسعيد بن جبير، وهو قول ابن جعفر وابي عبدالله (عليهما السلام) ان لقاسم الزكاة ان يضعها في اي الاصناف شاء. وكان بعض المتأخرين لا يضعها الا في سبعة أصناف لان المؤلفة قد انقرضوا. وان قسمها الانسان عن نفسه، ففي ستة لانه بطل سهم العامل، وزعم انه لايجزي في كل صنف أقل من ثلاثة. وعندنا ان سهم المؤلفة والسعاة وسهم الجهاد قد سقط اليوم، ويقسم في الخمسة الباقية كما يشاء رب المال وان وضعها في فرقة منهم جاز.
وقوله " فريضة من الله " نصب على المصدر اي فرض ذلك فريضة وكان يجوز الرفع على الابتداء ولم يقرأ به، ومعناه ان ما فرضه الله وقدره واجب عليكم.
وقوله " والله عليم حكيم " معناه عالم بمصالحكم حكيم فيما يوجبه عليكم من اخراج الصدقات وغير ذلك.
قوله تعالى:
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري 14 / 320
(*)
===============
(246)
يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم (62) آية.
قرأ نافع " أذن خير " بالتخفيف الباقون بالتثقيل. وكلهم أضاف. ورفع " ورحمة " الا أبا عمرو فانه جر (ورحمة) وكان يجوز النصب على (ورحمة) يفعل ذلك، ولم يقرأ به أحدا، قال أبوعلي: تخفيف " أذن " من أذن قياس مطرد نحو طنب وطنب، وعنق وعنق وظفر وظفر لان ذلك تخفيف وتثقيل لاتفاقهما في الوزن وفي جمع التكسير تقول: آذان وأطناب وأعناق وأظفار، فأما الاذن في الاية فانه يجوز ان يطلق على الجملة وان كان عبارة عن جارحة فيها، كما قال الخليل في الناب من الابل سميت به لمكان الناب البازل، فسميت الجملة كلها به. ويجوز أن يكون (فعلا) من اذن ياذن اذا استمع. ومعناه انه كثير الاستماع مثل شلل وأنف وشحح، قال ابوزيد: رجل اذن ويقن اذا كان يصدق بكل ما يسمع فكما ان (يقن)
صفة كبطل كذلك (اذن) كشلل، ويقولون: اذن يأذن اذا استمع، ومنه قوله " وأذنت لربها " (1) اي استمعت، وقوله " ائذن لي " (2) اي استمع. وفي الحديث (ما اذن الله لشئ كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن) قال الشاعر:
في سماع يأذن الشيخ له * وحديث مثل ما ذي مشار (3)
والمعنى - في الاضافة - مستمع خير لكم وصلاح ومصغ اليه، لامستمع شر وفساد. ومن رفع (رحمة) فالمعنى فيه أذن خير ورحمة اي مستمع خير ورحمة فجعله للرحمة لكثرة هذا المعنى فيه، كما قال " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (4)
ويجوز ان يقدر حذف المضاف من المصدر. وأما من جر فعطفه على (خير) كأنه قال اذن خير ورحمة، وتقديره مستمع خير ورحمة. وجاز هذا كما جاز مستمع
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 84 الانشقاق آية 2 (2) سورة 9 التوبة آية 50 (3) اللسان (اذن) نسبه إلى (عدي) والماذي المشار: العسل المصفى (4) سورة 21 الانبياء آية 107.
(*)
===============
(247)
خير، لان الرحمة من الخير وإنما خص تشريفا، كما قال " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ثم قال " خلق الانسان من علق " (1) وان كان قوله تعالى " خلق " عم الانسان وغيره. والبعد بين الجار وما عطف عليه لا يمنع من العطف ألا ترى ان من قرأ " وقيله يارب " انما جعله عطفا على " وعنده علم الساعة " (2) وعلم قيله.
وروي ان الاعمش قرأ قل " اذن خير ورحمة " وهي قراءة ابن مسعود.
اخبر الله تعالى في هذه الاية ان من جمله هؤلاء - المنافقين الذين وصفهم وذكرهم - من يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله) والاذى هو ضرر ربما تنفر منه النفس في عاجل الامر وانهم يقولون هو اذن يعنون النبي (صلى الله عليه وآله). ومعنى (اذن) انه يصغي إلى كل احد فيقبل ما يقوله - في قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك - وقيل اصله من اذن اذا استمع على ما بيناه قال عدي بن زيد:
ايها القلب تعلل بددن * ان همي في سماع واذن (3)
وقيل السبب في ذلك: ان قوما من المنافقين تكلموا بما ارادوه، وقالوا ان بلغه اعتذرنا اليه، فانه اذن يسمع ما يقال له، فقال الله تعالى " قل " يا محمد " اذن خير لكم " لااذن شر، وليس بمعنى أفعل. وانما معناه أذن صلاح ولو رفع خيرا لكان معناه أصلح، وهي قراءة الحسن والاعشى والبرجمي. وانما قال بعد ذلك " يؤمن بالله " لان معناه انه لايمانه بالله يعمل بالحق فيما يسمع من غيره. وقيل يصغي إلى الوحي من قبل الله.
وقوله " ويؤمن للمؤمنين " قال ابن عباس: معناه ويصدق المؤمنين. وقيل دخلت اللام كما دخلت في قوله " درف لكم " (4) وتقديره ردفكم، واللام مقحمة ومثله " لربهم يرهبون " (5) ومعناه يرهبون ربهم. واللام مقحمة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة 96 العلق 2. (2) سورة 43 الزخرف آية 88، 85 (3) اللسان (اذن) وامالي المرتضى 1 / 33 وتفسير الطبرى 14 / 325 (4) سورة 27 النمل آية 72 (5) سورة 7 الاعراف آية 153.
(*)
===============
(248)
وقال قوم: دخلت اللام للفرق بين إيمان التصديق وايمان الامان.
وقوله " ورحمة للذين آمنوا منكم " يعني ان النبي (صلى الله عليه وآله) رحمة للمؤمنين منكم وانما خص المؤمنين بالذكر وان كان رحمة للكفار أيضا من حيث انتفع المؤمنون به دون غيرهم من الكفار. ثم قال " والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم " اي مؤلم موجع جزاء لهم على أذاهم للنبي (صلى الله عليه وآله).
وقال ابن اسحاق: نزلت هذه الاية في نبتل بن الحارث كان يقول: إني لانال من محمد ما شئت، ثم آتيه اعتذر اليه وأحلف له فيقبل، فجاء جبرائيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: انه يجلس اليك رجل ادلم ثائر شعر الرأس اسفع الخدين احمر العينين كأنهما قدر ان من صفر كبده اغلظ من كبد الجمل ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره وكان ذلك صفة نبتل بن الحارث من منافقي الانصار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من اختار أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث، ذكره ابن اسحاق.
قوله تعالى:
يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين (63) آية.
اخبر الله تعالى أن هؤلاء المنافقين يقسمون بالله أنهم على دينكم وأن الذي بلغكم عنهم باطل " ليرضوكم " ومعناه يريدون بذلك رضاكم لتحمدوهم عليه. ثم قال تعالى " والله ورسوله أحق أن يرضوه " أي الله ورسوله أولى بأن يطلبوا مرضاتهما " ان كانوا مؤمنين " مصدقين بالله مقرين بنبوة نبيه، والفرق بين الاحق والاصلح ان الاحق قد يكون موضعه غير الفعل كقولك: زيد أحق بالمال، والاصلح لا يقع هذا الموقع لانه من صفات الفعل وتقول: الله أحق أن يطاع ولا تقول اصلح، وقيل في رد ضمير الواحد في قوله " والله ورسوله أحق أن يرضوه " قولان:
===============
(249)
احدهما أنه لما كان رضى رسول الله رضى الله ترك ذكره، لانه دال عليه والتقدير والله احق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه كما قال الشاعر:
نحن بما عندك وانت بما * عندك ارض والرأي مختلف (1)
والثاني - أنه لايذكر على طريق المجمل مع غيره تعظيما له بافراد الذكر المعظم بما لايجوز إلا له، ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله) لمن سمعه يقول: من أطاع الله ورسول هدى (ومن يعصمه فقد غوى) وانما أراد ما قلناه.
قوله تعالى:
ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (64) آية.
يقول الله تعالى على وجه التهديد والتقريع والتوبيخ لهؤلاء المنافقين " ألم يعلموا " أي أو ما علموا " انه من يحادد الله " اي يتجاوز حدود الله التي أمر المكلفين ان لا يتجاوزوها، فالمحادة مجاوزة الحد بالمشاقة ومثله المباعدة. والمعنى مصيرهم في حد غير حد أولياء الله. فالمخالفة والمحادة والمجانبة والمعاداة نظائر في اللغة.
