انه لايصدقهم إتهاما لهم لشدة محبته ليوسف يسئ الظن بهم، ولاتسكن نفسه إلى خبرهم.
قوله تعالى:
(وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) (18)
آية بلاخلاف.
حكى الله تعالى عن أخوة يوسف انهم جاؤا أباهم، ومعهم قميص يوسف ملطخ بدم. وقالوا له هذا دم يوسف حين أكله الذئب. وقال ابن عباس ومجاهد كان دم سخلة، قال الحسن: لما رأى يعقوب القميص صحيحا، قال: يابني والله ما عهدت الذئب عليما.
قال عامر الشعبي: كان في قميص يوسف ثلاث آيات:
احدها - حين ألقي على وجه أبيه، فارتد بصيرا، وحين قد من دبر، وحين جاؤا على قميصه بدم كذب. ومعنى (كذب) مكذوب فيه، كماقيل الليلة الهلال فيرفع، وكماقال " فما ربحت تجارتهم " (1) أي ماربحوا في تجارتهم إلا انه وصف في المصدر، وتقديره بدم ذي كذب، لكن إذا بولغ في الصفة اجري على هذه الصفة، وقال الفراء يجوز ان يكون المصدر وقع موقع مفعول، كمايقع مفعول موقع المصدر في مثل قول الراعي القطامي:
حتى اذا لم يتركوا لعظامه * لحما ولا لفؤاده معقولا (2)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية 16.
(2) تفسير الطبري 15: 583، وجمهرة اشعار العرب: 175 ومجاز القرآن 1: 303 وامالي الشريف المرتضى 1: 106.
===============
(112)
ولايجيزه سيبويه، ويقول مفعول لايكون مصدرا، ويتأول قولهم: خذ ميسوره، ودع معسوره أي خذ مايسر ودع ماعسر عليه، وكذلك: ليس لفؤاده معقولا أي مايعقل به.
وقوله " قال بل سولت لكم انفسكم امرا " حكاية ماقال يعقوب لهم. والتسويل تزيين النفس ماليس بحسن - في قول قتادة - وقيل معناه تقرير معنى في النفس على الطبع في تمامه، وهو تقدير معنى في النفس على توهم تمامه.
وقوله " فصبر جميل " فالصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى فيه على ما يدعو إليه العقل، ويحتمل رفع الصبر أمرين: احدهما - ان يكون خبر ابتداء وتقديره فأمري صبر جميل. الثاني - ان يكون مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره فصبر جميل أولى من الجزع الذي لاينبغي لي، قال الشاعر:
يشكوا الي جملي طول السرى صبر جميل فكلانا مبتلى (1)
ولو نصب لجاز، ولكن الاحسن الرفع، لانه موصوف. وقوله " والله المستعان على ماتصفون " حكاية ماقال يعقوب عند ذلك، بأن الله تعالى هو الذي يطلب منه المعونة على ماذكروه، وتقديره استعين بالله على احتمال ما تصفونه، وعلى الصبر كله.
قوله تعالى:
(وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون) (19)
آية بلاخلاف.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) امالي الشريف المرتضي 1: 107، وروايته:
شكاالي جملي طول السرى * ياجملي ليس الي المشتكى
الدرهمان كلفان ماترى * صبر جميل فكلانا مبتلى
===============
(113)
قرأ أهل الكوفة " يابشري " بغير الف. الباقون بالالف والياء، وكان يجوز أن يقرأ بياء مشددة " بشري " وهي لغة هذيل غير انه لم يقرأ به احد، قال أبوذؤيب:
سبقوا هوي واعنقوا لهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع (1)
قال ابوعلي: من قرأ (يابشراي) فاضافه إلى الياء التى للمتكلم، كأن للالف التي هي حرف الاعراب موضعان من الاعراب:
احدهما - ان تكون في موضع نصب لانه منادى مضاف.
والآخر - ان تكون في موضع كسر، لانه بمنزلة حرف الاعراب في غلامي.
ومن قرأ " يابشرى " احتمل وجهين:
احدهما - ان يكون في موضع ضم مثل يارجل بالنداء لاختصاصه كاختصاص الرجل.
والآخر - ان يكون في موضع النصب لانك اشعت النداء ولم تخص به، كما فعلت في الوجه الاول كقوله " ياحسرتا على العباد " (2).
اخبر الله تعالى أنه حين ألقى أخوة يوسف يوسف في غيابة الجب جاءت سيارة، وهم جماعة مسافرون مارة فبعثوا واردهم، وهوالذي يصير إلى الماء ليستسقي منه " فأدلى دلوه " يعني أرسل دلوه ليملا، يقال ادليت الدلو إذا ارسلتها لتملا، ودلوتها إذا اخرجتها مملاة، وقيل انه لماارسل الدلو تعلق بها يوسف، فقال المدلي " يابشراي " هذاغلام، في قول قتادة والسدي.
وقيل في معنى (بشراي) قولان:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 1: 2 وامالي الشريف المرتضي 1: 293 ورواية الامالي (لسبيلهم) بدله (لهواهم). (2) سورة يس آية 30.
تفسير التبيان ج 6 - م 8
===============
(114)
احدهما - انه بشر اصحابه بأنه وجد عبدا.
والثاني - قال السدي كان اسمه (بشرى) فناداه.
وقوله " واسروه بضاعة " قيل في معناه قولان:
احدهما - قال مجاهد والسدي أسره المدلي، ومن معه من باقي التجار لئلا يسألوهم الشركة فيه.
الثاني قال ابن عباس اسره اخوته يكتمون أنه أخوهم وتابعهم على ذلك يوسف لئلا يقتلوه. والبضاعة قطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشئ اذا قطعته، ومنه المبضع، لانه يبضع به العرق. ومعنى " وأسروه " أنهم لما وجدوه أحبوا أن لايعلم أنه موجود، وان يوهموا أنه بضاعة دفعها اليهم أهل الماء، ونصب بضاعة على الحال.
وقوله " والله عليم بمايعملون " اخبار منه تعالى بأنه عالم بافعالهم، فيجازيهم على جميعها، وان اسروا بها، وفي ذلك غاية التهديد.
قوله تعالى:
(وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) (20) آية بلاخلاف.
حكى الله تعالى عن اخوة يوسف أنهم باعوا يوسف. يقال شريت أشري اذا بعت. ومنه قوله " ولبئس ماشروا به انفسهم لو كانوا يعلمون " (1) وقال يزيد ابن مفرغ الحميري:
وشريت بردا ليتني * من بعد برد كنت هامه (2)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية 102 (2) مرهذا البيت في 1: 348، 3: 257.
===============
(115)
وقوله " بثمن بخس دراهم معدودة " أي بثمن ذي بخس، أي ناقص. وقيل بثمن ذي ظلم، لانه كان حرا، لايحل بيعه، فالثمن هوبدل الشئ من العين أو الورق. ويقال في غيرهما أيضا مجازا. والبخس النقص من الحق، يقال: بخسه في الوزن او الكيل إذا نقصه من حقه فيهما. ومعنى " معدودة " اي قليلة، لان الكثير قد يمنع من عدده لكثرته. وقيل: عدوها ولم يزنوها. وقيل: انهم كانوا لايزنون الدراهم حتى تبلغ أوقية، وأوقيتهم أربعون درهما. وقال عبدالله بن مسعود وابن عباس وقتادة: إنهاكانت عشرين درهما. وعن ابي عبدالله (ع) إنهاكانت ثمانية عشر درهما. وقال ابن عباس ومجاهد: ان الذين باعوه اخوته، وانهم كانوا حضورا، فقالوا هذا عبد لناابق، فباعوه. وقال قتادة الذين باعوه السيارة.
وقوله " وكانوا فيه من الزاهدين " يعني الذين باعوه، زهدوا فيه، فلذلك باعوه بثمن بخس، وتقديره وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين بجهلهم بماله عند الله من المنزلة الرفيعة، وانما قدموا الظرف، لانه أقوى في حذف العامل من غيره، ولايجوز قياسا على ذلك (وكانوا زيدا من الضاربين)
قوله تعالى:
(وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون) (21) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى عن من اشتري يوسف (ع) من بايعه من أهل مصر أنه قال:
لامرأته حين حمله اليها " أكرمي مثواه " يعني موضع مقامه، وانما امرها باكرام مثواه دون اكرامه في نفسه، لان من أكرم غيره لاجله كان اعظم منزلة ممن يكرم في نفسه فقط، والاكرام اعطاء المراد على جهة الاعظام، وهويتعاظم
===============
(116)
فأعلاه منزلة مايستحق بالنبوة، وادناه مايستحق لخصلة من الطاعة أدناها كإماطة الاذى من الطريق وغيره.
وقوله " عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا "، بين أنه إنما يأمرها باكرامه لما يرجو من الانتفاع به فيما بعد أو للتبني به. وقال ابن مسعود: احسن الناس فراسة ثلاثة:
العزيز حين قال لامرأته " اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا " وابنة شعيب حين قالت في موسى " ياأبت استأجره " (1) وأبوبكر حين ولى عمر.
وقوله " وكذلك مكنا ليوسف في الارض " ووجه التشبيه فيه انه تعالى شبه التمكين له في الارض بالتوفيق للاسباب التي صار بها إلى ماصار بالنجاة من الهلاك والاخراج إلى اجل حال.
وقوله " ولنعلمه من تأويل الاحاديث " اللام فيه محمولة على تقدير دبرنا ذلك لنمكنه في الارض، ولنعلمه من تأويل الاحاديث.
وقوله " والله غالب على امره " معناه أنه قادر عليه من غير نافع حتى يقع ما أراد، ومنه وقوع المقهور بالغلبة في الذلة. وقيل غالب على امريوسف يدبره ويحوطه.
وقوله " ولكن اكثر الناس لايعلمون " اخبار منه تعالى ان اكثر الخلق غير عالمين بحسن تدبير الله لخلقه، ومايجريه اليهم من مصالحهم وانه قادر لايغالب، بل هم جاهلون بتوحيده، ولايدل ذلك على ان من فعل ماكرهه الله يكون قد غالب الله، لان المراد بذلك ماقلناه من انه غالب على مايريد فعله بعباده.
فاما مايريده على وجه الاختيار منهم فلا يدل على ذلك، ولذلك لايقال ان اليهودي المقعد قد غلب الخليفة حيث لم يفعل ما اراده الخليفة من الايمان، وفعل ماكرهه من اليهودية وهذا واضح.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة القصص آية 26.
===============
(117)
قوله تعالى:
(ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) (22) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى ان يوسف لما بلغ أشده، وهوكمال القوة. وقال قوم هو من ثماني عشرة سنة إلى ستين سنة، وقال ابن عباس من عشرين. وقال مجاهد من ثلاث وثلاثين سنة، والاشد جمع، لاواحد له من لفظه مستعمل. وفي القياس واحد شد، كواحد الاضر ضر، وواحد الاشر شر قال الشاعر:
هل غير ان كثر الاشر واهلكت * حرب الملوك اكاثر الاموال (1)
وقوله " آتيناه حكما وعلما " يعني أعطيناه ذلك، والحكم القول الفصل الذي يدعو إلى الحكمة ويقال تقديرا لما يوتى له بعلة: يعلم من دليل الحكم ومن غير دليل الحكم. والاصل في الحكم تبيين مايشهد به الدليل، لان الدليل حكمة من اجل أنه يقود إلى المعرفة. وقيل: معناه آتيناه الحكم على الناس. وقيل آتيناه الحكمة في فعله بألطافنا له، والحكيم العامل بمايدعو اليه العلم. والعلم ما اقتضى سكون النفس. وقال قوم هو تبيين الشئ على ماهو به، وزاد فيه الرماني: ما يحل في القلب تحرزا من الرؤية، لانها يبين بها الشئ على ماهو به، لكنه معنى يحل في العين، ومن قال الادراك ليس بمعنى لايحتاج إلى ذلك.
وقوله " وكذلك نجزي المحسنين " معناه مثل ماجازينا يوسف نجازي كل من أحسن وفعل الافعال الحسنة من الطاعات. والاحسان هوالنفع بالحسن الذي يستحق به الحمد، فعلى هذا يصح أن يحسن الانسان إلى نفسه كما يصح أن يسئ إلى
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان 3: 221 وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 12: 98 وروايته (الاشد)
بدل (الاشر).
===============
(118)
نفسه، ولايصح ان ينعم على نفسه، لان النعمة تقتضي استحقاق الشكر عليها، ولايصح ذلك بين الانسان ونفسه.
قوله تعالى:
(وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون) (23) آية بلاخلاف.
قرأ ابوعمرو، وعاصم وحمزة والكسائي (هيت) بفتح الهاء والتاء، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء، وضم التاء. وقرأ نافع وابن عامر (هيت) بكسر الهاء وفتح التاء. وروى هشام بن عامر عن ابن عامر (هئت) بالهمز من تهيأت، وكسر الهاء، وضم التاء، وانكر الهمزة أبوعمرو بن العلاء والكسائي، قال طرفة:
ليس قومي بالابعدين إذا * ماقال داع من العشيرة هيت
هم يجيبون ذا هلم سراعا * كالابابيل لايغادر بيت (1)
فهذا شاهد لابن كثير قال ابوعبيدة: هيت لك " معناه هلم، قال: وقال:
رجل لعلي (ع):
أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا ان العراق واهله سلم اليك فهيت هيتا (2)
قال ابوالحسن: وكسر الهاء لغة، وقال بعضهم بالهمز من تهيأت لك، وهي حسنة إلا ان المعنى الاول أحسن، لانها دعته، والمفتوحة أكثر اللغات، ففيه ثلاث لغات.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 1: 303، وتفسير القرطبي 9: 194، وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 15، وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) (12: 100.
(2) انظر تخريجه في الصفحة التي بعدها.
===============
(119)
ومعنى قوله " وراودته " أي طالبته، والمراودة المطالبة بأمر للعمل به، ومنه المرود لانه يعمل به، ولايقال في المطالبة بدين راوده. ومعنى " التي هو في بيتها " يعني امرأة العزيز " وغلقت الابواب " فالتغليق اطباق الباب بما يعسر فتحة. وانما قيل (غلقت) لتكثير الاغلاق او المبالغة في الاغلاق، وألف (باب)
منقلبة من الواو لقولهم: بويب وأبواب ومعنى " هيت لك " تعال وهلم إلى ماهو لك، أنشد ابوعمرو بن العلاء:
أبلغ أمير المؤمنين اخا العراق اذا اتيت ان العراق واهله سلم اليك فهيت هيت (1)
ويقال للواحد والاثنين والجمع والذكر والانثى (هيت) بلفظ واحد. وقال ابن عباس والحسن وابن زيد معنى " هيت لك " هلم لك.
