(308)

يقول الله تعالى للكفار " اولم تكونوا اقسمتم من قبل مالكم زوال " مما انتم عليه من النعيم وأنتم " سكنتم في مساكن الذين ظلموا انفسهم " بارتكاب المعاصي وكفران نعم الله، فأهلكهم الله " وضربنا لكم الامثال " والمعنى ان مثلكم كمثلهم في الاهلاك اذااقمتم على ما اقاموا عليه، من الفساد والتتابع في المعاصي " ومكروا مكرهم " يعني الكفار الذين ظلموا انفسهم مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واحتالوا له، ومكروا بالمؤمنين وخدعوهم " وعندالله " جزاء مكرهم، ولم يكن مكرهم ليبطل حجج القرآن ومامعك من دلائل النبوة، فلايبطل شئ منه، لانه ثابت بالدليل والبرهان.

وعلى القراءة الاولى ولو كان مكرهم يزيل الجبال من عظمه وشدته، لما أزال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لانه أثبت من الجبال.

وروي عن علي (ع) وجماعة انهم قرؤوا " وان كاد مكرهم " من المقاربة. قال سعيدبن جبير وغيره: ان قوله " ومكروا مكرهم " نزلت في صاحب النسرين الذي أراد صعود السماء. وقال قوم: مكرهم كفرهم بالله وشركهم في عبادته.

قوله تعالى:

(فلاتحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام (47) يوم تبدل الارض غير الارض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار) (48) آيتان بلاخلاف.

قرئ في الشواذ " مخلف وعده رسله " وهي شاذة رديئة، لانه لايجوز ان يفصل بين المضاف والمضاف إليه، وانشد الفراء:

فزججتها بمزجة زج القلوص ابي مزاده (1)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر 4: 309 من هذا الكتاب.

 

===============

(309)

والمعنى زج ابي مزادة القلوص، والصحيح ماعليه القراء، وتقديره مخلف وعده رسله، كماتقول هذا معطي زيد درهما، والمعنى مخلف رسله وعده يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " لاتحسبن الله " اي لاتظنه مخلف ماوعدك به من الظفر بهم والظهور عليهم، فانه لايخلف ماوعد رسله به. ثم أخبر ان الله تعالى قادر لايغالب ينتقم ممن يكفر بنعمه ويكذب انبيائه. والانتقام هو العقاب.

" يوم تبدل الارض غير الارض " العامل في " يوم " الانتقام، وتقديره ذو انتقام يوم تبدل. والتبديل التغيير برفع الشئ إلى بدل. وقيل ان تبديل الارض بغيرها برفع الصورة التي كانت عليها إلى صورة غيرها. وقال ابن عباس ومجاهد وأنس بن مالك وابن مسعود: يبدل الله هذه الارض بأرض بيضاء كالفضة، لم يعمل عليها خطيئة. والاول قول الحسن.

وقوله " والسموات " تقديره تبدل السموات غير السموات وحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل تبديل الارض بتسيير الجبال وتفجير بحارها وكونها مستوية " لاترى فيها عوجا ولاامتا " (1) وتبديل السموات انتشار كواكبها، وانفطارها، وتكوير شمسها وخسوف قمرها.

وقوله " وبرزوا لله الواحد القهار " معناه يظهرون من قبورهم. والبروز الظهور وبرز يبرز بروزا، فهو بارز، وبارز قرنه مبارزة " لله الواحد القهار " والمعنى الواحد لاشبه له ولانظير. والقهار المالك الذي لايضام.

قوله تعالى:

(وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد (49) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار) (50) آيتان بلاخلاف.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة طه آية 107

 

===============

(310)

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم انك يامحمدترى الذين اجرموا وفعلوا المعاصي، من الكفر وجحد النعم، يوم القيامة " مقرنين في الاصفاد " اي قرنت أيديهم بالغل إلى اعناقهم. وقال الجبائي: قرن بعضهم إلى بعض، والصفد الغل الذي يقرن به اليد إلى العنق، ويجوز ان يكون السلسلة التي يقع بها التقرين، وأصل الصفد القيد، وهو الصغاد، وجمعه صفد، قال عمروبن كلثوم:

فآبوا بالنهاب وبالسبايا * وابناء الملوك مصفدينا (1)

اي مقيدين، ومنه اصفدته اصفادا، اذا أعطيته مالا، قال الاعشى:

تضيفته يوما فاكرم مجلسي * واصفدني عند الزمانة قائا (2)

وقال الذبياني:

هذا الثناء فان تسمع لقائله * فما عرضت أبيت اللعن بالصفد (3)

اي ماتعطيه: وانما قيل لها: صفد، لانها تقيد المودة وترتبطها. وقال قتادة: الاصفاد القيود والاغلال، والسرابيل القميص - في قول ابن زيد - واحدها سربال، قال امرؤ القيس:

لعوب تنسيني اذا قمت سربالي (4)

و (القطران) هوالذي تهنأ به الابل - في قول الحسن - وفيه لغات، قطران بفتح القاف وكسر الطاء، وبتسكين الطاء وكسر القاف. ويجوز فتحها، قال ابوالنجم:

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 113 ومجمع البيان 3: 223 (2) ديوانه (دار بيروت) 44 وروايته (ققرب مقعدي) بدل (فأكرم مجلسي). وهو في مجمع البيان 3: 323 ومجاز القرآن 1: 345 وتفسير الطبري 13: 152 (3) ديوانه (دار بيروت) 37 وروايته:

هذا الثناء فان تسمع به حسنا * فلم أعرض ابيت اللعن بالصفد

(4) ديوانه (الطبعة الرابعة سنة 1959) 160 وصدره: ومثلك بيضاء العوارض طفلة

 

===============

(311)

جون كأن العرق المنتوحا * ألبسه القطران والمسوحا (1)

فكسر القاف وقال ايضا:

كان قطرانا اذا تلاها * ترمي به الريح إلى مجراها (2)

وإنما جعلت سرابيلهم من قطران، لان النار تسرع اليها، وقرئ " قطرآن " وروي ذلك عن ابن عباس، والقطر النحاس ومنه قوله " اتوني افرغ عليه قطرا " (3) والمعنى من قطر بالغ حره، انتهي. والقراء على انه اسم واحد على وزن الظربان، والظربان دابة منتنة فساءة، وهي من السباع " وتغشى وجوههم " معناه تجللها.

قوله تعالى:

(ليجزي الله كل نفس ماكسبت إن الله سريع الحساب (51) هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنماهو إله واحد وليذكر أولوا الالباب) (52) آيتان بلا خلاف.

أخبر الله تعالى بأنه إنما فعل ماتقدم ذكره " ليجزي الله كل نفس " الذي كسبت إن كسبت خيرا أتاها الله بالنعيم الابدي في الجنة، وإن كفرت وحجدت وكسبت شرا عاقبها بنار جهنم مخلدة فيها " إن الله سريع الحساب " اي سريع المجازاة.

وقيل معنى " سريع الحساب " لايشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة آخرين.

والكسب فعل مايجلب به النفع للنفس او يدفع به الضرر عنها. والكسب ليس بجنس الفعل، والله تعالى يقدر على مثله في الجنس.

وقوله " هذا بلاغ " قال ابن زيد وغيره من المفسرين: هو إشارة إلى القرآن،

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1، 2) مجمع البيان 3: 323 وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 13: 153 (3) سورة الكهف اية 97

 

===============

(312)

ففيه بلاغ للناس، لان فيه البيان عن الانذار والتخويف، وفيه البيان عما يوجب الاخلاص بماذكر من الانعام الذي لايقدر عليه الا الله.

وفي الآية حجة على ثلاث فرق:

على المجبرة في الارادة، لانها تدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين ان يعلموا " إنما هو إله واحد " وهم يزعمون أن أراد من النصارى ان يثلثوا، ومن الزنادقة ان يقولوا بالتثنية.

الثاني - حجة عليهم في ان المعصية لم يردها، لانه اذا أراد منهم ان يعلموا أنه إله واحد، لم يرد خلافه من التثليث والتثنية الذي هو الكفر.

الثالث - حجة على اصحاب المعارف، لانه بين أنه أراد من الخلق ان يتذكروا ويفكروا في دلائل القرآن التي تدلهم على أنه إله واحد. ثم أخبر تعالى انه انما يتذكر " أولو الالباب " اي ذوو العقول، لان من لاعقل له لا يمكنه الذكر والاعتبار.

 

===============

(313)

(15) سورة الحجر مكية في قول قتادة ومجاهد. وهي تسع وتسعون آية بلاخلاف.

بسم الله الرحمن الرحيم.

(الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (1) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) (2) آيتان بلاخلاف.

قرأ أهل المدينة وعاصم " ربما " بالتخفيف. الباقون بالتشديد. وروي عن أبي عمرو: الوجهان. قال أبوعلي أنشد أبوزيد:

ماوي ياربتما غارة * شعواء كاللذعة بالميسم (1)

قال الازهري: الماوي الرحمة، وأنشد ايضا ابوزيد:

ياصاحبا ربه إنسان حسن * يسأل عنك اليوم ارتسأل عن (2)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان 3: 326 واللسان (ربب)، (ما).

