(1)
التبيان
في تفسير القرآن
تأليف
شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 ـ 460 هـ.
تحقيق وتصحيح:
أحمد حبيب قصير العاملي
المجلد السادس
دار إحياء التراث العربي
===============
الحمد لله الذي وفقنا لاتمام طبع المجلد الخامس من هذا السفر النفيس، وسهل لنا السبل لاتجاز المجلد السادس والشكر له وحده فانه المتفضل باصول النعم والحمدله على إلها منا الحمد، والشكر له على إلها منا الشكر، ولاحول لنا ولا قوة إلا به ومآبنا اليه واتكالنا عليه نسأله أن يلهمنا الصواب، ويوفقنا إلى ما فيه مرضاته، وصلى الله عليه نبينا محمد وآله الذي أرسله الله لهداية خلقه وتبليغ كتابه وتطبيق تشريعه في الارض وإظهار كلمة التقوى، وكلمة الله العليا، فقام باداء الرسالة خير قيام، وقد بلغ عن ربه ما أمر به على تمام وكمال، وقام بعده أهل العلم بما وجب عليهم، ومنهم المؤلف قدس الله روحه الطاهرة (راجع ترجمته في المقدمة بقلم اية الله الاغا بزرك الطهراني - مد ظله العالي -)
وبالختام ابتهل إلى الله - جل شأنه - أن يوفقنا وجميع المؤمنين لما فيه السداد انه أرحم الراحمين.
أحمد حبيب قصير العاملي
===============
(5)
قوله تعالى:
(وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون) (50) آية بلاخلاف.
قوله " اخاهم " نصب بتقدير (ارسلنا) كأنه قال: وأرسلنا إلى عاد أخاهم ودل عليه ماتقدم من قوله " ولقد ارسلنا نوحا " و (عاد) مصروف، لان المراد به الحي وقد يقصد به القبيلة، فلايصرف قال الشاعر:
لو شهد عاد في زمان عاد * لابتزها مبارك الجلاد (1)
وإنما سمى هودا أخا عاد مع انهم كفار، وهو نبي لان المراد بذلك الاخوة في النسب، لا في الدين، فحذف لدلالة الحال عليه.
وقوله " مالكم من إله غيره " حكاية ماقال هود (ع) لهم وأمرهم ان يوجهوا عبادتهم إلى الله ونفى ان يكون معبود يستحق العبادة غيره.
ومن ضم الراءحمله على الموضع، لان فيها معنى الاستثناء، فكأنه قال ما لكم من إله إلا هو، ولايجوز في هذا الاستثناء الحمل على اللفظ، لان الواجب لايدخله (من) الزائدة.
ومن جره حمله على اللفظ. وقال بعضهم تقديره مالكم إله غيره و (من)
زائدة، فلذلك رفع.
وقوله " ان انتم إلا مفترون " أخبار من الله تعالى: حكاية ماقال هود لهم بأنه ليس انتم إلا متخرصون. وإنما سماهم مفترين بعبادة غير الله، لانهم في حكم من قال هي جائزة لغير الله، فلذلك قال لهم ذلك. ومساكن عاد كانت بين بلاد الشام واليمن تعرف بالاحقاف، وكانوا أصحاب بساتين وزروع، ويسكنون
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان 3: 169 وروايته (لاقبرها) بدل (لابتزها)
===============
(6)
الرمال، دعاهم هود إلى الايمان بالله وتوجيه العبادة اليه، فكفروا به فأهلكهم الله بالريح، فذكر انها كانت تدخل في أفواههم فتخرج من استاههم فتقطعهم عضوا عضوا، نعوذبالله منها.
قوله تعالى:
(ياقوم لا أسئلكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون (51) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية عن هود أنه قال لقومه: لست أطلب منكم - على دعائي لكم إلى عبادة الله - أجرا، لانه ليس جزائي في ذلك إلا على الله الذي خلقني، فهلا تتكفرون - بعقولكم - في ذلك، فتعلمون أن ذلك محض النصيحة لانه لو كان لغيره لطلبت عليه الاجر.
اللغة.
والسؤال والطلب معناهما واحد، الا ان الطلب قد يكون في غير معنى السؤال، لان من ضاع منه شئ يطلبه، او طلب الماء اذا استعذبه أو طلب المعادن، لايقال فيه (سأل) ولاهو سائل. و (الاجر) هوالجزاء على العمل على عمل الخير بالخير. وقد يستحق الاجر على الشكر، كالاجر الذي يعطيه الله العبد على شكره لنعمه. و (الفطر) الشق عن أمر الله، كما ينفطر الورق عن الثمر، ومنه فطر الله الخلق. ومنه قوله " اذا السماء انفطرت " (1) و " هل ترى من فطور " (2) ومنه فطر الله الخلق لانه بمنزلة ماشق عنه فظهر. وقوله " افلا تعقلون " يقال لمن عدل عن الاستدلال: لايعقل، لانه بمنزلة من لايعقل،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الانفطار آية 1.
(2) سورة الملك آية 3.
===============
(7)
في انه لاينتفع بموجب العقل. وقيل ان المنى " أفلا تعقلون " أني اطلب بذلك نصحكم وصلاحكم فتقبلوه ولاتردوه.
قوله تعالى:
(وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولاتتولو مجرمين)
(52) آية بلاخلاف.
هذه الآية عطف على ماقبلها، وفيها حكاية ايضا عما قال هود لقومه، فانه ناداهم، وقال " ياقوم استغفروا ربكم " اي اطلبوا منه المغفرة " ثم توبوا اليه " وانما قدم الاستغفار قبل التوبة، لانه طلب المغفرة التي هي الغرض، ثم بين مابه يتوصل اليها هوالتوبة، والغرض مقدم في النفس، لان الحاجة اليه ثم السبب، لانه يحتاج اليه من اجله. وقيل ان (ثم) في الآية بمعنى الواو، كماقال " خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " (1) وكان جعل الزوج منها قبل جميع البشر.
وقبل ان المعنى استغفروا ربكم من الوجه الذي يصح، من الايمان به وتصديق رسله، والاقلاع عن معاصيه، والتوبة من القبائح " ثم توبوا اليه " بمعنى استديموا على ذلك وجددوا التوبة بعد التوبة، لئلا يكونوا مصرين. وكل ذلك جائز وظاهر هذه الآية يقتضي أن الله تعالى يجعل الخير بالتوبة ترغيبا فيها، لانه وعد متى تاب العاصي يرسل السماء عليهم مدرارا وهوالدرر الكثير المتتابع على قدر الحاجة اليه دون الزائد المفسد المضر، ونصبه على الحال.
وروي انهم كانوا أجدبوا، وانهم متى تابوا أخصبت بلادهم واثمرت اشجارهم وانزل عليهم الغيث الذي يعيشون به.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزمر آية 6.
===============
(8)
و (مفعال) صفة للمبالغة كقولهم: منجار، ومعطار، ومغزار. ومثله " ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب " (1) ولولا هذا الوعد لما وجب ذلك. واما الثواب على التوبة فمعلوم عقلا.
وقوله " ويزدكم قوة إلى قوتكم ولاتتولوا مجرمين " معنا ان الله تعالى اذا تبتم " يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى " القوة التي فعلها فيكم، ويجوز ان يريد بذلك تمكينهم من النعم التي ينتفعون بها ويلتذون باستعمالها، فان ذلك يسمى قوة.
وقوله " ولاتتولوا مجرمين " تمام الحكاية عنه انه قال لقومه لاتتولوا من عصا الله وترك عبادته.
قوله تعالى:
(قالوا ياهود ما جئتنا ببينة ومانحن بتاركي آلهتنا عن قولك ومانحن لك بمؤمنين) (53) آية بلاخلاف.
في هذه الآية حكاية عما قاله قوم هودله حين دعاهم إلى عبادة الله وترك ما سواه بأنهم قالوا له ياهود لم تجئنا ببينة يعني بحجة دالة على صدقك ولسنا نترك عبادة آلهتنا لاجل قولك ولسنا مصدقيك، ولا معترفين بعبادة إلهك الذي تدعي انك رسوله، فالبينة الحجة الواضحة التي تفصل بين الحق والباطل. والبيان فصل المعنى من غيره حتى يظهر للنفس متميزا مما سواه، ويجوز ان يكون حملهم على رفع البينة مع ظهورها أمور:
احدها - تقليد الآباء والرؤساء فدفعوها لذلك ومنها اتهامهم لمن جاء بها حيث لم ينظروا فيها.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الطلاق آية 2 - 3
===============
(9)
ومنها انهم دخلت عليهم الشبهة في صحتها.
ومنها اعتقادهم لاصول فاسدة تدعوهم إلى جحدها.
واما الداعي إلى عبادة الاوثان فيحتمل ان يكون احد اشياء:
احدها - انهم ظنوا انها تقربهم إلى الله زلفى اذا عبدوها.
الثاني - ان يكونوا على مذهب المشبهة فجعلوا وثنا على صورته فعبدوه.
الثالث - ان يكون القي اليهم ان عبادتها تحظي في دار الدنيا.
وقوله " عن قولك " معناه بقولك، وجعلت (عن) مكان الباء، لان معنى كل واحد من الحرفين يصح فيه. وقال الرماني: من عبد إلها في الجملة هو ممن عبد غير الله، لان كل واحد منها لم تخلص العبادة له ولا اوقعها على وجه يستحق به الثواب.
قوله تعالى:
(إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون) (54) آية.
في هذه الاية تمام الحكاية عن جواب قوم هود لهود، وهو انهم قالوا مع جحدهم لنبوته " ان نقول " لسنا نقول " إلا عتراك " أصابك من قولهم عراه يعروه إذا اصابه، قال الشاعر:
من القوم يعروه اجترام ومأثم (1)
وقيل " اعتراك " اصابك يحنون خبل عقلك، ذهب اليه ابن عباس، ومجاهد.
وانما جاز ان يقول " إلا اعتراك " مع انهم قالوا اشياء كثيرة غير هذا، لان المعنى
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائله ابوخراش: مجمع البيان 3: 169، وتفسير الطبري 12: 35 ومجاز القرآن 1: 290 وصدره: (تذكر داخلا عندنا وهو فاتك)
===============
(10)
مانقول في سبب الخلاف الا اعتراك، فحذف، لان الحال يقتضي ان كلامهم في الخلاف وسببه.
وقوله " قال اني اشهد الله " اخبار عما اجابهم به هود بأن قال: اشهد الله على ادائي اليكم ونصحي اياكم، وعلى ردكم ذلك علي وتكذيبكم اياي و " اشهدوا " انتم ايضا انني برئ مما تشركون، وانما اشهدهم - على ذلك وان لم يكونوا اهل شهادة من حيث كانوا كفارا فساقا - اقامة للحجة عليهم لالتقوم الحجة بهم، فقيل هذا القول اعذارا وانذارا، ويجوز ان يكون يريد بذلك اعلموا كما قال " شهد الله " بمعنى علم الله.
قوله تعالى (من دونه فكيدوني جميعا ثم لاتنظرون (55) آية بلاخلاف.
في هذه الآية دلالة على صحة النبوة، لانه قال لقوم من اهل البأس والنجدة " كيدوني جميعا ثم لاتنظرون " اي لا تمهلوني ثقة بأنهم لايصلون اليه بسوء، لما وعده الله (عزوجل) من العز والغلبة. ومثله قال نوح لقومه " فاجمعوا امركم وشركاء كم ثم لايكن امركم عليكم غمة ثم اقضوا الي ولاتنظرون " (1) وقال نبينا (صلى الله عليه وآله) " فان كان لكم كيد فكيدون " (2).
والفرق بين الانظار والتأخير ان الانظار امهال لينظر صاحبه في امره، والتأخير خلاف التقديم من غير تضمين.
وفي هذه الاية تضمين بما قبلها، لان التقدير اني برئ مما تشركون من دونه، وههنا يحسن الوقف ويحسن ايضا ان يقف على قوله " تشركون " كان ذلك وقفا كافيا، لانه يحسن الوقف عليه، ولايحسن استئناف مابعده. واما الوقف التام
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يونس آية 71.