وانما قال: لمن لايعلم " ألم يعلموا " لاحد أمرين: أحدهما - على وجه الاستبطاء لهم والتخلف عن علمه. والاخر - انه يجب ان تعلموا الان هذه الاخبار. وقال الجبائي: معناه ألم يخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك.
وقوله " فان لم نار جهنم خالدا فيها " يحتمل أن يكون على التكرير، لان الاولى للتأكيد مع طول الكلام، وتقديره فله نار جهنم أو فان له نار جهنم.
قال الزجاج: ولو قرئ (فان) بكسر الهمزة على وجه الاستئناف كان جائزا، غير أنه لم يقرأ به احد. وقوله " ذلك الخزي العظيم " معناه ذلك الذي ذكرناه
ـــــــــــــــــــــــ
(1) انظر 1 / 172. و 5 / 211
(*)
===============
(250)
من أن له نار جهنم هو الخزي يعني الهوان بما يستحى من مثله. تقول: خزي خزيا اذا انقمع للهوان فأخزاه إخزاء وخزيا.
قوله تعالى:
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون (65) آية.
قيل في معنى يحذر المنافقون قولان:
احدهما - قال الحسن ومجاهد واختاره الجبائي: ان معناه الخبر عنهم بأنهم كانوا يحذرون ان تنزل فيهم آية يفتضحون بها لانهم كانوا شاكين، حتى قال بعضهم: لوددت ان اضرب كل واحد منكم مئة ولاينزل فيكم قرآن، ذكره ابوجعفر وقال: نزلت في رجل يقال له مخشى بن الحمير الاشجعي.
الثاني - قال الزجاج: انه تهديد ومعناه ليحذروا، وحسن ذلك لان موضوع الكلام على التهديد. والحذر اعداد ما يتقي الضرر، ومثله الخوف والفزع تقول:
حذرت حذرا وتحذر تحذرا وحاذره محاذرة وحذارا وحذره تحذيرا. والمنافق الذي يظهر من الايمان خلاف ما يبطنه من الكفر واشتق ذلك من نافقاء اليربوع لانه يخفي بابا ويظهر بابا ليكون إذا أتي من احدهما خرج من الاخر.
وقوله " تنبئهم بما في قلوبهم " أي تخبرهم، غير أن (تنبئهم) يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بمنزلة أعلمت. وقوله " قل استهزؤا " أمر للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يقول لهؤلاء المنافقين (استهزؤا) اي اطلبوا الهزء. والهزء إظهار شئ وابطان خلافه للتهزئ به، وهو بصورة الامر والمراد به التهديد. وقوله " ان الله مخرج ما تحذرون " إخبار من الله تعالى أن الذي تخافون من ظهوره فان الله يظهره بأن يبين لنبيه (صلى الله عليه وآله) باطن حالهم ونفاقهم.
===============
(251)
قوله تعالى:
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن (66) آية.
خاطب الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) فأقسم، لان اللام لام القسم بأنك يا محمد (صلى الله عليه وآله) إن سألت هؤلاء المنافقين عما تكلموا به " ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " قال الحسن وقتادة: هؤلاء قالوا في غزاة تبوك: أيرجو هذا الرجل ان يفتح قصور الشام وحصونها - هيهات هيهات - فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله) على ما قالوه، فلما سألهم النبي عن ذلك على وجه التأنيب لهم والتقبيح لفعلهم: لم طعنتم في الدين بالباطل والزور؟ فأجابوا بما لا عذر فيه بل هو وبال عليهم: بأنا كنا نخوض ونلعب.
والخوض دخول القدم فيما كان مائعا من الماء أو الطين هذا في الاصل ثم كثر حتى صار في كل دخول منه أذى وتلويث. واللعب فعل ما فيه سقوط المنزلة لتحصيل اللذة من غير مراعاة الحكمة كفعل الصبي، وقالوا: ملاعب الاسنة اي انه لشجاعته يقدم على الاسنة كفعل الصبي الذي لايفكر في عاقبة امره. فقال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله): " قل " لهم " أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن " قال ابوعلي:
ذكر الاستهزاء هاهنا مجاز، لانه جعل الهزء بالمؤمنين وبآيات الله هزءا بالله.
والهزء ايهام امر على خلاف ما هو به استصغارا لصاحبه.
قوله تعالى:
لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين (67) آية.
قرأ عاصم " ان نعف " بنون مفتوحة وضم الفاء " نعذب " بالنون وكسر
===============
(252)
الذال " طائفة " بالنصب. الباقون بضم الياء في (يعف تعذب طائفة) بضم التاء ورفع طائفة. من قرأ بالنون فلقوله " ثم عفونا عنكم " (1). ومن قرأ بالتاء فالمعنى ذاك بعينه. وأما " تعذب " فمن قرأ بالتاء، فلان الفعل في اللفظ مسند إلى مؤنث.
قوله تعالى: " لاتعتذروا " صورته صورة النهي والمراد به التهديد. والمراد ان الله تعالى امر نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يقول لهؤلاء المنافقين الذين يحلفون بأنهم ما قالوه إلا لعبا وخوضا على وجه النهزئ بآيات الله " لاتعتذروا " بالمعاذير الكاذبة فانكم بما فعلتموه " قد كفرتم " بعد أن كنتم مظهرين الايمان الذي يحكم لمن اظهره بأنه مؤمن، ولايجوز ان يكونوا مؤمنين على الحقيقة مستحقين للثواب ثم يرتدون، لما قلناه في غير موضع: ان المؤمن لايجوز عندنا أن يكفر لانه كان يؤدي إلى اجتماع استحقاق الثواب الدائم والعقاب الدائم، لبطلان التحابط.
والاجماع يمنع من ذلك. والاعتذار اظهار مايقتضي العذر، والعذر مايسقط الذم عن الجناية.
وقوله " إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " اخبار منه تعالى أن ان عفا عن قوم منهم إذا تابوا يعذب طائفة أخرى لم يتوبوا. والعفو رفع التبعة عما وقع من المعصية وترك العقوبة عليها. ومثله الصفح والغفران. وقوله " بانهم كانوا مجرمين " معناه انه انما يعذب الطائفة التي يعذبها لكونها مجرمة مذنبة مرتكبة لما يستحق به العقاب. والاجرام الانقطاع عن الحق إلى الباطل. واصله الصرم تقول:
جرم الثمر يجرمه جرما وجراما إذا صرمه. والجرم مصرم الحق بالباطل وتجرمت السنة اذا تصرمت قال لبيد:
دمن تجرم بعد عهد انيسها * حجج خلون حلالها وحرامها (2)
قال الزجاج والفراء: نزلت الاية في ثلاثة نفر فهرئ إثنان وضحك واحد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 2 البقرة آية 52. (2) اللسان " جرم "
(*)
===============
(253)
قال ابن اسحاق: كان الذي عفا عنه مخشى بن حصين الاشجعي حليف بني سلمة لانه انكر منهم بعض ما سمع فجعلت طائفة للواحد ويراد بها نفس طائفة. وأما في اللغة فيقال للجماعة طائفة، لانهم يطيفون بالشئ. وقوله تعالى " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (1) يجوز أن يراد به واحد على ما فسرناه.
قوله تعالى:
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون (68) آية.
أخبر الله تعالى بأن المنافقين الذين يظهرون الايمان ويسرون الكفر بعضهم من بعض. والمعنى إن بعضهم يضاف إلى بعض بالاجتماع على النفاق، كما يقول القائل لغيره: أنت مني وأنا منك والمعنى إن أمرنا واحد لاينفصل. وقيل: بعضهم من بعض فيما يلحقهم من مقت الله وعذابه أي منازلهم متساوية في ذلك. ثم أخبر أن هؤلاء المنافقين يأمرون غيرهم بالمنكر الذي نهى الله عنه وتوعد عليه من الكفر بالله ونبيه وجحد آياته " وينهون عن المعروف " يعني الافعال الحسنة التي أمر الله بها وحث عليها، وانهم يقبضون ايديهم اي يمسكون أموالهم عن انفاقها عن طاعة الله ومرضاته وهو قول قتادة، وقال الحسن ومجاهد: أراد إمساكها عن الانفاق في سبيل الله.
وقال الجبائي: أراد به إمساك الايدي عن الجهاد في سبيله الله.