وقوله " معاذ الله " حكاية عن يوسف أنه قال ذلك. والمعنى أعوذ عياذا بالله أن أجيب إلى هذا أو ان يكون هذا أي اعتصم بالله من هذا. وقوله " ان ربي احسن مثواي " معناه ان الملك الذي هو زوجها، مالكي في الحكم " أحسن مثواي " باكرامي وبسط يدي ورفع منزلتي، وهوقول مجاهد وابن اسحاق والسدي والجبائي، وقال الحسن يعني العزيز، وقال الزجاج يجوز ان يكون اراد ان الله ربي احسن مثواي أي في طول مقامي. وقوله " انه لا يفلح الظالمون " حكاية ان يوسف قال: ان من ظلم نفسه بارتكاب المعاصي لايفلح ولايفوز بشئ من الثواب.
قوله تعالى:
(ولقد همت به وهم بها لولا أن را برهان ربه كذلك
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (هيت) ومجاز القرآن 1: 305، وتفسير القرطبي 9: 194 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 15، وتفسير الطبري 12: 99.
===============
(120)
لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) (24)
آية بلاخلا ف.
قرأ اهل الكوفة، ونافع " المخلصين " بفتح اللام. الباقون بكسرها. قال أبوعلي حجة من كسر اللام قوله " اخلصوا دينهم " (1) ومن فتح اللام، فيكون بنى الفعل للمفعول به، ويكون معناه ومعنى من كسر اللام واحد، فاذا أخلصوا هم دينهم فهم مخلصون، واذا أخلصوا فهم مخلصون.
ومعنى (الهم) في اللغة على وجوه، منها: العزم على الفعل، كقوله " إذهم قوم ان يبسطوا اليكم أيديهم " (2)، أي أرادوا ذلك وعزموا عليه ومثله قول الشاعر:
هممت ولم افعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله (3)
وقال حاتم طي:
ولله صعلوك تساور همه * ويمضي على الايام والدهر مقدما (4)
ومنها: خطور الشئ بالبال، وان لم يعزم عليه. كقوله " اذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما " (5) والمعنى ان الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم ههنا عزما لماكان الله وليهما، لانه قال " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال او متحيزا إلى فئة فقدباء بغضب من الله " (6)، وارادة المعصية والعزم عليها معصية بلاخلاف، وقال قوم: العزم على الكبير كبير، وعلى الكفر كفر، ولايجوز أن يكون الله ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم ويقوى ذلك ماقال كعب ابن زهير:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء آية 145. (2) سورة المائدة آية 12.
(3) تفسير القرطبي 9: 166 ومجمع البيان 3: 223 (4) مجمع البيان 3: 223 (5) سورة آل عمران آية 122 (6) سورة الانفال آية 16.
===============
(121)
فكم فيهم من سيدمتوسع * ومن فاعل للخير إن هم أو عزم
ففرق بين الهم والعزم وظاهر التفرقة يقتضي اختلاف المعنى، ومنها المقاربة يقولون: هم بكذا، وكذا أي كاد يفعله قال ذوالرمة:
أقول لمسعود بجرعاء مالك * وقد هم دمعي ان تسيح اوائله (1)
والدمع لايجوز عليه العزم، وانما أراد كاد، وقارب، وقال ابوالاسود الدؤلي:
وكنت متى تهمم يمينك مرة * لتفعل خيرا يعتقبها شمالكا (2)
وعلى هذا قوله تعالى " جدارا يريد ان ينقض " (3) أي يكاد وقال الحارثي:
يريد الرمح صدر ابي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل (4)
ومنها الشهوة وميل الطباع، يقول القاتل فيما يشتهيه، ويميل طبعه ونفسه اليه هذا من همي، وهذا أهم الاشياء الي. وروي هذا التأويل في الآية عن الحسن. وقال: اماهمها وكان اخبث الهم، واما همه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء، واذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (ع) العزم على القبيح واجزنا باقي الوجوه، لان كل واحد منها يليق بحال، ويمكن ان يحمل الهم في الآية على العزم، ويكون المعنى، وهم بضربها ودفعها عن نفسه، كما يقول القائل كنت هممت بفلان اي بأن اوقع به ضربا او مكروها وتكون الفائدة على هذا الوجه في قوله " لولا ان رأى برهان ربه " مع ان الدفع عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها، إنه لماهم بدفعها اراه الله برهانا على انه ان اقدم على مايهم به، اهلكه اهلها وقتلوه، وانها تدعي عليه المراودة لها على القبيح وتقذفه بأنه دعاها اليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر تعالى انه صرف بالبرهان عنه السوء
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الاغاني (دار الثقافة) 17: 308 (2) مجمع البيان 3: 224.
(3) سوررة الكهف آية 78.
(4) تأويل مشكل القرآن: 100، ومجمع البيان 3: 224.
===============
(122)
والفحشا اللذين هما القتل والمكروه او ظن القبيح واعتقاده فيه.
فان قيل هذا يقتضي ان جواب (لولا) تقدمها في ترتيب الكلام، ويكون التقدير: لولا ان رأى برهان ربه لهم بضربها، وتقدم جواب (لولا) قبيح او يقتضي ان تكون (لولا) بغير جواب !.
قلنا: اما تقدم جواب (لولا) فجائز مستعمل وسنذكر ذلك فيما بعد، ولا نحتاج اليه في هذا الجواب، لان العزم على الضرب والهم به وقعا إلا انه انصرف عنها بالبرهان الذي رآه، ويكون التقدير ولقد همت به، وهم بدفعها لولاان رأى برهان ربه، لفعل ذلك، فالجواب المتعلق ب (لولا) محذوف في الكلام، كما حذف في قوله " ولولا فضل الله عليكم ورحمته. وان الله رؤف رحيم " (1) معناه، ولولا فضل الله عليكم لهلكتم ومثله " كلا لو تعلمون علم اليقين " (2) لم تنافسوا في الدنيا وتحرصوا على حطامها، وقال امرؤ القيس:
فلوانها نفس تموت سوية * ولكنها نفس تساقط انفسا (3)
والمعنى فلو انها نفس تموت سوية لنقصت وفنيت، فحذف الجواب تعويلا على ان الكلام يقتضيه، ولابد لمن حمل الآية على انه هم بالفاحشة ان يقدر الجواب، لان التقدير، ولقد همت بالزنا وهم بمثله،، و " لولا ان رأى برهان ربه " لفعله.
وانما حمل همها على الفاحشة وهمه على غير ذلك، لان الدليل دل من جهة العقل والشرع على ان الانبياء، لايجوز عليهم فعل القبائح، ولم يدل على انه لايجوز عليها ذلك بل نطق القرآن بأنها همت بالقبيح، قال الله تعالى " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه. وقوله حاكيا عنها " الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين وقال " قالت فذلكن الذي لمتنني يه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " واجمعت الامة من المفسرين واصحاب الاخبار
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النور آية 20 (2) سورة التكاثر آية 5.
(3) ديوان: 117 واللسان " جمع " وامالي السيد المرتضي 1: 479. ورواية اللسان " جميعه " بدل " سوية ".
===============
(123)
على انها همت بالمعصية، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة ان يوسف لم يهم بالفاحشة. ولاعزم عليها منها قوله " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " وقوله " انه من عبادنا المخلصين " ومن ارتكب الفاحشة لايوصف بذلك وقوله " ذلك ليعلم اني لم أخنه بالغيب " ولوكان الامر على ماقاله الجهال من جلوسه مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل، لكان خائنا، ولم يكن صرف عنه السوء والفحشاء. وقال ايضا " ولقد راودته عن نفسه " فاستعصم " وفي موضع آخر حكاية عنها " أنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " وقوله حكاية عن العزيز حين رأى القميص قد من دبر " انه من كيد كن إن كيد كن عظيم " فنسب الكيد اليها دونه، وقوله ايضا " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين " فخصها بالخطاب وأمرها بالاستغفار دونه. وقوله " رب السجن احب الي مما يدعونني اليه. وإلا تصرف عني كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " والاستجابة تقتضي براءة ساحته من كل سوء، ويدل على انه لو فعل ماذكروه، لكان قد صبا ولم يصرف عنه كيدهن. وقوله " قلن حاش لله ماعلمنا عليه من سوء " والعزم على المعصية من اكبر السوء. وقوله حاكيا عن الملك " ائتوني به استخلصه لنفسي، فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين امين " ومن فعل ماقاله الجهال لايقال له ذلك.
ووجه آخر في الآية: إذا حمل الهم على ان المراد به العزم، وهو ان يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون التقدير ولقد همت به ولولا ان رأى برهان ربه لهم بها ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت، لولا اني تدار كتك، وقتلت لولا اني خلصتك، والمعنى لولا تداركي لك لهلكت ولولا تخليصي لك لقتلت، وان لم يكن وقع هلاك ولاقتل قال الشاعر:
فلا يدعني قومي صريحا لحرة * لئن كنت مقتولا ويسلم عامر (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الكتاب لسيبوية 1 / 427 وامالى الشريف المرتضى 1 / 480 ومجمع البيان 3 / 226
===============
(124)
وقال آخر:
فلايدعني قومي صريحا لحرة * لئن لم أعجل طعنة أو اعجل (1)
فقدم جواب (لئن) في البيتين جميعا. وقال قوم: لو جاز هذا لجاز أن تقول: قام زيد لولاعمرو، وقصد زيد لولابكر، وقد بينا ان ذلك غير مستبعد، وان القائل قد يقول: قدكنت قمت لولا كذا، وكذا، وقد كنت قصدتك لولا ان صدني فلان، وان لم يقع قيام ولاقصد. على ان في الكلام شرطا، وهوقوله " لولا ان رأى برهان ربه " فكيف يحمل على الاطلاق.
والبرهان الذي رآه، روي عن ابن عباس، والحسن، وسعيدبن جبير، ومجاهد: انه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله.
وقال قتادة: انه نودي يايوسف أنت مكتوب في الانبياء وتعمل عمل السفهاء.
وروي في رواية أخرى عن ابن عباس: انه رأى الملك.
وهذا الذي ذكروه كله غير صحيح، لان ذلك يقتضي الالجاء وزوال التكليف، ولوكان ذلك لمااستحق يوسف على امتناعه من الفاحشة مدحا ولاثوابا، وذلك ينافي ما وصفه الله تعالى. من انه صرف عنه السوء والفحشاء، وانه من عبادنا المخلصين.
ويحتمل ان يكون البرهان لطفا لطف الله تعالى له في تلك الحال او قبلها، اختار عنده الامتناع من المعاصي، وهوالذي اقتضى كونه معصوما ويجوز ان تكون الرؤية بمعنى العلم، وقال قوم: البرهان هو مادل الله تعالى يوسف على تحريم ذلك الفعل، وعلى ان من فعله استحق العقاب، لان ذلك صارف عن الفعل ومقوي لدواعي الامتناع، وهذا ايضا جائز، وهوقول محمد بن كعب القرطي واختيار الجبائي.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان 3 / 225 وامالى السيد المرتضى 1 / 480
===============
(125)
قوله تعالى:
(واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر والفيا سيدها لدا الباب قالت ماجزاء من أرد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم) (25) آية بلاخلاف.
معنى قوله " واستبقا الباب " اي طلب كل واحد من يوسف وامرأة العزيز السبق إلى الباب، والسبق تقدم الشئ لصاحبه في مجيئه.
وقوله " وقدت قميصه من دبر " اي شقته طولا، والقد شق الشئ طولا، ومنه:
قد الاديم يقده قدا، فهو مقدود، إذاكان ذاهبا في جهة الطول على استواء.
وقوله " من دبر " اي من جهة الخلف. والقبل جهة القدام، يقال اتاه قبلا، ودبرا، اذا أتاه من الجهتين ومعنى " الفيا سيدها " صادفاه، ألفى يلفي الفا قال ذوالرمة:
ومطعم الصيد هبال لبغيته * الفى اباه بذاك الكسب يكتسب (1)
وقوله " قالت ماجزاء من أراد بأهلك سوءا " حكاية ماقالت المرأة للملك، ومافي مقابلة من اراد باهلك سوءا، والجزاء مقابلة العمل بما هوحقه من خير او شر يقال: جازاه يجازيه مجازاة، وجزاءا " إلا ان يسجن او عذاب أليم " معناه انه ليس مقابلته إلا سجنه أو يعذب على فعله عذابا مؤلما موجعا. وعطف العذاب - وهو إسم - على الفعل، وهوقوله " ان يسجن " لان تقديره إلا السجن أو عذاب اليم.
قوله تعالى:
(قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان " طعم "
===============
(126)
قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيد كن إن كيد كن عظيم)
(28) ثلاث آيات بلاخلاف.
حكى الله تعالى في الاية الاولى عن يوسف انه قال للملك حين قذفته زوجته بالسؤ: هي طالبتني عن نفسي، وانابرئ الساحة، وشهد له بذلك شاهد من أهل المرأة. قال ابن عباس، وسعيدبن جبير - في رواية عنهما - وابوهريرة: انه كان صبيا في المهد. وفي رواية اخرى عن ابن عباس، وابن جبير، وهوقول الحسن وقتادة: انه كان رجلا حكيما، واختاره الجبائي، قال: انه لو كان طفلا لكان قوله معجزا لايحتاج معه إلى الثاني، فلما قال الشاهد إن كان قميصه كذا، وكذا ذهب إلى الاستدلال بأنه لو كان هذا المراود، لكان القميص مقدودا من قبل، وحيث هو مقدود من دبر علم أنها هي المراودة ومع كلام الطفل لا يحتاج إلى ذلك.
وقوله " ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين " حكاية ماقال الشاهد، وكذلك قوله " وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " تمام الحكاية عن الشاهد.
و (من) في قوله " قد من دبر... و... من قبل " لابتداء الغاية، لان ابتداء القدكان منها، التي في قوله " من الكاذبين " للتبعيض، لانه بعض الكاذبين واسقط (أن) من شهد أنه ان كان لانه ذهب مذهب القول في الحكاية، كما قال " يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثين " (1) لان التقدير يوصيكم الله في اولادكم ان المال، وقال ابوالعباس المبرد: معنى " ان كان
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء آية 11
===============
(127)
قميصه " ان يكن، وجاز ذلك في كان، لانها ام الباب، كما جاز ماكان ابردها.
ولم يجز ماأصبح أبردها. وقال ابن السراج: إن يكن بمعنى ان يصح قد قميصه من دبر.