(2) مجمع البيان 3: 227

 

===============

(314)

وقال قطرب، والسكري: ربما، وربما، وربتما، ورب، رب: ست لغات، قال سيبويه (رب) حرف وتلحقها (ما) على وجهين:

احدهما - ان تكون نكرة بمعنى شئ كقوله:

ربما تجزع النفوس من الام * - ر له فرجة كحل العقال (1)

ف (ما) في هذا البيت إسم، لمايقدر من عود الذكر اليه من الصفة. والمعنى:

رب شئ، تكرهه النفوس، واذا عاد اليه الهاء كان إسما، ولم يجز أن يكون حرفا. والضرب الاخر ان تدخل (ما) كافة نحو الآية، ونحو قول الشاعر:

ربما أوفيت في علم * يرفعن ثوبي شمالات (2)

والنحويون يسمون (ما) هذه كافة يريدون: أنها بدخولها كفت الحرف عن العمل الذي كان هيأها لدخولها على مالم تكن تدخل عليه، ألا ترى ان (رب)

انماتدخل على الاسم المفرد، نحو رب رجل يقول ذلك، وربه رجل يقول، ولاتدخل على الفعل، فلما دخلت (ما) عليها هيأتها للدخول على الفعل، كماقال " ربما يود الذين كفروا " فوقع الفعل بعدها - في الآية - وهو على لفظ المضارع، ووقع في قوله (ربما أوفيت في علم) على لفظ الماضي، وهكذا ينبغي في القياس لانها تدل على أمر قدوقع ومضى، وإنماوقع - في الآية - على لفظ المضارع، لانه حكاية لحال آتية كماان قوله " وإن ربك ليحكم بينهم " (3) حكاية الحال آتية ايضا، ومن حكاية الحال قول القائل:

جارية في رمضان الماضي * تقطع الحديث بالايماض (4)

ومن زعم ان الآية على اضمار (كان) وتقديره ربماكان يود، فقد خرج عن قول سيبويه، لانهم لايضمرون على مذهبه (كان) في قول القائل: عبدالله المقتول اي كن عبدالله المقتول. واما اضمار (كان) بعد إن خيرا فخيرا، فإنما جاز ذلك،

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قائله أمية بن ابي الصلت. اللسان " فرج " وروايته " تكره " بدل " تجزع ".

(2) قائله جذيمة الابرش. اللسان " شمل ". وشمالات: جمع شمال، ويقصد هنا ريح الشمال (3) سورة النحل 16 اية 124 (4) اللسان " رمض " " خصص " ومجمع البيان 3: 327

 

===============

(315)

لاقتضاء الحرف له، فصار اقتضاء الحرف له كذكره، فاما ماأنشده ابن حبيب، فيهان ابن مسكين:

لقد رزيت كعب بن عوف وربما * فتى لم يكن يرضى بشئ يضيمها (1)

فان قوله (فتى) يحتمل ضروبا:

احدها - ان يكون لماجرى ذكر (رزيت) استغنى بجري ذكره عن اعادته، فكانه قال: ربما رزيت فتى، فأنتصب فتى برزيت المضمرة، كقوله " آلان وقد عصيت " (2) فاستغنى بذكر آمنت المعلوم عن اظهاره بعد، ويجوز ان يكون

 انتصب ب (رزيت) هذه المذكورة، كأنه قال: لقد رزيت كعب بن عوف فتى وربما لم يكن يرضي اي رزيت فتى لم يكن يضام، ويكون هذا الفصل وهو اجنبي بمنزله قوله:

ابوأمه حي أبوه يقاربه (3)

ويجوز ان يكون رفعا بفعل مضمر كانه قال ربما لم يرضى فتى كقوله:

وقلما وصال على طول الصدود يدوم (4)

ويجوز ان تكون (ما) نكرة بمنزلة شي ء ويكون فتى وصفا لها، كأنه قال:

رب شئ فتى لم يكن كذا، فهذه الاوجه فيها ممكنة، ويجوز في الآية ان تكون (ما) بمنزلة شئ و (ود) صفة له، لان (ما) لعمومها تقع على كل شئ فيجوز ان يعنى بها الود كأنه رب ود يوده الذين كفروا، ويكون يود في هذا الوجه حكاية حال لانه لم يكن كقوله " ارجعنا نعمل صالحا " (5) وقوله " ياليتنا نرد ولانكذب " (6)

 

ـــــــــــــــــــــــ

" 1 " مجمع البيان 3: 327 " 2 " سورة يونس اية 91 " 3 " البيت مشهو يستشهدون به على التعقيد المعنوى في كتب المعاني والبيان وتمامه:

ومامثله في الناس إلا مملكا * ابوأمه حي أبوه يقاربه

" 4 " اللسان " طول " وتمام البيت:

صددت فأطولت الصدود وقلما * وصال على طول الصدود يدوم

(5) الم السجدة 32 اية 12 (6) سورة الانعام 6 آية 27

 

===============

(316)

واما من خفف، فلانه حرف مضاعف والحروف المضاعفة قد تحذف، وان لم يحذف غير المضاعف، فمن المضاعف الذي حذف (ان، وان، ولكن) قدحذف كل واحد من الحروف، وليس كل المضاعف يحذف، لاني لا أعلم الحذف في (ثم)، قال الهذلي:

ازهير إن يشب القذال فانني * رب هيضل لجب لففت بهيضل (1)

واما دخول التاء في (ربتما) فان من الحروف مايدخل عليه حرف التأنيث نحو (ثم، وثمت، ولا، ولات) قال الشاعر:

ثمت لايحزونني غير ذالكم * ولكن سيحزنني المليك فيعقبا 2)

فلذلك الحق التاء في قوله " ربتما " وقال المبرد: قال الكسائي: العرب لاتكاد توقع (رب) على أمر مستقبل، وهذا قليل في كلامهم، وإنما المعنى عندهم ان يوقعوها على الماضي، كقولهم: ربما فعلت ذلك، وربما جاءني فلان.

وإنما جاء هذا في القرآن، على ماجاء في التفسير، ان ذلك يكون يوم القيامة.

وإنما جاز هذا، لان كل شئ ء من أمر الله خاصة فانه وإن لم يكن وقع بعد، فهو كالماضي الذي قدكان، لان وعده آت لامحالة، وعلى هذا عامة القرآن، نحوقوله " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض " (3) وقوله " وسيق الذين اتقوا " (4) " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " (5) ومع هذا يحسن ان يقال - في الكلام - اذا رأيت الرجل يفعل مايشاء، تخاف عليه، ربما يندم، وربما يتمنى ان لاتكون فعلت، قال: وهذا كلام عربي حسن، ومثله قال الفراء والمبرد وغيرهم.

فان قيل لم قال " ربما يود الذين كفروا " ورب للتقليل؟ قلنا عنه جوابان:

احدهما - انه شغلهم العذاب عن تمني ذلك الا في القليل

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان 3: 328 واللسان (هضل) نسبه إلى ابي كبير.

(2) مجمع البيان 3: 328 (3) سورة الزمر - 39 - آية 68 (4) سورة الزمر آية 73 (5) سورة ق 50 آية 21

 

===============

(317)

والثاني - انه أبلغ في التهديد كما تقول: ربما ندمت على هذا، وأنت تعلم أنه يندم ندما طويلا، أي يكفيك قليل الندم، فكيف كثيره.

فان قيل: لم قال " تلك آيات الكتاب وقران " والكتاب هو القرآن؟ ولم أضاف الآيات إلى الكتاب، وهي القرآن؟ وهل هذا إلا اضافة الشئ إلى نفسه؟ ! قلنا: إنما وصفه بالكتاب والقرآن، لاختلاف اللفظين، ومافيهما من الفائدتين وإن كانا لموصوف واحد، لان وصفه بالكتاب يفيد انه مما يكتب ويدون، والقرآن يفيد أنه مما يؤلف ويجمع بعض حروفه إلى بعض قال الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم (1)

وقال مجاهد وقتادة: المراد بالكتاب: ماكان قبل القرآن من التوراة والانجيل، فعلى هذا سقط السؤال: فأما إضافة الشئ إلى نفسه، فقد بينا الوجه فيما مضى فيه، وانه يجري مجرى قولهم مسجد الجامع وصلاة الظهر ويوم الجمعة. وقوله تعالى " لحق اليقين " (2) وهو مستعمل مشهور وبينا الوجه فيه، ووصف القرآن بانه مبين لانه يظهر المعنى للنفس، والبيان ظهور المعنى للنفس بما يميزه من غيره، لان معنى إبانته منه فصل منه، فاذا ظهر النقيضان في معنى الصفة فقد بانت وفهمت.

و (الود) التمنى يقال: وددته اذا تمنيته، ووددته اذا أحببته أود فهيما جميعا ودا. وقال الحسن: اذا رأى المشركون المؤمنين دخلوا الجنة تمنوا أنهم كانوا مسلمين، وقال مجاهد: اذا رأى المشركون المسلمين يغفر لهم ويخرجون من النار يودون لو كانوا مسلمين.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مرهذا البيت في 2: 98 (2) سورة الحاقة 69 آية 51.