(2) سورة المراسلات آية 39.
===============
(11)
فهو الذي يحسن الوقف عليه ويحسن استئناف مابعده نحو قوله " واياك نستعين " ثم يستأنف " اهدنا صراط المستقيم " (1).
والكيد طلب الغيظ بالسر وهو الاحتيال بالسر، تقول: كاده يكيده كيدا وكايده مكايدة مثل غايظه مغايظة.
قوله تعالى:
(إني توكلت على الله ربي وربكم مامن دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) (56) آية بلاخلاف.
هذه الآية فيها حكاية ماقال هود لقومه بعد ذكر ماقدم من القول فيه اني توكلت على الله. والتوكل تفويض الامر إلى الله تعالى على طاعته فيما امر به، لان ذلك من تسليم التدبير له، لانه افعاله كلها جارية على ماهو اصلح للخلق.
وقوله " مامن دابة الا هو آخذ بناصيتها " معناه ليس من حيوان يدب الا وهو تعالى آخذ بناصيته اي قادر على التصرف فيه، وتصريفه كيف شاء.
و (الناصية) قصاص الشعر ومنه قوله " فيؤخذوا بالنواصي والاقدام " (2) وفي جر الرجل بناصيته اذلال له. واصل الناصية الاتصال من قولهم: (مفازة بناصي مفازة) اذا كانت الاخيرة متصلة بالاولى قال الشاعر:
فئ تناصيها بلاد فئ (3)
وقال ذوالرمه:
ينصو الجماهين (4)
ونصوته انصوه نصوا اذا اتصلت به.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الفاتحة اية 5 - 6 (3) مجمع البيان 3: 169 (2) سورة الرحمن آية 41 (4) لم اجده
===============
(12)
وقال ابوالنجم:
ان يمس رأسي اشمط العناصي * كأنما فرقه مناصي (1)
اي يحاذب ليتصل به في مره، وانما قال اخذ بناصيتها مع انه مالك لجميعها لما في ذلك من تصوير حالها على عادة معروفة من امرها في اذلالها، فكل دابة في هذه المنزلة في الذلة لله تعالى. وقوله " ان ربي على صراط مستقيم " معناه أن أمر ربي في تدبير خلقه على صراط مستقيم لاعوج فيه ولااضطراب، فهو يجري على سبيل الصواب لايعدل إلى اليمين والشمال والفساد. والفائدة هنا ان ربي وإن كان قادرا على التصريف في كل شئ فانه لايفعل إلا العدل ولايشاء الا الخير.
قوله تعالى:
(فإن تولوا فقد أبلغتكم ماأرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولاتضرونه شيئا إن ربي على كل شئ حفيظ (57) آية بلاخلاف.
معنى الاية حكاية ماقال هود لقومه من قوله لهم ان توليتم، فليس ذلك لتقصير في ابلاغكم وانما هو لسوء اختياركم في الاعراض عن نصحكم، ويجوز ان يكون ذلك حكاية ماقال الله لهود انهم ان تولوا فقل لهم فقد ابلغتكم. وقال الزجاج: التقدير فان تتولوا فحذف احدى التائين، لدلالة الكلام عليها، فعلى هذا تقديره قل لهم فان تتولوا، ومثله قال الجبائي. والتولي الذهاب إلى خلاف جهة الشئ وهو الاعراض عنه. والمعنى هنا التولي عما دعوتكم اليه من عبادة الله، واتباع امره، والابلاغ إلحاق الشئ بنهايته، وذلك انه قد يلحق الحرف بالحرف على جهة الوصل، فلا يكون إبلاغا، لانه لم يستمر إلى نهايته.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (نصا) ومجمع البيان 3: 169.
===============
(13)
وقوله " ويستخلف ربي قوما غيركم " فالاستخلاف جعل الثاني بدل الاول يقوم مقامه فيما كان عليه الاول، فلما كانوا قد كلوفا، فلم يجيبوا، جعل الثاني بدلا منهم في التكليف.
وقوله " ولاتضرونه شيئا " معناه انه اذا استخلف غيركم، لاتقدرون له على ضر ولانفع. وقيل ان معناه لاينقصه هلاككم شيئا، لانه يجل عن الحاق المنافع والمضاربه.
وقوله " ان ربي على كل شئ حفيظ " لاعمال العباد حتى يجازيهم عليها.
وقيل معناه يحفظني من ان تنالوني بسوء.
قوله تعالى:
(ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ) (58) آية.
المعنى ولماجاء امرنا بهلاك عاد، ودلائله " نجينا هودا، والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ " يعنى من عذاب الدنيا والآخرة فسلموا من الامرين.
والنجاة السلامة من الهلاك، وقد تكون السلامة من اصابة الم ما، والرحمة قد تكون مستحقة بدلالة قوله " ونجيناهم برحمة منا " ويجوز ان يكون المراد بما اريناهم من الهدى والبيان الذي هو رحمة. والرحمة مستحقه بالوعد وحسن التدبير في الفصل بين الولي والعدو. والغليظ عظيم الجثة والكثيفة، وانما وصف.
به العذاب لانه بمنزلته في الثقل على النفس وطول المكث.
===============
(14)
قوله تعالى:
(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد) (59) آية بلاخلاف.
قوله " وتلك " اشارة إلى من تقدم ذكره، وتقديره و " تلك " القبيلة " عاد جحدوا بآيات ربهم " والجحد الخبر بأن المعنى ليس بكائن على صحة، فعلى هذا جحدوا هؤلاء الكفار بآيات الله، اي اخبروا بأن المعنى لانعرف صحته، والنفي خبر بعدمه.
وقال صاحب العين: الجحد انكارك بلسانك ما تستيقنه نفسك.
وقوله " وعصوا رسله " فيه أخبارانهم مع جحدهم دلالة رسل الله، وانكارهم آيات الله، خالفوا مااراده الدعاة إلى الله، على طريق الايجاب بالترغيب والترهيب فالرسول دعاهم إلى عبادة الله، فخالفوه وانما قال " عصوا رسله " وهم عصوا هودا، لان الرسل قد تقدمت عليهم بمثل ذلك، وذلك عصيان لهم فيما امروا به ودعوا اليه من توحيد الله وعدله وان لايشركوا به شيئا.
وقوله " واتبعوا امر كل جبار عنيد والعنيد العاتي الطاغي، عند يعند عندا وعنودا اذا حاد عنه كثيرا قال الشاعر.
اني كبير لااطيق العندا (1)
قوله تعالى:
(وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة الا إن عادا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 1: 291 وتفسير الطبري 12: 35 والقرطي 9: 54 وصدره:
اذا رحلت فاجعلوني وسطا.
===============
(15)
كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) (60) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان عادا لما عصوه، وكفروا به، وكذبوا هودا ألحق الله بهم الهلاك واتبعهم في دار الدنيا لعنة، بمعنى انه اخبر نبينا والامم المستقبلة باهلاكهم وانه لعنهم وامر بلعنهم، وعرفهم انه ابعدهم من رحمته.
واللعنة الدعاء بالابعاد من قولك لعنه اذا قال عليه لعنة الله، واصله الابعاد من الخير يقال ذئب لعين اي طريد، ولايجوز ان يلعن شئ من البهائم، وان كانت مؤذية، لانه لايجوز ان يدعى عليها بالابعاد من رحمة الله.
وقوله " ويوم القيامة " اي ويتبعون لعنة يوم القيامة، يعني يوم يقوم الناس من قبورهم للجزاء والحساب، كما قال " يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون " (1) وقوله " ألا ان عادا كفروا ربهم " (ألا) معناها التنبيه، ومابعدها أخبار بأن قوم عاد كفروا ربهم.
وقوله " الابعدا لعاد قوم هود " نصب (بعدا) على المصدر، والمعنى ابعدهم الله بعدا، ووقع (بعدا) موضع ابعاد، كما وقع نبات موضع انبات في قوله " انبتكم من الارض نباتا " (2).
قوله تعالى:
(وإلى ثمود اخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب) (61) آية بلاخلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية أنه أرسل " إلى ثمود أخاهم صالحا " ونصب
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المعارج آية 43.
(2) سورة نوح آية 17.
===============
(16)
(أخاهم) بأرسلنا، عطف على ماتقدم، وانه " قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره " وقد فسرناه (1). وقوله " هو انشاكم من الارض " قيل في معناه قولان:
احدهما - انه خلقكم من آدم وآدم من تراب.
الثاني - انه خلقكم من الارض، والاول اختيار الجبائي وهو الاقوى. والانشاء الايجاد ابتداء من غير استعانة بشئ من الاسباب، وهما نشأتان الاولى في الدنيا والثانية في الآخرة.
وقوله " واستعمركم فيها " اي جعلكم قادرين على عمارة الارض، ومكنكم من عمارتها والحاجة إلى سكناها. والاستعمار جعل القادر يعمر الارض كعمارة الدار.
وقال مجاهد معنى " استعمركم فيها " أي اعمركم بأن جعلها لكم طول اعماركم. ومنه العمرى المسألة المعروفة في الفقه.
وفي الآية دلالة على فساد قول من حرم المكاسب، لانه تعالى امتن على خلقه بأن مكنهم من عمارة الارض فلو كان ذلك محرما لم يكن لذلك وجه، والعبادة لاتستحق إلا بالنعم المخصوصة التي هي أصول النعم فلذلك لايستحق بعضنا على بعض العبادة ابتداء، وان استحق الشكر، ولذلك لاتحسن العبادة ابتداء، كما لايحسن الشكر إلا في مقابلة النعم.
وقوله " فاستغفروا ربكم ثم توبوا اليه " قدبينا معناه (2) وقوله " ان ربي قريب مجيب " معناه أنه قريب الرحمة لامن قرب المكان، لكنه خرج هذا المخرج لحسن البيان في المبالغة، وقيل ان بلاد ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام، وكانت عاد باليمن.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) في تفسير آية. 5 من هذه السورة صفحة 5 من هذا المجلد.
(2) انظر 5: 514 في تفسير آية 3 من هذه السورة.
===============
(17)
قوله تعالى:
(قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهينا أن نعبد مايعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب)
(62) آية بلاخلاف.
في هذه الآية حكاية ماأجاب به قوم صالح له حين قالوا له ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا، ومعناه قد كنا نرجو منك الخير، ونطمع فيه من جهتك قبل هذا لماكنت عليه من الاحوال الجميلة، فالان يئسنا منك.
والرجاء تعلق النفس بمجئ الخير على جهة الظن، ومثله الامل والطمع.
وقوله " اتنهانا ان نعبد مايعبد آباؤنا " معناه تحظر علينا عبادة كان يعبدها أباؤنا.
وقوله " اننا لفي شك مما تدعونا اليه مريب " معناه إن الذي أتيتنا به لا يوجب العلم بل يوجب الشك فنحن في شك مما جئتنا به. والريبة هي الشك إلا ان مع الريبة تهمة للمعنى ليست في نقيضه، والشك قد يعتدل فيه النقيضان.
قوله تعالى:
(قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير)
(63) آية بلاخلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية ماأجاب به صالح قومه ثمود بأن قال لهم " أريتم ان كنت على بينة " أي حجة من ربي ودليل من جهته ولامفعول تفسير التبيان ج 6 - م 2
===============
(18)
ل (رأيتم) لانه يلغى كما يلغى اذا دخل عليه لام الابتداء، في قولك (رأيت لزيد خير منك) فكذلك الجزاء. وجواب (إن) الاولى الفاء، وجواب (إن) الثانية محذوف، وتقديره ان عصيته فمن ينصرني، إلا انه يستغني بالاول، فلا يظهر.
وقوله " فمن ينصرني من الله ان عصيته " صورته صورة الاستفهام، ومعناه النفي كأنه قال فلاناصر لي من الله ان عصيته، ومعنى الكلام أعلمتم من ينصرني من الله ان عصيته بعد بينة من ربى ونعمة، وانماجاز إلغاء (رأيت) لانها دخلت على جملة قائمة بنفسها من جهة انها تفيد لو انفردت عن غيرها، و (من) يتعلق بمعناها دون تفصيل لفظها.