وقوله " فلما رأى قميصه قد من دبر " حكاية من الله ان الملك لما سمع قول الشاهد ورأى قميصه قد من دبر اقبل عليها وقال: " إنه من كيد كن إن كيد كن عظيم " وقال قوم إن ذلك من قول الشاهد. والكيد طلب الشئ بمايكرهه، كما طلبت المرأة يوسف بمايكرهه ويأباه.
وقوله " فلما رأى " تحتمل الرؤية أمرين:
احدهما - ان يكون المعنى رؤية العين، فلايكون روية للقد، لانه حال، وانما بين رؤية القميص.
والاخر - ان يكون بمعنى العلم فيكون رؤية للقد، لانه خبر والهاء في قوله (إنه) يحتمل ان تكون عائدة إلى السوء، ويحتمل ان تكون عائدة إلى ما تقدم ذكره من معنى الكذب.
والنون في قوله " كيد كن " نون جماعة النساء، وشددت لتكون على قياس نظيرها من المذكر في ضربكموا في انه على ثلاثة احرف. وقال قوم ان ذلك من قول الزوج. وقال آخرون من قول الشاهد.
قوله تعالى:
(يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) (29) آية بلاخلاف.
هذا حكاية مانادى زوج المرأة يوسف، فقال له يايوسف، ولذلك قال قوم:
إنه لم يكن له غيرة. وروي عن ابن عباس انه قال ذلك من قول الشاهد واسقط حرف النداء لانه اسم علم ولم يجز ذلك في المبهم " اعرض عن هذا " اي اصرف وجهك عنه. والاغراض صرف الوجه عن الشئ إلى جهة العرض،
===============
(128)
فكأنه قال اجعله بمنزلة ماتصرف وجهك عنه بأن لاتذكره " واستغفري لذنبك " اي اطلبي المغفرة من الله من خطيئتك، والذنب الخطيأة، والخطيأة العدول عما تدعوا اليه الحكمة إلى ماتزجر عنه، ويقال لصاحبه خاطئ اذا قصد ذلك، فاذا وقع عن غير قصد قيل اخطأ المقصد، فهو مخطئ، وان لم يكن صفة ذم. واصل الخطأ العدول عن الغرض الحكمي بقصد أو غير قصد، فان كان بقصد قيل خطئ يخطأ خطأ فهو خاطئ قال أمية:
عبادك يخطئون وانت رب * بكفيك المنايا والحياة (1)
وانما قال " من الخاطئين " ولم يقل من الخاطئات تغليبا للمذكر على المؤنث اذا اختلطا، كماتقول عبيدك واماءك جاؤني.
قوله تعالى:
(وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين) (30) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى انه " قال نسوة في المدينة " التي كان فيها الملك وزوجته ويوسف إن امرأة العزيز تطلب فتاها عن نفسه، والعزيز المنيع بقدرته عن ان يضام في أمره وسمي بذلك لانه كان ملكا ممتنعا بملكه واتساع قدرته قال أبوداود:
درة غاص عليها تاجر * حليت عند عزيز يوم ظل (2)
والفتى الغلام الشاب والمرأة فتاة قال الشاعر:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان 3 / 226، وتفسير الطبرى " الطبعة الاولى " 12 / 109 وروايته " الحتوم " يدل " الحياة " (2) تفسير الطبري 12 / 110 ومجمع البيان 3 / 229. ورواية الطبرى " عاص " بدل " غاص " و " جليت " بدل " حليت ".
===============
(129)
كأنا يوم فري انما يقتل ايانا * قتلنا منهم كل فتى ابيض حسانا (1)
ومعنى " شغفها حبا " بلغ الحب شغاف قلبها، وهو داخله. وقوله " انا لنراها في ضلال مبين " معناه إنا لنعلمها في عدول عن طريق الرشد، فعابوها بذلك وذلك ان تصير إلى مايذهلها ويبلغ صميم قلبها بحب إنسان. وإنما حذف حرف التأنيث في قوله " وقال نسوة " لانه تأنيث جمع قدم عليه الفعل، وتأنيث الجمع تأنيث لفظ يبطل تأنيث المعنى، لانه لايجتمع في اسم واحد تأنيثان، وكما يبطل تذكير المعنى في رجال، فاذا صار كذلك جاز فيه وجهان، ان حمل على اللفظ انث، وان حمل على المعنى ذكر.
وقيل في معنى الشغاف ثلاثة اوجه: شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه تقول دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب - في قول السدي وابي عبيدة - الثاني - قال الحسن: هو باطن القلب. الثالث - قال ابوعلي الجبائي: هو وسط القلب قال النابغة:
وقد حال هم دون ذلك داخل * مكان الشغاف تبتغيه الاصابع (2)
وروي شعفها بالعين اي ذهب بها الحب كل مذهب من شعف الجبال وهي رؤسها قال امرؤ القيس:
اتقتلني وقد شعفت فؤادها * كما شغف المهنؤة الرجل الطالي (3)
قال بو زيد هما مختلفان فالشعف بالعين في البغض وبالغين في الحب.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الكتاب لسيبويه 1 / 271، 383 (2) ديوانه 79 وروايته (شاغل) بدل (داخل) وتفسير القرطبي 9 / 179 وتفسير الطبرى (الطبعة الاولى) 12 / 110 (3) ديوانه 162، وتفسر الطبرى 12 / 111 والقرطبى 9 / 177 والشوكاني (الفتح القدير) 3 / 19 ورواية الديوان:
ليقتلني اني شغفت فؤادها * كما شغف المهنوءه الرجل الطالي
تفسير التبيان ج 6 - م 9
===============
(130)
قوله تعالى:
(فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه اكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ماهذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) (31) آية بلاخلاف.
قرأ ابوعمرو ونافع في رواية الاصمعي عنه " حاشا " بألف. الباقون بلا الف، فمن حجة أبي عمرو، قال الشاعر:
حاشى ابي ثوبان إن به * ضنا عن الملحاة والشتم (1)
قال ابوعلي الفارسي لايخلوا قولهم: حاش لله من ان يكون الحرف الجار في الاستثناء، كما ذكرناه في البيت أو فاعل من قولهم: حاشى يحاشي، ولايجوز ان يكون حرف الجر لان حرف الجر لايدخل على مثله، ولان الحروف لا تحذف اذالم يكن فيها تضعيف، فاذا بطل ذلك ثبت انها فاعل مأخوذا من الحشا الذي هو الناحية. والمعنى انه صار في حشاء اي ناحية مما قذف به، وفاعله يوسف، والمعنى بعد عن هذا الذي رمي به " لله " اي لخوفه من الله، ومراقبة امره. ومن حذف الالف، فكما حذف لم يك، ولا أدر، فاذا أريد به حرف الجر يقال حاشا، وحاش، وحشا، ثلاث لغات قال الشاعر:
حشارهط النبي فان فيهم * بحورا لاتكدرها الدلاء (2)
حكى الله تعالى عن امرأة العزير انها حين سمعت قول نسوة المدينة فيها
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي 9 / 181 ومجاز القرآن 1 / 310، والمفضليات 190 والاصمعيات 80، واللسان والتاج " حشى " وتفسير الطبري " الطبعة الاولى " 12 / 115 (2) اللسان " حشا " ومجمع البيان 3: 229
===============
(131)
وعذ لهن اياها، ومكرهن بها. وقيل انهن مكرن بها لتريهن يوسف، فلما اطلعتهن على ذلك أشعن خبرها؟، والمكر الفتل بالحيلة إلى مايراد من الطلبة يقال: هي ممكورة الساقين بمعنى مفتولة الساقين، وممكورة البدن أي ملتفة " أرسلت اليهن " أي بعثت اليهن تدعوهن إلى دعوتها.
وقوله " واعتدت لهن متكئا " معناه اعدت، ومعناه اتخذت من العتاد، وقولهم: اعتدت من العدوان، والالف فيه ألف وصل، والمتكأ الوسادة، وهو النمرق الذي يتكأ عليه. وقال قوم: انه الاترج. وانكر ذلك ابوعبيدة.
وقوله " وآتت كل واحدة منهن سكينا " قيل انها قدمت اليهن فاكهة وأعطتهن سكينا ليقطعن الفاكهة، فلما رأينه - يعني يوسف - دهشن " وقطعن ايديهن " وقوله " اكبرنه " أي أعظمنه وأجللنه. وقال قوم: معنى ذلك انهن حضن حين رأينه وأنشد قول الشاعر:
يأتي النساء على اطهارهن ولا * يأتي النساء اذا اكبرن اكبارا (3)
وانكر ذلك ابوعبيدة، وقال: ذلك لايعرف في اللغة، لكن يجوز ان يكون من شدة ما أعظمنه حضن، والبيت مصنوع لايعرفه العلماء بالشعر.
وقوله " حاش لله " تنزيه له عن حال البشر، وانه لايجوز ان تكون هذه صورة للبشر، وانماهو ملك كريم. وقال الجبائي: فيه دلالة على تفضيل الملائكة على البشر لانه خرج مخرج التعظيم، ولم ينكره الله تعالى، وهذا ليس بشئ، لان الله تعالى حكى عن النساء انهن أعظمن يوسف، لما رأبن من وقاره وسكونه وبعده عن السوء. وقلن: ليس هذا بشرا، بل هو ملك يريدون في سكونه، ولم يقصدن كثرة ثوابه على ثواب البشر، وكيف يقصدنه، وهن لاطريق لهن إلى معرفة ذلك، على ان هذا من قول النسوة اللاتي وقع منهن من الخطأ والميل
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي 9: 180 وتفسير الشوكاني 3: 20.
===============
(132)
اليه مالايجوز ان يحتج بقولهن. وقوله لم ينكره الله، انما لم ينكره، لانه تعالى علم انهن لم يقصدن ماقال الجبائي، ولوكن قصدنه لانكره، على أن ظاهر الكلام انهن نفين ان يكون يوسف من البشر، وفيه قطع على انه ملك، وهذا كذب، ولم ينكره الله. والوجه فيه انهن لم يقصدن الاخبار بذلك عن حاله، وانما اخبرن بتشبيه حاله فيما قلناه بحال الملائكة، فلذلك لم ينكره الله.
وقوله " ماهذا بشرا " نصب بشرا على مذهب اهل الحجاز في اعمال (ما)
عمل ليس، فيرفعون بها الاسم، وينصبون الخبر، فأما بنو تميم، فلا يعلونها قال الشاعر:
لشتان ماأنوي وينوي بنو أبي * جميعا فما هذان مستويان
تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى * وكل فتى والموت يلتقيان (4)
وقد قرئ " ما هذا بشرى " أي ليس بمملوك، وهو شاذ، لايقرأبه.
وقرئ (متكأ) بتسكين التاء قال مجاهد: معنا الاترج، وقال قتادة:
معناه طعاما، وبه قال عكرمة وابن اسحق وابن زيد والضحاك، وقال مجاهد، وغيره: اعطي يوسف نصف الحسن، وقيل ثلثه. وقيل ثلثاه، والباقي لجميع الخلق.
قوله تعالى:
(قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ماآمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين)
(32) آية بلاخلاف.
هذه الآية فيها حكاية ماقالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي عذلنها على محبتها ليوسف،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان 3 / 229 وتفسير الطبري 12 / 115.
===============
(133)
وانها حين رأت مافعلت النسوة للدهش بيوسف، قالت لهن هذا هو ذلك الذي لمتنني فيه، واللوم الوصف بالقبيح على وجه التحقير، ومثله الذم وضده الحمد.
وقوله " ولقد راودته عن نفسه " اعتراف منها انها هي التي طلبته عن نفسه وانه استعصم منها أي امتنع من ذلك، والاستعصام طلب العصمة من الله بفعل لطف من ألطافه ليمتنع من الفاحشة. وفيه دلالة على ان يوسف لم يقع منه قبيح.
وقوله " ولئن لم يفعل ماآمره ليسجنن " اخبار عما قالت امرأة العزيز على وجه التهديد ليوسف من انه ان لم يفعل ماتأمره به من المعصية ويجيبها إلى ملتمسها لتمنعنه التصرف من مراده بالحبس، تقول: سجنه يسجنه سجنا، والسجان المتولي للسجن على وجه الحرفة.
وقوله " وليكونن من الصاغرين " هذه النون الخفيفة التي يتلقى بها القسم، واذا وقفت عليها وقفت بالالف، تقول: وليكونا، وهي بمنزلة التنوين الذي يوقف عليه بالالف قال الشاعر:
وصل على حين العشيات والضحى * ولاتعبد الشيطان والله فاعبدا (1)
اي فاعبدن، فأبدل في الوقف من النون ألفا. والصغار الذل بصغر القدر صغر يصغر صغارا، ومنه قوله " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (2).
قوله تعالى:
(قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائله الاعشى، ديوانه 103 القصيدة 17 وروايته " فاحمدا " بدل " فاعبدا " وهو في مجمع البيان 3. 230 وتفسير الطبري 12: 16 " فاعبدا ".
(2) سورة التوبة آية 29؟.
===============
(134)
عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) (33) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى عن يوسف انه لما سمع وعيد المرأة له بالحبس والصغار ان لم يجبها إلى ماتريده، قال يا " رب السجن أحب الي مما يدعونني اليه " من ركوب الفاحشة، وانما جاز ان يقول السجن أحب الي من ذلك، وهولا يحب مايدعونه اليه، ولايريده، ولايريد السجن ايضا، لانه ان اريد به المكان فذلك لايراد، وان اريد به المصدر، فهو معصية منهي عنها، فلايجوز ان يريده لامرين:
احدهما - ان ذلك على وجه التقدير، ومعناه اني لو كنت ممااريد لكانت ارادتي لهذا أشد الثاني - ان المراد ان توطين نفسي على السجن أحب الي.
وقيل معناه ان السجن أسهل علي مما يدعونني اليه.
وقرأ الحس (السجن) بفتح السين واراد المصد ر، وبه قرأ يعقوب، وتأويله ماقلنا ه. والدعاء طلب الفعل من المدعو وصيغته صيغة الامر إلا ان الدعاء لمن فوقك والامر لمن دونك.
وقوله " إلا تصرف عني كيدهن " معناه ضرر كيدهن، لان كيدهن قد وقع، والصرف نفي الشئ عن غيره بضده او بأن لايفعل، وصورته كصورة النهي إلا ان النهي مع الزجر لمن هو دونك، وليس كذلك الصرف (والصبا)
رقة الهوى، يقال صبا يصبو صبا فهوصاب، فكأنه قيل أميل هواي اليهن، قال الشاعر:
إلى هند صبا قلبي * وهند مثلها يصبي (2)
وقال ايضا:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائله زيد بن ضبة، تفسير القرطبي 9: 185 ومجاز القرآن 1: 311 واللسان (صبا)
وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 21 وتفسير الطبري 12 / 117.