وقوله " نسوا الله فنسيهم " معناه تركوا امر الله يعني صار بمنزلة المنسي بالسهو عنه فجازاهم الله بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته، وذكر ذلك لازدواج الكلام. وقال قتادة: اي نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر. ثم اخبر
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 24 النور آية 2
(*)
===============
(254)
تعالى فقال " إن المنافقين " الذين يخادعون المؤمنين باظهار الايمان مع ابطانهم الكفر " هم الفاسقون " الخارجون عن الايمان بالله وبرسوله وعن طاعاته.
قوله تعالى:
وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم (69) آية.
اخبر الله تعالى بأنه " وعد المنافقين والمنافقات " الذين يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر " نار جهنم " يعاقبون فيها أبد الابدين وكذلك الكفار الذين يتولونهم، وهم على ظاهر الكفر. فلذلك أفردهم بالذكر ليعلم أن الفريقين معا يتناولهم الوعيد وتقول: وعدته بالشر وعيدا ووعدته بالخير وعدا وأوعدته إيعادا وتوعدته توعدا في الشر لابالخير، وواعدته مواعدة، وتواعدوا تواعدا وقوله " هي حسبهم " يعني نار جهنم والعقاب فيها كافيهم، ولعنهم الله يعني أبعدهم الله من جنته وخيره " ولهم " مع ذلك " عذاب مقيم " ومعناه دائم لايزول وقيل معنى " هي حسبهم " أي هي كفاية ذنوبهم، ووفاء لجزاء عملهم. واللعن الابعاد من الرحمة عقابا على المعصية، ولذلك لايقال لعن البهيمة كما لايدعا لها بالعفو قوله تعالى:
كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة وأولئك هم الخاسرون (70) آية.
===============
(255)
الكاف في قوله " كالذين " في موضع نصب، والتقدير احذروا أن يحل بكم من العذاب والعقوبة كالذين. ويحتمل أن يكون المراد وعدكم الله على الكفر كما وعد الذين من قبلكم، فشبه المنافقين في عدولهم عن أمر الله للاستمتاع بلذات الدنيا بمن قبلكم مع أن عاقبة امر الفريقين يؤل إلى العقاب مع أن الاولين كانوا أشد من هؤلاء قوة في ابدانهم وأطول اعمارا واكثر اموالا وأشد تمكينا فلم يقدروا ان يدفعوا عن نفوسهم ماحل بهم من عقاب الله.
وقوله " فاستمتعوا بخلاقهم " فالاستمتاع هو طلب المتعة وهي فعل ما فيه اللذة من المآكل والمشارب والمناكح. ومعناه انهم تمتعوا بنصيبهم من الخير العاجل وباعوا بذلك الخير الاجل فهلكوا بشر استبدال، كما تمتعتم ايها المنافقون بخلاقكم اي بنصيبكم والخلاق النصيب سواء كان عاجلا او آجلا.
وقوله " وخضتم كالذي خاضوا " خطاب للمنافقين بأن قيل لهم خضتم في الباطل والكذب على الله كالذين تابعوهم على ذلك من المنافقين وغيرهم من الكفار " حبطت اعمالهم " لانهم كانوا أو قعوها على خلاف ما أمرهم الله به فلم يستحقوا عليها ثوابا بل استحقوا عليها العقاب، فلذلك كانوا خاسرين أنفسهم ومهلكين لها بفعل المعاصي المؤدي إلى الهلاك وروي عن ابن عباس انه قال في هذه الاية:
ما أشبه الليلة بالبارحة كذلك من قبلكم هؤلاء بنوا اسرائيل لشبهنا بهم لا أعلم إلا انه قال (والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم حجر ضب لدخلتموه) ومثله روي عن ابي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن ابي سعيد الخدري مثله.
قوله تعالى:
ألم يأتهم نبا الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم
===============
(256)
بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (71)
آية في الكوفي والبصري وآيتان في المدنيين آخر الاولى " وثمود " قوله " ألم " صورته صورة الاستفهام، والمراد به التقرير والتحذير. وإنما حسن في الاستفهام أن يخرج إلى معنى التقرير لان الاحتجاج بما يلزمهم الاقرار به فقال الله تعالى مخاطبا لنبيه: ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين وصفهم خبر من كان قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وأصحاب مدين، على وجه الاحتجاج عليهم فيتعظوا، لان الامم الماضية والقرون السالفة إذا كان الله تعالى إنما أهلكها ودمرها لتكذيبهم رسلها كان تذلك واجبا في كل أمة يساوونهم في هذه العلة، فأقل احوالهم ألا يأمنوا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك. قال الرماني: والحكمة تقتضي إذا تساوى جماعة في استحقاق العقاب ان لايجوز العفو عن بعضهم دون بعض مع تساويهم في الاحوال. وانما يجوز العدول من قوم إلى قوم في الواحد منا للحاجة وهذا يتم على قول من يقول بالاصلح، ومن لايقول بذلك يقول: هو متفضل بذلك وله ان يتفضل على من يشاء ولا يلزم ان يفعل ذلك بكل مكلف.
وقوله " والمؤتفكات " قال الحسن وقتادة: هى ثلاث قريات لقوم لوط ولذلك جمعها بالالف والتاء. وقال في موضع آخر " والمؤتفكة أهوى " (1) فجاء به على طريق الجنس. قال الزجاج: معناه ائتفكت بأهلها انقلبت. ومدين ابن ابراهيم اسم له. وقوله " اتتهم رسلهم بالبينات " معناه جاءت هؤلاء المذكورين الرسل من عند الله معها حجج ودلالات على صدقها فكذبوا بها فأهلكهم الله، وحذف لدلالة الكلام عليه. ثم قال " فما كان الله ليظلمهم " اي لم يكن الله ظالما لهم بهذا الاهلاك " ولكن كانوا انفسهم يظلمون " بأن فعلوا من الكفر والمعاصي ما استحقوا به الهلاك.
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة 53 النجم آية 53
(*)
===============
(257)
وقيل ان الله تعالى اهلك قوم نوح بالغرق. واهلك عادا بالريح الصرصر العاتية. وأهلك ثمود بالرجفة والصاعقة. وأهلك قوم ابراهيم بالتشتيت وسلب الملك والنعمة. وأهلك اصحاب مدين بعذاب يوم الظلة. وأهلك قوم لوط بانقلاب الارض، كل ذلك عدل منه على من ظلم نفسه وعصى الله واستحق عقابه.
قوله تعالى:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (72) آية.
لما ذكر الله تعالى المنافقين ووصفهم بأن بعضهم من بعض بالاتفاق والتعاضد اقتضى ان يذكر المؤمنين. ويصفهم بضد أوصافهم، فقال تعالى " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " أي يلزم كل واحد منهم نصرة صاحبه وان يواليه وقال الرماني: العقل يدل على وجوب موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، لانها تجري مجرى استحقاق الحمد على طاعة الله والذم على معصيته. ولايجوز ان يرد الشرع بخلاف ذلك. وإذا قلنا: المؤمن ولي الله معناه أنه ينصر أولياء الله وينصر دينه، والله وليه بمعنى أولى بتدبيره وتصريفه وفرض طاعته عليه. ثم قال " يأمرون بالمعروف " يعني المؤمنين يأمرون بما اوجب الله فعله أو رغب فيه عقلا أو شرعا وهو المعروف " وينهون عن المنكر " وهو ما نهى الله تعالى عنه وزهد فيه إما عقلا أو شرعا.
ويضيفون إلى ذلك إقامة الصلاة اي إتيانها بكمالها والمداومة عليها ويخرجون زكاة اموالهم حسب ما أوجبها الله عليهم، ويضعونها حيث امر الله بوضعها فيه ويطيعون
===============
(258)
الله ورسوله اي يمتثلون امرهما ويتبعون ارادتها ورضاهما.
ثم قال " اولئك سيرحمهم الله " يعني المؤمنين الذين وصفهم ان ستنالهم في القيامة رحمته. ثم اخبر عن نفسه فقال " ان الله عزيز حكيم " فالعزيز معناه قادر لايغلبه احد من الكفار والمنافقين، حكيم في عقاب المنافقين واثابة المؤمنين. وغير ذلك من الافعال. وإنكار المنكر يجب بلا خلاف سمعا وعليه الاجماع وكذلك الامر بالمعروف واجب، فأما العقل فلا يدل على وجوبهما أصلا. لانه لو أوجب ذلك لوجب ان يمنع الله من المنكر، لكن يجب على المكلف اظهار كراهة المنكر الذي يقوم مقام النهي عنه. وفي الاية دلالة على ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الاعيان لان الله تعالى جعل ذلك من صفات المؤمنين، ولم يخص قوما دون قوم.
قوله تعالى:
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (73) آية.