وقوله " فما تزيد ونني غير تخسير " قيل في معناه ثلاثة اقوال:
احدها - ليس تزيدونني باحتجاجكم بعبادة آبائكم اي ما تزدادون انتم الا خسارا، هذا قول مجاهد.
والثاني - قال قوم: تزيدونني لانهم يعطونه ذاك بعد اول امرهم.
الثالث - قال الحسن معناه ان اجبتكم إلى ما تدعونني اليه كنت بمنزلة من يزداد الخسران.
وقال اخرون معناه ما تزيدونني على ما انا عندكم الاخسارا.
قوله تعالى:
(وياقوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولاتمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) (64).
في هذه الآية حكاية ماقال صالح لقومه بعد ان انذرهم وخوفهم عبادة غير الله، وحذرهم معاصيه. " وياقوم هذه ناقة الله لكم اية " واشار إلى ناقته التي جعلها الله معجزة، لان الله تعالى اخرجها لهم من جوف صخرة وهم يشاهدونها على تلك الصفة، وخرجت وهي حامل كما طلبوا، انها كانت تشرب يوما فتنفرد به ولهم يوم وتأتي المرعى يوما والوحش يوما.
===============
(19)
وقوله " ولاتمسوها بسوء " نهي منه لهم ان يمسوا الناقة بسوء اي بعقر او ضرر. المس واللمس متقاربان. وفرق بينهما الرماني بان المس يكون بين جمادين واللمس لايكون إلا بين حيين لمافيه من الادراك، وقوله " فيأخذكم عذاب قريب " جواب النهي بالفاء وكذلك نصبه. والمعنى ان مسستموها بضر اخذكم عذاب عاجل.
قوله تعالى:
(فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) (65) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى عن قوم صالح بانهم عصوه فيما امرهم وارتكبوا مانهاهم عنه من اذى الناقة وانهم عقروها والعقر قطع العضو الذي له سراية في النفس قال امرؤ القيس:
يقول وقد مال الغبيط بنا معا * عقرت بعيري ياامرء القيس فانزل (1)
وكان سبب عقرهم لها انهم كرهوا أن يكون لها يوم، ولهم يوم في الشرب لضيق الماء عليهم والمرعى على ماشيتهم فعقرها (احمر ثمود) وضربت به العرب المثل في الشؤم، فلما فعلوا ذلك قال لهم صالح " تمتعوا في داركم ثلاثة ايام " أي تلذذوا، فيما يريدون من المدركات الحسان من المناظر والاصوات وغيرها مما يدرك بالحواس، ويقال للبلاد: دار، لانها تجمع اهلها كما تجمع الدار. ومنه قولهم:
ديار ربيعة، وديار مضر.
وقيل معنى " في داركم " اي في دار الدنيا وايام اصله (ايوام) فقلبت الواو ياء وادغمت الياء الاولى فيها فصارت ايام لاجتماعها وسكون الاولى وانما وجب ذلك لاشتراكهما في انهما حرفا علة. وقوله " ذلك وعد غير مكذوب " معناه إن
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 127 (الطبعة المصرية)
===============
(20)
ماوعدتكم به من نزول العذاب بعد ثلاثة ايام وعد صدق ليس فيها كذب.
قوله تعالى:
(فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز) (66) آية بلاخلاف.
قرأ اهل المدينة إلا اسماعيل والكسائي والبرجمي والسموني " يومئذ " بفتح الميم، هنا وفي المعارج. الباقون بكسر الميم على الاضافة. قال ابوعلي قوله " يومئذ " ظرف - كسرت او فتحت - في المعنى إلا انه اتسع فيه فجعل اسما كما اتسع في قوله " بل مكر الليل والنهار " (1) فاضيف المكر اليهما وإنما هو فيهما، فكذلك العذاب والخزي والفزع اضفن إلى اليوم، والمعنى على ان ذلك كله في اليوم كما ان المكر في الليل والنهار.
ومن كسر الميم من " عذاب يومئذ " فلان يوما اسم معرب اضاف اليه ما اضافه من العذاب والخزي والفزع، فانجر بالاضافة، ولم تفتح اليوم فتبنيه لاضافته إلى المعنى، لان المضاف منفصل عن المضاف اليه ولايلزمه الاضافة، والمضاف لم يلزم البناء.
ومن فتح فقال: من عذاب يومئذ فيفتح مع انه في موضع جر، فلان المضاف يكتسب من المضاف اليه التعريف والتنكير، ومعنى الاستفهام والجزاء في نحو غلام من تضرب اضربه، فلما كان يكتسب من المضاف اليه هذه الاشياء اكتسب منه الاعراب والبناء ايضا، اذاكان المضاف من الاسماء الشائعة المبنية نحو (اين.
وكيف) ولو كان المضاف مخصوصا نحو (رجل وغلام) لم يكتسب منه البناء كما اكتسبت من الاسماء الشائعة. ومن اضاف على تقدير من عذاب يومئذ ومن خزي
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة سبأ آية 33.
===============
(21)
يومئذ، فلانها معارف تعرفت بالاضافة إلى اليوم.
اخبر الله تعالى انه لما جاء امره باهلاك قوم صالح الذين هم ثمود نجا صالحا والمؤمنين معه برحمة منه تعالى.
وقوله " ومن خزي يومئذ " فالخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحي من مثله، خزي يخزى خزيا اذا ظهر له عيب بهذه الصفة.
وقوله " ان ربك هو القوي العزيز " فالقوي هو القادر، والعزيز هو القادر على منع غيره من غير ان يقدر أحد على منعه. واصله المنع فمنه عز علي الشئ اذا امتنع بقلبه ومنه العز الارض الصلبة الممتنعة بالصلابة، ومنه تعزز بفلان اي امتنع به ويقال (من عزبز) اي من غلب سلب.
وكانت علامة العذاب في ثمود ماقال لهم صالح: آية ذلك ان وجوهكم تصبح في اليوم الاول مصفرة وفي اليوم الثاني محمرة وفي الثالث مسودة، ذكره الحسن، هذا من حكمته تعالى وحسن تدبيره في الانذار بمايكون من العقاب قبل ان يكون، للمظافرة في الحجة.
ولم يختر ابوعمرو بناء (يوم) إذا اضيف إلى مبني كما اختير في قوله " على حين غفلة " (1) لان هذا اضيف إلى اسم مبني، وذلك اضيف إلى فعل مبني فباعده من التمكن باكثر مماباعده الاول.
قوله تعالى:
(وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين)
(67) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى أنه لما نجا صالحا والمؤمنين وأراد اهلاك الكفار أخذ الذين ظلموا الصيحة، وهي الصوت العظيم من الحيوان. وقال الجبائي لاتكون
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة القصص آية 15.
===============
(22)
الصيحة إلا حدوث صوت في فم وحلق حيوان. وقيل ان جبرائيل (عليه السلام) صاح بهم، ويجوز ان يكون الله تعالى احدث الصيحة في حلق حيوان، وانما ذكر اللفظ لانه حمله على المعنى، لان الصيحة والصياح واحد، ويجوز تأنيثه حملا على اللفظ، كما جاء في موضع آخر (1). وقوله " فاصبحوا في ديارهم جاثمين " معناه أنه لمااتتهم الصيحة ليلا أصبحوا في ديارهم خامدين على هذه الصفة، والعرب تقول في تعظيم الامر: (واسوأة صباحاه). والجثوم السقوط على الوجوه. وقيل هوالقعود على الركب، يقال: جثم على القلب إذا ثقل عليه، وذكرهم الله بالظلم هنادون الكفر ليعلم أن الكفر ظلم النفس إذ يصير إلى أعظم الضرر بعذاب الابد.
قوله تعالى:
(كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) (68) آية بلاخلاف.
قرأ الكسائي وحده " لثمود " بخفض الدال وتنوينها. والباقون بغير صرف.
وقرأ حمزة وحفص ويعقوب " ألا إن ثمود " وفي الفرقان. و " عادا وثمود " وفي العنكبوت " وثمود فما ابقى " بغير تنوين فيهن وافقهم يحيى والعليمي والسموني في سورة (النجم).
قال الفراء قلت للكسائي: لم صرفت (ثمود) هنا؟ فقال: لانه قرب من المنصوب، وهو مجرور، وانماصرف ثمود في النصب دون الجر والرفع، لانه لما جاز الصرف اختير الصرف في النصب، لانه اخف.
قال ابوعلي الفارسي: الاسماء التي تجري على القبائل والاحياء على اضرب
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة هود اية 95 وسورة الحجر آية 73، 83، وسورة المؤمنون آية 41 وغيرها كثير والآيات التي ذكرناها الفعل فيها لمؤنث.
===============
(23)
احدها - ان يكون اسما للحي او للاب.
والثاني - ان يكون اسما للقبيلة.
الثالث - ان يكون غلب عليه الاب دون الحي والقبيلة.
والرابع - ان يستوي ذلك في الاسم فيجري على الوجهين، ولايكون لاحد الوجهين مزية على الآخر في الكثرة، فمها جاء اسما للحي قولهم ثقيف وقريش، وكلما لايقال فيه بنو فلان. واماماجاء اسما للقبيلة فنحو تميم بنت مرة قال سيبويه سمعناهم يقولون: قيس ابنة عيلان، وتميم صاحبة ذلك، وقال تغلب ابنة وابل. واما ماغلب عليه اسم ام الحي او القبيلة، فقد قالوا باهلة ابن اعصر، وقالوا يعصر، وباهلة اسم امرأة، قال سيبويه جعل اسم الحي، ومحوس لم يجعل اسم قبيلة، وسدوس اكثرهم يجعله اسم القبيلة، وتميم اكثرهم يجعله اسم قبيلة ومنهم من يجعله اسم الاب. واما مايستوي فيه اسم قبيلة، وان يكون اسما للحي، فقال سيبويه نحو ثمود وعاد، وسماهما مرة للقبيلتين ومرة للحيين، فكثرتهما سواء.
قال: وعادا وثمودا، وقال " ألا إن ثمود كفروا ربهم " وقال " واتينا ثمود الناقة " فاذا استوى في ثمود ان يكون مرة للقبيلة ومرة للحي ولم يكن لحمله على احد الوجهين مزية في الكثرة:
فمن صرف في جميع المواضع كان حسنا، ومن لم يصرف ايضا كذلك، وكذلك ان صرف في موضع ولم يصرف في موضع آخر إلا انه لاينبغي ان يخرج عما قرأت به القراء لان القراءة سنة، فلايجوز ان تحمل على مايجوز في العربية حتى تنضم اليه الرواية.
معنى قوله " كان لم يغنوا " أي كأن لم يقيموا فيها لانقطاع آثارهم بالهلاك وما بقي من اخبارهم الدالة على الخزي الذي نزل بهم، يقال غنى بالمكان اذا اقام به والمغاني المنازل قال النابغة:
===============
(24)
غنيت بذلك اذهم لك جيرة * منها بعطف رسالة وتودد (1)
واصل الغنى الاكتفاء فمنه الغنى بالمال والغناء الصوت الذي يتغنى به، والغناء الاكتفاء بحال الشئ وغنى بالمكان اذا اقام به، لاكتفائه بالاقامة فيه، والغانية الشابة المتزوجة. و (ألا) معناها التنبيه وهي الف استفهام دخلت على (لا) فالالف يقتضي معنى و (لا) ينفي معنى، فاقتضى الكلام بهما معنى التنبيه مع نفي الفعلية.
قوله تعالى:
(ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فمالبث أن جاء بعجل حنيذ) (69) آية بلاخلاف.