===============
(135)
صبا صبوة بل لج وهو لجوج * وزالت له بالانعمين حدوج (1)
وقوله " وأكن من الجاهلين " معناه. أكن ممن يستحق صفة الذم بالجهل، لانه بمنزلة من قد اعتقد الشئ على خلاف ماهو ربه، وإلا فهو كان عالما بأن ذلك معصية، والغرض فيه بيان ان صفة الجهل من أغلظ صفة الذم.
وقال البلخي والجبائي: في الآية دلالة على انه لاينصرف احد عن معصية إلا بلطف الله عزوجل، لانه لو لم يعلم ذلك، لما صح خبره به، وليس في الآية مايدل على ذلك، بل فيها مايدل على ان يوسف كان له لطف، ولولاه لفعل المعصية، وأما ان يدل على انه لا أحد ينتهي عن معصية إلا بلطف، فلا، بل ذلك مجوز، وليس فيها مايمنع منه، ويحتمل قوله " أصب اليهن " على لفظ الجمع اشياء:
احدها - قال ابوعلي الجبائي: ان كل واحدة منهن دعته إلى مثل مادعت اليه امرأة العزيز بدلالة هذا الكلام. وقال قوم: انهن قلن لها نحن نسأله ان يفعل مادعوته اليه، فخلت كل واحدة منهن به. ويحتمل ان يكون المراد أصب إلى قولهن في الدعاء إلى اجابة امرأة العزيز.
قوله تعالى:
(فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم)
(34) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى انه اجاب يوسف إلى مادعاه به وأراد منه ورغب اليه فيه وانه فعل، لانه دعابه، فهو اجابة له واستجابة والذي تعلقت به الارادة مستجاب، وقال ابوعلي الجبائي: الاجابة من الله تعالى ثواب لقوله تعالى " ومادعاء
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائله ابوذؤيب الهذلي، ديوانه 1 / 50 وشواهد المغنى 109، والخزانة 1 / 194 ومجاز القرآن 1 / 311 ومجع البيان 3 / 229.
===============
(136)
الكافرين إلا في ضلال " (1) وهذا انما هو في الجملة، قال الرماني: وصرف الله تعالى له عن الفعل بالزجر عنه واعلامه الذم على فعله، وفرق بين الصرف عن الفعل والزجر عنه، بأن الزجر عنه بالذم على ايقاعه. والصرف عنه اعلامه ان غيره أصلح له من غير ذم عليه لو عمله كما يجب في الزجر، والظاهر بغير ذلك أشبه، لان يوسف (ع) كان عالما بأن ما دعته اليه قبيح يستحق به الذم، ومع ذلك سأل ان يصرف ضرر كيدهن عنه، لان كيدهن الذي هو دعاؤهن وأغواؤهن، كان قد حصل، فكأنه قد سأل الله تعالى لطفا من ألطافه يصرفه عنده عن اجابة النسوة إلى مادعونه من ارتكاب المعصية، لان ظاهر القول خرج مخرج الشرط والجزاء المقتضيين للاستقبال، فكان ماقلناه أولى. فقوله " انه هوالسميع العليم " معناه ههنا انه السميع لدعاء الداعي العليم باخلاصه في دعائه او ترك اخلاصه وبما يصلحه من الاجابة او يفسده، قال الرماني: ولا يجوز ان يكون السميع للصوت بمعنى العليم بالصوت موجودا، لانه قد يعلم الانسان موجودا، اذا كان بعيدا وهو لايسمعه كعلمه بصوت المطارق في الحدادين، وليس من طريق الحاسة وانما يعلمه بضرب من الاستدلال او يظن ذلك، واذا علمه من طريق الحاسة علمه ضرورة، فكان ذلك فرقا بين الموضعين.
وقال ابوعلي الجبائي: في الآية دلالة على جواز الدعاء بما يعلم انه يكون، لان يوسف عالما بأنه إن كان له لطف فلابد ان يفعل الله به، ومع هذا سأله وليس في الآية مايدل على ذلك لانه لايمتنع ان يكون يوسف سأل لتجويزه ان يكون له لطف عند الدعاء، ولولم يدع له لم يكن ذلك لطفا، فما سأل الا ما جوز ان لايكون لولم يدع، غير ان المذهب: ماقال ابوعلي لانه تعالى تعبدنا بأن نقول " رب احكم بالحق (2) وقد علمنا انه لايحكم الا بالحق، ولكن الآية لاتدل على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الرعد آية 15 وسورة المؤمن (غافر) آية 50.
(2) سورة الانبياء آية 112.
===============
(137)
قوله تعالى:
(ثم بدا لهم من بعد مارأوا الآيات ليسجننه حتى حين)
(35) آية بلاخلاف.
أخبر الله تعالى انه ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات، يقال بدايبدو بدوا، وبدأ والبداء في الرأي التلون فيه، لانه كلما ظهر رأي مال اليه، وانما قال " لهم " ولم يقل (لهن) مع تقدم ذكر النسوة، لامرين: احدهما - قال الحسن انه اراد بذلك الملك. والثاني - انه اراد ذكر الذكور معهن من اعوانها فغلب المذكر، فقال لهم، قال الرماني: وفاعل (بدا) مضمر وتقديره ثم بدا لهم بداء، ودل عليه قوله " ليسجننه ".
والآيات التي رأوها، قال قتادة: هو قد القميص وحز الايدي وقال غيره:
هو قطع الايدي والاستعظام، وقد القميص.
وقوله " ليسجننه " انما هو فعل المذكر كما قال " بدالهم " ولم نقل (لهن) ودخلت النون الثقيلة جوابا للقسم وليس بفعل المؤنث، ولوكان على صيغة فعل المؤنث قيل (ليسجن) (وليقتلن) ثم تدخل عليها نون التأكيد الشديدة فيصير ليسجنانه كقولك تقتلنانه.
وقوله " حتى حين " ف (حتى) تنصرف على اربعة اوجه، تكون حرف جر، وحرف عطف، وناصبة للفعل، وحرف من حروف الابتداء، فالجارة نحوهذه التي في الآية، والعاطفة كقولهم خرج الناس حتى الامير، والناصبة كقوله " حتى يأتي وعد الله " (1)، وحرف الابتداء كقولك سرحت القوم حتى زيد مسرح.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الرعد آية 33.
===============
(138)
قوله تعالى:
(ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) (36) آية بلاخلاف.
وفي الآية تقدير فسجن يوسف، ودخل معه فتيان يعني شابان والفتى الشاب القوي قال الشاعر:
ياعز هل لك في شيخ فتى ابدا * وقد يكون شباب غير فتيان
وقال الزجاج: كانوا يسمون المملوك فتى، شيخا كان او شابا. والفتيان قال السدي وقتادة: كانا غلامي ملك مصر الاكبر أحدهما صاحب شرابه والآخر صاحب طعامه، فنمي اليه ان صاحب طعامه يريد ان يسمه. وظن ان الآخر ساعده ومالاه على ذلك.
وقوله " قال احدهما " يعني احد الفتيين ليوسف: " إني اراني اعصر خمرا " من رؤيا المنام، والخمر عصير العنب اذا كان فيه الشدة والتقدير اعصر العنب للخمر، وقال الضحاك: هي لغة، تسمي العنب خمرا ذكر جماعة انها لغة عمان.
وقال الزجاج: تقديره عنب الخمر.
وقوله " وقال الآخر إني اراني احمل فوق رأسي خبزا " فالحمل رفع الشئ بعماد، يقال: حمل يحمل حملا، واحتمل احتمالا، وتحمل تحملا، وحمله تحميلا.
و (الخبز) معروف " تأكل الطير منه " وقوله " نبئنا بتأويله " اي اخبرنا بتأويل رؤيانا " انا نراك من المحسنين " معناه انا نعلمك او نظنك ممن يعرف تأويل الرؤيا. ومن ذلك قول علي (ع) (قيمة كل ما يحسنه) اي مايعرفه.
والاحسان النفع الواصل إلى الغير اذا وقع على وجه يستحق به الحمد واذا اختصرت فقلت هو النفع الذي يستحق عليه الحمد جاز، لان مايفعله الانسان لايسمى احسانا. وقيل انه * كان يداوي مريضهم ويعزي حزينهم
===============
ويجتهد في عبادة ربه. وقال الزجاج: كان يعين المظلوم وينصر الضعيف ويعود المريض. وقيل " من المحسنين " في عبارة الرؤيا، لانه كان يعبر لغيرهم، فيحسن ذكره الجبائي.
قوله تعالى:
(قال لايأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) (37) آية بلاخلاف.
في هذه الآية اخبار بمااجاب به يوسف للفتيين اللذين سألاه عن المنام، فقال لهما " لايأتيكما طعام ترزقانه " والطعام كل جسم فيه طعم يصلح للاكل، غير انه يختلف باضافته إلى الحيوان. والرزق العطاء الجاري في الحكم وكذلك لو اعطاه مرة واحدة، وقد حكم بانه يجريه كان رزقا. وقال السدي وابن اسحاق: معنى ذلك اني عالم بتعبير الرؤيا اذ لا يأتيكما ماترزقانه في منامكما إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة. وقال ابن جريج: كان الملك اذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معلوما، فأرسل به اليه، فعلى هذا يرزقانه في اليقظة. وقيل انه كان يخبر بما غاب كما كان عيسى (ع)، وإنما عدل عن تعبير الرؤيا إلى الجواب بهذا لاحد أمرين:
احدهما - ماقال ابن جريج: انه كره ان يخبرهما بالتأويل على احدهما فيه، فلم يتركاه حتى أخبرهما. وقال ابوعلي: إنما قدم هذا، ليعلما ماخصه الله به من النبوة، وليقبلا إلى الطاعة، والاقرار بتوحيد الله. والانباء: الاخبار بما يستفاد وذلك ان النبأ له شأن، وفيه تعظيم الخبر بما فيه من الفائدة، ولذلك اخذت منه النبوة. والتأويل: الخبر عما حضر بما يؤل اليه أمره، فيما غاب.
ولذلك قال " قبل ان يأتيكما " وتأويل القرآن مايؤل اليه من المعنى أي يرجع
===============
(140)
اليه والتعليم تفهيم الدلالة المؤدية إلى العلم بالمعنى، وقديكون الاعلام بخلق العلم بالمعنى في القلب.
وقوله " اني تركت ملة قوم لايؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون " اخبار من يوسف أنه إنما علمه الله تعالى تأويل ماسألاه لايمانه بالله وحده لاشريك له وعدوله عن ملة الكفار وجحدهم البعث والنشور والجزاء بالثواب والعقاب، و (هم) الثانية دخلت للتأكيد لانه لما دخل بينهما قوله " وبالآخرة " صارت الاولى كالملغاة، وصار الاعتماد على الثانية، كماقال " وهم بالآخرة هم يوقنون " (1)
وكماقال " ايعدكم انكم اذا متم وكنتم ترابا وعظاما انكم مخرجون " (2)
قوله تعالى:
(واتبعت ملة آبائي إبرهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لايشكرن) (38) آية بلاخلاف.
في هذه الآية أخبار عن يوسف أنه قال لهما: إني في ترك اتباع ملة الكفار وجحدهم البعث والنشور وفي إيماني بالله وتوحيدي له اتبعت ملة آبائي ابراهيم واسحاق ويعقوب، فالاتباع اقتفاء الاثر وهو طلب اللحاق بالاول، فاتباع المحق بالقصد إلى موافقته من أجل دعائه. والملة مذهب جماعة يحمي بعضها بعضا في الديانة، واصله الحمى من المليلة وهي حمى مايلحق الانسان دون الحمى. والآباء جمع أب وهوالذي يكون منه نطفة الولد، والام الانثى التي يكون منها الولد والجد أب بواسطة، ولا يطلق عليه صفة أب، وإنما يجوز ذلك بقرينة تدل على انه أب بواسطة الابن، وجد الاب اب بواسطتين.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النمل آية 3، وسورة الروم آية 4. (2) سورة المؤمنون آية 35
===============
(141)
وقوله " ماكان لنا ان نشرك بالله من شئ " إخبار من يوسف أنه ليس له، ولالاحد من آبائه أن يشرك بالله شيئا، ودخلت (من) للنفي العام، والاشراك بلوغ منزلة الجمع لعبادة غير الله إلى عبادته - في عظم الجرم. واليهودي مشرك، لانه بكفره بالنبي قد بلغ تلك المنزلة في عظم الجرم. وقوله " ذلك من فضل الله علينا " اعتراف منه ان ذلك العدول عن عبادة غير الله هو من فضل الله عليهم من حيث كان بلطفه وهدايته وتوفيقه. والفضل النفع الزائد على مقدار الواجب بوجوب الدين الذي يستحق به الشكر، وكل مايفعله الله تعالى بالعبد، فهو فضل من فضله. والعقاب ايضا فضل، لانه زجر به عن المعاصي. وقيل ذلك من فضل الله علينا ان جعلنا أنبياء وعلى الناس ان جعلنا رسلا اليهم - في قول ابن عباس - وقوله " على الناس " دال على ان الله قد عم جميع خلقه بفضله وهدايته إياهم إلى التوحيد والايمان.
قوله تعالى:
(ياصاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (39) آية.
هذاحكاية مانادى به يوسف للمتسفتين له عن تأويل رأياهما، فقال لهما " يا صاحبي السجن " اي يا ملازمي السجن. والصاحب الملازم لغيره على وجه الاختصاص بوجه من الوجوه، وهو خلاف ملازمة الاتصال، ولذلك قيل أصحاب مالك، واصحاب الشافعي للاختصاص بمذاهبهما، واصحاب النبي لملازمتهم له، والكون معه في حروبه، وصاحبا السجن هما الملازمان له بالكون فيه.
والسجن هوالحبس الذي يمنع من التصرف قال الفرزدق:
وماسجنوني غير اني ابن غالب * واني من الاثرين غير الزعانف (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 1: 536 وسيبويه 1: 366 وقد مرفي 1: 320 من هذا الكتاب
===============
(142)
وقوله " ارباب متفرقون " فيه أقوال: قال قوم املاك متباينون خير أم المالك القاهر للجميع، يدلهم بهذا على أنه لايجوز ان يعتقدوا الربوبية إلا لله تعالى - عزوجل - وحده. وقال الحسن متفرقون من صغير وكبير ووسط، يعني الاوثان. وقال قوم: معناه متفرقون بمباينة كل واحد للآخر بما يوجب النقص، والقاهر القادر بمايجب به الغلبة لامحالة والقهار مبالغة في الصفة يقتضى انه القادر بما يجب به الغلبة لكل احد والخير الا بلغ في صفة المدح، والشر الا بلغ في صفة الذم.