اخبر الله تعالى بأنه كما وعد المنافقين بنار جهنم والخلود فيها كذلك " وعد الله المؤمنين " المعترفين بوحدانيته وصدق رسله وكذلك " المؤمنات جنات " يعني بساتين يجنها الشجر " تجري من تحتها الانهار " وتقديره تجري من تحت اشجارها الانهار. وقيل: أنهار الجنة أخاديد في الارض. فلذلك قال " من تحتها " وانهم فيها خالدون اي دائمون " ومساكن طيبة " معناه وعدهم مساكن طيبة. والمسكن الموضع الذي يسكن وروى الحسن انها قصور من اللؤلؤ والياقوت الاحمر والزبرجد الاخضر مبنية بهذه الجواهر. وقوله " في جنات عدن " فالعدن الاقامة والخلود:
===============
(259)
ومنه المعدن قال الاعشى:
وان يستضافوا إلى حكمه * يضافوا إلى راجح قد عدن (1)
وروي أنها جنة لايسكنها إلا النبيون والشهداء والصالحون.
وقوله " ورضوان من الله اكبر " قال الرماني: الرضوان معنى يدعو إلى الحمد بالاجابة يستحق مثله بالطاعة فيما تقتضيه الحكمة. وانما رفع (رضوان)
لانه استأنفه للتعظيم كما يقول القائل: اعطيتك ووصلتك ثم يقول: وحسن رأي فيك ورضاي عنك خير من جميع ذلك. وقوله " ذلك هو الفوز العظيم " معناه هذا النعيم الذي وصفه هو النجاح العظيم الذي لاشئ فوقه ولااعظم منه.
قوله تعالى:
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأويهم جهنم وبئس المصير (74) آية.
امر الله تعالى في هذه الاية نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يجاهد الكفار والمنافقين. والجهاد هو ممارسة الامر الشاق والجهاد يجب باليد واللسان والقلب، فمن امكنه الجميع وجب عليه جميعه. ومن لم يقدر باليد فباللسان فان لم يقدر فبالقلب. واختلفوا في كيفية جهاد الكفار والمنافقين. فقال ابن عباس: جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين باللسان والوعظ والتخويف، وهو قول الجبائي. وقال الحسن وقتادة:
جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين باقامة الحدود عليهم. وكانوا اكثر من يصيب الحدود. وقال ابن مسعود: هو بالانواع الثلاثة حسب الامكان فان لم يقدر فليكفهر في وجوههم وهو الاعم.
ـــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه: 16 وروايته (هادن قد رزن) بدل " راجح قد عدن " وتفسير الطبري 14 / 350، واللسان " وزن " ومجاز القرآن 1 / 264
(*)
===============
(260)
ووري في قراءة اهل البيت (عليهم السلام) " جاهد الكفار بالمنافقين ".
وقوله " واغلظ عليهم " امر منه تعالى لنبيه ان يقوي قلبه على احلال الالم بهم واسماعهم الكلام الغليظ الشديد ولا يرق عليهم. ثم قال " ومأواهم جهنم " اي منزلهم جهنم ومقامهم. والمأوى منزل مقام، لامنزل ارتحال. ومثله المثوى والمسكن وقوله " وبئس المصير " اخبار منه تعالى ان مرجع هؤلاء ومآلهم بئس المرجع والمآل.
قوله تعالى:
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغنيهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذبا أليما في الدنيا والاخرة وما لهم في الارض من ولي ولا نصير (75) آية.
اختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الاية، فقال عروة وابن اسحاق ومجاهد:
إنها نزلت في الخلاس بن سويد بن الصامت بأنه قال: فان كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير، ثم حلف بالله أنه ما قال. وقال قتادة: نزلت في عبدالله بن ابي بن سلول حين قال " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل " (1)
وقال الحسن: كان ذلك في جماعة من المنافقين. وقال الواقدي والزجاج: نزلت في اهل العقبة فانهم ائتمروا أن يغتالوا رسول الله في عقبة في الطريق عند مرجعهم من تبوك. وأرادوا ان يقطعوا اتساع راحلته، واطلعه الله على ذلك. وكان ذلك
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 63 المنافقون آية 8
(*)
===============
من معجزاته (صلى الله عليه وآله) لانه لايمكن معرفة مثل ذلك إلا بوحي من الله تعالى، فسار رسول الله في العقبة وحده وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي وكانوا اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه. وعرفهم واحدا واحدا عمار بن ياسر وحذيفة، وكان احدهما يقود ناقة رسول الله والاخر يسوقها، والحديث مشروح في كتاب الواقدي. وقال ابوجعفر (عليه السلام) كانوا ثمانية من قريش واربعة من العرب وقوله " وهموا بما لم ينالوا " قيل فيه ثلاثة اقوال:
احدهما - قال مجاهد: هم المنافقون بما لم يبلغوه من التنفير برسول الله.
الثاني - قال قتادة: هموا بما ذكر في قوله " ليخرجن الاعز منها الاذل " فلم يبلغوا ذلك.
والثالث - عن مجاهد أنهم هموا بقتل من أنكر عليهم ذلك. وقال بعضهم:
كان المنافقون قالوا: لو رجعنا وضعنا التاج على رأس عبدالله ابن ابي، فلما اوقفوا على ذلك حلفوا بأنهم ما قالوا ذلك ولا هموا به، فاخبر الله تعالى عن حالهم انهم يحلفون بالله ما قالوا، ثم اقسم تعالى بانهم قالوا ذلك، لان لام لقد لام القسم وانهم قالوا كلمة الكفر، وهي كل كلمة فيها جحد لنعم الله او بلغت منزلتها في العظم، وكانوا يطعنون في الاسلام والنبوة، وأخبر انهم هموا بما لم يبلغوه. والهم مقاربة الفعل بتغليبه في النفس تقول: هم بالشئ يهم هما، ومنه قوله " ولقد همت به وهم بها لولا رأى " (1) وليس الهم من العزم في شئ إلا ان يبلغ نهاية العزم في النفس. والنيل لحوق الامر. ومنه قوله (نال السيف ونال ما اشتهى او قدر او تمنى) فهؤلاء قدروا في انفسهم من كيد الاسلام مالم يبلغوه.
وقوله " وما نقموا إلا ان اغناهم الله ورسوله من فضله " يعني ما فتح الله عليهم من الفتوح وأخذ الغنائم واستغنوا بعد أن كانوا محتاجين وقيل في معناه قولان: احدهما - انهم عملوا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر الغنى أن نقموا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 12 يوسف آية 24.
(*)
===============
(262)
قال الشاعر:
مانقموا من بني أمية إلا * انهم يحلمون ان غضبوا (1)
والاخر - انهم بطروا النعمة بالغنى فنقموا بطرا واشرافهم لايفلحون بهذه الحال ولابعدها. والفضل الزيادة في الخير على مقدارما. والتفضل هو الزيادة من الخير الذي كان للقادر عليه ان يفعله وأن لايفعله.
ثم قال تعالى " فان يتوبوا " هؤلاء المنافقون ويرجعوا إلى الحق " يك خيرا لهم " في دينهم ودنياهم " فانهم ينالون بذلك رضى الله ورسوله والجنة " وإن يتولوا " اي يعرضوا عن الرجوع إلى الحق وسلوك الطريق الصحيح " يعذبهم الله عذابا أليما " اي مؤلما " في الدنيا " بما ينالهم من الحسرة والغم وسوء الذكر وانواع المصائب وفي " الاخرة " بعذاب النار " وما لهم في الارض " اي ليس لهم في الارض " من ولي " اي محب " ولا نصير " يعني من ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله. وقيل: إن خلاسا تاب بعد ذلك، وقال: استثنى الله تعالى لي التوبة فقبل الله توبته.
قوله تعالى:
ومنهم من عاهد الله لئن آتينا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (76) آية.
اخبر الله تعالى أن من جملة المنافقين الذين تقدم ذكرهم " من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن " أي منه " ولنكونن من الصالحين " بانفاقه في طاعة الله وصلة الرحم والمواساة وأن يعمل الاعمال الصالحة التي يكون بها صالحا.
وقيل: نزلت الاية في بلنعة بن حاطب كان محتاجا فنذر لئن استغنى ليصدقن فأصاب اثني عشر الف درهم، فلم يتصدق، ولم يكن من الصالحين. هكذا قال
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر تخريجه في 3 / 559
(*)
===============
(263)
الواقدي. وقال ابن اسحاق: هما بلتعة ومقنب بن قشير. وقيل: سبب ذلك أنه قتل مولى له فأخذ ديته اثني عشر ألف درهم: أعطاه النبي (صلى الله عليه وآله).