قرأحمزة والكسائي " قال سلم " بكسر السين وسكون اللام من غير الف هنا، وفي الذاريات. قال محمدبن يزيد المبرد (السلام) في اللغة يحتمل اربعة اشياء، منها مصدر سلمت، ومنها جمع سلامة، ومنها اسم من ا سماء الله، ومنها اسم شجرة، ومنه قول الاخطل:
الاسلام وحرمل وقوله " دار السلام " (2) يحتمل ان يكون مضافا إلى الله تعظيما لها، ويجوز ان يكون دار السلام من العذاب لمن حصل فيها. واما انتصاب قوله " سلاما " فانه لايحك شيئا تكلموا به فيحكي كما تحكى الجمل، ولكن هو ماتكلمت به الرسل، كما ان القائل اذا قال لااله الا الله، فقلت له قلت حقا او قلت اخلاصا اعملت القول في المصدر لانك ذكرت معنى ماقال، فلم يحك نفس الكلام الذي هو جملة يحكى، فكذلك نصب سلاما هنا، لماكان معنى ماقيل ولم يكن نفس
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه: 65 ومجمع البيان 3: 178 وتفسير الطبري 15: 56، 465.
(2) سورة الانعام 127 وسورة يونس اية 25.
===============
القول بعينه وقوله " اذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " (1) قال بسيبويه زعم ابو الخطاب: ان مثله يراد به مثل قولك سبحان الله الذي، تفسيره براءة الله من السوء، وقولك للرجل سلاما تريد مسلما منك لاابتلي بشئ من امرك. وقوله " سلام " مرفوع، لانه من جملة الجملة المحكية، وتقديره سلام عليكم فحذف الخبر كما حذف من قوله " فصبر جميل " (2) اي فصبر جميل امثل او يكون المعنى امري سلام وشأني سلام، كمايجوز ان يكون في قوله " فصبر جميل " المحذوف منه المبتدا، ومثله على حذف المبتدا قوله تعالى " فاصفح عنهم وقل سلام " (3) او حذف الخبر ويكون سلام مبتدأ واكثر مايستعمل (سلام) بغير الف ولام لانه في معنى الدعاء، فهو مثل قولهم خير بين يديك، فمن ذلك قوله " قال سلام عليك سأستغفر لك ربي " (4) وقوله " سلام عليكم بماصبرتم " (5) وقوله " سلام على نوح " (6) و " سلام؟ على ابراهيم " (7) وقوله " سلام على عباده الذين اصطفى " (8) وقد جاء بالالف والا قال تعالى " والسلام على من اتبع الهدى " (9) و " السلام علي يوم ولدت " (10) وز ابو الحسن ان من العرب من يقول: السلام عليكم، ومنهم من يقول سلام عليك فمن ألحق فيه الالف واللام حمله على المعهود. ومن لم يلحقه حمله على غير المعهود وزعم أن منهم من يقول سلام عليكم بلا تنوين، وحمل ذلك على وجهين:
أحدهما - انه حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الاصل في نحو لم يك ولا ادر ويوم يأت.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الفرقان آية 63. (2) سورة يوسف آية 18، 83.
(3) سورة الزخرف آية 89. (4) سورة مريم آية 47.
(5) سورة الرعد اية 26. (6) سورة الصافات آية 79.
(7) سورة الصافات آية 109. (8) سورة النمل آية 59.
(9) سورة طه آية 47. (10) سورة مريم آية 33.
===============
(26)
والآخر - انه لماكثر استعمال هذه الكلمة، وفيها الالف والام جاز حذفها منها لكثرة الاستعمال كماحذفوا من اللهم فقالوا: لاهم كماقال الشاعر:
لاهم لا هم ان عامر العجوز * قد حبس الخيل على يعمور
ومن قرأ (سلم) بلا الف احتمل امرين: احدهما - ان يكون بمعنى (سلم)
والمعنى أمرنا سلم وسلم عليكم، ويكون سلام بمعنى سلم، كقولهم حل وحلال، وحرم وحرام، انشد الفراء:
وقفنا فقلنا ايه سلم فسلمت * كما اكيل بالبرق الغمام اللوائح (1)
وروي كما انكل. ثم قال الفراء في رفع سلام انه حين نكرهم، قال هو سلم ان شاء الله، من أنتم؟ فعلى هذا القراءتان بمعنى واحد. والآخر أن يكون (سلم) خلاف العدو، والحرب. كأنهم لما كفوا عن تناول ماقدم اليهم فنكرهم واوجس منهم خيفة، قال انا سلم، ولست بحرب ولا عدو، فلا تمتنعوا من تناول طعامي، كما يمتنع من تناول طعام العدو، وقوله " ولقد " دخلت اللام لتأكيد الخبر، كما يؤكد القسم، ومعنى (قد) هنا ان السامع لقصص الانبياء يتوقع قصة بعد قصة، و (قد) للتوقع فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع. أخبر الله تعالى أنه لما جاءت رسل ابراهيم يبشرونه.
وقيل في البشارة بماذا كانت قولان:
احدهما - قال الحسن كانت بأن الله تعالى يهب له اسحاق ولدا ويجعله رسولا إلى عباده.
وقال غيره كانت البشارة باهلاك قوم لوط. وقوله " قالوا سلاما " حكاية ما قال رسل الله لابراهيم مجيبا لهم " سلام ".
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري 12: 39 واللسان (سلم) وقد روى ايضا:
وقفنا فقلنا ايه سلم فسلمت * فماكان الا ومؤها بالحواجب
===============
(27)
وقوله " فما لبث ان جاء بعجل حنيذ " معنى ذلك لم يتوقف حتى جاء - على عادته في اكرام الاضياف وتقديم الطعام اليهم - بعجل، وهو ولد البقرة يسمى بذلك لتعجيل امره بقرب ميلاده. ويقال: فيه عجول وجمعه عجاجيل، و " الحنيذ " المشوي ومعناه محنوذ، فجاء " فعيل " بمعنى " مفعول " كطبيخ ومطبوخ، وقتيل ومقتول تقول: حنذه حنذا ويحنذه قال العجاج:
ورهبا من حنذه أن يهجرا (1)
يعني الحمراء الوحشية أي حنذها حر الشمس على الحجارة. وقال الحسن حنيذ بمعنى نضيج مشوي. وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: نضيج.
وحكى الزجاج أن الحنيذ هوالذي يقطر ماؤه تقول العرب أحنذ هذا الفرس أي جلله حتى يقطر عرقا.
وانماقدم الطعام اليهم وهم ملائكة لانه رآهم في صورة البشر، فظنهم أضيافا.
وقال الحسن: جاؤوه فاستضافوه، والالم يخف عليه أن الملائكة لا يأكلون ولايشربون. وقوله " أن جاء " في موضع نصب بوقوع لبث عليه، كأنه قال فما ابطأ عن مجيئه بعجل، فلما حذف حرف الجر نصب.
قال الفراء: ويحتمل " ان جاء بعجل " أن يكون في موضع رفع بأن تجعل (لبث) فعلا له كأنك قلت فما أبطأ مجيئه بعجل حنيذ، قال الفراء: (الحنيذ) ما حفرت له في الارض ثم عمته وهو فعل أهل البادية. قال الفراء وغيره: وانما
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه: 9 ومجاز القرآن 1: 292 وتفسير الطبري 12: 41 واللسان (حنذ)، (هرج).
===============
(28)
خافهم ابراهيم من حيث لم ينالوا طعامه، لان عادة ذلك الوقت اذا قدم الطعام إلى قوم فلا يمسونه ظنوا أنهم أعداء قوله تعالى:
(فلما رأى أيديهم لاتصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) (70) آية بلاخلاف.
قيل في وجه اتيان الملائكة ابراهيم صلى الله عليه وسلم في صورة الاضياف قولان:
احدهما - قال الحسن أنهم اتوه على الصفة التي كان يحبها، لانه كان يقري الضيف.
والآخر - انهم أروه معجزا من مقدور الله في صورتهم مع البشارة له بالولد على الكبر، فاخبر الله تعالى ان ابراهيم لمارآهم ممتنعين من تناول الطعام وان ايديهم لاتصل اليه، والعقل لم يكن مانعا من أكل الملائكة الطعام وإنما علم ذلك بالاجماع وبهذه الآية، والا ماكان يجوز أن يقدم ابراهيم الطعام مع علمه بانهم ملائكة. ويجوز بأن يأكلوه وانما جاز ان يتصور الملائكة في صورة البشر مع ما فيه من الايهام لانهم أتوه به دلالة، وكان فيه مصلحة فجرى مجرى السراب الذي يتخيل انه ماء من غير علم انه ماء وقوله " نكرهم " يقال نكرته وانكرته بمعنى. وقيل نكرته اشد مبالغة وهي لغة هذيل واهل الحجاز، وانكرته لغة تميم قال الاعشى في الجمع بين اللغتين:
وانكرتني وماكان الذي نكرت * من الحوادث الا الشيب والصلعا (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه: 72 القصيدة 13 وتفسير الطبري 12: 41 والاغاني 16: 18، والصحاح، والتاج واللسان (نكر) وتفسير القرطي 9، 66. ومجمع البيان 3: 177 وتفسير الشوكاني 2: 486.
===============
(29)
وقال ابوذؤيب:
فنكرته فنفرن وافترست به * هو جاء هاربة وهاد خرسع (1)
وقوله " اوجس منهم خيفة " اي اضمر الخوف منهم، والايجاس الاحساس
قال ذو الرمة:
وقد توجس ركزا مغفرا ندسا * بنبأة الصوت مافي سمعه كذب (1)
اي تجسيس. وقيل أوجس أضمر، وانما خافهم حين لم ينالوا من طعامه لانه رآهم شبابا اقوياء وكان ينزل طرفا من البلد لم يأمن - من حيث لم يتحرموا بطعامه ان يكون ذلك البلاء حتى قالوا له لا تخف يا ابراهيم " انا ارسلنا إلى قوم لوط " بالعذاب والاهلاك وقيل انهم دعوا الله فاحيا العجل الذي كان ذبحه ابراهيم وشواه فظهر ورعى، فعلم حينئذ انهم رسل الله.
قوله تعالى:
وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب (71) آية بلاخلاف.
قرأابن عباس وحمزة وحفص ويعقوب (فبشرناها) بنصب الباء. الباقون بالرفع. قال ابوعلي من رفع فباحد امرين: احدها بالابتداء، والآخر بالظرف على مذهب من رفع وذلك بين. ومن فتح احتمل ثلاثة اشياء:
احدها - ان يكون في موضع جر والمعنى فبشرناها باسحاق ويعقوب، وقال ابوالحسن: وهوقوي في المعنى، لانها قد بشرت به قال وفي اعمالها ضعف، لانك فصلت بين الجار والمجرور بالظرف كما لايجوز مررت بزيد في الدار والبيت
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان 3: 178 (2) مجمع البيان 3: 178
===============
(30)
عمرو. وقال الرماني لايجوز ذلك لانه يجب منه العطف على عاملين، وذلك لا يجوز، لانه أضعف من العامل الذي قام مقامه وهولا يجر ولاينصب.
الثاني - بجمله على موضع الجار والمجرور كقول الشاعر:
اذا ما تلاقينا من اليوم او غدا (1)
وكقراءة من قرأ " حورا عينا " بعد قوله " يطاف عليهم " بكذا (2)
ومثله قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا (3)
وكقول الشاعر:
جئني بمثل بني بدر لقومهم * او مثل اسرة منظور بن سيار
اوعامر بن طفيل في مراكبه * او حارثا حين نادى القوم ياجار (4)
فنصب (عامرا) و (حارثا) كأنه قال او جئتي بعامر فلما اسقط حرف الجر نصب.
الثالث - أن تحمله على فعل مضمر، كأنه قال فبشرناه باسحاق، ووهبنا له يعقوب.
قال ابوعلي الفارسي: والوجه الاول نص سيبويه في فتح مثله نحو مررت بزيد اول امس وأمس عمرو، وكذلك قال ابوالحسن قال: لوقلت مررت بزيد اليوم وامس عمرو، كان حسنا ولم يحسن الحمل على الموضع على حد مررب بزيد وعمرا، فالفصل فيها ايضا قبيح كما قبح الحمل على الجار وغير الجار، فهذا في القياس مثل الجار في القبح لان الفعل يصل بحرف العطف وحرف العطف هوالذي يشرك في الفعل، وبه يصل
ـــــــــــــــــــــــ
(1) لم اجده.