 

===============

(318)

قوله تعالى:

(ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون (3)

وماأهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (4) ماتسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (5) وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) لوما تأتينا بالملئكة إن كنت من الصادقين (7) ماننزل الملئكة إلا بالحق وماكانوا إذا منظرين (8) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (9)

سبع آيات.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه التهديد للكفار: اترك هؤلاء يأكلوا ما يشتهون، ويستمتعوا في هذه الدنيا بمايريدون ويشغلهم الامل " فسوف يعلمون " وبال ذلك فيمابعد يعني يوم القيامة ووقت الجزاء على الاعمال.

ثم اخبر تعالى انه لم يهلك أهل قرية فيما مضى على وجه العقوبة الا وكان لها كتاب معلوم يعنى أجل مكتوب قد علمه الله تعالى لابد ان يبلغونه لماسبق في علمه، ويجوز إلا ولها بالواو وبغير الواو، لانه جاء بعد التمام، ولو جاء بعد النقصان لم يجز، نحو رجلا هو قائم، ولايجوز وهو قائم، وكذلك في الظرف في خبر كان، وقال لم تكن أمة فيما مضى تسبق اجلها فتهلك قبل ذلك ولاتتأخر عن اجلها الذي قدر لها بل اذا استوفت أجلها اهلكها الله.

ثم قال له: ان هؤلاء الكفار يقولون لك " ياأيها الذي نزل عليه الذكر " يعنون القرآن نزل عليك على قولك، لانهم لم يكونوا من المعترفين بذلك " انك لمجنون " في ادعائك أنه أنزل عليك الذكر بوحي الله اليك، ولم تكن ممن يقرأ.

 

===============

(319)

وقوله " لو ماتأتينا بالملائكة " معناه هلا تأتينا، وهودعاء إلى الفعل وتحضيض عليه، ومثله قوله " لولاانزل عليه ملك " قال الشاعر:

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بني ضو طرى لولا الكمي المقنعا (1)

وقدجاء (لوما) في معنى (لولا) التي لها جواب قال ابن مقيل:

لوما الحياء ولوما الدين عبتكما * ببعض مافيكما اذعبتما عوري (2)

اي لولا الحياء. والمعنى في الآية هلا تأتينا بالملائكة إن كنت صادقا في انك نبي، وقال ابوعبيد عن ابن جريج: فيه تقديم وتأخير يعنى قوله " ولو فتحنا " هو جواب " لو ماتأتينا " والمعنى: فلو فعلنا ذلك بهم ايضا لما آمنوا، ومابينهما كلام مقدم والمراد به التأخير، قال المبرد: هذا الذي ذكره جائز لكن فيه بعد لانه يلبس بأن يكون فتح عليهم من انفسهم فعرج بهم. والله اعلم. وكلا الامرين غير ممتنع الا ان العرب تمنع مما فيه لبس.

وقوله " ماننزل الملائكة الا بالحق " قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالنون ونصب الملائكة. الباقون بالتاء ورفع الملائكة إلا أبابكر عن عاصم فانه ضم التاء على مالم يسم فاعله. فحجة من قرأ بالنون قوله " ولو اننا نزلنا إليهم الملائكة " (3) وحجة من قرأ " تنزل الملائكة " بفتح التاء قوله " تنزل الملائكة والروح فيها " (4). وحجة من قرأ على مالم يسم فاعله قوله " ماتنزل الملائكة الا بالحق " وقوله تعالى " ونزل الملائكة تنزيلا " (5).

ومعنى قوله " ماننزل الملائكة الا بالحق " يعنى بالحق الذي لايلبس معه الباطل طرفه عين. وقال الحسن ومجاهد: معناه إلا بعذاب الاستئصال اي لم

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر تخريجه في 1: 309، 435.

(2) شواهد الكشاف 126 ومجاز القرآن 1: 346 وتفسير القرطبي 10: 4 ومجمع البيان 3: 330 (3) سورة الانعام اية 111 (4) سورة القدراية 4 (5) سورة الفرقان اية 25

 

===============

(320)

يؤمنوا بالآيات، كماكانت حال من قبلهم حين جاءتهم الآيات التي طلبوا، فلم يؤمنوا. ومعنى " وماكانوا اذا منظرين " أنه إن نزل عليهم الملائكة ولم يؤمنوا لم ينظرهم الله، بل كان يعاجلهم العقوبة. وقوله " انانحن نزلنا الذكر " يعنى القرآن في - قول الحسن والضحاك، وغيرهم - " واناله لحافظون " قال قتادة:

لحافظون من الزيادة والنقصان. ومثله قوله " لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (1) وقال الحسن: لحافظون حتى نجزي به يوم القيامة اي لقيام الحجة به على الجماعة من كل من لزمته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الفراء: الهاء في قوله " واناله لحافظون " يجوز ان تكون كناية عن النبي، فكأنه قال: انا نحن نزلنا القرآن وانا لمحمد لحافظون، وقال الجبائي:

معناه وانا له لحافظون من ان تناله أيدي المشركين، فيسرعون إلى ابطاله، ومنع المؤمنين من الصلاة به.

وفي هذه الآية دلالة على حدوث القرآن، لان مايكون منزلا ومحفوظا لايكون الامحدثا، لان القديم لايجوز عليه ذلك ولايحتاج إلى حفظه قوله تعالى:

(ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الاولين (10) وما يأتيهم من رسول إلاكانوا به يستهزؤن (11) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (12) لايؤمنون به وقد خلت سنة الاولين)

(13) أربع ايات بلاخلاف.

يقول الله (عزوجل) لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم تسلية له عن كفر قومه " لقد ارسلنا من قبلك في شيع الاولين " قال ابن عباس وقتادة: شيع الامم واحدهم شيعة لمتابعة بعضهم بعضا في الاحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد من مملكة

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة حم السجد 41 (فصلت) آية 42

 

===============

(321)

أو عمارة أو بادية أو نحو ذلك من الامور الجارية في العادة، والمرسل محذوف لدلالة (أرسلنا) عليه.

وقوله " ومايأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزؤن " اخبار منه تعالى أنه لم يبعث رسولا فيما مضى الاوكانت اممهم تستهزئ بهم، واستهزاؤهم بهم حملهم عليهم واستبعادهم مادعوا اليه واستيحاشهم منه، واستكبارهم له، حتى توهموا أنه مما لايكون، ولايصح مع مخالفته لما وجدوا عليه آباؤهم وأجدادهم واسلافهم، فكان عندهم كأنه دعا إلى خلاف المشاهدة والى مافيه جحد الضرورة والمكابرة.

والهزؤ إظهار مايقصد به العيب على ايهام المدح، وهو بمعنى اللعب والسخرية.

وقوله " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لايؤمنون به وقد خلت سنة الاولين " قيل في معناه قولان:

احدهما - كذلك نسلك القرآن الذي هو الذكر باخطاره على البال ليؤمنوا به، فهم لايؤمون به، ماضين على سنة من تقدمهم، من تكذيب الرسل، كما سلكنا دعوة الرسل في قلوب من سلف من الامم. ذهب اليه البلخي والجبائي.

وقال الحسن وقتادة: يسلك الاستهزاء بإخطاره على البال ليجتنبوه، ولوكان المراد أنه يسلك الشرك في قلوبهم، لكان يقول: انهم لايؤمنون بالشرك ولو كانوا كذلك، كانوا محمودين غير مذمومين، يقال: سلكه فيه يسلكه سلكا وسلوكا، واسلكه اسلاكا، قال عدي بن زيد:

وكنت لزاز خصمك لم اعرد * وقد سلكوك في يوم عصيب (1)

وقال الآخر:

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر 6: 38 تعليقة 1 تفسير التبيان ج 6 م 21

 

===============

(322)

حتى اذا سلكوهم في قتائدة * شلاكما تطرد الجمالة الشردا (1)

ومعنى قوله: " وقدخلت سنة الاولين " اي في اهلاك من اقام على الكفر بالمعجزات بعد مجئ ماطلب من الآيات، ويحتمل ان يكون المراد وقد خلت سنة الاولين في تكذيب رسلهم والكفر بما جاؤوا به.

قوله تعالى:

(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15) آيتان.

قرأ ابن كثير وحده " سكرت " بالتخفيف. الباقون بالتشديد. قال أبو عبيدة: (سكرت) معناه غشيت. والمعنى في الآية سكرت الابصار، فلا ينفذ نورها، ولاتدرك الاشياء على حقيقتها، وكأن المعنى انقطاع الشئ عن سننه الجاري، فمن ذلك (سكره سكرا) إنما هورده عن سننه، وقال: السكير في الرأي قبل ان يعزم على شئ، فاذا عزم على امر ذهب السكير وهو ان ينقطع عماعليه من المضاء في حال الصحو، فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في صحوه، ووجه التثقيل ان الفعل مسندالى جماعة مثل قوله " مفتحة لهم الابواب " (2) ووجه التخفيف ان هذا النحو من الفعل المسند إلى الجماعة قد يخفف، قال الشاعر:

مازلت اغلق ابوابا وأفتحها (3)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قائله عبد مناف بن ربع الهذلي ديوانه 2 / 42 وتفسير الطبري 14 / 7، 18 وتفسير القرطبي 12 / 119 ومجاز القرآن 1 / 37، 331 ومجمع البيان 3 / 330 ومعجم البلدان (قتائدة)

واللسان والتاج (قتد) وقد مر في 1 / 128، 149 من هذا الكتاب.