قوله تعالى:
ماتعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ماأنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون) (40)
آية بلاخلاف.
وهذا تمام ماقال يوسف للكفار الذين يعبدون غير الله، فقال لهم لستم تعبدون من دون الله إلا أسماء سميتموها. وقيل في معناه قولان:
احدهما - انه لماكانت الاسماء التي سموابها آلهتهم لاتصح معانيها صارت كأنها اسماء فارغة يرجعون في عبادتهم اليها فكأنهم إنما يعبدون الاسماء، لانه لايصح معاني يصح لها من إله ورب الثاني - إلا اصحاب أسماء سميتموها لاحقيقة لها، والعبادة هي الاعتراف بالنعمة مع ضرب من الخضوع في أعلى الرتبة، ولذلك لايستحقها إلا الله تعالى وقوله " ماانزل الله بها من سلطان " أي لم ينزل الله على صحة ما تدعونه حجة، ولابرهانا فهي باطلة لهذه العلة، لانها لوكانت صحيحة، لكان عليها دليل.
===============
(143)
وقوله " ان الحكم إلا لله " معناه ليس الحكم إلا لله فيما فعله او أمر به، والحكم فصل المعنى بماتدعو إليه الحكمة من صواب او خطأ. والامر قول القائل لمن دونه (افعل) والصحيح انه يقتضي الايجاب. وقوله " امر ان لاتعبدوا إلا اياه " معناه أمر أن تعبدوه، وكره منكم عبادة غيره، لان الامر لايتعلق بأن لايكون الشئ، لانه انما يكون أمرا بارادة المأمور والارادة لاتتعلق الا بحدوث الشئ.
وقوله " وذلك الدين القيم " معناه ان الذي أمر به من عبادته وحده، وان لايشرك به شئ هو " الدين القيم " المستقيم الصواب، ولكن اكثر الناس لا يعلمون صحة مااقوله، لعدولهم عن الحق، والنظر والاستدلال.
قوله تعالى:
(ياصاحبي السجن أما أحد كما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الامر الذي فيه تستفتيان) (41) آية بلاخلاف.
في هذه الآية اخبارعما أجاب به يوسف للفتيين في تأويل رؤياهما حين راجعاه في معرفته، فقال " ياصاحبي اما أحد كما فيسقي ربه خمرا " يعني سيده، ومالكه، لانه كان صاحب شرابه، واجرى عليه صفة الرب، لانه مضاف، كمايقال رب الدار، والضيعة. و " اما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه " فروي ان صاحب الصلب، قال مارأيت شيئا، فقال له قضي الامر الذي فيه تستفتيان.
وهذا يدل على انه كان ذلك بوحي من الله ولفظ احد لواحد من المضاف اليه مما له مثل صفة المضاف في الافراد نحو احد الانسانين، واحد الدرهمين، فهو إنسان ودرهم لامحالة. والبعض يحتمل ان يكون لاثنين فصاعدا، ولذلك اذا قال جاءني احد الرجال، فهم منه إنه جاءه واحد منهم. واذا قال جاءني بعض الرجال جاز ان يكون اكثر من واحد. والاستفتاء طلب الفتيا. والفتيا جواب بحكم
===============
(144)
المعنى، فهو غير الجواب بعينه.
قوله تعالى:
(وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنسه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) (42)
آية بلاخلاف.
وهذا حكاية عما قال يوسف (ع) للذي ظن انه ينجو منهما، وقال ابوعلي:
الظن ههنا بمعنى العلم لقوله " ظننت اني ملاق حسابيه " (1) وقال قتادة: الرؤيا على الظن، وقال غيره: إلا رؤيا الانبياء، فانها يقين. والظن هو ماقوي عند الظان كون المظنون على ماظنه مع تجويزه ان يكون على خلافه. والنجاة هي السلامة. وقوله " اذكرني عند ربك " يعني عند سيدك كماقال الشاعر:
وإن يك رب أذواد فحسبي * أصابوا من لقائك ماأصابوا (2)
وانما سأله ان يذكره عند سيده بخير ويعرفه علمه وماخصه الله تعالى من الفضل والعلم ليكون ذلك سبب خلاصه. والذكر حضور المعنى للنفس، وعلى حال الذكر يتعاقب العلم واضداده من الجهل والشك. والنسيان ذهاب المعنى عن النفس وعزوبه عنها. والهاء في قوله " فانساه " تعود إلى يوسف في قول ابن عباس - والتقدير فانسي يوسف الشيطان ذكر الله، فلذلك سأل غيره حتى قال مجاعة إن ذلك كان سبب للبثه في السجن مدة من الزمان. وقال ابن اسحاق والحسن والجبائي يعود على الساقي، وتقديره فأنسى الساقي الشيطان ذكر يوسف.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحاقة آية 20.
(2) قائله النابغة الذبياني. ديوانه 19 (دار بيروت) وروايته:
وان تكن الفوارس يوم حسبي * اصابوا من لقائك مااصابوا
===============
(145)
وقوله " فلبث في السجن بضع سنين " فاللبث في المكان هو الكون فيه على طول من الزمان، واللبث والثبوت والسكون نظائر. والبضع قطعة من الدهر.
وقيل البضع من الثلث إلى العشر - في قول ابن عباس - وقال قتادة ومجاهد إلى التسع وقال وهب: إلى سبع سنين. والسنة إثنا عشر شهرا ويجمع سنين وسنوات.
قوله تعالى:
(وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملا أفتوني
في رءياي إن كنتم للرءيا تعبرون) (43) آية بلاخلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية: إن الملك الذي كان يوسف في حبسه، وكان ملك مصر فيما روي، قال إنه رأى في المنام " سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف " يعنى مهازيل " وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات " ثم أقبل على قومه، فقال " ياايها الملا " اي ياايها الاشراف والعظماء الذين يرجع اليهم " أفتوني في رؤياي ان كنتم " تعبرون الرؤيا، وتدعون العلم بتأويلها، والملك القادر الواسع المقدور الذي اليه السياسة والتدبير.
والرؤيا تخيل النفس للمعنى في المنام حتى كأنه يرى، ويجوز فيها الهمزة وتركها. والبقرات جمع بقرة والسمن زيادة في البدن من الشحم واللحم وهو على الشحم أغلب، والعجف يبس الهزال يقال: عجف يعجف عجفا، فهو أعجف.
والانثى عجفاء، والجمع عجاف، وسنبلات جمع سنبل، والعبارة: نقل معنى التأويل إلى نفس السائل بالتفسير، وهي من عبور النهر وغيره، ومنه المعبر والعبارة، وإنما دخلت اللام في قوله " للرؤيا " مع أن الفعل يتعدى بنفسه، لانه تفسير التبيان ج 6 - م 10
===============
(146)
إذاتقدم المفعول ضعف عمله، فجاز إدخال حرف الاضافة لهذه العلة، ولايجوز يعبرون للرؤيا، لانه في قوة عمله.
قوله تعالى:
(قالوا أضغاث أحلام ومانحن بتأويل الاحلام بعالمين)
(44) آية بلاخلاف.
هذا حكاية ماأجاب به الملا الملك حين سألهم عن تعبير رؤياه ولم يعرفوا معناها، قالوا: " أضغاث أحلام " أي هذه الرؤيا أضغاث أحلام، والاضغاث جمع ضغث، قال قوم: هو الحزمة من الحشيش، والبقل، وغيره. وقال آخرون: هو خلط قش المد، وهو غير متشاكل، ولا متلائم، فشبهوا به تخليط المنام، ونفوا ان يكونوا عالمين بمثل ذلك. وقال قتادة: هي اخلاط أحلام وقال ابن مقبل:
خود كان فراشها وضعت به * اضغاث ريحان عداه شمال (1)
وقال آخر:
يحمي ذمار جنين قل مانعه * طاو لضغث الخلا في البطن ممتكن (2)
وقال آخر:
واستقل مني هذه قدر بطنها * والقيت صغثا من خلا متطيب (3)
والاحلام جمع حلم، وهوالرؤيا في النوم، وقد يقال: جاء بالحلم أي الشئ الكثير، كأنه جاء بما لايرى إلا في النوم لكثرته. والحلم: الاناة، حلم حلما:
إذا كان ذا أناة وإمهال. والحلم ضد الطيش. ومنه " ان ابراهيم لحليم أواه
ـــــــــــــــــــــــ
(1، 2) تفسير الطبري (الطبعة الاولى) 12: 125 وروايته (غداة) بدل (عداه).
(3) مجاز القرآن 1: 312 وجمهرة اشعار العرب 2: 23 وقد نسب إلى عوف بن عطية ابن عمر بن الحارث بن تميم. انظر سمط اللالي 377، 723 ومعجم البلدان 277.
===============
(147)
منيب " (1) والحليم: من له مايصح به الاناة دون الخرق والعجلة. والله الحليم، الكريم، و (الحلم) بضم اللام مايرى في المنام، لانها حال أناة وسكون ودعة تقول: حلم يحلم حلما بسكون اللام - اذا اردت المصدر، والحلمة رأس الثدي، لانها، تحلم الطفل، والحلام الجدي الذي قد حلمه الرضاع، ثم كثر حتى قيل لكل جدي.
قوله تعالى:
(وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) (45) آية بلاخلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية أن الذي نجا من الفتيين اللذين رأيا المنام، وفسره لهما يوسف وهو صاحب الشراب - على ماذكره له يوسف، فتذكر بعد وقت وحين من الزمان، لامر يوسف، وقال لهم أنا اخبركم بمايؤل اليه هذا المنام، فابعثوني حتى ابحث عنه.
و (النجاة) التخلص من الهلاك. والادكار طلب الذكر. ومثله التذكر والاستذكار، ووزنه (الافتعال) من الذكر وأصله الاذتكار، فقلبت التاء ذالا وادغمت فيها الدال على أصل ادغام الاول في الثاني ويجوز اذكر، على تغليب الاصلى على الزائد. و (الامة) المذكورة هي الجملة من الجبن، وأصله الجماعة من الجبن، وسميت الجماعة الكثير من الناس أمة، لاجتماعها على مقصد في امرها.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: " بعدأمة " أي بعدحين، وحكى الزجاج وغيره عن ابن عباس " بعد أمة " اي بعد نسيان، يقال أمه يأمه أمها بفتح الميم -، وحكي عن ابي عبيدة - بسكون الميم - قال الزجاج هذا ليس بصحيح وأجازه غيره، وروى هذه القراءة عن جماعة كقتادة وعكرمة وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة هود آية 75.
===============
(148)
وتأويل الرؤيا تفسير مايؤل اليه معناه، وتأويل كل شئ تفسير مايؤل اليه معنى الكلام. وحكي عن الحسن أنه قرأ " أنا اجبكم بتأويله " وهو خلاف المصحف.
قوله تعالى:
(يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) (46) آية بلاخلاف.
حكى الله تعالى عن الذي نجا من الفتيين انه جاء يوسف بعد أن قال لهم أبعثوني. وقال له يا " يوسف " وحذف حرف النداء، لانه إسم علم " أيها الصديق " والصديق الكثير التصديق بالحق للادلة عليه، وكل نبي صديق بهذا المعنى " أفتنا في سبع بقرات " أي اخبرنا عن حكم هذه الرؤيا، و (الفتيا) جواب عن حكم المعنى، وقد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يسمى فتيا.
وقوله " لعلي ارجع إلى الناس لعلهم يعلمون " معنى (لعل) الشك، لانها طمع واشفاق، وانما قال ذلك لطمعه أن يكون، واشفق ان لايكون، ولو قال لارجع إلى الناس ليعلموا، لكان فيه تعليل السؤال، غير ان الشك في (لعل) قد يكون للمتكلم، وقديكون للمخاطب، و (الرجوع) إلى الشئ المرور إلى الجهة التي جاء منها، والرجوع عنه الذهاب عنه. وقوله " لعلهم يعلمون " يحتمل أمرين:
- أحدهما لعلهم يعلمون بمكانك ومنزلتك.
الثاني - لعلهم يعلمون تأويل الرؤيا.
قوله تعالى:
(قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في
===============
(149)
سنبله إلا قليلا مماتأكلون) (47) آية.
حكى الله تعالى عن يوسف ماأجاب به المستفتي عن تعبير الرؤيا التي رآها الملك، فقال له إنكم " تزرعون سبع سنين دأبا " أي مستمرة. وقيل: متوالية.
وقيل: على عادتكم. والدأب استمرار الشئ على عادة، يقال هو دأب بفعل كذا إذا استمر في فعله، وقد دأب يدأب دأبا. وسكن القراء كلهم الهمزة، إلا حفصا فانه فتحها، وهي لغة مثل سمع، وسمع، ونهر ونهر. ونصب (دأبا)
على المصدر أي تدأبون دأبا، وكلهم همز إلا من مذهبه ترك الهمزة وأبوعمرو اذا أدرج.
وقوله " فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون " حكاية عن تمام ما قال يوسف له: من أن ماتحصدونه لاتذروه ولاتدرسونه، ودعوه في السنبل إلا القليل الذي تأكلونه. وقيل إنما أمرهم بذلك، لان السنبل لايقع فيه السوس، ولايهلك، وان بقي مدة من الزمان، واذا صفي أسرع اليه الهلاك، و (الزرع)
طرح الحب في الارض بالدفن مع التعاهد له بالسقي، تقول. زرع يزرع زرعا، وازرع ازراعا، وزارعه مزارعة، و (الحصد) قطع الزرع، حصده يحصده حصدا استحصد الزرع إذا جاز حصاده.
قوله تعالى:
(ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ماقدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون (48) آية بلاخلاف.
وهذا تمام حكاية مافسر به الرؤيا يوسف (ع)، فقال لهم: إنه يجئ بعد هذه السنين التي زرعتم فيها وحصدتم، سبع سنين أخر شداد وهي جمع شديدة، والشدة قوة الالتفات، والشدة والصلابة والصعوبة نظائر. وشدة الزمان
===============
(150)
وصعوبته بمعنى. وضدها الرخاء. وقيل الشدة تكون في سبعة أصناف في الاصل:
في العقد، والمد، والزمان، والغضب، والالم، والشراب، والبدن.