(2) سورة الصافات آية 45 وسورة الزخرف آية 71 وسورة الدهر اية 15 (3) مر هذا البيت في 3: 455 تاما (4) تفسير الطبري 12: 43 (الطبعة الاولى)
===============
(31)
الفعل إلى المفعول به، كما يصل الجار فاذا قبح الامران وجب أن تحمل قراءة من قرأ بالنصب على تقدير فعل آخر مضمر يدل عليه (بشرنا).
وقيل في معنى قوله " وامرأته قائمة " ثلاثة اوجه:
أحدها - انها كانت قائمة بحيث ترى الملائكة فضحكت سرورا بالسلامة وأردف ذلك السرور بماكان من البشارة.
والثاني - انها كانت قائمة من وراء الستر تستمع إلى الرسل.
والثالث - انها كانت قائمة تخدم الاضياف وابراهيم جالس.
وقال مجاهد: معنى فضحكت حاضت، قال الفراء: لم أسمع ذلك من ثقة وجدته كتابة قال الكميت.
واضحكت السباع سيوف سعد * لقتلى مادفن ولا ودينا (1)
يعني بالحيض وقالوا لحرب بن كعب: تقول ضحكت النخلة إذا أخرجت الطلع والبسر، وقالوا الضحك الطلع وسمع من يحكى أضحكت حوضك إذا ملاته حتى فاض، وانشد بعضهم في الضحك بمعنى الحيض قول الشاعر:
وضحك الارانب فوق الصفا * كمثل دم الجوف يوم القا (2)
وقال قوم: الضحك العجب وانشد لابي ذؤيب.
فجاء بمزج لم ير الناس مثله * هو الضحك إلا انه عمل النحل (3)
وقيل في معنى " ضحكت " ثلاثة اقوال:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبرى 12: 42 ومجمع البيان 3: 180.
(2) مجمع البيان 3: 180 وتفسير القرطي 8: 66 والطبري 12: 42 والشوكاني 2: 486.
(3) تفسير القرطي 8: 67 والطبرى 12: 543.
===============
(32)
احدها - انها ضحكت تعجبا من حال الاضياف في امتناعهم من اكل الطعام مع أن ابراهيم وزوجته سارة يخدمانهم.
وثانيها - قال قتادة: ضحكت تعجبا من حال قوم لوط اتاهم العذاب وهم في غفلة.
وثالثها - قال وهب بن منية: انها ضحكت تعجبا من ان يكون لهما ولد، وقد هرما، فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، كأنه قال فبشرناها باسحاق فضحكت بعد البشارة.
قوله " فبشرناها " يعني امرأة ابراهيم سارة باسحاق انها تلده ومن بعد اسحاق يعقوب من ولده فبشرت بنبي بين نبيين، وهواسحاق أبوه نبي وابنه نبي.
وقال الزجاج: انما ضحكت لانها كانت قالت لابراهيم اضمم لوطا ابن اخيك اليك فاني أعلم ان سينزل على هؤلاء القوم عذاب فضحكت سرورا لمااتى الامر على ماتوهمت.
وقال ابن عباس والشعبي والزجاج يقال لولد الولد هذا ابني من ورائي هو ابن ابني.
قوله تعالى:
(قالت ياويلتئ ألدوانا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب) (72) آية بلا خلاف.
في هذه الآية اخبار عما قالت امرأة ابراهيم حين بشرت بانها تلد اسحاق وهو ان قالت ياويلتي. ومعنى ياويلتى الانذار بورود الامر الفظيع تقول العرب يا للدواهي اي تعالين فانه من ازمانك بحضور ماحضر من اشكالك. والف (يا ويلتى) يجوز ان يكون الف ندبة. ويحتمل ان يكون للاضافة انقلبت من الياء
===============
(33)
وكان هذا القول من امرأة ابراهيم على وجه التعجب بطبع البشرية، إذ ورد عليها مالم تجربه العادة قبل ان تفكر في ذلك كما ولى موسى مدبرا حين انقلبت العصاحية حتى قيل له " أقبل ولاتخف " (1) وإلا هي كانت مؤمنة عارفة بأن الله تعالى يقدرعلى ذلك.
قال الرماني: والسبب في ان العجوز لاتلد أن الماء - الذي يخلق الله (عز وجل) منه الولد مع نطفة الرجل - قد انقطع بدلالة ارتفاع الحيض، فجعل الله الولد على تلك الحال معجزا لنبيه ابراهيم (ع).
وقال مجاهد: كان لابراهيم في ذلك مئة سنة ولها تسع وتسعون سنة.
وقال ابن اسحاق: كان لابراهيم مئة وعشرون سنة، ولسارة تسعون سنة.
والبعل الزوج، واصله القائم بالامر، فيقولون للنخل الذي يستغني بماء السماء عن سقي الانهار والعيون: بعل، لانه قائم بالامر في استغنائه عن تكلف السقي له، ومالك الشئ القيم بتدبيره: بعل، ومنه قوله تعالى " اتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين " (2).
و (شيخا) نصب على الحال، والعامل فيه مافي هذا من معنى الاشارة أو التنبيه. وفي قراءة ابن مسعود بالرفع. ويحتمل الرفع في قوله سيبويه والخليل أربعة أوجه، فيرفع (هذا) بالابتداء، و (بعلي) خبره، و (شيخ) خبر ثاني، كأنه قال هذا شيخ، ويجوز ان يكونا خبرين لهذا، كقولك هذا حلو حامض، ويجوز ان يكون (بعلي) بدلا من (هذا) وبيانا له و (شيخ) خبره.
وقوله " ان هذا لشئ عجيب " ان يكون الولد بين عجوزين شيخين شئ يتعجب منه.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة القصص آية 31.
(2) سورة الصافات آية 125.
تفسير التبيان ج 6 - م 3.
===============
(34)
قوله تعالى:
(قالوا) أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) (73) آية بلاخلاف.
في هذه الآية حكاية عما قالت الملائكة لامرأة ابراهيم، حين تعجبت من ان تلد بعدالكبر، فانهم قالوا لها " أتعجبين من أمر الله " وهذه الالف للاستفهام ومعناها ههنا التنبيه، وليست الف انكار، وانما هي تنبيه وتوقيف. والعجب يجري على المصدر وعلى المتعجب منه كقولك: هذا أمر عجب، ولايجوز العجب من أمر الله، لانه يجب ان يعلم انه قادرعلى كل شئ من الاجناس، لايعجزه شئ، وما عرف سببه لايعجب منه.
وقوله " رحمة الله وبركاته عليكم " يحتمل معنيين:
احدهما - الدعاء لهم بالرحمة والبركة.
الثاني - التذكير بنعمة الله وبركاته عليهم، والاخبار لهم بذلك وقوله " اهل البيت " يدل على ان زوجة الرجل تكون من أهل بيته في - قول الجبائي - وقال غيره إنما جعل سارة من أهل البيت لماكانت بنت، عمه على ماقاله المفسرون.
وقوله " انه حميد مجيد " معناه مستحمد إلى عباده. وقال ابوعلي: يحمد المؤمنين من عباده، والمجيد الكريم - في قول الحسن - يقال: مجد الرجل يمجد مجدا اذا كرم قال الشاعر:
رفعت مجد تميم باهلال لها * رفع الطراف على العلياء بالعمد (1).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) لم اجده في ماحضرني من المصادر.
===============
(35)
قوله تعالى:
(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) (74) آية في الكوفي والمدني.
أخبر الله تعالى انه حين ذهب عن ابراهيم الروع، وهو الافزاع، يقال: راعه يروعه روعا اذا افزعه قال عنترة:
ماراعني الاحمولة اهلها * وسط الديار تسف حب الخمخم (1)
أي ماافزعني، وارتاع وارتياعا اذا خاف. و (الروع) بضم الراء النفس، يقال ألقي في روعي، وهو موضع المخافة و " جاءته البشرى " يعنى بالولد " يجادلنا " وتقديره جعل يجادلنا، فجواب (لما) محذوف لدلالة الكلام عليه، لان (لما) تقتضيه، والفعل خلف منه. وقال الاخفش (يجادلنا) بمعنى جادلنا.
وقال الزجاج: يجوز ان يكون ذلك حكاية حال قد جرت، والا فالجيد ان تقول: لماقام قمت، ولما جاء جئت. ويضعف ان تقول: لماقام اقوم، والتقدير في الآية لماذهب عن ابراهيم الروع وجاءته البشرى اقبل يجادلنا واخذ يجادلنا.
وقوله " يجادلنا " يحتمل معنيين احدهما يجادل رسلنا من الملائكة - في قول الحسن - الثاني - يسألنا في قوم لوط. والمعنى انه سأل الله، إلا انه استغني بلفظ (يجادلنا) لانه حرص في السؤال حرص المجادل.
وقيل في مابه جادل ثلاثة اقوال:
احدها - قال الحسن: انه جادل الملائكة بأن قال لهم: " ان فيها لوطا " (2)
كيف تهلكونهم، فقالت له الملائكة " نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله " (3).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه (دار بيروت): 17 والمعلقات العشر: 124 وتفسير الطبري 15: 401.
(2، 3) سورة العنكبوت آية 32.
===============
(36)
الثاني - قال قتادة انه سألهم: أتعذبون خمسين من المؤمنين ان كانوا؟ قالوا:
لا، ثم نزل إلى عشرة فقالوا: لا.
الثالث - قال ابوعلي: جادلهم ليعلم بأي شئ استحقوا عذاب الاستئصال وهل ذلك واقع بهم لامحالة أم على سبيل الاخافة؟ ليرجعوا إلى الطاعة.
قوله تعالى:
(إن إبراهيم لحليم أواه منيب) (75) آية في الكوفي والمدني وهذا آخر الآية مع الاولى في البصري.
هذا إخبار من الله تعالى عن حال ابراهيم، وصفه بانه كان اواها. وقيل في معناه ثلاثة اقوال:
احدها - قال الحسن: الاواه الرحيم. وقال مجاهد هوالرجاع، وقال الفراء: هو كثير الدعاء.
وقال قوم: هوالمتأوه. وقال قوم: هوالرجاع المتأوه خوفا من العقاب، ولمثل ذلك حصل له الامان لتمكين الاسباب الصارفة عن العصيان. و (الحليم)
هوالذي يمهل صاحب الذنب، فلايعاجله بالعقوبة.
وقيل: كان ابراهيم ذا احتمال لمن آذاه وخنى عليه لايتسرع إلى المكافأة، وان قوي عليه. والاناة السكون عند الحال المزعجة عن المبادرة، وكذلك التأني: التسكن عند الحال المزعجة من الغضب، ويوصف الله تعالى بانه حليم من حيث لايعاجل العصاة بالعقاب الذي يستحقونه لعلمه بمافي العجلة من صفة النقص.
و (المنيب) هو الراجع إلى الطاعة عندالحال الصارفة، ومنه قوله " وانيبوا إلى ربكم " (1) والتوبة الانابة، لانها رجوع إلى حال الطاعة، وكون ابراهيم منيبا.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزمر آية 54.
===============
(37)
إلى طاعة الله لايدل على انه كان عاصيا قبل ذلك، بل انه يفيد أنه كان يرجع إلى طاعته في المستقبل، وان كان على طاعته أيضا فيما مضى، وقال ابوعلي: كان يرجع إلى الله في جميع أموره ويتوكل عليه.
قوله تعالى:
(ياإبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود (76) آية.
في هذه الآية حكاية ماقالت الملائكة لابراهيم (ع) فانها نادته بأن قالت " يا ابراهيم اعرض عن هذا " القول. والاعراض الذهاب عن الشئ في جهة العرض، ويكون انصرافا عنه بالوجه والتفكر.
والاشارة بقوله " عن هذا إلى الجدال، وتقديره يا ابراهيم اعرض عن هذا الجدال في قوم لوط، لان العذاب نازل بهم لامحالة.
وقوله " جاء أمرربك " يحتمل أمرين: احدهما - جاء امره لنا بالعذاب.
والثاني - جاء اهلاكه لهم بما لامرد له.
وقوله " غير مردود " اي غير مدفوع، والرد اذهاب الشئ إلى حيث جاء منه، تقول رده يرده ردا، فهو راد والشئ مردود والردو الدفع واحد، ونقيضه الاخذ. والفرق بين الدفع والرد، ان الدفع قد يكون إلى جهة القدام والخلف، والرد لايكون إلا إلى جهة الخلف.