فان قيل: كيف يصح أن يعاهد الله من لايعرفه؟ قلنا: إذا وصفه بأخص صفاته جاز منه أن يصرف عهده اليه وإن جاز أن يكون غير عارف وقال الجبائي: كانوا عارفين، وانما كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله).
والمعاهدة هي أن يقول علي عهد الله لافعلن كذا، فانه يكون قد عقد على نفسه وجوب ماذكره، لان الله تعالى حكم بذلك وقدر وجوبه عليه في الشرع.
والاية دالة على وجوب الوفاء بالعهد. واللام الاولى من قوله " لئن آتانا من فضله " والثانية من قوله " لنصدقن " جميعهما لام القسم غير أن الاولى وقعت موقع الجواب، والتقدير علينا عهد الله لنصدقن إن آتانا من فضله. ولا يجوز أن تكون اللام الاولى لام الابتداء، لان لام الابتداء لاتدخل إلا على الاسم المبتدأ، لانها تقطع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها إلا في باب (إن) فانها زحلقت إلى الخبر لئلا يجتمع تأكيدان، ويجوز ان يقو ل: ان رزقني الله مالا صلحت بفعل الصلاة والصوم لان ذلك واجب عليه آتاه ما لا أولم يؤته.
قوله تعالى:
فلما آتيهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (77) آية أخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين الذين عاهدوا الله، وقالوا متى آتانا الله من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين أنه آتاهم ما اقترحوه ورزقهم ما تمنوه من الاموال، وانهم لما آتاهم ذلك شحت نفوسهم عن الوفاء بالعهد.
ومعنى (لما) معنى (اذا) إلا أن (لما) الغالب عليها الجزاء، وهي إسم، لانها تقع في جواب (متى) على تقدير الوقت كقولك: متى كان هذا، فيقول السامع: لما كان ذلك. و (لما) و (لو) لايكونان إلا لما مضى بخلاف (إن)
===============
(264)
و (إذا) فانهما لما يستقبل الا أن (لو) على تقدير نفي وجوب الثاني لانتفاء الاول و (لما) يدل على وقوع الثاني لوقوع الاول.
والبخل منع النائل لشدة الاعطاء، ثم صار في اسماء الذي منع الواجب، لان من منع الزكاة فهو بخيل. قال الرماني: ولايجوز أن يكون البخل منع الواجب بمشقة الاعطاء قال الزهير:
ان البخيل ملوم حيث كان ول * كن الجواد على علاته هرم (1)
قال: لانه يلزم على ذلك ان يكون الجود هو بذل الواجب من غير مشقة.
وإنما قال زهير ما قاله لان البخل صفة نقص. قال الرماني: ومن منع ما لا يضره بذله ولاينفعه منعه مما تدعو اليه الحكمة فهو بخيل، لانه لايقع المنع على هذه الصفة إلا لشدة في النفس، وإن لم يرجع إلى ضرر، وقال عبدالله بن عمر والحسن ومحمد ابن كعب القرطي: يعرف المنافق بثلاث خصال: إذا حدث كذب، وإذا وعد خلف وإذا ائتمن خان. وخالفهم عطاء ابن ابي رياح في ذلك وقال: إن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما قال ذلك في قوم من المنافقين. وروي ان الحسن رجع إلى قول عطاء. وقوله " وتولوا " اي أعرضوا عما عاهدوا الله عليه. وقوله " وهم معرضون " اخبار منه بأنهم معرضون عن الحق بالكلية.
قوله تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (78) آية.
بين الله تعالى أنه أعقب هؤلاء المنافقين ومعناه أورثهم وأداهم إلى نفاق في
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (هرم).
(*)
===============
(265)
قلوبهم بخلهم بما آتاهم الله من فضله مع الاعراض عن أمر الله، وهو قول الحسن وقال مجاهد: معناه أعقبهم ذلك بحرمان التوبة كما حرم ابليس، وجعل ذلك إمارة ودلالة على أنهم لايتوبون أبدا لاحد شيئين: من قال: اعقبهم بخلهم رد الضمير اليه. والمعنى يلقون جزاء بخلهم. ومن ذهب إلى ان الله أعقبهم رد الضمير إلى اسم الله.
وقوله " بما أخلفوا الله ما وعدوه " فالاخلاف نقض ما تقدم به العقد من وعد أو عزم وأصله الخلاف، لانه فعل خلاف ما تقدم به العقد. والوعد متى كان بأمر واجب أو ندب أو أمر حسن قبح الاخلاف، وان كان الوعد وعدا بقبيح كان إخلافه حسنا. وقوله " وبما كانوا يكذبون " يقوي قول من قال: إن الضمير عائد إلى الله لانه بين انه فعل ذلك جزاء على اخلافهم وعده وجزاء على ما كانوا يكذبون في اخبارهم عليه.
قوله تعالى:
ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجويهم وأن الله علام الغيوب (79) آية.
الالف في قوله " ألم يعلموا " الف استفهام والمراد به الانكار. يقول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) " ألم يعلموا " هؤلاء المنافقون " أن الله يعلم سرهم " يعني ما يخفون في أنفسهم وما يتناجون بينهم، والمعنى انه يجب عليهم أنت يعلموا ذلك. تقول:
اسره إسرارا، واستسر استسرارا، وساره مسارة وسرارا، وتسارا إسرارا، والاسرار اخفاء المعنى في النفس والنجوى رفع الحديث باظهار المعنى لمن يسلم عنده من اخراجه إلى عدو فيه لانه من النجاة تقول: ناجاه مناجاة، وتناجوا تناجيا فكأن هؤلاء المنافقون يسرون في أنفسهم الكفر ويتناجون به بينهم. وقيل: السر والنجوى
===============
(266)
واحد مكرر باختلاف اللفظين كما يقول القائل: آمرك بالوفاء وأنهاك عن الغدر والمعنى واحد مكرر باختلاف اللفظين. وقوله " ان الله علام الغيوب " معناه يعلم كل ما غاب عن العباد مما غاب عن احساسهم او ادراكهم من موجود أو معدوم من كل وجه يصح ان يعلم منه، لانها صفة مبالغة واقتضى ذكر العمل - هاهنا - حال المنافقين في كفرهم سرا وإظهارهم الايمان جهرا، فقيل لهم ان المجازي لكم يعلم سركم ونجواكم، كما قال: ذو الرمة في معنى واحد بلفظين مختلفين:
لمياء في شفتيها حوة لعس * وفي اللثات وفي انيابها شنب
فاللعس حوة وكرر لاختلاف اللفظين، ويمكن ان يكون لما ذكر الحوة خشي أن يتوهم السامع سوادا قبيحا فبين انه لعس لانه يستحسن ذلك.
قوله تعالى:
ألذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (80) آية.
قيل: نزلت هذه الاية في علية بن زيد الحارثي وزيد بن اسلم العجلاني فجاء عليه بصاع نم تمر فنثره في الصدقة، وقال: يا رسول الله عملت في النخل بصاعين فصاعا تركته لاهلي وصاعا اقرضته ربي، وجاء زيد بن أسلم بصدقة فقال: معتب ابن قشير وعبدالله بن نهيك إنما أراد الرياء. وقال قتادة وغيره من المفسرين:
إن هذه الاية نزلت حجاب بن عثمان، لانه أتى النبي (صلى الله عليه وآله) بصاع من تمر وقال: يا رسول الله إني عملت في النخل بصاعين من تمر فتركت للعيال صاعا واهديت لله صاعا. وجاء عبدالرحمن بن عوف بأربعة آلاف دينار وهي شطر ماله للصدقة، فقال المنافقون: إن عبدالرحمن لعظيم الرياء، وقالوا في الاخر: إن
===============
(267)
الله لغني عما أتى به، فأنزل الله تعالى الاية فقال " الذين يلمزون المطوعين " أي ينسبونهم إلى النقص في النفس يقولون: لمزه يلمزه لمزا إذا انتقصه وعابه والمطوعين على وزن (المتفعلين) وتقديره المتطوعين. فأدغمت التاء في الطاء، ومعناه المتقلين من طاعة الله بما ليس بواجب عليهم، لان الخير قد يكون واجبا وقد يكون ندبا وقد يكون مباحا ولايستحق المدح الا على الواجب والندب دون المباح، وقوله " والذين لايجدون الاجهدهم " والجهد هو الحمل على النفس بما يشق تقول:
جهده يجهده جهدا وجهدا - بالضم والفتح - كالوجد والوجد والضعف والضعف. وقال الشعبي: الجهد في العمل والجهد في القوت. وقوله " فيسخرون منهم " يعني المنافقين يهزؤون بالمطوعين " سخر الله منهم " اي يجازيهم على سخريتهم بأنواع العذاب " ولهم عذاب اليم " اي مؤلم موجع. ولما كان ضرر سخريتهم عائدا عليهم جاز ان يقال " سخر الله منهم " لاانه يفعل السخرية.