(2) سورة ص 38 اية 50 (3) اللسان (غلق) نسبه إلى الفرزدق ولم اجده في ديوانه وروايته مازلت افتح ابوبا واغلقها * حتى اتيت ابا عمروبن عمار

 

===============

(323)

اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان هؤلاء الكفار لشدة عنادهم وغلظة كفرهم وتمردهم وعتوهم " لو فتحنا عليهم بابامن السماء " فصاروا " فيه يعرجون " والعروج الصعود في الهواء تعلقا به نحو السماء، عرج الملك يعرج عروجا، فلو عرج هؤلاء عروج الملك، لقالوا هذا القول. والتسكير إدخال اللطيف في المسام، ومنه السكر بالشراب، والسكر السد بالتراب " لقالوا انما سكرت أبصارنا " بما ادخل فيها من اللطيف في مسامها، حتى منعنا من رؤية الاشياء على حقيقتها. وأصل السكر السد بما ادخل في المسام. وقال مجاهد والضحاك وابن كثير: معنى " سكرت " سدت قال المثنى بن جندل الطهوري:

جاء الشتاء واجثأل القنبر * واستخفت الافعى وكانت تظهر

وطلعت شمس عليها مغفر * وجعلت عين الحرور تسكر (1)

اي تسد بشدة البرد، وقنبر وقنبر - بضم الباء وفتحها - لغتان، مثل جندب وجندب قال رؤبة:

قبل انصداع الفجر والتهجر * وخوضهن الليل حتى تسكر (2)

اي يسد بظلمته، وحكى الفراء: ان من العرب من يقول: سكرت الريح إذا سكنت.

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: المعنى " لو فتحنا عليهم بابا من السماء " فظلت الملائكة تعرج إلى السماء، وهم يرونها على مااقترحوه، " لقالوا: إنما سكرت أبصارنا " وقال الحسن: يظل هؤلاء المشركون يعرجون فيه.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مجاز القران 1 / 348 وتفسير الطبري 14 / 9 واللسان والتاج (سكر، قبر) وتفسير الطبري 14 / 8 ومجمع البيان 3 / 330 والشوكاني (الفتح القدير) 3 / 8، 11 (اجتأل)

اجتمع، وتقبض، وانقبض. و (القنبر) و (القنبار) جمعه قنابر، وتقول: العامة:

قنبرة. وهم جماعة يجتمعون لجر مافي الشباك من الصيد، وهي لغة عمانية. ومعنى (استخفت الافعى) اي تخبأت الحية الكبيرة. بعد ان كانت تظهر. وطلعت الشمس عليها غيوم. و (الحرور) الريح الحارة.

(2) تفسير الطبري 14 / 9

 

===============

(324)

" بل نحن قوم مسحورون " أي يقولون: سحرنا، فنحن مسحورون والسحر حيلة خفية، توهم معنى المعجزة من غير حقيقة، ولهذا من عمل بالسحر كان كافرا، لانه يدعي المعجزة للكذابين، فلا يعرف نبوة الصادقين.

وقال أبوعبيدة: سكرت أبصار القوم إذا ادير بهم، وغشيهم كالساتر فلم يبصروا.

وروي ابن خالوية عن الزهري أنه قرأ " سكرت " بفتح السين وكسر الكاف، والتخفيف أي اختلطت وتغيرت عقولهم.

قوله تعالى:

(ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (16)

وحفظناها من كل شيطان رجيم (17) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) (18) ثلاث آيات بلاخلاف.

أخبر الله تعالى أنه جعل في السماء بروجا. والجعل قد يكون تصيير الشئ عن صفة لم يكن عليها. وقد يكون بالايجاد له. والله تعالى قادر ان يجعل في السماء بروجا من الوجهين، والبرج: ظهور منزل ممتنع بارتفاعه، فمن ذلك برج الحصن، وبرج من بروج السماء الاثني عشر، وهي منازل الشمس والقمر.

وأصله الظهور، يقال: تبرجت المرأة إذا أظهرت زينتها. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: المراد بالبروج النجوم. وقوله " وحفظناها من كل شيطان رجيم " يحتمل ان تكون الكناية راجعة إلى السماء، والى البروج. وحفظ الشئ جعله على ماينفي عنه الضياع، فمن ذلك حفظ القرآن بدرسه ومراعاته، حتى لاينسى، ومنه حفظ المال بإحرازه بحيث لايضيع بتخطف الايدي له، وحفظ السماء من كل شيطان بالمنع بما أعد له من الشهاب. والرجم بمعنى المرجوم، والرجم الرمي بالشئ بالاعتماد من غير آلة مهيأة للاصابة، فان النفوس يرمى عنها ولاترجم.

 

===============

(325)

وقوله " الامن استرق السمع " معنى (الا) (لكن) فكأنه قال: لكن من استرق السمع من الشيطان يتبعه شهاب مبين قال الفراء: أي لايخطئ، وقال المفسرون: قوله " إلا من استرق السمع " مثل قوله " إلا من خطف الخطفة " (1) ومعناه معناه، والاستراق أخذ الشئ خفيا، وليس طلبهم استراق السمع مع علمهم بالشهب خروج عن العادة في صفة العقلاء، لانهم قد يطمعون في في السلامة من بعض الجهات، والشهاب عمود من نور يمد لشدة ضيائه كالنار وجمعه شهب. وقال ابن عباس: بالشهاب يخبل ويحرق، ولايقتل. وقال الحسن:

يقتل قال ذو الرمة:

كأنه كوكب في إثر عفرية * مسوم في سواد الليل منقضب (2)

والاتباع إلحاق الثاني بالاول، أتبعه اتباعا، وتبعه يتبعه إذا طلب اللحاق به، وكذلك اتبعه اتباعا بالتشديد " مبين " اي ظاهر مبين.

وقال الفراء: قوله " إلا من استرق السمع " استثناء صحيح، لان الله تعالى لم يحفظ السماء ممن يصعد اليها ليسترق السمع، ولكن اذا سمعه والقاه إلى الكهنة اتبعه شهاب مبين، فأما استراقهم السمع، فقال المفسرون: إن فيهم من كان يصعد السماء فيسمع الوحي من الملائكة، فاذا نزل إلى الارض اغوى به شياطينه او ألقاه إلى الكهان، فيغوون به الخلق، فلما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك، وكان قبل البعثة لم يمنعهم من ذلك تغليظا في التكليف. قال الزجاج:

والدليل على انه لم يكن ذلك قبل النبي ان أحدا من الشعراء لم يذكره قبل بعثة لنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة ذكرهم الشهب بعد ذلك.

قوله تعالى:

(والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 37 الصافات آية 10 (2) مجمع البيان 3 / 330 واللسان قضب)

 

===============

(326)

كل شئ موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20) وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وماننزله إلا بقدر معلوم) (21) ثلاث آيات بلاخلاف.

قوله " والارض مددناها " عطفا على قوله " ولقد جعلنا في السماء بروجا..

والارض " ويجوز ان يكون ومددنا الارض مددناها، كماقال " والقمر قدرناه " (1) ومعنى " مددناها " بسطناها، وجعلنا لها طولا وعرضا " والقينا فيها " يعني طرحنا فيها " رواسي " يعني جبالا ثابتة. واصله الثبوت، ويقال: رست السفينة اذا ثبتت، والمراسي ماتثبت به. وقيل جعلت الجبال أوتادا للارض وقيل جعلت أعلاما يهتدي بها أهل الارض.

وقوله " انبتنا فيها " يعني أخرجنا النبات في الارض، والنبات ظهور النامي عن غيره، حالا بعد حال والاغلب عليه ظهوره من الارض، وقد يكون من غيره، كنبات الشعر على البدن والرأس.

" من كل شئ موزون " قيل في معناه قولان:

احدهما - قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والجبائي: من كل شئ مقدرمعلوم.

والثاني - قال الحسن وابن زيد: من الاشياء التي توزن من الذهب والفضة والنحاس والحديد وغير ذلك. والوزن وضع احد الشيئين بازاء الآخر على ما يظهر به مساواته في المقدار وزيادته، يقال وزنه يزنه وزنا فهو موزون، " وجعلنا لكم فيها معايش " جمع معيشة، وهي طلب اسباب الرزق مدة الحياة، فقد يطلبها الانسان لنفسه بالتصرف والتكسب، وقد يطلب له فإن أتاه اسباب الرزق من غير طلب فذلك العيش الهني.