وقوله " يأكلن ماقدمتم لهن " اضاف الاكل إلى السنين، لانها بمنزلة مايأكل ذلك لوقوع الاكل فيها كمايكون الاكل في الآكل قال الشاعر:
نهارك يامغرور سهو وغفلة * وليلك نوم والردى لك لازم (1)
والتقديم التقريب إلى جهة القدام، والتأخير التبعيد إلى جهة الخلف، والاحصان الاحراز، وهو إلقاء الشئ فيماهو كالحصن المنيع، أحصنه إحصانا اذا أحرزه.
قوله تعالى:
(ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) (49) آية بلاخلاف.
قرأحمزة والكسائي بالتاء (تعصرون) على الخطاب أي أنتم. الباقون بالياء على الرجوع إلى الناس، وهذا حكاية مابشربه يوسف المستفتي له أنه يأتي بعد هذه السنين الصعبة سنة. والعام السنة مأخوذ من العوم، لمالاهله فيه من السبح الطويل.
وقال الخليل: العام حول يأتي على شتوة وصيفة. والحول، والسنة مثل ذلك.
وقوله " فيه يغاث الناس " فالغوث النفع الذي يأتي على شدة حاجة ينفي المضرة، والغيث المطر الذي يجئ في وقت الحاجة، غائهم الله يغيثهم غيثا، وأصابهم غيث. والغيث الكلا الذي ينبت من ماء السماء وجمعه غيوث. والغياث أصله من الواو، اغاثه الله اغاثة، وغوث تغويثا: اذا قال واغوثاه من يغيثني، ويقول الواقع في بلية: اغثني اغاثك الله، و (يغاث) يحتمل ان يكون من الياء.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي 9: 294 وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 12: 127
===============
(151)
ويحتمل ان يكون من الواو " ويعصرون " قيل فيه ثلاثة أقوال:
احدها - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعصرون الثمار التي تعتصر في الخصب من العنب والزيتون والسمسم. وحكى بعضهم أنهم لم يعصروا - أربع عشرة سنة - زيتا ولاعنبا، فيكون المعنى تعصرون للخصب الذي أتاكم، كما كنتم تعصرون في ايام الخصب.
الثاني - في رواية أخرى عن ابن عباس تحلبون.
الثالث - قال ابوعبيدة والزجاج: تنجون نجاء المعتصر بالماء عند الغصص، كماقال عدي بن زيد:
لو بغير الماء حلقي شرق * كنت كالغصان بالماء اعتصاري (1)
وقال ابوزيد الطائي:
صاديا يستغيث غير مغاث * ولقد كان عصرة المنجود (2)
واصل العصر عصر العنب، ونحوه من الرطب المستخرج ماؤه وكذلك ما فيه الدهن ليستخرج دهنه، ومنه العصارة مايخرج بالعصر، والاعتصار شرب الماء قليلا قليلا عند الغصص، والمعصر الكاعب، لانه يجري فيهاماء الشباب، والمعصرات السحائب التي تنعصر بالمطر، والاعصار ريح تثير السحاب او الغبار، لانه كالمعتصر منها. والعصرة المنجاة كنجا الغصان باعتصار الماء، والعصرة الدنية في النسب، لانه كالمعتصر من الرطب. وقرئ يعصرون بضم الياء، وفتح الصاد شاذا ومعناه يمطرون.
وقال البلخي: وهذا التأويل من يوسف يدل على بطلان قول من يقول:
ان الرؤيا على ماعبرت اولا، لانهم كانوا قالوا هي أصغات احلام، فلوكان ماقالوه صحيحا لماكان يتأولها.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر هذا البيت في 1: 412 (2) تفسير القرطبي 9: 204 ومجاز القرآن 1: 313 وتفسير القرطين 1: 226
===============
(152)
قوله تعالى:
(وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله مابال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم) (50) آية بلاخلاف.
قرأ البرجمي والسلموني " النسوة " بضم النون. والباقون بكسرها، وهما لغتان. والكسر افصح. وفي الكلام حذف، لان تقديره إن الناجي الذي استفتى يوسف عن تفسير رؤيا الملك حين فسره له، رجع إلى الملك واخبره به، وعرفه ان ذلك فسره له يوسف، فقال الملك عند ذلك: ائتوني به والكلام دال عليه، وذلك من عجائب القرآن، وعظم فصاحته. ومعنى " ائتوني به ".
أجيئوني به " فلما جاء ه الرسول " يعني رسول الملك، قال له يوسف ارجع إلى سيدك. " فاسأله مابال النسوة اللاتي قطعن ايديهن " وانمارد الرسول ليبين للملك براءته مماقرف به، وانه حبس بظلم من غير بينة، ولااعتراف بذنب، وقال قتادة: طلب العذر.
وقوله " ان ربي بكيدهن عليم " قيل في معناه قولان:
احدهما - وهوالصحيح - انه أخبر ان الله تعالى عالم بكيد النسوة.
والثاني - ان سيدي العزيز عليم بكيدهن. والاول عليه اكثر المفسرين.
والملك هوالقادر الواسع المقدور الذي اليه السياسة والتدبير، وكان هذا الملك ملك مصر. ويجوز ان يمكن الله تعالى الظالم من الظلم، وينهاه عن فعله، ولايجوز أن يملكه الظلم، لان مايملكه، فقد جعله له، وذلك لايليق بعدله. والتمليك تمكين الحي مما له ان يتصرف فيه في حكم الله تعالى بحجة العقل والسمع، وعلى هذا اذا مكن الله تعالى من الظلم او الغصب لايكون ملكه، لانه لم يجعل له التصرف فيه. بل زجره عنه، قال الرماني: يجوز أن يسلب الله تعالى الخلق
===============
(153)
ماملكهم في الدنيا بسوء افعالهم، كمايسلب بعضهم بكفرهم، والافهو له، فان اخذ بالموت عنه على طريق العارية ثم يرد اليه ويعوض مما فاته بكرمه تعالى، وقيل: إن يوسف انماقال مابال النسوة جميع النساء ولم يخص امرأة العزيز حسن عشرة منه، وقال قوم ذلك يدل على ان كل واحدة منهن دعته إلى نفسها مثل امرأة العزيز.
قوله تعالى:
(قال ماخطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ماعلمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) (51) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى انه حين رجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف جمع النساء وقال لهن ماخطبكن اذ راودتن يوسف عن نفسه، والخطب الامر الذي يخاطب به صاحبه، مما يستعظم شأنه، يقال هذا خطب جليل، وماخطبك، وما شأنك؟.
وقوله " قلن حاش لله " حكاية عما اجابته به النسوة، فانهن قلن للملك على وجه التنزيه " حاش لله " اي عياذ بالله، وتنزيها من هذا الامر، كقوله " معاذ الله ". وقد يستثني به، فيقال أتاني القوم حاشى زيد، بمعنى إلا زيدا " ماعلمنا عليه من سوء " اي لم نعلم عليه امرا قبيحا. قالت امرة العزيز عند ذلك معترفة بخطئها " الآن حصحص الحق " أي بان الحق يقال حصحص الامر وحصحص الحق اي حصل على امكن وجوهه، وهوقول ابن عباس، ومجاهد وقتادة، واصله حص من قولهم حص شعره اذا استأصل قطعة منه، والحصة اي القطعة
===============
(154)
من الشئ، فمعنى " حصحص الحق " انقطع عن الباطل بظهوره. ومثله كبوا وكبكبوا، وكف الدمع وكفكفه، ورده وردده، فهو زيادة تضعيف دل عليها الاشتقاق ذكره الزجاج. واصله من حصحص البعير ثفناتة في الارض إذا برك حتى يستبين آثارها فيها. قال حميدبن ثور الهذلي:
وحصحص في صم القنا ثفناتة * ورام القيام ساعة ثم صمما (1)
ويقال انحص الوبر عن جنب البعير وانحت اذاانحسر ومعنى " انا راودته " انا طالبته بذلك، " وانه لمن الصادقين " في امتناعه من ذلك.
قوله تعالى:
(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لايهدي كيد الخائنين) (52) آية بلاخلاف.
اختلفوا في من هذا الكلام حكاية عنه؟ فقال اكثر المفسرين كالحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: انه من قول يوسف " ذلك " يعني ذلك الامر من فعلي من رد الرسول ليعلم العزيز اني لم اخنه بالغيب، وقطع الحكاية عن المرأة، وجاز ذلك لظهور الكلام الدال على ذلك، كماقال " وكذلك يفعلون " وقبله حكاية عن المرأة " وجعلوا أعزة اهلها اذلة " (2) وكماقال " فماذا تأمرون " ومثله حكاية قول الملا " يريد ان يخرجكم من ارضكم بسحره " (3) وقال الجبائي والبلخي: انه من قول المرأة. والمعنى ان اعترافي على نفسي بذلك ليعلم يوسف اني لم اخنه بالغيب، لان العزيز سألها ولم يكن يوسف حاضرا وكلا الامرين جائز ان، والاول أشبه، والخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، وضد الخيانة الامانة،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (صمم) وروايته:
وحصحص في صم القنا ثفناته * وناء بسلمى نوءة ثم صمما
(2) سورة النمل آية 34 (3) سورة الاعراف آية 109 - 111
===============
(155)
وهي تأدية الحق على ماوقع به العقد. والفرق بين الخيانة والغدر أن الخيانة تكون على وجه السر والغدر نقض العهد بخلاف الحق جهرا، والكيد الاحتيال في ايصال الضرر إلى صاحبه، كاده يكيده كيدا، فهو كائد.
واللام في قوله " ليعلم " لام (كي) ومعناها تعليق مادخلت عليه بالفعل الذي قبله، بمعنى انه وقع من اجله، وانما يتعلق بذلك الارادة. وقوله " وان الله لايهدي كيد الخائنين " اي لايدعوهم اليها ولا يرغبهم فيها وانما يفعلونها بسوء اختيارهم.
قوله تعالى:
(وماأبرئ نفسي إنت النفس لامارة بالسوء إلا مارحم ربي إن ربي غفور رحيم) (53) آية بلاخلاف.
هذا اخبار عماقال يوسف على وجه التواضع لله لست أبرئ نفسي من السوء، والتبرئة ازالة الشئ عماكان لازما له، لان النفس امارة بالسوء اي تنازع إلى السوء، فلست ابرئ نفسي من ذلك، وان كنت لااطاوعها فيما نازعت اليه، والامارة الكثيرة الامر بالشئ، والنفس بهذه المنزلة لكثرة ما تشتهيه وتنازع اليه مما يقع الفعل لاجله، وهذامجاز في الاصل غير انه كثر استعماله في العرف، فيقال نفسي تأمرني بكذا وتدعوني إلى كذا من جهة شهوتي له، والا فلا يصح ان تأمر الانسان نفسه، لانه يقتضي الرتبة، لانه قول القائل لمن دونه (افعل) وذلك لايصح بين الانسان وبين نفسه، واكثر المفسرين على ان هذا من قول يوسف. وقال ابوعلي الجبائي هو من كلام المرأة.
وقوله " الامارحم ربي " استثناء من الانفس التي يرحمها الله، فلاتدعو إلى القبيح، بان يفعل معها من الالطاف ماتنصرف عن ذلك.
===============
(156)
وقوله " ان ربي غفور رحيم " تمام الحكاية عن قائل ذلك انه اعترف بان الله تعال غفور رحيم اي ساتر عليهم ذنوبهم رحيم بهم بان يعفو عنهم ويقبل توبتهم.
قوله تعالى:
(وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) (54) آية بلاخلاف.
هذه السياقة تدل على ان مامضى حكاية عن قول المرأة، لان يوسف لم يكن حاضرا ذلك المجلس، وان الملك حين سمع جميع ذلك قال ائتوني بيوسف استخلصه لنفسي، وطلب هذا الملك ان يكون يوسف له وحده دون شريك فيه، والاستخلاص طلب خلوص الشئ من شائب الاشتراك. وقال ابن اسحاق كان هذا الملك: الوليد ابن ريان.
وقوله " فلما كلمه " فيه حذف، وتقديره انه لما امر باحضاره فأحضر قال له بعد ان كلمه " انك " يايوسف " اليوم لدينا مكين امين " اي عرفنا امانتك، وثقتك، وانت على حالة يتمكن من كان عليها مما يريد، يقال لفلان مكانة عند الملك، وهو مكين عنده، واصله التمكن من الامر (والامين) الموثوق به، والامانة حالة ثقة يؤمن معها نقض العهد بالفتح، وذلك كالعقد في الوديعة وفي التخلية والعقد في الدين، والعقد في القيام بالحق.
قوله تعالى:
(قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم) (55)
آية بلاخلاف.
وهذا حكاية ماقال يوسف حين قال له الملك انك اليوم لدينا مكين امين
===============
" اجعلني " على خزائن الارض " يعني ارضك، والالف واللام يعاقبان حرف الكناية، واراد بذلك الارض التي هي ملكه ويجمع فيها ماله وطعامه، طلب اليه ذلك ليحفظ ذلك عمن لايستحقه ويوصله إلى الوجوه التي يجب صرف الاموال لها، فلذلك رغب إلى الملك فيه، لان الانبياء لايجوز ان يرغبوا في جمع اموال الدنيا الا لما قلناه. وقوله " اني حفيظ عليم " معناه حافظ للمال عمن لا يستحقه عليم بالوجوه التي يجب صرفها اليه، وفي الآية دلالة على جواز تقلد الامر من قبل السلطان الجائر اذا تمكن معه من ايصال الحق إلى مستحقه.
قوله تعالى:
(وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوا منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولانضيع أجر المحسنين) (56)
آية بلاخلاف.
قرأ " نشاء " النون ابن كثير وحده. الباقون بالياء.
من قرأ بالنون، فعلى معنى ان يوسف يتبوء من الارض حيث يشاء، وطابق بينه وبين قوله " نصيب برحمتنا من نشاء "، ويكون على احد معنيين:
احدهما - ان تكون المشيئة اسندت اليه، وهي ليوسف، لما كانت بأمره وارادته كما قال " ومارميت اذ رميت ولكن الله رمى " (1) فأضاف الرمي إلى الله، لماكان بقدرته وارادته.
والثاني - ان يكون الموضع المتبوء موضع نسك وعبادة او موضعا يقام فيه الحق، من أمر بمعروف، او نهى عن منكر، ويقوي النون قوله " نصيب برحمتنا من نشاء ".
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الانفال آية 17.
===============
(158)
ومن قرأ بالياء حمله، على انه يتبوء يوسف حيث يشاء هو نفسه.