قوله تعالى:
إستغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لايهدي القوم الفاسقين (81) آية.
قوله " استغفر لهم " صيغته صيغة الامر والمراد به المبالغة في الاياس من المغفرة انه لو طلبها طلبة المأمور بها أو تركها ترك المنهي عنها لكان ذلك سواء في ان الله لايفعلها، كما قال في موضع آخر " سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم " (1). والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى بالدعاء بها والمغفرة ستر المعصية برفع العقوبة عليها. وتعليق الاستغفار بالسبعين مرة، والمراد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 63 المنافقون آية 6
(*)
===============
(268)
به المبالغة لا العدد المخصوص، ويجري ذلك مجرى قول القائل: لو قلت ألف مرة ما قبلت، والمراد بذلك إني لا أقبل منك، وكذلك الاية المراد بها نفي الغفران جملة. وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال (والله لازيدن على السبعين) خبر واحد لايلتفت اليه، ولان في ذلك ان النبي (صلى الله عليه وآله) استغفر للكفار وذلك لايجوز بالاجماع.
وقد روي أنه قال (لو علمت اني لوزدت على السبعين مرة لغفر لفعلت).
وكان سبب نزول هذه الاية ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان اذا مات ميت صلى عليه واستغفر له، ولم يكن بمنزلة المنافقين بعد، فأعلمه الله تعالى ان في جملة من تصلي عليهم من هو منافق وإن استغفاره له لاينفع قل ذلك ام كثر، ثم نهى الله نبيه أن يصلي على أحد منهم وأن يستغفر له حين عرفه اياهم بقوله " ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره " (1) الاية. وقوله " ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله " اشارة منه تعالى إلى ان ارتفاع الغفران انما كان لانهم كفروا بالله وجحدوا نعمه، وكفروا برسوله فجحدوا نبوته " والله لايهدي القوم الفاسقين " فمعناه انه لايهديهم إلى طريق الجنة والثواب. فأما الهداية إلى الايمان بالاقرار بالتوحيد لله والاعتراف بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله) فقد هدى الله اليه كل مكلف متمكن من النظر والاستدلال، بأن نصب له على ذلك الدلالة وأوضحها له.
قوله تعالى:
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لاتنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (82) آية.
اخبر الله تعالى بأن جماعة من المنافقين الذين خلفهم النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يخرجهم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 9 التوبة آية 85.
(*)
===============
(269)
معه إلى تبوك لما استأذنوه في التأخر فأذن لهم، فرحوا بقعودهم خلاف رسول الله.
والمخلف المتروك خلف من مضى، ومثله المؤخر عمن مضى تقول: خلف تخليفا وتخلف تخلفا. والفرح ضد الغم، والغم ضيق الصدر بفوت المشتهى، وعند البصريين من المعتزلة هو اعتقاد وصول الضرر اليه في المستقبل او دفع الضرر المظنون والمعلوم عنه. ومعنى خلاف رسول الله قال أبوعبيدة: بعد رسول الله وأنشد:
عقب الربيع خلافهم فكأنما * بسط الشواطب بينهن حصيرا (1)
وقال غيره: معناه المصدر من قولك خالف خلافا وهو نصب على المصدر.
وقوله " وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " اخبار منه تعالى ان هؤلاء المخلفين فرحوا بالتأخر وكرهوا إنفاق أموالهم والجهاد بنفوسهم في سبيل الله، فالجهاد بالمال هو تحمل لمشقة الانفاق في وجوه البر، والجهاد بالنفس هو تعريضها لما يشق عليها اتباعا لامر الله. وقوله " لاتنفروا في الحر " معناه انهم قالوا لنظرائهم ومن يقبل منهم: لاتخرجوا في الوقت الحار، فقال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) قل لهم " نار جهنم اشد حرا لو كانوا يفقهون " لانهم توقوا بالقعود عن الخروج حر الشمس، فخالفوا بذلك أمر الله وأمر رسوله، واستحقوا حر نار جهنم، وكفى بهذا الاختيار جهلا ممن اختاره. وقوله " لو كانوا يفقهون " معناه لو كانوا يفقهون وعظ الله وتحذيره وتزهيده في معاصيه.
قوله تعالى:
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (83) آية.
ـــــــــــــــــــــ
(1) قائله الحارث بن خالد المخزومي. الاغاني 3 / 333 وروايته (الرذاذ)
بدل (الربيع) واللسان (عقب)، (خلف).
(*)
===============
(270)
قوله " فليضحكوا " صيغته صيغة الامر والمراد به التهديد، وإنما قلنا: إنه بصورة الامر، لان اللام ساكنة ولو كانت لام الاضافة لكانت مكسورة لانها تؤذن بعملها للجزاء المناسب لها، فلذلك الزمت الحركة. والمراد بالاية الاخبار عن حال هؤلاء المنافقين وأنها في وجه الضحك كحال المأمور منه فيما يؤل اليه من خير أو شر على صاحبه، فلذلك دخله معنى التهدد، والضحك حال تفتح وانبساط يظهر في وجه الانسان عن تعجب مع فرح، والضحاك هو الانسان خاصة. والبكاء حال يظهر عن غم في الوجه مع جري الدموع على الخد، وهو ضد الضحك تقول:
بكا بكاءا، وأبكاه الله ابكاءا، وبكاه تبكية وتباكى تباكيا واستبكى استبكاءا ومعنى الاية أن يقال لهؤلاء المنافقين: فاضحكوا بقليل تمتعكم في الدنيا فانكم ستبكون كثيرا يوم القيامة إذا حصلتم في العقاب الدائم " جزاء بما كانوا يكسبون " نصب (جزاء) على المصدر أي تجزون على معاصيكم، ذلك جزاء على أفعالكم التي اكتسبتموها.
قوله تعالى:
فان رجعك الله إلى طائفة منهم فاستاذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين (84) آية.
قال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) " فان رجعك الله " يعني ان ردك الله " إلى طائفة منهم يعني جماعة. فالرجوع هو تصيير الشئ إلى المكان الذي كان فيه، تقول:
رجعته رجعا كقولك رددته ردا، وقد يكون التصيير إلى الحال التي كان عليها كرجوع الماء إلى حال البرودة. والطائفة الجماعة التي من شأنها أن تطوف ولهذا لايقال في جماعة الحجارة طائفة، وقد يسمى الواحد بأنه طائفة بمعنى نفس طائفة
===============
(271)
والاول اظهر. وقوله " فاستأذنوك للخروج " اي طلبوا منك الاذن في الخروج في غزوة أخرى، والاذن رفع التبعة في الفعل وأصله أن يكون بقول يسمع بالاذن.
والخروج الانتقال عن محيط، فقال الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) قل لهم حينئذ " لن تخرجوا معي أبدا " اي لا يقع منكم الخروج أبدا، فالابد الزمان المستقبل من غير انتهاء إلى حد، ونظير للماضي (قط) إلا انه مبني كما بني أمس لتضمنه حروف التعريف واعرب (الابد) كما اعرب (غد) لان المستقبل أحق بالتنكير.
وقوله " ولن تقاتلوا معي عدوا " اخبار بأنهم لايفعلون ذلك ابدا ولا يختارونه. وقوله " إنكم رضيتم بالقعود " أول مرة فاقعدوا مع الخالفين " معناه اخبار منه تعالى انهم رضوا بالقعود أول مرة فينبغي ان يقعدوا مع الخالفين. وقيل في معناه ثلاثة اقوال: احدها - قال الحسن وقتادة: هم النساء والصبيان. وقال ابن عباس: هم من تأخر من المنافقين. وقال الجبائي: هم كل من تأخر لمرض او نقص وقيل: معناه مع اهل الفساد مشتقا من قولم: خلف خلوفا اي تغير إلى الفساد.
وقيل: الخالف كل من تأخر عن الشاخص.
قوله تعالى:
ولاتصل على أحد منهم مات أبدا ولاتقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (85) آية.
هذا نهي من الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) عن أن يصلي على أحد من المنافقين او يقوم على قبره ومعناه أن يتولى دفنه او ينزل في قبر كما يقال: قام فلان بامر فلان.
وقال ابن عباس وابن عمر وقتادة وجابر: صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عبدالله ابن أبي بن ابي سلول والبسه قمصيه قبل أن ينهي عن الصلاة على المنافقين. وقال أنس: أراد أن يصلي عليه فأخذ جبرائيل بثوبه. وقال له " لاتصل على احد
===============
(272)
منهم مات أبدا ولاتقم على قبره ".