وقوله " ومن لستم له برازقين " (من) في موضع نصب عطفا على (معايش)،

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة يس آية 39

 

===============

(327)

وقال مجاهد: المراد به العبيد والاماء والدواب، والانعام، قال الفراء: العرب لاتكاد تجعل (من) الا في الناس خاصة، قال، فان كان من الدواب والمماليك حسن حينئذ، قال وقد يجوز ان يجعل (من) في موضع خفض نسقا على الكاف والميم في (لكم) قال المبرد: الظاهر المخفوض لايعطف على المضمر المخفوض نحو مررت بك وزيد إلا ان يضطر شاعر، على مامضى ذكره في سورة النساء، وانشد الفراء في ذلك:

نعلق في مثل السواري سيوفنا * ومابينها والكعب غوط نفانف (1)

فرد الكعب على (بينها) وقال آخر:

هلا سألت بذي الجماجم عنهم * وأبا نعيم ذي اللواء المحرق (2)

فرد أبا نعيم على الهاء في عنهم. قال ويجوز ان يكون في موضع رفع، لان الكلام قدتم، ويكون التقدير على قوله " لكم فيها ".. " ومن لستم له برازقين ".

وقوله " وان من شئ الاعندنا خزائنه " فخزائن الله مقدوراته، لانه تعالى يقدر ان يوجد ماشاء من جميع الاجناس، فكأنه قال: وليس من شئ إلا والله تعالى قادر على ماكان من جنسه إلى مالانهاية له.

وقوله " وماننزله الابقدر معلوم " اي لست انزل من ذلك الشئ " إلا بقدر

 معلوم " اي مايصلحهم وينفعهم دون مايفسدهم ويضرهم، حسب ماسبق في علمي.

قوله تعالى:

(وأرسلنا الرياح لواقع فأنزلنا من السماء ماء فأسقينا كموه وماأنتم له بخازنين (22) وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر هذا البيت في 3: 98 (2) تفسير الطبري 14: 12 (الطبعة الاولى) ومجمع البيان 3: 333

 

===============

(328)

الوارثون (23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم) (25) أربع آيات.

قرأ حمزة وحده " الريح لواقح " الباقون " الرياح " على الجمع، قال ابوعبيدة لااعرف لذلك وجها، إلا ان يريد أن الريح تأتي مختلفة من كل وجه، فكانت بمنزلة رياح وحكى الكسائي أرض اغفال، وأرض سباسب. قال المبرد: يجوز ذلك على بعد، ان يجعل الريح جنسا، وليس بجيد، لان الرياح ينفصل بعضها عن بعض، بمعرفة كل واحدة، وليست كذلك الارض، لانها بساط واحد.

وقال الفراء: هو مثل ثوب اخلاق وانشد:

جاء الشتاء وقميصي أخلاق * شراذم يضحك منه التواق (1)

ومن قراء " الرياح لواقح " احتمل ذلك شيئين.

احدهما - ان يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء، فيكون فيها اللقاح، فيقال فيها ريح لاقح، كمايقال: ناقة لاقح.

والثاني - ان بصفها باللقح وان كانت تلقح، كما قيل ليل نائم وسركاتم.

يقول الله تعالى انه بعث " الرياح الواقع " للسحاب والاشجار تعدادا لنعمه على عباده وامتنانا عليهم، واحدها ريح، وتجمع ايضا أرواحا، لانها من الواو، قال الشاعر:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم (2)

فاللواقح التي تلقح السحاب، حتى يحمل الماء أي تلقي اليه مايحمل به الماء يقال: لقحت الناقة اذا حملت، وألقحها الفحل إذا ألقى اليها الماء فحملته، فكذلك الرياح هي كالفحل للسحاب، (ولواقح) في موضع ملاقح. وقيل في

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الطبري 14: 13 واللسان " خلق "، " توق ".

(2) مرهذا البيت في 2: 372 من هذا الكتاب.

 

===============

(329)

علة ذلك قولان: احدهما، لانه في معنى ذات لقاح كقولهم: هم ناصب أي ذو نصب قال النابغة:

كليني لهم يااميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكب (1)

اي منصب، وقال نهشل بن حري النهشلي:

ليبك يزيد ضارع لخصومه * ومختبط مما تطيح الطوائح (2)

اي المطاوح، وقال قتادة وابراهيم والضحاك: معنى هذا القول: ان الرياح تلقح السحاب الماء. وقال ابن مسعود: إنها لاقحة يحملها الماء، ملقحة بإلقائها إياه إلى السحاب.

وقوله " فانزلنا من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا " فاسقيناكموه " اي جعلته سقيا، لارضكم تشربه، يقال: سقيته، فيما يشربه، تسقيه واسقيته فيما تشربه ارضه، وقد تجئ أسقيته بمعنى سقيته، كقوله تعالى " نسقيكم مما في بطونه من بين فرت ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين " (3)، وقال ذو الرمة:

وقفت على ربع لمية ناقتي * فمازلت أبكى عنده وأخاطبه

واسقيه حتى كاد مما أبثه * تكلمني احجاره وملاعبه (4)

اي ادعو له بالسقيا. " وماانتم له برازقين " اي لستم تقدرون ان ترزقوا احدا ذلك الماء، لولا تفضل الله عليكم. ثم اخبر تعالى انه هوالذي يحيي الخلق اذا شاء وكان ذلك صلاحا لهم، ويميتهم اذا اراد وكان صلاحهم، وانه هوالذي يرث الخلق، لانه اذا افنى الخلق ولم يبق احدكانت الاشياء كلها راجعة اليه ينفرد بالتصرف فيها وكان هوالوارث لجميع الاملاك.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه " دار بيروت " 9 وقد مر في 5: 368، 6: 95.

(2) مر هذا البيت في 4: 310.

(3) سورة النحل آية 66 (4) ديوانه 213 وتفسير الشوكاني " الفتح القدير " 3: 48 وتفسير الطبري 14: 14 والمحاسن والاضداد للجاحظ 335 ومجمع البيان 3: 333، 359 واللسان والتاج (سقى) وقدمر الثاني في 4: 129

 

===============

(330)

وقوله " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستاخرين " قيل في معناه ثلاثة اقوال:

احدهما - قال مجاهد وقتادة من مضى ومن بقي.

وثانيها - قال الشعبي: اول الخلق وآخره.

وثالثها - قال الحسن: المتقدمين في الخير والمبطئين.

وقال الفرا: لماقال النبي صلى الله عليه وسلم إن اله يصلي على الصف الاول، أراد بعض المسلمين ان يبيع داره النائية ليدنو إلى المسجد، فيدرك الصف الاول. فأنزل الله الآية، وأنه يجازي فقراء الناس على نياتهم.

ثم اخبر تعالى ان الذي خلقك يامحمد هوالذي يحشرهم بعد اماتتهم، ويبعثهم يوم القيامة، لانه حكيم في افعاله عالم بما يستحقونه من الثواب والعقاب.

(والحشر) جمع الحيوان إلى مكان، يقال: هؤلاء الحشار، لانهم يجمعون الناس إلى ديوان الخراج. و (الحكيم) العالم بما لايجوز فعله، لقبحه، او سقوط الحمد عليه، مع انه لايفعله، فعلى هذا يوصف تعالى فيما لم يزل بانه حكيم.

والحكيم المحكم لافعاله بمنع الخلل ان يدخل في شئ منها، فعلى هذا لايوصف تعالى فيمالم يزل بانه حكيم.

قوله تعالى:

(ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حما مسنون (26)

والجان خلقناه من قبل من نار السموم) (27) آيتان بلاخلاف.

اخبر الله تعالى أنه خلق الانسان، والمراد به آدم بلاخلاف.

وقيل في معنى الصلصال قولان:

احدهما - إنه الطين اليابس الذي يسمع له عند النقر صلصلة. ذهب اليه ابن عباس والحسن وقتادة.

والثاني - قال مجاهد: هو مثل الخزف الذي يصلصل. وقال مجاهد:

 

===============

(331)

الصلصال المنتن - في رواية عنه - مشتق من صل اللحم وأصل إذا انتن، والاول اقوى، لقوله تعالى " خلق الانسان من صلصال كالفخار (1) " ومايبس كالفخار فليس بمنتن، وقال الفراء: الصلصال طين الحرار إذا خلط بالرمل اذا جف كان صلصالا، واذا طبخ كان فخارا، والصلصلة القعقعة، وهي صوت شديد متردد في الهواء كصوت الرعد، يقال لصوت الرعد صلصلة، وللثوب الجديد قعقعة، واصل الصلصلة الصوت يقال: صل يصل وهو صليل اذا صوت، قال الشاعر:

رجعت إلى صدر كجرة حنتم * إذا فرغت صفرا من الماء صلت (2)

وقيل: خلق آدم على صورة الانسان من طين، ثم ترك حتى جف، فكانت الريح اذا مرت به سمع له صلصلة.

وقوله " من حمإ مسنون " فالحمأ جمع حمأة، وهو الطين المتغير إلى السواد، يقال: حمئت البئر وأحمأتها أنا اذا بلغت الحمأة. وقيل في معنى (المسنون)

قولان:

احدهما - المصبوب من قولهم: سننت الماء على الوجه وغيره اذا صببته، وعن ابن عباس: انه الرطب، فعلى هذا يكون رطبا مصبوبا ثم يبس فيصير كالفخار.

الثاني - انه المتغير، من قولهم: سننت الحديدة على المسن اذا غيرتها بالتحديد، والاصل الاستمرار في جهة، من قولهم هو على سنن واحد.