اخبر الله تعالى أنه كما لطف ليوسف حين اخرجه من السجن وخلصه من المهالك كذلك مكنه من التصرف، والمقام في الارض حيث يشاء كيف يشاء، وقال الجبائي: كان هذا التمكن ليوسف ثوابا من الله على طاعته واحسانه الذي تقدم منه في الدنيا. وقال غيره: ليس في ذلك دلالة على انه ثواب، ويجوز أن يكون تفضلا عليه بذلك من غير ان ينقص من ثوابه شئ، والتمكين الاقدار بما يتسهل به الفعل من رفع الموانع وايجاد الالات والالطاف وغيرذلك مما يحتاج اليه في الفعل. والتبوء هو اتخاذ منزل يرجع اليه واصله الرجوع من " باؤا بغضب من الله " قال الشاعر:
فان تكن القتلى بواء فانكم * فتى ماقتلتم آل عوف بن عامر (1)
اي يرجع بدم بعضها على بعض، فان هذا المقتول لاكفاء لدمه. وقوله " نصيب برحمتنا من نشاء " اخبار منه تعالى انه يفعل رحمته بمن يشاء من عباده على وجه التفضل عليهم والاحسان اليهم، وانه لايضيع اجر الذين يحسنون افعالهم ويفعلون ماأمرهم الله به على وجهه، بل يثيبهم على ذلك.
والاحسان على ثلاثة اوجه:
احدها - ان يحسن إلى غيره، فذلك انعام.
وثانيها - ان يحسن إلى نفسه بأن ينفعها نفعا حسنا.
وثالثها - ان يفعل حسنا مبهما لايضيفه إلى نفسه ولاالى غيره.
واللام في قوله " مكنا ليوسف " يحتمل ان يكون مثل قوله " ردف لكم " (2)
و " للرؤيا تعبرون " (3) بدلالة قوله " مكناهم فيما ان مكناكم فيه " (4) وقوله " مكناهم في الارض مالم نمكن لكم " (5) " ويتبوء " في موضع نصب على الحال.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائلة ليلى الاخيلية، قدمر في 1: 378 وهو في اللسان (بوأ)
(2) سورة النمل آية 72 (3) سورة يوسف آية 44 (4) سورة الاحقاف آية 26 (5) سورة الانعام آية 6
===============
(159)
قوله تعالى:
(ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون " (57)
آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى ان الثواب الذي يثيب الله به الذين يؤمنون به ويتقون معاصيه في الآخرة، وهي النشأة الثانية، فان الدنيا هي النشأة الاولى والآخرة خير واعظم نفعا من منافع الدنيا التي تنالها الكفار.
وقال ابوعلي الجبائي: اجر الآخرة خير من ثواب الدنيا، لان ماتقدم في الآية الاولى يقتضيه.
قوله تعالى:
(وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون) (58) آية بلاخلاف.
حكى الله تعالى عن اخوة يوسف الذين كانوا ألقوه في الجب، وباعوه بثمن بخس انهم جاؤه ودخلوا عليه، فعرفهم يوسف ولم يشك فيهم، ولم يعرفه اخوته بل كانوا جاهلين بحاله منكرين له، وكان سبب مجيئهم اليه مجئ سني القحط التي كان ذكرها يوسف في تعبير الرؤيا، فجاؤا إلى مصر يمتارون كماجاء غيرهم من الناس - في قول السدي، وابن اسحق وغيرهما، وليس لاحد ان يقول: كيف يجوز مع كمال العقل ان يعرفهم يوسف، وهم يجهلونه مع انه نشأ معهم؟.
وذلك ان عنه جوابين.
احدهما - قال الجبائي: انهم فارقوه وهو صبي امرد، فجاؤوه وقد التحى وكبر وتغيرت حاله، فلم يعرفوه. وقال البلخي: ان ذلك مما خرق الله تعالى فيه العادة لنبيه (ع).
===============
(160)
قوله تعالى:
(ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أو في الكيل وأنا خير المنزلين) (59) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان يوسف لما أمر بتجهيز اخوته فجهزهم، والجهاز فاخر المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد، ومنه قولهم: فلان يجهز، ومنه جهاز المرأة، قال لهم جيئوني " بأخ لكم من أبيكم " وانماقال ذلك، لانه كان اخا يوسف لابيه وامه، وهو ابن يامين - في قول قتادة وغيره - وكان اخاهم لابيهم خاصة.
وقوله " الاترون اني أوفي الكيل " خطاب من يوسف لاخوته، فقال أليس قدعرفتم عدلي وإيفائي الكيل من غير بخس له. والوفاء تمام الامر على مايوجبه الحق، ويكون ذلك في الكيل، وفي الوزن، وفي الذرع، وفي العد، وفي العقد.
و (الكيل) مصدر كان يكيل، وهو فصل المكيال بملئه. و (المكيال) مقدار يفصل عليه ما يطرح فيه.
وقوله " وانا خير المنزلين " فيه قولان: احدهما - قال مجاهد: خير المضيفين.
والثاني - خير المنزلين في سعر الطعام. و (المنزل) واضع الشئ في منزلته، وقد يكون للشئ منزلتان، احداهما اولى من الاخرى، فمن وضعها في الاولى فهو خير المنزلين كسعر الطعام الذي يضعه في اولى منزلتيه.
قوله تعالى:
(فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولاتقربون) (60)
آية بلاخلاف.
===============
(161)
ثم قال يوسف لاخوته بعد ان قال لهم " ائتوني بأخ لكم من ابيكم " متى مالم تفعلوا ماامرتكم به من اتيانكم بأخيكم، فأني لااكيل لكم الطعام، ولا ابايعكم، ومع هذا فلا تقتربون يعني لاتجيئوني، والذي اقتضى طلبه الاخ من ابيهم انه فاوضهم وساءلهم عن اخبارهم واحوالهم، واخبار اهلهم، كما يتسأل الناس عن مثل ذلك، ودل الكلام على ذلك، وهو من عجيب فصاحة القرآن، وإنما استجاز ان يطلب اخاهم ولامعاملة بينه وبينهم، لانهم ذكروا ان اباهم آثره عليهم بالمحبة مع حكمته وفضله، احب ان يراه وتطلعت نفسه إلى ان يعلم السبب فيما يقتضي هذه الحال، وانما اخفاهم امره ولم يطلعهم على ماانعم الله عليه، لانه خاف ان يكتموا اباه امره لماتقدم لهم فيه واحب ان يجري تدبيره على تدريج لئلا يهجم عليه مايشتد معه اضطرابهم.
قوله تعالى:
(قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون) (61) آية بلاخلاف.
هذاحكاية مااجاب به اخوة يوسف يوسف حين حثهم على الاتيان بأخيهم بأنهم " قالوا سنراود عنه اباه " ونحن نفعل ذلك، والمراودة المطالبة من قولهم راد يرود، فهو رائد اي طلب، وفلان يرتاد موضعا اي يطلبه، وفي المثل (الرائد لايكذب اهله) ومنه الارادة وهي طلب الفعل بماهو كالسبب له، لان الداعي إلى الفعل داع إلى ارادته، لان باجتماع الامرين يقع الفعل من عالم قادر، والفاعل من جعل الشئ موجودا بعد ان كان معدوما، وكل فاعل جاعل، وليس كل جاعل فاعلا، لانه قد يكون جاعلا على صفة، كالجاعل للجسم متحركا وقال الرماني: الفرق بين العامل والفاعل ان العامل للشئ قد يكون المتغير له، والفاعل لايكون إلا الموجد له، والفرق بين العامل والجاعل ان العامل لا تفسير التبيان ج 6 - م 11
===============
(162)
يكون الا مغيرا له، وقد يكون الجاعل غير مغير له، لانه يجعله على صفة بحكمه فيه كالذي يجعله كافرا بحكمه انه كافر.
وقال ابن اسحاق: الذي وعدوا بفعله الاجتهاد في المصير بأخيهم اليه لانهم جوزوا ان لايجيبهم ابوهم إلى الارسال به معهم. وقال ابوعلي: وعدوه بان يصيروا به اليه ان اررسله ابوه معهم، فالعدة به كانت واقعة بشرط.
قوله تعالى:
(وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون) (62) آية بلاخلاف.
قرأ اهل الكوفة إلا أبابكر " لفتيانه " الباقون " لفتيته " قال ابوالحسن كلام العرب قال: لفتيانك، ومافعل فتيانك، وان كانوا ايضا في أدنى العدد إلاان يقولوا: ثلاثة وأربعة.
اخبر الله تعالى عن يوسف انه أمر فتيانه بأن يجعلوا بضاعتهم في رحالهم.
و (الفتي) الشاب القوي، وجمعه فتية وفتيان. وقال قتادة: كانوا غلمانه.
وقال غيره: كانوا مماليكه. و (البضاعة): قطعة من المال التي للتجارة.
و (الرحال) جمع رحل وهوالشئ المعد للرحيل من وعاء المتاع او مركب من مراكب الجمال، وجمعه في القليل ارحل وفي الكثير رحال. وانما جعل بضاعتهم في رحالهم، ليقوي دواعيهم في الرجوع اليه اذا رأوا إكرامه اياهم، ورد بضاعتهم اليهم مع جدوب الزمان وشدته. ويجوز ان يكون جعلها في رحالهم ليرجعوا اليه متعرفين عن سبب ردها. وقال قوم معناه ليعلموا اني لست اطلب أخاهم للرغبة في مالهم.
وقوله " لعلهم يعرفونها " معناه لكي يعرفونها، وانماقال (لعل) لانه جوز أن تشتبه عليهم، فيمسكوا فيها " إذا انقلبوا " أي اذا رجعوا إلى اهليهم " لعلهم
===============
(163)
يرجعون " اي لكي يرجعوا، وللام لام الغرض، وانما اتى ب (لعل) لانه جوز أن لايعودوا.
قوله تعالى:
(فلما رجعوا إلي أبيهم قالوا ياأبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون) (63) آية بلاخلاف.
قرأ (يكتل) بالياء حمزة والكسائي. الباقون بالنون.
من قرأ بالياء رد الكناية إلى أخو يوسف، ومن قرأ بالنون رده إلى جماعتهم، لقوله " ونمير اهلنا ".
حكى الله تعالى عن أخوة يوسف أنهم حين رجعوا إلى ابيهم وحصلوا معه، قالوا ياأبانا منعنا الكيل " فأرسل معنا أخانا " اي ابعثه " معنا نكتل " ونحن نحفظه ونحتاط عليه. والاكتيال هوالكيل للنفس، وهوافتعال من الكيل، وانما قال " منع منا الكيل، " وهو قد كال لهم، لان المعنى منع منا الكيل ان لم نأت باخينا. لقوله " فلاكيل لكم عندي ولاتقتربون " وهو قول الحسن والزجاج والجبائي. وهو الصحيح.
وقال قوم: معناه إنه لماكان لهم كال لكل واحد كيل بعير ومنعهم تمام الكيل الذي أرادوه.
قوله تعالى:
(قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) (64) آية بلاخلاف.
===============
(164)
قرأ اهل الكوفة إلا أبابكر " حافظا " على وزن فاعل. الباقون " حفظا " على المصد ر.
وهذاحكاية ماقال يعقوب لولده حين قوالوا له " ارسل معنا اخانا " فانه قال لهم " هل آمنكم عليه " والامن إطمئنان القلب إلى سلامة الامر يقال: أمنه يأمنه.
أمنا وائتمنه يأتمنه ائتمانا. ومنه قوله " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " (1) ثم أخبر تعالى، فقال " فالله خير حافظا " فمن قال على لفظ الفاعل نصبه على الحال. ويحتمل ان يكون نصبه على التمييز، ولم ينصبه على الحال، والحال يدل على انه تعالى الحافظ.
والتمييز يرجع إلى من يحفظ بأمره من الملائكة وكلا الوجهين أجازهما الزجاج.
ومن قرأ على المصدر نصبه على التمييز لاغير، ولوقرئ (خير حافظ) على الاضافة لدل على ان الموصوف حافظ، وليس كذلك التمييز، وحقيقة (خير من كذا) انه أنفع منه على الاطلاق، وانه لاشئ انفع منه، قال ابوعلي الفارسي:
وجه قراءة من قرأ (حفظا) بغير ألف انه قد ثبت من قولهم " ونحفظ أخانا " وقولهم " وانا له لحافظون " انهم اضافوا إلى انفسهم " حفظا " فالمعنى على الحفظ الذي نسبوه إلى انفسهم، وان كان منهم تفريط في حفظ يوسف، كما قال " اين شركائي " (2) ولم يثبت لله شريك، ولكن على معنى الشركاء الذين نسبتموهم الي، فكذلك المعنى على الحفظ الذي نسبوه إلى انفسهم، والمعنى " فالله خير حفظا " من حفظكم الذي نسبتموه إلى انفسكم. ومن قرأ (حفظا) فعلى التمييز دون الحال.
قوله تعالى:
(ولمافتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا مانبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير) (65) آية بلاخلاف.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية 283.
(2) سورة النحل آية 27، وسورة القصص آية 62، 74.
===============
(165)
أخبر الله تعالى عن اخوة يوسف أنهم لمافتحوا متاعهم، والمتاع مبيع التجار ممايصلح للاستمتاع، فالطعام متاع والبر متاع وأثاث البيت متاع، والمراد به ههنا أوعية الطعام " وجدوا بضاعتهم ردت اليهم " اي اصابوا بضاعتهم التي كانوا وزنوها بشري الطعام قد جعلت في وسط امتعتهم، فلما رأوا ذلك " قالوا ياأبانا مانبغي " وقيل في معناه قولان:
احدهما - قال قتادة: مانطلب؟ على وجه الاستفهام.
والثاني - قال الجبائي: مانبغي: فيما أخبرناك به عن ملك مصر ليس بالكذب.
ودليله ان هذه بضاعتنا ردت الينا، واجاز الفراء، والزجاج كلا الوجهين، وقولهم " ونمير اهلنا " اي نجلب لهم الميرة، والميرة الاطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد يقال: ماره يميره ميرا اذا حمل له الطعام إلى بلده قال الشاعر:
بعثتك مائرا فمكثت حولا * متى يأتي غياثك من تغيث (2).
وقوله " ونزداد كيل بعير " اي ويعطينا فضل كيل بعير، لمكان أخينا " ذلك كيل يسير " وقيل في معناه قولان:
احدهما - قال الجبائي: ان ذلك كيل قليل، لايكفينا نحتاج ان نضيف اليه كيل بعير اخينا.
الثاني - قال الحسن: ان ذلك متيسر على من يكيل لنا، واليسر إتيان الخير بغير مشقة، وضده العسر. وكذلك اليسير والعسير.