والصلاة على الاموات فرض على الكفايات إذا قام به قوم سقط عن الباقين.
واقل من يسقط به الفرض واحد وهي دعاء ليس فيها قراءة ولاتسبيح، وفيه خلاف.
وفيها خمس تكبيرات عندنا، وعند الفقهاء أربع تكبيرات، فالتكبيرة الاولى يشهد بعدها الشهادتين ويكبر بالثانية، ويصلي بعدها على النبي (صلى الله عليه وآله) ويكبر الثالثة ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويكبر الرابعة ويدعوا للميت إن كان مؤمنا وعليه إن كان منافقا، ويكبر الخامسة ويقف يومي إلى يمينه حتى ترفع الجنازة، وليس فيها تسليم. وسمعت أبا الطيب الطبري وكان امام أصحاب الشافعي يقول: الخلاف بيننا وبينكم في عبارة، لان عندكم ينصرف بالخامسة. وعندنا بالتسليم، فجعلتم مكان التسليم التكبير. وذلك خلاف في عبارة.
وقوله " مات " موضع (مات) جر لانه صفة ل (أحد) لان تقديره على احد ميت منهم و " أبدا " منصوب متصل، و (أحد) هذه هي التي تكون في النفي دون الايجاب لانه يصح النهي عن الصلاة عليهم مجتمعين ومتفرقين، كما يصح في النفي ولايمكن في الايجاب لانه كنفي الضدين في حال واحدة، فانه لايصح اثباتها في حال أصلا. والقبر حفرة يدفن فيها الميت، تقول: قبرته اقبره قبرا فأنا قابر وهو مقبور وأقبرت فلانا اقبارا اذا جعلته بقبره.
وقوله " إنهم كفروا بالله ورسوله " والمعنى انما نهيتك عن الصلاة عليهم لانهم كفروا بالله ورسوله، فهي للتعليل، وانما كسرت لتحقيق الاخبار بأنهم على الصفة التي ذكرها وأنهم " ماتوا وهم فاسقون " اي خارجون عن طاعة الله إلى معصيته.
قوله تعالى:
ولاتعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم
===============
(273)
في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (86) آية قد مضى تفسير مثل هذه الاية فلا وجه لاعادته (1) وبينا أنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) والمراد به الامة، ينهاهم الله أن يعجبوا بما اعطى الله الكفار من الاموال والاولاد في الدنيا حتى يدعوهم ذلك إلى الصلاة عليهم، ولا ينبغي ان يغتروا بذلك فانما يريد الله ان يعذبهم بها في الدنيا، لانهم لاينفقونها في طاعة الله ولايخرجون حق الله منها. ويجوز أن يعذبهم بها في الدنيا بما يلحقهم فيها من المصائب والغموم وبما يأخذها المسلمون على وجه الغنيمة وبما يشق عليهم من إخرجها في الزكاة والانفاق في سبيل الله مع اعتقادهم بطلان الاسلام وتشدد ذلك عليهم ويكون عذابا لهم، وان نفوسهم تزهق اي تهلك بالموت " وهم كافرون " أي في حال كفرهم، فلذلك عذبهم الله في الاخرة. والاعجاب هو ايجاد السرور بما يتعجب منه من عظيم الاحسان، تقول: اعجبني امره اعجابا اذا سررت بموضع التعجب منه والزهق خروج النفس بمشقة شديدة ومنه قوله " فاذا هو زاهق " (2) أي هالك.
وقيل: في وجه حسن تكرار هذه الاية دفعتين قولان:
احدهما - قال ابوعلي: يجوز أن تكون الايتان في فريقين من المنافقين كما يقول القائل: لايعجبك حال زيد ولا يعجبك حال عمرو.
الثاني - أن يكون الغرض البيان عن قوة هذا المعنى فيما ينبغي ان يحذر منه مع أنه للتذكير في موطنين بعد احدهما عن الاخر، فيجب العناية به، وليس ذلك بقبيح، لان الواحد منا يحسن به أن يقوم في مقام بعد مقام، ويكرر الوعظ والزجر والتخويف ولايكون ذلك قبيحا.
ـــــــــــــــــــــ
(1) في تفسير آية 56 من هذه السورة (2) سورة 21 الانبياء آية 18
(*)
===============
(274)
قوله تعالى وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا ومع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين (87) آية.
بين الله تعالى في هذه الاية أنه إذا أنزل سورة من القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله) " أن آمنوا " ومعناه بأن آمنوا فحذفت الباء وجعل " أن آمنوا " في موضع نصب والتقدير بالايمان على وجه الامر ولايجوز الحذف مع صريح المصدر، وإنما جاز مع (أن) للزوم الصلة والحمل على التأويل في اللفظ كما حمل على المعنى.
وهذا خطاب للمؤمنين وأمر لهم بأن يدوموا على الايمان ويتمسكوا به في مستقبل الاوقات ويدخل فيه المنافق ويتناوله الامر بأن يستأنف الايمان ويترك النفاق ثم يجاهدا بعد ذلك بنفوسهم وأموالهم لانه لاينفعهم الجهاد مع النفاق.
وقوله " استأذنك أولوا الطول " معناه أن ذوي الغنى من المنافقين إذا انزلت السورة يأمرهم فيها بالايمان والجهاد يستأذنون النبي (صلى الله عليه وآله) في القعود والتأخر عنه. مع اعتقادهم بطلان الاسلام فيشد ذلك عليهم ويكون عذابا لهم - وهو قول الحسن وابن عباس - فانهما قالا: إنما لحق هؤلاء الذم لانهم أقوى على الجهاد.
وقوله " وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين " اخبار منه تعالى أن هؤلاء المنافقين من ذوي الغنى يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله): اتركنا نكن مع القاعدين من الصبيان والزمنى والمرضى الذين لا يقدرون على الخروج. قال الرماني: والسورة جملة من القرآن تشتمل على آيات قد احاطت بها كما يحبط سور القصر بما فيه، وسؤر الهر بقيته من الماء. والجهاد بالقتال دفعا عن النفس معلوم حسنه عقلا لانه مركوز في العقل وجوب التحرز من المضار، وليس في العقل ما يدل على انه يجب على الانسان ان يمنع غيره من الظلم وإنما يعلم ذلك سمعا.
===============
(275)
قوله تعالى:
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (88) آية.
اخبر الله تعالى بأن هؤلاء الذين قالوا " ذرنا نكن مع القاعدين " من المنافقين رضوا لنفوسهم أن يكونوا مع الخوالف وهم النساء والصبيان والمرضى والمقعدون.
قال الزجاج: الخوالف النساء لتخلفهن عن الجهاد، ويجوز أن يكون جمع خالفة في الرجال، والخالف والخالفة الذي هو غير نجيب، ولم يأت في (فاعل) (فواعل)
صفة إلا حرفين قولهم: فارس وفوارس. وهالك وهوالك.
وقوله " وطبع على قلوبهم " قيل في معناه قولان:
احدهما - انه تعالى يجعل نكته سوداء في قلب المنافق والكافر لتكون علامة للملائكة يعرفون بها أنه ممن لا يفلح أبدا.
الثاني - أن يكون المراد بذلك الذم لها بأنها كالمطبوع عليها فلا يدخلها صبر ولاينتفي عنها شر، لان حال الذم لها يقتضي صفات الذم، كما أن حال المدح يقتضي صفات المدح، كما قال جرير في قصيدة أولها:
أتصحوا أم فؤادك غير صاح * عشية هم صحبك بالرواح
ألستم خير من ركب المطايا * واندى العالمين بطون راح (1)
ولا تحمل الا على المدح دون الاستفهام. والطبع في اللغة هو الختم تقول:
طبعه وختمه بمعنى واحد.
قوله تعالى:
لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر تخريجه في 1 / 132، 400 وقد مر في 2 / 327
(*)
===============
(276)
وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون (89) آية.
لما أخبر الله تعالى عن حال المتأخرين عن النبي (صلى الله عليه وآله) والقاعدين عن الجهاد معه وأنهم منافقون قد طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. أخبر عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ومن معه من المؤمنين المطيعين لله ورسوله بأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بالاموال التي ينفقونها في مرضاة الله وعدة الجهاد ويقاتلون الكفار بنفوسهم. ثم اخبر عما أعدلهم من الجزاء على أفعالهم تلك وانقيادهم لله ورسوله، فقال " أولئك " يعني النبي والذين معه " لهم الخيرات " في الجنة ونعيمها وخيراتها، وانهم المفلحون ايضا الفائزون بكرامة الله. والخيرات هي المنافع التي تسكن النفس اليها وترتاح بها من النساء الحسان وغيره من نعيم الجنان واحده خيرة - هذا قول ابي عبيدة - وقال رجل من بني عدي:
ولقد طعنت مجامع الربلات * ربلات هند خيرة الملكات (1)
والفلاح النجاح بالوصول إلى البغية من نجح الحاجة وهو قضاؤها.