قوله تعالى:
(ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب) (77) آية بلاخلاف.
===============
(38)
في هذه الآية إخبار من الله تعالى أنه لما جاءت رسله لوطا سئ بهم، معناه ساءه مجيؤهم، وأصله سوئ بهم فنقلت حركة الواو إلى السين، وقلبت همزة، والضمير في " بهم) عائد إلى الرسل، ويجوز تخفيف الهمزة بإلقاء الحركة على ما قبلها، ومنهم من يشدد على الشذوذ.
وقوله " وضاق بهم ذرعا " قال ابن عباس ساء بقومه " وضاق بهم ذرعا " أي باضيافه، وانه لمارأى لهم من جمال الصورة، وقد دعوه إلى الضيافة، وقومه كانوا يسارعون إلى امثالهم بالفاحشه، فضاق بهم ذرعا، لهذه العلة.
والمعنى انه ضاق بهم ذرعه: ضاق بأمره ذرعا اذ لم يجد من المكروه مخلصا.
وقوله " ضاق " بحفظهم من قومه ذرعه. حيث لم يجد سبيلا إلى حفظم من فجار قومه.
والفرق بين السوء والقبيح ان السوء مايظهر مكروهه لصاحبه، والقبيح ماليس للقادر عليه ان يفعله.
وقوله " وقال هذا يوم عصيب " حكاية ماقاله لوط في ذلك الوقت بأن هذا يوم شديد الشر، لان العصيب الشديد في الشر خاصة، كأنه التف على الناس بالشر اويكون التف شره بعضه على بعض يقال يوم عصيب، قال عدي بن زيد:
وكنت لزاز قومك لم اعرد * وقد سلكوك في يوم عصيب (1)
وقال الراجز:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري 15: 409 والاغاني (دار الثقافة) 2: 93 ومجاز القرآن 1: 294 وقد روى (خصمك) بدل (قومك) والبيت من قصيدة قالها وهو في حبس النعمان بن المنذر. و (اللزاز) هو شدة الخصومة. ومعنى (لم اعرد) لم احجم، ولم انكص.
===============
(39)
يوم عصيب يعصب الابطالا * عصب القوي السلم الطوالا (1)
وقال آخر:
فانك إلا لا ترض بكر بن وائل * يكن لك يوم بالعراق عصيب (2)
وقال كعب بن جعيل:
ويلبون بالحضيض قيام * عارفات منه بيوم عصيب (3)
قوله تعالى:
(وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) (78).
اخبر الله تعالى عن قوم لوط أنهم حين أحسوا بمن نزل بلوط، وظنوهم أضيافه.
جاءوا لوطا " يهرعون " أي يسرعون، والاسراع: الاهراع في الشئ - في قول مجاهد، وقتادة، والسدي - وانما أهرعوا لطلب الفاحشة، لما اعلمتهم عجوز السوء: امرأة لوط بمكان الاضياف، فقالت مارأيت احسن وجوها، ولااطيب ريحا، ولا انطق لسانا وثنايا منهم. وقال الشاعر:
بمعجلات نحوه مهارع (4)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري 15: 410 ومجاز القرآن 1: 294 وروح المعاني 12: 95 ولم يعرف قائله.
(2) تفسير الطبري 15: 410 ومجاز القرآن 1: 294.
(3) تفسير الطبري 15: 410 ومجاز القرآن 1: 294 وروايته (فئام).
(4) تفسير الطبري 15: 412 ومجاز القرآن 1: 294.
===============
(40)
وقال مهلهل:
فجاوءا يهرعون وهم أسارى * نقودهم على رغم الانوف (1)
وقوله " ومن قبل كانوا يعملون السيئات " وهي اتيان الذكور في الادبار، ومعناه انهم كانوا قبل هذا المجئ يعملون ذلك. قيل من قبل ألفوا الفاحشة، فجاهروا بها، ولم يستحيوا منها.
وقوله " قال ياقوم " يعني لوطا لما رآهم هموا باضيافه عرض عليهم النكاح المباح، وأشار إلى نساء فقال " هؤلاء بناتي هن اطهر لكم " قال قتادة، كن بناته لصلبه. وقال مجاهد كن بنات امته فكن كالبنات له، فان كل نبي ابو أمته وأزواجه امهاتهم وهو أب لهم.
وقوله " فاتقوا الله " امر من لوط لهم بتقوى معاصي الله وأن لايفضحوه في أضيافه. وقوله " أليس منكم رجل رشيد " خرج مخرج الانكار عليهم وان كان لفظه لفظ الاستفهام. والرشيد هو الذي يعمل بما يقتضيه عقله، لانه يدعو إلى الحق، ومنه الارشاد في الطرق، فقال: أما منكم من يدعو إلى الحق ويعمل به.
ونقيض الرشد الغي.
ولا يجوز نصب (أطهر) في - قول سيبويه واكثر النحويين - لان الفصل إنما يدخله مع الخبر ليؤذن بأنه معتمد الفائدة دون ماهو زائد في الفائدة، او على معنى الصفة، فلهذا لم يخبر في الحال. وأجمعوا على انه لايجوز (قدم زيد هو ابنك) الا بالرفع. ومن اجاز فانما يجيزه مع المبهم من (هذا) ونحوه تشبيها بخبر (كان). وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو بالنصب.
وقيل في وجه عرض المسلمة على الكفار قولان:
قال الحسن: ان ذلك كان جائزا في شرع لوط، وفي صدر الاسلام أيضا،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (هرع) وتفسير الطبري 15: 412 وتفسير روح المعاني 12: 95، وغيرها.
===============
(41)
ولذلك زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته بابي العاص قبل أن يسلم. ثم نسخ بقوله " ولاتنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " (1).
والثاني - قال الزجاج إن ذلك عرض بشرط ان يؤمنوا، على ماهو شرط النكاح الصحيح.
والضيف يقع على الواحد والاثنين والجماعة.
قوله تعالى:
(قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم مانريد) (79) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ماأجاب به قوم لوط حين عرض عليهم بناته ونهاهم عن الفواحش، ودعاهم إلى النكاح المباح، بأن قالوا: " مالنا في بناتك من حق " وقيل في معناه قولان:
قال ابن اسحاق والجبائي: معناه انهن لسن لنا بازواج.
والآخر - اننا ليس لنا في بناتك من حاجة، فجعلوا تناول ماليس لهم فيه حاجة بمنزلة مالا حق لهم فيه. فمن قال بالاول رده على ظاهر اللفظ. ومن قال بالثاني حمله على المعنى. وقوله " وانك لتعلم مانريد " تمام حكاية ماقالوه للوط، كأنهم قالوا له انك تعلم مرادنا من اتيان الذكران دون الاناث.
قوله تعالى:
(قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) (80)
آية بلاخلاف.
هذه حكاية ماقال لوط عند أياسه من قبول قومه، بأنه قال " لو ان لي بكم قوة "
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية 221.
===============
(42)
ومعناه اني لو قدرت على دفعكم وقويت على منعكم من اضيافي لحلت بينكم وبين ما جئتم له من الفساد، وحذف لدلالة الكلام عليه.
وقوله " او آوي إلى ركن شديد " معناه لو كان لي من استعين به في دفاعكم.
وقيل معناه لو كان لي عشيرة، قال الراجز:
يأوي إلى ركن من الاركان * في عدد طيس ومجد بان (1)
والركن معتمد البناء بعد الاساس، وركنا الجبل جانباه. وإنما قال هذا القول مع انه كان يأوي إلى الله تعالى، لانه انما أراد العدة من الرجال، وإلا، فله ركن وثيق من معونة الله ونصره، إلا انه لايصح التكليف إلا مع التمكين.
والقوة القدرة التى يصح بها الفعل، ويقال للعدة من السلاح قوة، كقوله " واعدوا لهم ما استطعتم من قوة " (2) والشدة بجمع يصعب معه التفكك، وقد يكون بعقد يصعب معه التحلل.
قوله تعالى:
(قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ماأصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) (81)
آية بلاخلاف.
القراءة والحجة:
قرأأهل الحجاز (فاسر) بوصل الهمزة من سريت. الباقون بقطعها. وقرأ ابن كثير وابوعمرو " إلا امرأتك " بالرفع. الباقو بالنصب.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 1: 294 وتفسير الطبري 15: 422 ومعنى (عدد طيس) عدد كثير.
(2) سورة الانفال آية 61.
===============
(43)
فحجة من قرأبقطع الهمزة قوله تعالى " سبحان الذي اسرى بعبده " (1) ومن وصل الهمزة فالمعنى واحد.
اللغة والمعنى:
يقال اسرى يسرى وسرى يسرى، فهو سار لغتان بمعنى واحد. والاسراء:
سير الليل قال امرؤ القيس:
سريت بهم حتى تكل مطيهم * وحتى الجياد مايقدن بارسان (2)
وقال النابغة:
اسرت عليه من الجوزاء سارية * تزجي الشمال عليه جامد البرد (3)
اخبر الله تعالى عما قالت الملائكة رسله للوط حين رأته كئيبا بسببهم " انا رسل ربك " بعثنا الله لا هلاك قومك، فلا تغتم، فانهم لاينالونك بسوء (فاسر باهلك " اي امض ومعك اهلك بالليل.
وقوله " بقطع من الليل " والقطع القطعة العظيمية تمضي من الليل. وقال ابن عباس: طائفة من الليل. وقيل هو نصف الليل كأنه قطع نصفين، ذكره الجبائي وقيل معناه في ظلمة الليل.
وقوله " ولايلتفت منكم احد " قيل في معناه قولان:
احدهما - قال مجاهد لاينظر احد وراءه، كأنهم تعبدوا بذلك للنجاة بالطاعة في هذه العبادة.
والآخر - قال أبوعلي لايلتفت منكم احد إلى ماله ولامتاعه بالمدينة، وليس
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الاسرى آية 1.
(2) ديوانه: 210 وروايته (مطوت) بدل (سريت) والمعنى واحد لان المطو: هو امتداد السير. و (مطيهم) مايركبونه من خيل او جمال. والارسان هي الحبال التي يقودون الخيل بها.
(3) ديوانه 31 ومجمع البيان 3: 182.
===============
(44)
المعنى لايلتفت من الرؤية، كأنه أراد ان في الرؤية عبرة، فلم ينهوا عنها وانما نهوا عما يفترهم عن الجد في الخروج من المدينة.
ومن رفع (امراتك) جعله بدلا من قوله " ولايلتفت منكم أحد " ومن نصبه جعله استثناء من قوله " فأسر بأهلك " كأنه قلا فأسر بأهلك إلا امرأتك، وزعموا ان في مصحف عبدالله وأبي " فاسر باهلك بقطع من الليل إلا امرأتك "، وليس فيه " ولايلتفت منكم احد " وجاز النصب على ضعفه. والرفع الوجه. وقيل ان لوطا لما عرف الملائكة اذن لقومه في الدخول إلى منزله، فلما دخلوه طمس جبرائيل (ع) اعينهم فعميت - هكذا ذكره قتادة - وعلى أيديهم، فجفت حكاه الجبائي.
وقوله " ان موعدهم الصبح اليس الصبح بقريب " معناه إن موعد اهلاكهم عندالصبح. وإنما قال " اليس الصبح بقريب، لانه لما اقتضى عظيم ماقصدوا له - من الفحش - إهلاكهم، فقالت الملائكة هذا القول تسلية له.
وقيل انه قال لهم اهلكوهم الساعة، فقالت الملائكة له ان وقت اهلاكهم الصبح " اليس الصبح بقريب ".
قوله تعالى:
(فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل * منضود (82) مسومة عند ربك وماهي من الظالمين ببعيد) (83) آيتان تمام الآية الاولى في المدني قوله " سجيل " وعند الباقين قوله " منضود ".
قيل في قوله " فلما جاء امرنا " ثلاثة أقوال.
احدها - جاء امرنا الملائكة باهلاك قوم لوط.