ومعنى قوله " والجان خلقناه من قبل " المراد به ابليس، خلقه الله قبل آدم - في قول الحسن وقتادة - " من نار السموم " اي من النار الحارة. وقال عبدالله:

هذه السموم جزء من سبعين جزء من السموم التي خرج منها الجان، وهو مأخوذ من دخولها بلطفها في مسام البدن ومنه السم القاتل، يقال: سم يومنا يسم سموما اذا هبت له ريح السموم.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الرحمن آية 14 - 15 (2) قائله عمروبن شأس. اللسان " حنتم " ومجمع البيان 3: 335

 

===============

(332)

قوله تعالى:

(وإذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرا من صلصال من حما مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29) فسجد الملئكة كلهم أجمعون (30) إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين (31) أربع آيات بلاخلاف.

لفظة (إذ) تدل على مامضى من الزمان، ولابد لها من فعل متعلق به، والتقدير واذكر يامحمد " اذقال ربك للملائكة إني خالق بشرا " اي اخلقه فيما بعد، قبل ان يخلقه، والمراد بالبشر آدم، وسمي بشرا لانه ظاهر الجلد، لايرى فيه شعر، ولاصوف كسائر الحيوان. ثم قال " من صلصال من حما مسنون " وقد فسرناه.

وقوله " فإذا سويته " معناه سويت صورته الانسانية، والتسوية جعل واحد من الشيئين على مقدار الآخر وقد يسوى بين الشيئين في الحكم.

وقوله: " ونفخت فيه من روحي " فالنفخ الاجراء لريح في الشئ باعتماد، نفخ ينفخ إذا اجرى الريح باعتماد، فلما أجرى الله الروح على هذه الصفة في البدن، كان قد نفخ الروح فيه، وأضاف روح آدم إلى نفسه تكرمة له، وهي اضافة الملك، لما شرفه وكرمه، والروح جسم رقيق روحاني فيها الحياة التي بها يجئ الحي، فاذا خرجت الروح من البدن، كان ميتا في الحكم، فاذا انتفت الحياة من الروح، فهو ميت في الحقيقة.

وقوله " فقعوا له ساجدين " أمرمن الله تعالى، إلى الملائكة ان يسجدوا لآدم. وقيل في وجه سجودهم له قولان:

احدهما - انه سجود تحية وتكرمة لآدم، عبادة لله تعالى. وقيل: أنه على معنى السجود إلى القبلة. والاول عليه اكثر المفسرين. ثم استثنى من جملتهم

 

===============

(333)

ابليس انه لم يسجد، " وأبى ان يكون مع الساجدين " لآدم. وابليس مشتق من الابلاس، وهو اليأس من روح الله إلا انه شبه بالاعجمي من جهة انه لم يستعمل إلا على جهة العلم، فلم يصرف. وقال قوم: إنه ليس بمشتق، لانه أعجمي بدلالة انه لاينصرف. والاباء: الامتناع، والسجود خفض الجبهة بالوضع على بسط من الارض او غيره، واصله الانخفاض قال الشاعر:

ترى الاكم فيها سجد اللحوافر (1)

واختلفوا في هذا الاستثناء، فقال قوم: ان ابليس كان من الملائكة، فلذلك استثناه، وقال آخرون: إنماكان من جملة المأمورين بالسجود لآدم، فلذلك استثناه من جملتهم، وقال آخرون: هو استثناء منقطع ومعناه (لكن) وقد بينا الصحيح من ذلك في سورة البقرة (2)

ومن قال: لم يكن من الملائكة قال: الملائكة خلقوا من نور، وإبليس خلق من نار، والملائكة لايعصون، وإبليس عصى بكفره بالله. والملائكة لاتأكل ولاتشرب ولا تنكح، وإبليس بخلاف ذلك، قال الحسن: إبليس أب الجن، كما ان آدم أب الانس قوله تعالى:

(قال ياإبليس مالك ألا تكون مع الساجدين (32) قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حما مسنون (33)

آيتان بلاخلاف.

هذا خطاب من الله تعالى لابليس يقول له: لم لاتكون مع الساجدين، تسجد كماسجدوا. واختلفوا في كيفية هذا الخطاب، فقال الجبائي: قال الله له

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر هذا الشعر في: 148، 263، 311، 4: 233، 383، 6:..

(2) انظر 1: 147 في تفسير آية 34 من سورة البقرة.

 

===============

(334)

ذلك على لسان بعض رسله وهو ألاليق، لانه لايصح ان يكلمه الله بلاواسطة في زمان التكليف. وقال آخرون: كلمه، بالانكار عليه والاهانة له، كما قال " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " (1). هذا ينبغي ان يكون حكاية عمايقوله له في الآخرة، فقال إبليس مجيبا لهذا الكلام: ماكنت بالذي اسجد لبشر " خلقته من صلصال من حما مسنون " وقد فسرناه. ولم يعلم وجه الحكمة في ذلك، لان في ذلك قلبا للشئ عن الحالة الحقيرة في الضعة إلى هذه الحالة الجليلة، وأي ذلك كان، فانه لايقدر عليه غير الله، وانه لاينتفع للعظم في الصفة مع إمكان قلبه إلى النقص في الصفة، وكذلك لايضر النقص في الصفة، مع إمكان قلبه إلى الاعظم، فلو نظر في ذلك لزالت شبهته في خلقه من نار وخلق آدم من طين، قال المبرد: قوله " مالك ألاتكون " (لا) زائدة مؤكدة، والتقدير مامنعك ان تسجد، ف (أن) في قول الخليل وأصحابه في موضع نصب، لانه إذا حذف حرف الجر ونصب مابعده، وقال غيره: في موضع خفض، لان المعنى مامنعك من ان تكون، فحذف (من)

قوله تعالى:

(قال فاخرج منها فإنك رجيم (34) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين (35) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم) (38)

خمس آيات بلاخلاف.

هذاخطاب من الله تعالى لابليس لما احتج لامتناعه من السجود لادم بماليس بحجة، بل هو حجة عليه، فاخرج منها.

قال الجبائي: أمره بالخروج من الجنة. وقال غيره أمره بالخروج من السماء.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة المؤمنون آية 109

 

===============

(335)

" فانك رجيم " أي مرجوم بالذم والشتم (فعيل) بمعنى مفعول. وقد يكون (فعيل) بمعنى فاعل مثل رحيم بمعنى راحم.

" وان عليك اللعنة " اي عليك مع ذلك اللعنة، وهي الابعاد من رحمة الله، ولذلك لايجوز ان تلعن بهيمة، فأمالعن إبليس إلى يوم الدين، فإن الله قدلعنه، والمؤمنون لعنوه لعنة لازمة إلى يوم الدين، وهو يوم القيامة. ثم يحصل بعد ذلك على الجزاء بعذاب النار. وقيل الدين - ههنا - الجزاء، ومثله " مالك يوم الدين " اي يوم الجزاء. ويقال لفلان دين اي طاعة يستحق بها الجزاء، وفلان يدين للملوك أي يدخل في عادتهم في الجزاء، فقال حينئذ ابليس: يارب " انظرني إلى يوم يبعثون " اي أخر في وقتي إلى يوم يحشرون، يعني القيامة، يحشرهم الله للجزاء. والانظار والامهال واحد، فقال الله تعالى له: اني انظرتك وأخرتك وجعلتك من جملة " المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " فقال قوم: هو يوم القيامة، أنظره الله في رفع العذاب عنه إلى يوم القيامة، وفي التبقية إلى آخر أحوال التكليف " ويوم يبعثون " يوم القيامة. وقدقيل: إن يوم الوقت المعلوم هو آخر أيام التكليف، وأنه سأل الانظار إلى يوم القيامة، لان لايموت، اذ يوم القيامة لايموت فيه احد، فلم يجبه الله إلى ذلك. وقيل له " إلى يوم الوقت المعلوم " الذي هو آخر ايام التكليف. وقال البلخي: اراد بذلك إلى يوم الوقت المعلوم، الذي قدر الله أجله فيه، وهومعلوم، لانه لايجوز ان يقول تعالى لمكلف اني ابقيك إلى يوم معين لان في ذلك اغراء له بالقبيح.

واختلفوا في تجويز، إجابة دعاء الكافر، فقال الجبائي: لايجوز، لان اجابة الدعاء ثواب، لمافيه من اجلال الداعي باجابته إلى ماسأل وقال ابن الاخشاد:

يجوز ذلك، لان الاجابة كالنعمة في احتمالها ان تكون ثوابا وغير ثواب، لانه قد

 يحسن منا ان نجيب الكافر إلى ماسأل استصلاحا له ولغيره، فأما قولهم:

فلان مجاب الدعوة، فهذه صفة مبالغة لاتصح لمن كانت إجابته نادرة من الكفار.

 

===============

(336)

قوله تعالى:

(قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين) (40) آيتان بلاخلاف.

لماأجاب الله تعالى إبليس إلى الانظار إلى يوم الوقت المعلوم، قال عند ذلك يارب " بما أغويتني " اي فيما خيبتني من رحمتك، لان الغي الخيبة قال الشاعر.