قوله تعالى:
أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم (90) آية.
بين الله تعالى انه " أعد " لهؤلاء المؤمنين والرسول " جنات " يعني بساتين " تجري من تحتها " ومعناه من تحت اشجارها " الانهار ". والاعداد جعل الشئ مهيئا لغيره تقول: اعد إعدادا واستعد له استعدادا وهو من العدد، لانه قد عد الله جميع ما يحتاج إلى تقديمه له من الامور ومثله الاتخاذ. والوجه في اعداد ذلك قبل مجئ وقت الجزاء أن تصوره لذلك ادعى إلى الطاعة وآكد في الحرص عليها.
ـــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 1 / 267 واللسان (خير) الربلة لحمة الفخذ
(*)
===============
(277)
ويحتمل أن يكون المراد أنه سيجعل لهم جنات تجري من تحتها الانهار غير أنه ترك للظاهر. وقوله " ذلك الفوز العظيم " اشارة إلى ما أعده لهم واخبار منه بأنه الفوز العظيم. والفوز النجاة من الهلكة إلى حال النعمة، وسميت المهلكة مفازة تفاؤلا بالنجاة وإنما وصفه بالعظيم لانه حاصل على جهة الدوام.
قوله تعالى:
وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم (91) آية.
قرأ يعقوب وقتيبة (المعذرون) بسكون العين وتخفيف الذال. الباقون بفتح العين وتشديد الذال، وجه قراءة من قرأ بالتخفيف أنه اراد جاءوا بعذر.
ومن قرأ بالتشديد احتمل أمرين: احدهما - انه اراد المعتذرون، كان لهم عذر أولم يكن، وإنما أدغم التاء في الذال لقرب مخرجهما مثل قوله " يذكرون ويدكرون " وغير ذلك، وأصله يتذكرون. الثاني - انه أراد المقصرون، والمعذر المقصر، والمعذر المبالغ الذي له عذر. وأما المعتذر فانه يقال لمن له عذر ولمن لا عذر له قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (1)
معناه جاء بعذر. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعذرون الذين يعتذرون فيوهمون أن لهم عذرا ولاعذر لهم وروي عن ابن عباس انه قرأ بالتخفيف، وقال:
لعن الله المعذرين أراد من يعتذر بغير عذر، وبالتخفيف من بلغ أقصى العذر.
ـــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه القصيدة: 21، وخزانة الادب 2 / 217 وتفسير الطبري 1 / 119 14 / 117 واللسان (عذر).
(*)
===============
(278)
وأصل التعذير التقصير مع طلب إقامة العذر، عذر في الامر تعذيرا اذا لم يبالغ فيه. والفرق بين الاعتذار والتعذير، أن الاعتذار قد يكون بعذر من غير تصحيح الامر، والتعذير تقصير يطلب معه اقامة العذر فيه. واختلفوا في معنى " وجاء المعذرون " على قولين: قال قتادة واختاره الجبائي: انه من عذر في الامر تعذيرا إذا قصر. وقال مجاهد: جاء أهل العذر جملة على معنى المعتذرين. وقال الحسن:
اعتذروا بالكذب. وقال قوم: إنما جاء بنو عفار، خفاف بن ايماء بن رخصة وقومه.
ومعنى الاية أن قوما من الاعراب جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يظهرون أنهم مؤمنون ولم يكن لهم في الايمان والجهاد نية فيعرفون نفوسهم عليه وغرضهم أن يأذن النبي (صلى الله عليه وآله) لهم في التخلف، فجعلوا عرضهم أنفسهم عليه عذرا في التخلف عن الجهاد وقوله " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " يعني المنافقين، لانهم الذين كذبوا الله ورسوله فيما كانوا يظهرون من الايمان، فقال الله " سيصيب الذين كفروا منهم عذاب اليم " اي ينالهم عذاب مؤلم موجع في الاخرة.
قوله تعالى:
ليس على الضعفاء ولاعلى المرضى ولا على الذين لايجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ماعلى المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (92) آية.
عذر الله تعالى في هذه الاية من ذكره ووصفه، فقال " ليس على الضعفاء " وهو جمع ضعيف، وهو الذي قوته ناقصة بالزمانة وغيرها " ولا على المرضى " وهو جمع مريض وهم الاعلاء " ولا على الذين لايجدون ما ينفقون " يعني من ليس معه نفقة الخروج وآلة السفر " حرج " يعني ضيق وجناح. وأصل الضيق الذي يتعذر معه الامر. وقوله " اذا نصحوا لله ورسوله " شرط تعالى في رفع الجناح والاسم عن
===============
(279)
المذكورين ان ينصحوا الله ورسوله بأن يخلصوا العمل من الغش، يقال: نصح في عمله نصحا، وناصح نفسه مناصحة، ومنه التوبة النصوح. ثم قال " ماعلى المحسنين من سبيل " أي ليس على من فعل الحسن الجميل طريق. والاحسان هو ايصال النفع إلى الغير لينتفع به مع تعريه من وجوه القبح. ويصح أن يحسن الانسان إلى نفسه ويحمل على ذلك، وهو إذا فعل الافعال الجميلة التي يستحق بها المدح والثواب.
وقوله " والله غفور رحيم " معناه ساتر على ذوي الاعذار بقبول العذر منهم " رحيم " بهم لا يلزمهم فوق طاقتهم. وقال قتادة: نزلت هذه الاية في عابد بن عمرو المزني وغيره. وقال ابن عباس: نزلت في عبدالله بن معقل المزني، فانه وجماعة معه جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا له: احملنا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاأجد ما احملكم عليه.
قوله تعالى ولاعلى الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تقيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ماينفقون (93) آية.
هذه الاية عطف على الاولى والتقدير ليس على الذين جاءوك - وسألوك حملهم حيث لم يكن لهم حملان، فقلت لهم يا محمد " لا أجد ما أحملكم عليه " اي ليس لي حملان فحينئذ " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع " يبكون " حزنا أن لايجدوا ما ينفقون " في هذا الطريق ويتابعونك - حرج وأثم ولا ضيق وإنما حذف لدلالة الكلام عليه. والحمل إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول حمله يحمله حملا إذا أعطاه ما يحمل عليه. وحمل على ظهره حملا، وحمله الامر تحميلا وتحمل تحملا، واحتمله احتمالا، وتحامل تحاملا. واللام في قوله " لتحملهم "
===============
(280)
لام الغرض، والمعنى جاؤك وأرادوا منك حملهم وتقول: وجدت في المال وجدا وجدة، ووجدت الضالة وجدانا ووجدت عليه - من الموجدة - وجدا. والفيض الجري عن امتلاء من حزن قلوبهم، والحزن ألم في القلب لفوت أمر مأخوذ من حزن الارض وهي الغليظة المسلك.
وقال مجاهد: نزلت هذه الاية في نفر من مزينة، وقال محمد بن كعب القرطي وابن اسحاق: نزلت في سبعة نفر من قبائل شتى. وقال الحسن: نزلت في ابي موسى واصحابه. وقال الواقدي: البكاؤن سبعة من فقراء الانصار، فلما بكوا حمل عثمان منهم رجلين، والعباس بن عبدالمطلب رجلين، ويامين بن كعب بن نسيل النصري من بني النضير ثلاثة، ومن جملة البكائين عبدالله بن معقل. وقال الواقدي:
كان الناس بتبوك ثلاثين الفا، وعشرة آلاف فارس.
قوله تعالى.
إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (94) آية.
بين الله تعالى في هذه الاية ان السبيل والطريق بالعقاب والحرج انما هو للذين يطلبون الاذن من رسول الله في المقام، وهم مع ذلك اغنياء يتمكنون من الجهاد في سبيل الله، الراضين بكونهم مع الخوالف من النساء والصبيان ومن لاحراك به. ثم قال: وطبع الله على قلوبهم بمعنى وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة فيميزون بينهم وبين غيرهم من المؤمنين، ويحتمل أن يكون المراد انه بمنزلة المطبوع في أن لايدخلها الايمان كما لو طبعوا على الكفر. ومثله قوله " صم بكم عمي " ومعناه لترك تلفظهم بالحق وعدولهم عن سماع الحق وانصرافهم عن النظر إلى الصحيح كأنهم صم بكم عمي، وهم لا يعلمون ذلك، ولايدرون إلى ما يصير أمرهم من