===============
(45)
الثاني - جاءامرنا يعني العذاب، كأنه قيل (كن) على التعظيم وطريق المجاز، كما قال الشاعر:
فقالت له العينان سمعا وطاعة * وحدرتا كالدر لما يثقب (1)
والثالث - ان يكون الامر نفس الاهلاك، كما يقال: لامر ما، أي لشئ ما وقال الرماني: انما قال أمرنا بالاضافة ولم يجز مثله في شئ، لان في الامر معنى التعظيم، فمن ذلك الامر خلاف النهي، ومن ذلك الامارة، والتأمر.
وقوله " جعلنا عاليها سافلها " معناه قلبنا القرية أسفلها أعلاها " وامطرنا عليها " يعني أرسلنا على القرية حجارة بدل المطر حتى أهلكتهم عن آخرهم.
والامطار إحدار المطر من السماء.
وقوله " من سجيل " قيل في معنى سجيل ثمانية أقوال:
احدها - انها حجارة صلبة ليست من جنس حجارة الثلج والبرد. وقيل هو فارسي معرب (سنل، وكل) ذكره ابن عباس وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير.
والثاني - قال الفراء من طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الآجر، ويقويه قوله " لنرسل عليهم حجارة من طين " (2). وقال ابوعبيدة انها شديدة من الحجارة وانشد لابن مقبل:
ضربا تواصى به الابطال سجينا " (3)
إلا ان النون قبلت لاما.
الثالث - من مثل السجيل في الارسال، والسجيل الدلو، وقال الفضل ابن العباس:
من يساجلني يساجل ماجدا * يملا الدلو إلى عقد الكرب (4)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مرتخريجه في 1: 431 وهو في مجمع البيان 3. 185.
(2) سورة الذاريات آية 33.
(3) مجمع البيان 3. 183 ومجاز القرآن 1. 296 واللسان (سجل)، (سجن) وتفسير الطبرى 15. 434.
(4) تفسير الطبري 15. 435.
===============
(46)
الرابع - من اسجلته أذا أرسلته، فكأنه مثل مايرسل في سرعة الارسال.
الخامس - من اسجلته اذا اعطيته، فتقديره مرسل من العطية في الادرار.
السادس - من السجل وهو الكتاب، فتقديره من مكتوب الحجارة، ومنه قوله " كلا ان كتاب الفجار لفي سجين وماادراك ماسجين كتاب مرقوم " (1)
وهي حجارة كتب الله ان يعذبهم بها، اختاره الزجاج.
السابع - من سجين اي من جهنم ثم ابتدلت النون لاما.
الثامن - قال ابن زيد من السماء الدنيا، وهي تسمى سجيلا.
ومعنى " منضود " قيل فيه قولان:
احدهما - قال الربيع نضد بعضه على بعض حتى صار حجرا، وقال قتادة مصفوف في تتابع، وهو من صفة سجيل، فلذلك جره.
وقوله " مسومة " يعنى معلمة، وذلك انه جعل فيها علامات تدل على انها معدة للعذاب، فاهلكوا بها، قال قتادة: كانوا أربعة آلاف الف. وقيل:
كانت مخططة بسواد وحمزة ذكره الفراء فتلك تعليمها، ونصب (مسومة) على الحال من الحجارة.
وقوله " عند ربك " معناه في خزائنه التي لايتصرف في شئ منها إلا باذنه، فاذا أمر الملك ان يمطرها على قوم فعل ذلك باذنه. واصل المسومة من السيماء، وهي العلامة، وذلك ان الابل السائمة تختلط في المرعي، فيجعل عليها السيماء لتمييزها.
وقوله " وماهي من الظالمين ببعيد " قيل في معناه قولان:
احدهما - ان مثل ذلك ليس ببعيد من ظالمي قومك يامحمد اراد به اذهاب قريش، وقال ابوعلي ذلك لايكون إلا في زمان نبي أو عند القيامة، لانه معجز.
والثاني - قال " وماهي من الظالمين ببعيد " يعنى من قوم لوط انها لم تكن تخطيهم. وقال مجاهد: إن جبرائيل (ع) ادخل جناحه تحت الارض السفلى من قوم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المطففين آية 7 - 9
===============
(47)
لوط ثم أخذهم بالجناح، الايمن فاخذهم مع سرحهم ومواشيهم. ثم رفعها إلى سماء الدنيا حتى سمع اهل السماء نباح كلابهم. ثم قلبها، فكان اول ماسقط منها شرافها، فذلك قول الله تعالى " فجعلنا عاليها سافلها " قال السدي وهو قوله " والمؤتفكة اهوى " (1) وإنما أمطر الله عليهم الحجارة بعد أن قبلت قريتهم تغليظا للعذاب وتعظيما له، وقيل قتل بها من كان بقي حيا، وقرية قوم لوط يقال لها:
سدوم، بين المدينة والشام. وقيل ان إبراهيم (ع) كان يشرف عليها فيقول:
سدوم يوم مالك.
قوله تعالى:
(وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولاتنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) (84) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى انه أرسل شعيبا - أخامدين - اليهم نبيا، وانما سمى شعيبا أخاهم، لانه كان من نسبهم. وقيل: انهم من ولد مدين بن ابراهيم. وقيل ان مدين اسم القبيلة او المدينة التي كانوا فيها - في قول الزجاج - فعلى هذا يكون التقدير، والى أهل مدين أخاهم كما قال " واسأل القرية، فقال لهم شعيب:
ياقوم اعبدوا الله وحده لاشريك له، فانه ليس لكم إله يستحق العبادة سواه، ونهاهم ان يبخسوا الناس فيما يكيلوا به لهم ويزينونه لهم، وقال لهم إني أراكم بخير، يعني برخص السعر، وحذرهم الغلاء - في قول ابن عباس والحسن - وقال قتادة وابن زيد: اراد بالخير زينة الدنيا والمال. وقال لهم " إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط " يعني يوم القيامة، لانه يحيط عذابه بجميع الكفار في قول الجبائي، فوصف اليوم بالاحاطة، وهو من نعت العذاب في الحقيقة، لان اليوم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النجم آية 53.
===============
(48)
محيط بعذابه بدلا من إحاطته بنعيمه، وذلك أظهر في الوصف وأهول في النفس.
والنقصان اخذ الشئ عن المقدار والزيادة ضم الشئ إلى المقدار، وكله خروج عن المقدار أو نقصه عنه. والوزن تعديل الشئ بغيره في الخفة والثقل بآلة التعديل، وإذا قيل شعر موزون معناه معدل بالعروض.
قوله تعالى:
(وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولاتعثوا في الارض مفسدين) (85) آية بلاخلاف.
وهذا أيضا حكاية ماقال شعيب لقومه، وإنه امرهم ان يوفوا المكيال والميزان بالقسط يعني بالعدل والسوية، " ولاتبخسوا الناس اشياءهم " أي لا تنقصوهم " ولاتعثوا في الارض مفسدين " أي لاتضطربوا بالقبيح.
اللغة:
يقال عثى يعثي عثاء، وعاث يعيث عيثا، بمعني واحد، والوفاء تمام الحق.
والوفاء به إتمامه يقال: وفي يفي وأوفى لغتان، ونقيض الوفاء البخس. والفرق بين البخس والظلم أن الظلم أعم، لان البخس نقصان الحق اللازم، وقد يكون الظلم الالم بغير حق.
قوله تعالى:
(بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنون * وماأنا عليكم بحفيظ) (86) آية.
البقية تركه شئ من شئ قد مضى، والمعنى بقية الله من نعمه. وقيل " بقية الله " طاعة الله - في قول الحسن ومجاهد - لانه يبقي ثوابها أبدا، وكانت هذه البقية خيرا من تعجيلهم النفع بالبخس في المكيال والميزان، وانما شرط أنه خير بالايمان في قوله " ان كنتم مؤمنين " وهو خير على كل حال، لانهم إن كانوا مؤمنين بالله
===============
(49)
عرفوا صحته. ووجه آخر - ان المراد " إن كنتم مؤمنين " فهو ثابت.
وقوله " وما انا عليكم بحفيظ " معناه ههنا ان هذه النعمة التي انعمها الله عليكم لست أقدر على حفظها عليكم وإنما يحفظها الله عليكم. إذا اطعتموه، فان عصيتموه أزالها عنكم.
وقال قوم " وماانا عليكم بحفيظ " احفظ عليكم كيلكم ووزنكم حتى توفوا الناس حقوقهم، ولاتظلموهم، وإنما علي ان انها كم عنه.
قوله تعالى:
(قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك مايعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا مانشاء إنك لانت الحليم الرشيد) (87)
آية بلاخلاف.
قرأ اهل الكوفة إلا أبابكر " أصلاتك " على التوحيد. الباقون على الجمع.
هذا حكاية ماقال قوم شعيب له (ع) حين نهاهم عن بخس المكيال والميزان وأمرهم بايفاء الحقوق " ياشعيب اصلاتك تأمرك " بهذا، قال الحسن وأرادوا بالصلاة الدين أي ادينك. وقال الجبائي يريدون ماكانوا يرونه من صلاته لله وعبادته إياه، وانما اضاف ذلك إلى الصلاة، لانها بمنزلة الامر بالخير، والتناهي عن المنكر، وقيل أدينك، على ماحكيناه عن الحسن.
وقوله " ان نترك مايعبد اباؤنا " كرهوا الانتقال عن دين آبائهم ودخلت عليهم شبهة بذلك، لانهم كانوا يعظمون آباءهم وينزهونهم عن الغلط في الامر، فقالوا لولم يكن صوابا مافعلوه، وان خفي عنا وجهه. وقوله " انك لانت الحليم الرشيد " قيل في معناه قولان:
تفسير التبيان ج 6 - م 4
===============
(50)
احدهما - أنهم قالوا ذلك على وجه الاستهزاء - في قول الحسن وابن جريج وابن زيد. والآخر - أنهم ارادوا " أنت الحليم الرشيد " عند قومك، فلا يليق هذا الامر بك، وقال المؤرج " الحليم الرشيد " معناه الاحمق السفيه، بلغة هذيل، والحليم الذي لايعاجل مستحق العقوبة بها، والرشيد المرشد.
قال الزجاج " او ان نفعل " موضع (أن) نصب والمعنى او تأمرك ان نترك او ان نفعل في اموالنا مانشاء، والمعنى إنا قد تراضينا بالبخس فيما بيننا. وقال الفراء: معناه اتامرك ان نترك ان نفعل في اموالنا مانشاء، ف (ان) مردودة على نترك. ووجه آخر، وهو ان يجعل الامر كالنهي، كأنه قال أصلاتك تأمرك بذا أو تنهانا عن ذا، فهي حينئذ مردودة على (ان) الاولى ولااضمار فيه، كانك قلت تنهانا ان نفعل في اموالنا مانشاء، كما تقول اضربك ان تسئ، كأنه قال انهاك بالضرب عن الاساءة. ويقرأ " ان نفعل في اموالنا ماتشاء ". والذي نقوله ان قوله " ان نفعل " ليس بمعطوف على (ان) الاولى، وانما هو معطوف على (ما) وتقديره فعل مانشاء في اموالنا، وليس المعنى اصلاتك تأمرك ان نفعل في اموالنا مانشاء، لانه ليس بذلك امرهم.
و " الرشيد " معناه رشيد الامر، في امره إياهم ان يتركوا عبادة الاوثان.
وقيل ان قوم شعيب عذبوا في قطع الدراهم وكسرها وحذفها.
قوله تعالى:
(قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وماأريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح مااستطعت وماتوفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) (88) آية بلاخلاف.
===============
(51)
جواب (أن) في الاية محذوف، والتقدير ياقوم إن كنت على حجة ودلالة من ربي، ومع ذلك رزقنى منه رزقا حسنا، وانمنا وصفه بأنه حسن مع ان جميع رزق الله حسن لامرين:
احدهما - انه اراد ب (حسنا) حسن موقعه لجلالته وعظمته.