فمن يلق خيرا يحمد الناس امره * ومن يغو لايعدم على الغي لائما (1)

 وقال قوم: معناه بما نسبتني إلى الغي ذما لي، وحكمت علي بالغي. وقال البلخي: معناه فيما كلفتني السجود لآدم الذي غويت عنده، فسمي ذلك غواية، كماقال " فزادتهم رجسا إلى رجسهم " (2) لما ازدادوا عندها، على ان هذا حكاية قول إبليس، ويجوز ان يكون اعتقد ان الله خلق فيه الغواية، فكفر بذلك، كما كفر بالامتناع من السجود.

والباء في قوله " فبما أغويتني " قيل في معناها قولان:

احدهما - ان معناها القسم، كقولك بالله لافعلن.

والآخر - بخيبتي " لاغوينهم " كأنها سبب لاغوائهم، كقولك بمعصيته ليدخلن النار، وبطاعته ليدخلن الجنة.

والاغواء الدعاء إلى الغي، والاغواء خلاف الارشاد، فهذا أصله، وقد يكون الاغواء بمعنى الحكم بالغي، على وجه الذم والتزيين جعل الشئ منقبلا في النفس من جهة الطبع والعقل، بحق ام بباطل. واغواء الشيطان تزيينه الباطل حتى يدخل صاحبه فيه، ويرى ان الحظ بالدخول فيه. و " لاغوينهم " اي أدعوهم إلى ضد الرشاد، ثم أستثنى من جملتهم عباد الله المخلصين الذين أخلصوا عبادتهم لله وامتنعوا من اجابة الشيطان، في ارتكاب المعاصي، لانه ليس للشيطان عليهم

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مرهذا البيت في 2: 312، 4: 391، 5: 548 (2) سورة التوبة آية 126

 

===============

(337)

سبيل، كماقال تعالى " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان " يعنى عباد الله الذين فعلوا ما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه.

ومن كسر اللام فلقوله " وأخلصوا دينهم لله " (1)

ومن فتحها أراد ان الله أخلصهم بأن وفقهم لذلك، ولطف لهم فيه.

قوله تعالى:

(قال هذا صراط علي مستقيم (41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42) وإن جهنم لموعدهم أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) (44) أربع آيات بلاخلاف.

قرأ يعقوب " صراط علي " بتنوين علي، ورفعه على أنه صفة ل (صراط)

بمعنى رفيع، وبه قرأ ابن سير بن وقتادة. الباقون بفتح الياء على الاضافة إلى الياء. وقيل في معناه قولان.

احدهما - إن ذلك على وجه التهديد، كقولك لمن تتهدده وتتوعده: على طريقك، والى مصيرك، كماقال " إن ربك لبالمرصاد " (2) وهوقول مجاهد وقتادة.

الثاني - إنه يراد به الدين المستقيم، وأن الله يبينه وينفي الشبهة عنه بهداية المستدل على طريق الدليل.

وقوله " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان " اخبار منه تعالى ان عباده الذين

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة النساء آية 146 (2) سورة الفجر آية 14 تفسير التبيان ج 6 - م 22

 

===============

(338)

يطيعونه وينتهون إلى أمره ويجتنبون معاصيه ليس للشيطان عليهم سلطان ولا قدرة اكثر من ان يغويهم، فإذا لم يقبلوا منه ولايتبعونه، فلايقدر لهم على ضر ولانفع. وقال الجبائي: ذلك يدل على ان الجن لايقدرون على الاضرار ببني آدم، لانه على عمومه. وقال غيره: الآية تدل على نفي السلطان بالاغواء، لانهم اذا لم يقبلوا منه ولايتبعونه، فكأنه لاسلطان له عليهم، ولايمتنع ان يقدروا على غير ذلك من الاضرار.

ثم استثنى تعالى من جملة العباد من يتبع ابليس على إغوائه وينقاد له ويقبل منه، لانه اذا قبل منه، صار له عليه سلطان، بعدوله عن الهدى إلى مايدعوه اليه من اتباع الهوى، فيظفر به إبليس.

ثم اخبر تعالى ان جهنم موعد جميع العصاة والخارجين عن طاعته، ومن يتبع ابليس على إغوائه. و (جهنم) لاتنصرف لانها معرفة مؤنثة، وقد يقال للنار اذا عظمت واشتدت: هذه جهنم، تشبيها بجهنم المعروفة، وهذا لم ينكر، ثم اخبر عن صفة جهنم بأن " لها سبعة ابواب " وقال علي (ع) والحسن وقتادة وابن جريج: ابوابها أطباق بعضها فوق بعض " لكل باب جزء " من المستحقين للعقوبة على قدر استحقاقهم من العقاب، في القلة والكثرة بحسب كثرة معاصيهم وقلتها.

قوله تعالى:

(إن المتقين في جنات وعيون (45) أدخلوها بسلام آمنين (46) ونزعنا مافي صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين (47) لايمسهم فيها نصب وماهم منها بمخرجين) (48) أربع ايات بلاخلاف.

لمااخبر الله تعالى عن الكفار ان مستقرهم جهنم، ووصف جهنم، اخبر - ههنا -

 

===============

(339)

ماللمتقين، فقال " ان للمتقين " الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه وفعل طاعته " جنات " وهي البساتين التي تنبع فيها المياه، كماتفورمن الفوارة، ثم يجري في مجاريه، وانما يشوقهم إلى الثواب بالجنان، لانها من اسباب لذات الدنيا المؤدية اليها، كما ان النار من اسباب الآلام لمن حصل فيها.

والفرق بين الجنة والروضة: ان الجنة لابد ان يكون فيها شجر، لان اصلها من ان الشجر يجنها، والروضة قد تكون بغير شجر، يقال: روضة خضرة ورباض مونقات.

وقوله " ادخلوها " اي يقال للمتقين " ادخلوها بسلام آمنين " بسلامة وهي البراءة من كل آفة ومضرة، كما قال " واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " (1)

اي براءة منكم، ومعنى " آمنين " اي ساكني النفس إلى انتفاء الضرر. والامانة الثقة بالسلامة من الخيانة.

وقوله " ونزعنا ما في صدورهم من غل " فالغل الحقد الذي ينعقد في القلب، ومنه الغل الذي يجعل في العنق، والغلول الخيانة التي تطوق عارها صاحبها، فبين تعالى ان الاحقاد التي في صدور اهل الدنيا تزول بين اهل الجنة ويصبحون " اخوانا " متحابين " على سرر " وهي جمع سرير، وهو المجلس الرفيع موطأ للسرور، ويقال في جمعه: اسرة ايضا، وهو مأخوذ من السرور، لانه مجلس سرور " متقابلين " اي كل واحد منهم مقابل لصاحبه ومحاذ لاخيه، فانه بذلك يعظم سرورهم. والتقابل وضع كل واحد بازاء الآخر على التشاكل وقال قوم:

ان نزع الغل يكون قبل دخول الجنة. وقال آخرون: يكون ذلك بعد دخولهم فيها.

وقوله " لايمسهم فيها نصب " اخبار منه تعالى: ان هؤلاء المؤمنين الذين حصلوا في الجنة " اخوانا على سرر متقابلين " لايمسهم في الجنة نصب وهو التعب والوهن الذي من العمل، للوهن الذي يلحق. ثم اخبر انهم مع ذلك

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 25 الفرقان آية 63

 

===============

(340)

لايخرجون من الجنة بل يبقون فيها مؤبدين. و (اخوانا) نصب على الحال. وقال قوم هو نصب على التمييز.

قوله تعالى:

(نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو العذاب الاليم) (50) آيتان بلاخلاف.

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يخبر عبادالله الذين خلقهم لعبادته على وجه الترغيب لهم في طاعته والتخويف عن معصيته، باني انا الذي أعفو واستر على عبادي معاصيهم، ولا افضحهم بها يوم القيامة اذا تابوا منها، لرحمتي وانعامي عليهم، وان مع ذلك عذابي وعقوبتي " هوالعذاب الاليم " المؤلم الموجع، فلا تعولوا على محض غفراني، وخافوا عقابي، وكونوا على حذر باجتناب معاصي والعمل بطاعتي.

قوله تعالى:

(ونبئهم عن ضيف إبرهيم (51) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون (52) قالوا لاتوجل إنا نبشرك بغلام عليم (53) قال أبشر تموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون) (54) أربع آيات بلاخلاف.

قرأنافع " تبشرون " بكسر النون مع التخفيف بمعنى تبشرونني وحذف النون استثقالا، لاجتماع المثلين، وبقيت الكسرة الدالة على الياء المفعولة، والنون الثانية محذوفة، لان التكرير بها وقع، ولم تحذف الاولى لانها علامة الرفع ومثله قول الشاعر:

 

===============

(341)

تراه كالثغام يعل مسكا * بسوء الغاليات اذا قليني (1)

أراد قلينني، فحذف إحدى النونين. وقال اهل الكوفة: ادغم ثم حذف، وحجتهم " وكادوا يقتلونني " (2) وقوله " اتعدانني " (3) فأظهر النونات، وأما حرف المشدد نحو " تأمروني " (4) و " أتحاجوني " (5) وماأشبه ذلك. وشدد النون وكسرها ابن كثير. الباقون بفتح النون.