قوله تعالى:
(قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني
ـــــــــــــــــــــــ
(2) تفسير الطبري (الطبعة الاولى) 13 / 8 وتفسير القرطبي 9 / 224 واللسان (غوث)
وروايته:
بعثتك مائرا فلبثت حولا * متى يأتي غواثك من تغيث
===============
(166)
به إلا أن يحاط بكم فلما اتوه موثقهم قال الله على مانقول وكيل) (66) آية بلاخلاف.
هذه حكاية ماقال يعقوب - لبنيه حين سألوه إنفاذ أخيهم معهم، وان بضاعتهم ردت اليهم، وانه ان انفذه معهم ازدادوا كيل بعير - اني لست " ارسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله " ومعناه حتى تحلفوا لي بالله لتجيؤني به. والايتاء الاعطاء آتاه يؤتيه ايتاء، والاتيان به المجئ به، والموثق العقد المؤكد بالقسم، وانما قال موثقا من الله، وانما هو موثق من انفسهم.، لان المعنى موثقا من جهة اشهاد الله او القسم بالله، فاما على انفسهم، فهو العقد عليها بما لايجوز حله لها.
وقوله " الا ان يحاط بكم " موضع (أن) نصب بأنه مفعول له، وتقديره إلا لاحاطة بكم، كمايقول القائل: ماتأتيني إلا، لاخذ الدراهم، وماتأتيني إلا ان تأخذ الدراهم - ذكره الزجاج - والاحاطة أصله ضرب السور حول الشئ. ومنه قيل يعلمه علم احاطة اي على التحديد. والمعنى ههنا إلا ان يحال بينكم وبينه.
وقوله " فلما آتوه موثقهم قال الله على مانقول وكيل " معناه انهم لما أجابوه إلى اليمين، وحلفوا له واشهدوا على انفسهم بذلك قال يعقوب " الله على مانقول وكيل " اي حافظ وقيم به. والوكيل القيم بالتدبير والقائم بالقسط فهو العدل في حكمه.
قوله تعالى:
(وقال يابني لاتدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وماأغني عنكم من الله من شئ إن الحكم
===============
(167)
إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) (67)
آية بلاخلاف.
حكى الله تعالى عن يعقوب أنه قال لبنيه حين أنفذ اخاهم معهم " يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من ابواب متفرقة " وقيل في سبب قوله ذلك قولان:
احدهما - قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي، والحسن: انه خاف عليهم العين، لانهم كانوا ذوي صور حسنة وجمال وهيبة.
وقال الجبائي: انه خاف عليهم حسد الناس لهم، وان يبلغ الملك قوتهم وشدة بطشهم فيقتلهم محوفا على ملكه، وانكر العين. وقال لم ثثبت بحجة. وانما هو شئ يقول الجهال العامة.
والذي قاله غير صحيح في امر العين بل غير منكر ان يكون مال قال المفسرون.
صحيحا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (العين حق)، وانه عوذ الحسن والحسين (ع)، فقال في عوذته: (وأعيذكما من كل عين لامة) وقد رويت فيه أخبار كثيرة، وقد جرت العادة به. واختاره البلخي، والرماني واكثر المفسرين، وليس يمتنع ان يكون الله تعالى أجرى العادة لضرب من المصلحة أنه متى مانظر انسان إلى غيره على وجه مخصوص اقتضت المصلحة اهلاكه أو إمراضه أو اتلاف ماله، فالمنع من ذلك لاوجه له.
وقوله " ومااغني عنكم من الله من شئ " اعتراف منه بأنه لايملك الامر، ولايغني عمن يريده الله بسوء. والغنى ضد الحاجة.
وقوله " ان الحكم الا لله " اي ليس للفصل بين الامور على ماتقتضيه الحكمة الا الله.
وقوله " عليه توكلت " اي فوضت امري إلى الله يدبره كيف يشاء. والتوكل من صفات المؤمنين.
===============
(168)
قوله تعالى:
(ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ماكان يغني عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (68) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى ان اخوة يوسف، لماوردوا عليه، ودخلوا عليه من ابواب متفرقة حسب ماامرهم به ابوهم ورغبهم فيه لم يكن يعقوب يغنى عنهم من الله شيئا الا حاجة في نفس يعقوب قضاها من خوف العين عليهم أو الحسد على اختلاف القولين، و (الا) بمعنى (لكن) لان مابعدها ليس من جنس ماقبلها.
وقوله " وانه لذو علم لما علمنا " اخبا رمن الله تعالى ان يعقوب عالم بما علمه الله. وقيل في معناه قولان:
احدهما - ان ماذكره الله من وصفه بالعلم كان ترغيبا فيه.
والاخر - انه ليس ممن يعمل على جهل، بل على علم، براءة له من الامر لولده بما لايجوز له، ولكن " اكثر الناس لايعلمون " ذلك من حاله، كما علمه الله.
قوله تعالى:
(ولما دخلوا على يوسف اوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون) (69) آية بلاخلاف.
اخبر الله تعالى عن اخوة يوسف أنهم لمادخلوا على يوسف آوى يوسف أخاه اليه، والايواء ضم المحبوب وتصييره إلى موضع الراحة. ومنه المأوى المنزل الذي يأوي اليه صاحبه للراحة فيه. وقال الحسن وقتادة: ضمه اليه وأنزله معه، وقد اجتمعت في (آوى) حروف العلة كلها الالف والواو والياء، والعلة في ذلك
===============
(169)
أن الهمزة بمنزلة الحرف الصحيح، لانها ليست حرف مد ولين، فجاز ذلك على قلبه لهذه العلة. وقال له حين اواه إلى نفسه " إني انا أخوك " يوسف " فلا تبتئس بما كانوا يعملون " وإنما قال له ذلك، لانه وإن كان علم ان له أخا من أبيه وأمه إلا انه لايعلم انه هذا، والابتئاس والاكتئاب والاغتمام نظائر، ومعناه اختلاط البؤس بالحزن، وانما جاز ان يأخذه بالصواع مع تعريفه انه أخوه لامرين:
احدهما - انه كان بمواطأة منه له.
والثاني - قال وهب بن منيه: انه أراد أنا أخوك مكان أخيك الذي هلك.
والاول اصح.
قوله تعالى:
(فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) (70) آية بلاخلاف.
أخبر الله تعالى ان يوسف لما جهز أخوته بجهازهم يعني الطعام الذي اشتروه ليحملوه إلى بلدهم. ومنه جهاز المرأة " جعل السقاية في رحل أخيه " والسقاية المراد بها ههنا صواع الملك الذي كان يشرب فيه. وقيل: كان من فضة. وقال ابن زيد كان كأسا من ذهب. وقيل انه صير مكيا لاللطعام. والسقاية في الاصل الاناء الذي يسقى فيه، والرحل آلة السفر من وعاء أو مركب، والمراد ههنا وعاء أخيه الذي يحمل فيه طعامه.
وقوله " ثم أذن مؤذن " اي نادى مناد. والايذان الاعلام بقول يسمع بالاذن.
ومثله الاذن، والاذن الاطلاق في الفعل بقول يسمع بالاذن، و (والعير) قافلة الحمير - في قول مجاهد. وقيل هي القافلة التي فيها الاجمال. والاصل الحمير إلا انه كثر حتى صارت تسمى كل قافلة محملة عيرا تشبيها. وقوله " انكم لسارقون " فالسرقة أخذ الشئ من حرز في خفى بغير حق، إلا ان الشرع قدر أنه لايتعلق بها القطع
===============
(170)
إلا إذا سرق مقدارا معينا على خلاف بين الفقهاء، فعندنا هوما قدره ربع دينار، وعندقوم عشرة دراهم، وعند آخرين ثلاث دراهم.
وقيل في وجه ندائهم بالسرقة مع انهم لم يسرقوا شيئا قولان:
احدهما - ان ذلك من قول اصحابه، ولم يأمرهم يوسف بذلك، ولاعلم.
وإنما كان أمر بجعل السقاية في رحل أخيه على ماأمره الله تعالى، فلما فقدها الموكلون بها اتهموهم بها. وهواختيار الجبائي.
والثاني - انهم نادوهم على ظاهر الحال فيما يتغلب على ظنونهم ولم يكن يوسف أمر به، وإن علم انهم سيفعلونه. وقال قوم قولا ثالثا: ان معناه إنكم سرقتم يوسف من أبيه حين طرحتموه في الجب. وقال آخرون: ان ذلك خرج مخرج الاستفهام، وليس في جعل السقاية في رحل أخيه تعريضا لاخيه بأنه سارق، لانه إذا كان ذلك يحتمل السرقة، ويحتمل الحيلة فيه حتى يمسكه عنده، فلا ينبغي ان يسبق احد إلى اعتقاد السرقة فيه، وليس في ذلك ادخال الغم على أخيه لانا بينا انه كان اعلمه إياه، وواطأه عليه، ليتمكن من امساكه عنده على ماأمره الله تعالى به، والنداء وان كان للعير فالمراد به اهل العير، كماقال " واسأل القرية " وإنما أراد اهلها.
قوله تعالى:
(قالوا واقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) (72)
آيتان.
حكى الله تعالى عن اهل العير انهم حين سمعوا نداءهم بأنكم سارقون أقبلوا عليهم وقالوا اي شئ فقدتموه، فقال لهم اصحاب يوسف انا فقدنا صواع الملك، ومن جاء به ورده، فله حمل بعير من الطعام. والاقبال مجئ الشئ إلى جهة المقابلة
===============
(171)
بوجهه، وضده الادبار. ومثله التوجه، والتحاذي. والفقد غيبة الشئ عن الحس بحيث لايدرى اين هو، والفاقد من الوحش هي التي تغيب ولدها عنها قال الشاعر:
بكاء ثكلى فقدت حميما * فهي ترثي بأبي وابني ما (1)
والصواع مكيال الطعام. وكان هذا الصواع كأسا للملك يشرب فيه وجمعه صيعان وأصواع. وقال ابن عباس: كان من فضة، و (الحمل) بالكسر على الظهر وبفتح الحاء في البطن، وجمعه احمال وحمول. والبعير الجمل وجمعه بعران وابعرة. وقوله " وانا به زعيم " اي كفيل به، وضمين له، وقائل، قال الشاعر:
فلست بآمن فيها بسلم * ولكني على نفسي زعيم (2)
وإنماقال وانا به زعيم وقبله ذكر جمع، لان زعيم القوم متكلم عنهم فكأنه قدكلم بذلك جميعهم قالت ليلى الا خيلية:
حتى اذا برزوا اللواء رأيته * تحت اللواء على الخميس زعيما (3)
وذلك انه زعيم القوم لرئاسته، زعم زعامة وزعاما إذا صار رئيسا، قال ابو علي: اصله القول.
قوله تعالى:
(قالوا تالله لقد علمتم ماجئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين) (73) آية بلاخلاف.
هذا حكاية مااجاب به اهل العير لما سمعوا النداء، ومايدل على رد الصواع
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قائلة رؤبة اللسان (بني) ويروى (ترثي بأبا وابنا ما).
(2) تفسير الطبري (الطبعة الاولى) 13: 13 ومجاز القرآن 1: 315.
(3) تفسير القرطبي 9: 232 وسمط اللالي: 43 وتفسير الطبري 13: 13 وامالي السيد المرتضى 1: 497 حاشية.
===============
(172)
انهم اقسموا بالله انا لم نجئ للافساد في الارض وإنا لم نكن سارقين. والفساد اضطراب التدبير على وجه قبيح، ونقيضه الصلاح. ويقالل فسد الشئ اذاتغير إلى حال تضر كفساد الطعام، وغيره من الامور، وقوله " تالله " التاء بدل من بدل، لانها بدل من الواو والواو بدل من الباء، فضعفت عن التصرف، فاختصت بدخولها على اسم الله لاغير دون غيره من الاسماء، لانه لايقال (تالرحمن)
ودخلت التاء في تالله على وجه التعجب، لانها لما كانت نادرة في حروف القسم جعلت للنادر من المعاني يتعجب منه. وإنما قالوا " تالله لقد علمتم ماجئنا لنفسد في الارض " مع انهم لم يعلموا ذلك لامرين:
احدهما - لما رأوا من صحة معاملتهم وشدة توقيهم لمالايجوز لهم مما ينبئ عن مقاصدهم.
الثاني - قيل لانهم ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم ظنا منهم أن ذلك عن سهو، وهذا لا يليق بحال السراق من الناس. وضعف البلخي هذا الوجه، وقال كيف يكون ذلك وهم لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت اليهم اظهروا السرور به والفرح، وقالوا ما نبغي هذه بضا عتناردت الينا فكيف يردونها مع ذلك !.
قوله تعالى:
(قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين) (75)
آيتان.
حكى الله تعالى عن اصحاب يوسف انهم قالوا لاهل العير لماسمعوا جحودهم الصواع، وانكروا ان يكونوا سارقين " ماجزاؤه ان كنتم كاذبين " في جحودكم وإنكاركم، وقامت البينة على انكم سرقتموه، وماالذي يستحق ان يفعل بمن
===============
(173)
سرق؟ فأجابهم اهل العير، وقالوا من ادرك عنده الصواع، ووجد في رحله جزاؤه اخذ من وجد في رحله رقا، فهو جزاؤه عندنا كجزائه عندكم لانه كان من عادتهم ان يسترقوا السارق - في قول الحسن، ومعمر، والسدي، وابن اسحاق - وفيه تقدير ان في الاعراب:
احدهما - جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، فهذا الجزاء جزاؤه، كماتقول جزاء السارق القطع، فهو جزاؤه لتمكين البيان الاخير.
الثاني - جزاؤه من وجد في رحله، فالسارق جزاؤه، فيكون مبتدأ ثانيا، والفاء جواب الجزاء، والجملة خبر (من) و (من) ههنا يحتمل وجهين:
احدهما - ان يكون بمعنى الذي، وتقديره جزاؤه الذي وجد في رحله مسترقا.
والآخر - معنى الشرط، كأنه قال جزاء السراق إن وجد في رحل إنسان منا، فالموجود في رحله جزاؤه استرقاقا، وقوله " كذلك نجزى الظالمين " اخبار منهم بأن ذلك عادتهم في مجازاة كل ظالم.
وقد قيل في تأويل الآية وجهان:
احدهما - ان يكونوا في ذلك على شرع لنبي من انبياء الله.
والآخر - ان يكون ذلك على عادة الملوك في اهل الجنايات لمصالح العباد لا على حقيقة الجزاء الذي يعمل بأمر الله بدلالة قوله فيمابعد " ماكان ليأخذ أخاه في دين الملك " فاضاف الجزاء إلى دين الملك دون الله.
قوله تعالى:
(فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ماكان ليأخذ أخاه في دين الملك.