والثاني - انه اراد ماهو عليه على وجه التأكيد. وقيل إن الرزق الحسن ههنا النبوة. وقال البلخي معناه الهدي والايمان، لانهما لايوصل اليهما إلا بدعائه وبيانه ومعونته ولطفه، وتريدون أن أعدل عما انا عليه من عبادته مع هذه الحال الداعية اليها؟، وانما حذف لدلالة الكلام عليه، والرزق عطاء الخير الجاري في حكم المعطي، والعطية الواصلة من الانسان رزق من الله. وصلة من الانسان، لادرار الخير على العبد في حكمه.
وقوله " وماأريد ان اخالفكم إلى ماانهاكم عنه ". قيل في معناه قولان:
احدهما - ليس نهيي لكم لمنفعة اجرها إلى نفسي بماتتركون من منع الحقوق.
والثاني - أنا لا انهى عن القبيح وافعله مثل من ليس بمستبصر في امره، كما قال الشاعر:
لاتنه عن خلق وتاتي مثله * عار عليك اذا فعلت عظيم (1)
وقوله " ان أريد الا الاصلاح " معناه لست أريد بماآمركم به وانهاكم عنه الا اصلاح حالكم ماقدرت عليه.
وقوله " وماتوفيقي الا بالله " والتوفيق عبارة عن اللطف الذي تقع عنده الطاعة وذلك بحسب مايعلم الله تعالى. وانما لم يكن الموفق للطاعة الا الله، لان احدا لايعلم مايتفق عنده الطاعة - من غير تعليم - سواه تعالى.
وقوله " عليه توكلت " معناه على الله توكلت وفوضت أمري اليه على وجه الرضا بتدبيره مع التمسك بطاعته " واليه أنيب " قيل في معناه قولان:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر هذا البيت في 1: 191 و 2: 193 و 3: 4 و 5: 125.
===============
(52)
احدهما - قال مجاهد: اليه ارجع. والثاني - قال الحسن: اليه ارجع بعملي وبنيتي اي اعمل اعمالي لوجه الله.
قوله تعالى:
(وياقوم لايجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وماقوم لوط منكم ببعيد) (89) آية بلاخلاف.
هذا حكاية ماقال شعيب لقومه حين لم يقبلوا أمره ونهيه " ياقوم لا يجر منكم " وقيل في معناه قولان:
احدهما - قال الحسن وقتادة لا يحملنكم.
والثاني - قال: الزجاج معناه لايكسبنكم، كانه قال لا يقطعنكم اليه بحملكم عليه.
والشقاق والمشاقة المباعدة بالعداوة إلى جانب المباينة، وشقها. وكان سبب هذه العداوة دعاؤه لهم إلى مخالفة الاباء والاجداد في عبادة الاوثان. ومايثقل عليهم من الايفاء في الكيل والميزان.
وقوله " ان يصيبكم مثل مااصاب قوم نوح او قوم هود او قوم صالح " قيل اهلك الله قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح العقيم، وقوم صالح بالرجفة، وقوم لوط بالائتفاك، فحذرهم شعيب ان يصيبهم مثل ذلك.
وقوله " وماقوم لوط منكم ببعيد " قيل في معناه قولان:
احدهما - قريب منكم في الزمان الذي بينهم وبينكم، في قول قتادة.
والاخر - ان دارهم قريبة من دارهم فيجب ان يتعظوا بهم.
قوله تعالى:
(واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم
===============
(53)
ودود) (90) آية بلاخلاف.
في هذه الآية حكاية ماقال شعيب أيضا لقومه بعد تحذيره اياهم عذاب الله وحثهم على ان يطلبوا مغفرة الله. ثم يرجعوا إلى طاعته، واخبرهم ان الله رحيم بعباده، يقبل توبتهم ويعفو عن معاصيهم، ودود بهم أي محب لهم، ومعناه مريد لمنافعهم.
وقيل في معنى " استغفروا ربكم ثم توبوا اليه " قولان:
احدهما اطلبوا المغفرة من الله بأن يكون غرضكم. ثم توصلوا اليها بالتوبة.
الثاني - استغفروا ربكم ثم اقيموا على التوبة.
ووجه ثالث - ان معناه استغفروا ربكم على معاصيكم الماضية. ثم ارجعوا اليه بالطاعات في المستقبل.
والمودة على ضربين: احدهما - بمعنى المحبة، تقول وددت الرجل اذا احببته، والثاني - وددت الشئ اذا تمنيته أود فيهما مودة وانا واد، والودود المحب لاغير.
قوله تعالى:
(قالوا ياشعيب مانفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وماأنت علينا بعزيز) (91)
آية بلاخلاف.
في هذه الآية حكاية مااجاب به قوم شعيب له (ع) فقالوا له حين سمعوا منه الوعظ والتخويف: لسنا نفقه أي لسنا نفهم عنك معنى كلامك، والفقة: فهم الكلام على ماتضمن من المعنى، وقد صار علما لضرب من علوم الدين، فصار الفقة عبارة عن علم مدلول الدلائل السمعية، واصول الدين علم مدلول الدلائل العقلية.
===============
(54)
وقوله " وانا لنراك فينا ضعيفا " قيل في معناه اربعة اقوال: قال الحسن:
معناه مهينا، وقال سفيان: معناه ضعيف البصر، وقال سعيد بن جبير وقتاددة:
كان اعمى. قال الزجاج ويسمى الاعمى بلغة حمير ضعيفا.
وقال الجبائي معناه: ضعيف البدن.
وقوله " ولولا رهطك " فالرهط عشيرة الرجل وقومه، واصله الشد، والترهط شدة الاكل، ومنه الرهطاء جحر اليربوع لشدته وتوثيقه ليخبئ فيه ولده.
وقوله " لرجمناك " فالرجم الرمي بالحجارة، والمعنى لرميناك بالحجارة.
وقيل معناه لسبيناك " وماانت علينا بعزيز " اي علينا لست بممتنع،
فلانقدر عليك بالرجم، ولا أنت بكريم علينا، وانما تمتنع لمكان عشيرتك. وعشيرته كانوا على دينه.
قوله تعالى:
(قال ياقوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط) (92) آية.
هذا حكاية ماقال شعيب لقومه حين قالوا " لولا رهطك لرجمناك " ياقوم اعشيرتي وقومي أعز عليكم من الله. والاعز الاقوى الامنع. والاعز نقيض الاذل، والعزة نقيض الذلة والعزيز نقيض الذليل.
وقوله " واتخذ تموه وراءكم ظهريا " فالاتخاذ اخذ الشئ لامر يستمر في المستأنف كاتخاذ البيت واتخاذ المركوب، والظهري جعل الشئ وراء الظهر قال الشاعر:
وجدنا نبي البرصاء من ولد الظهر (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائله ارطاة ابن سيهة، انظر نسبه في الاغاني 13: 27 (دار الثقافة). والبيت في اللسان (ظهر) ومجاز القرآن 1: 398 وتفسير الطبري (دار المعارف) 15: 459 وصدره:
فمن مبلغ ابناء مرة أننا..
===============
(55)
وقال آخر:
تميم بن قيس لاتكونن حاجتي * بظهر ولايعيا علي جوابها (1)
وقيل فيما تعود الهاء اليه من قوله " اتخذتموه " ثلاثة اقوال: فقال ابن عباس والحسن: انها عائدة على الله. وقال مجاهد: هي عائدة على ماجاء به شعيب.
وقال: الزجاج: هي عائدة على أمر الله.
وقوله " ان ربي بما تعملون محيط " قيل في معناه ههنا قولان:
احدهما - انه محص لاعمالكم لايفوته شئ منها.
الثاني - انه خبير باعمال العباد ليجازيهم بها - ذكره الحسن - قال سفيان كان شعيب خطيب الانبياء.
قوله تعالى:
(وياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون (93)
من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب) (94) آيتان.
فقال لهم شعيب ايضا " ياقوم اعملوا على مكانتكم " والمكانة الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمل ما، فقال لهم قد مكنتم في الدنيا من العمل، كما مكن غيركم ممن عمل بطاعة الله، وسترون منزلتكم من منزلته. وهذا الخطاب وإن كان ظاهره ظاهر الامر فالمراد به التهديد، وتقديره كأنكم انما أمرتم بأن تكونوا على هذه الحال من الكفر والعصيان. وفي هذا نهاية الخزي والهوان.
وقوله " سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه " معناه انكم تعلمون في المستقبل
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائله الفرزدق ديوانه 1: 95 وقد مر في 3: 74 وهو في اللسان (ظهر) ورواية الديوان (زيد لاتهونن) بدل (قيس لاتكونن).
===============
(56)
من يحل به العذاب الذي يخزيه اي يفضحه ويذله، وهو أشد من العذاب الذي لايفضح " ومن هوكاذب " وتعرفون من هو الكاذب مني ومنكم.
وقوله " وارتقبوا " معناه انتظروا ماوعدتكم به من العذاب، يقال رقبه يرقبه رقوبا وارتقبه ارتقابا وترقبه ترقبا " اني معكم رقيب " اي منتظر لنزول ذلك بكم. وموضع " من يأتيه " ان جعلت (من) بمعنى الذي نصب، وقوله " ومن هوكاذب " عطف عليه، وان جعلتها للاستفهام كان موضعها الرفع، ذكره الفراء وادخلوا (هو) في قوله " ومن هو " لانهم لايقولون: من قائم؟ ولا من قاعد؟، وانما يقولون: من قام؟ ومن يقوم؟ أو من القائم؟ فلما لم يقولوا إلا المعرفة او يفعل، ادخلوا (هو) مع قائم، ليكونا جميعا في مقام (فعل، ويفعل) لانهما يقومان مقام اثنين، وقد ورد في الشعر من قائم؟ قال الشاعر:
من شارب مربح بالكأس نادمني * لا بالحصور ولافيها بسئوار (1)
قال الفراء: وربما خفضوا بعدها، فيقولون: من رجل يتصدق علي؟ بتأويل هل من رجل؟ قوله تعالى:
(ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) (95)
آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى انه " لماجاء أمر " الله باهلاك قوم شعيب، وقد بينا معناه فيما مضى (2) " نجينا شعيبا " اي خلصناه، ونجينامعه من كان مؤمنا من قومه برحمة
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائله الاخطل ديوانه 107 واللسان (سور) وروايته: (وشارب مرج)
(2) في 4: 462 - 504.
===============
(57)
من جهته تعالى، ويجوز ان يكون في نجاة شعيب، ومن آمن معه لطف لمن سمع بأخبارهم فيؤمن، كما انه متى كان في نجاة الظالمين لطف وجب تخليصهم، وكذلك ان كان المعلوم من حال الكافر انه يؤمن فيما بعد وجب تبقيته - عند أبي علي ومن وافقه - وعند قوم آخرين لايجب.
وقوله " وأخذت الذين ظلموا الصيحة " انث الفعل ههنا لانه رده إلى الصيحة، وفيما قبل (1) ذكر، لانه رده إلى الصياح.
وقوله " فاصبحوا في ديارهم جاثمين " قال الجبائي: معناه منكبين على وجوههم.
وقال قوم: الجثو على الركب. وقال قوم: معناه خامدين موتى. قال البلخي يجوز ان تكون الصيحة صيحة على الحقيقة، كما روي ان الله تعالى امر جبرائيل فصاح بهم صيحة ماتوا كلهم من شدتها، ويجوز ان يكون ضربا من العذاب اهلكهم واصطلمهم تقول العرب: صاح الزمان بآل فلان إذا هلكوا. قال امرؤ القيس:
دع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديث ماحديث الرواحل (2)
(معنى صيح في حجراته) اي اهلك وذهب به.
قوله تعالى:
(كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) (96) آية بلاخلاف.
شبه الله تعالى هلاك قوم شعيب وانقطاع آثارهم منها بحالهم لولم يكونوا فيها يقال: غنى بالمكان إذا اقام به على وجه الاستغناء به عن غيره. واتخاذه وطنا ومأوى يأوي اليه، ولذلك قيل للمنازل المغاني، وانما شبه حالهم بحال ثمود خاصة، لانهم أهلكوا بالصيحة كما اهلكت ثمود مثل ذلك مع الرجفة.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) آية 67 من هذه السورة.
(2) ديوانه: 174 واللسان (حجر).