قال أبوعلي: من شدد النون أدغم النون الاولى التي هي علامة الرفع في الثانية المتصلة بالياء التي للمضمر المنصوب للمتكلم، وفتحها، لانه لم يعد الفعل إلى مفعول به، كما عداه غيره. وحذف المفعول كثير. ولولم يدغم، وبين، كان حسنا في القياس مثل (يقتلونني) في جواز البيان والادغام. ومن فتح النون جعلها علامة الرفع، ولم يعد الفعل فيجتمع نونان.

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يخبر من تقدم ذكره " عن ضيف ابراهيم " والضيف هو المنضوي إلى غيره لطلب القرى، وجمعه ضيوف وأضياف وضيفان " إذ دخلوا عليه " يتعلق ب (ضيف) وضيف يقع على الواحد والاثنين والجمع، فلذلك قال " إذ دخلوا عليه " فكنى بكناية الجمع. وسماهم ضيفا، وهم ملائكة، لانهم دخلوا بصورة البشر " فقالوا سلاما " نصبه على المصدر، والمعنى سلمت سلاما على وجه الدعاء، والنحية. ومثله قوله " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " (6) والمعنى سلمنا منكم سلاما، والسلامة نقيض البلاء والافة المخوفة، والنجاة نقيض الهلاك.

وقوله " قال إنا منكم وجلون " اخبار عما أجاب به ابراهيم ضيفانه بأنه خائف منهم، والوجل الخوف، فأجابه الضيفان، وقالوا " لاتوجل " أي لا تخف انا

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قائله عمربن معد يكرب. الكتاب لسيبويه 2: 67 وشرح المفضليات 78 والانصاف 377 ومجاز القرآن 1: 352 ومجمع البيان 3: 339 (2) سورة 7 الاعراف آية 149 (3) سورة 46 الاحقاف اية 17 (4) سورة 39 الزمر اية 64 (5) سورة الانعام اية 80، (6) سورة 25 الفرقان اية 63

 

===============

(342)

جئناك " نبشرك بغلام عليم ". والتبشير الاخبار بمايسر، بمايظهر في بشرة الوجه سرورا به يقال: بشرته أبشره بشارة وأبشر ابشارا بمعنى استبشر، وبشرته تبشيرا، وانما وصفه بأنه " عليم " قبل كونه، لدلالة البشارة به على انه سيكون بهذه الصفة، لانه إنمابشر بولد يرزقه الله اياه ويكون عليما، فقال لهم ابراهيم " أبشرتموني على ان مسني الكبر " اي كيف يكون لي ولد وقد صرت كبيرا، لان معنى " مسني الكبر " أي غيرني الكبر عن حال الشباب التي يطمع معها في الولد، إلى حال الهرم. وقيل في معناه قولان:

احدهما - انه عجب من ذلك لكبره، فقاله على هذا الوجه.

والآخر - انه استفهم فقال: أأمر الله ان تبشرونني، في قول الجبائي.

ومعنى (على ان مسني) أي بأن مسني، كما قال " حقيق على ان لاأقول " (1) بمعنى بأن لا أقول.

قوله تعالى:

(قالوا بشرناك بالحق فلاتكن من القانطين (55) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) (56) آيتان بلاخلاف.

قرأ أبوعمرو والكسائي " يقنط " بكسر النون، حيث وقع، الباقون بفتحها، وكلهم قرأ " من بعد ماقنطوا " (2) بفتح النون، قال ابو علي: قنط يقنط ويقنظ لغتان بدلالة إجماعهم على قوله " من بعد ماقنطوا " بفتح النون وقدحكي: يقنط بضم النون، وهي شاذة، وهذا يدل على ان ماضيه على (فعل)

لانه ليس في الكلام (فعل يفعل). وقدحكي عن الاعمش أنه قرأ " من بعدما قنطوا " بكسر النون، وهي شاذة لايقرأ بها.

وفي هذه الآية حكاية ماقالت الملائكة لابراهيم، حين عجب ان يكون له

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 7 الاعراف آية 104 (2) سورة 42 الشورى آية 28

 

===============

(343)

ولد لكبر سنه وعلو عمره، إنا بشرناك بذلك على وجه الحق والصحيح، وأخبرناك به على وجه الصدق، فلاتكن بعد ذلك من جملة القانطين، يعني الآيسين فأجابهم ابراهيم عند ذلك بأن قال: و " من " الذي " يقنط " أي ييأس " من رحمة " الله وحسن إنعامه، إلا من كان عادلا عن الحق ضالا عن سبيل الهدى، وهذا يقوي قول من قال: إنه راجعهم في ذلك على وجه الاستفهام دون الشك في اقوالهم.

قوله تعالى:

(قال فما فخطبكم أيها المرسلون (57) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (58) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين (59) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين) (60) أربع آيات بلاخلا ف.

فقال ابراهيم (ع) بعدذلك للملائكة " ماخطبكم " اي ماالامر الجليل الذي بعثتم له، والخطب الامر الجليل، ومثله ماشأنك، وماأمرك، ومنه الخطبة، لانها في الامر الجليل، فأجابته الملائكة بأنا " أرسلنا إلى قوم مجرمين " وقوم الرجل: هم الذين يقيمون بنصرته، والنفر الذين ينفرون في مهام الامور. وقوم لوط هم الذين كان يجب عليهم القيام بنصرته ومعونته على أمره. وقال قوم:

إنه يقع على الرجال دون النساء. والمجرم المنقطع عن الحق إلى الباطل، وهو القاطع لنفسه عن المحاسن إلى المقابح، والمعنى " انا أرسلنا إلى " من وصفنا لنهلكهم، وننزل بهم العقوبة. ثم استثنى من ذلك (آل لوط) وأخبر انهم ينجونهم كلهم، يقال: نجيت فلانا وانجيته، فمن قرأ بالتشديد أراد التكثير.

ثم استثنى من جملة آل لوط امرأته، وبين انها هالكة مع الهالكين، (وقدرنا) اي كتبنا " انها لمن الغابرين " والغابر الباقي في من يهلك. والغابر الباقي في مثل الغيرة، مما يوجب الهلكة. قال الشاعر:

 

===============

(344)

فما ونى محمد مذ أن غفر * له الاله مامضى وماغبر (1)

وآل الرجل أهله الذين يرجعون إلى ولايته، ولهذا يقال أهل البلد، ولا يقال آل البلد، ولكن آل الرجل اتباعه الذين يرجع أمرهم اليه بولايته ونصرته وقيل: إن امرأة لوط كانت في جملة الباقين. ثم اهلكت فيمابعد " وقدرنا " بالتخفيف مثل (قدرنا) بالتشديد، وكلهم قرأ - هاهنا - مشددا إلا أبابكر عن عاصم، فانه خففها، ويكون ذلك من التقدير، كماقال " ومن قدر عليه رزقه " (2). وقال ابوعبيدة:

في الآية معنى فقر، وكان ابويوسف يتأوله فيها، لان الله تعالى استثنى آل لوط من المجرمين، ئم استثنا استثناء رده على استثناء كان قبله، وكذلك كل استثناء في الكلام إذاجاء بعد آخر عاد المعنى إلى أول الكلام، كقول الرجل: لفلان علي عشرة إلا أربعة إلادرهم، فأنه يكون اقرار بسبعة، وكذلك لوقال: علي خمسة إلادرهما إلا ثلثا، كان إقرار بأربعة وثلث، وكذلك لو قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة كانت طالقا إثنتين، قال: واكثر مايستثنى ما هو أقل من النصف، ولم يسمع اكثر من النصف الابيت أنشده الكسائي:

ادو ا التى نقصت سبعين من مئة * ثم ابعثوا حكما بالعدل حكاما

فجعلها مئة إلا سبعين، وهو يريد ثلاثين، وضعف المبرد الاحتجاج بهذا البيت، ولم يجز إستثناء الاكثر من الجملة ولانصفها، وإنما جاز استثناء مادون النصف من الجملة حتى قال: لايجوز ان يقال: له عندي عشرة إلا نصف ولا عشرة إلا واحد، قال: لان تسعة ونصف أولى بذلك، وكذلك لايجوز: له الف إلا مئة، لان تسعة مئة أولى بذلك، وإنما يجوز الف إلا خمسين وإلا سبعين والا تسعين، قال: وعلى هذا النحو بني هذا الباب. والصحيح الاول، عند اكثر العلماء من المتكلمين والفقهاء واكثر النحويين.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قائله العجاج ديوانه 15 واللسان (ثبت)، وقد مر قسم من هذا الرجز في 4: 588:

589 تعليقة 4 (2) سورة الطلاق آية 7

 

===============

(345)

قوله تعالى:

(فلما جاء آل لوط المرسلون (61) قال إنكم قوم منكرون (62) قالوا بل جئناك بماكانوا فيه يمترون (63) وأتيناك بالحق وإنا لصادقون) (64) أربع آيات بلاخلاف.

أخبر الله تعالى ان الملائكة الذين بعثهم الله لاهلاك قوم لوط، لماجاؤوا لوطأ وقومه، وكانوا في صورة لايعرفهم بها لوط، انكرهم، وقال لهم " انكم هم منكرون " اي لاتعرفون مع الاستيحاش منكم، لانه لم يثبتهم في ابتداء مجيئهم فلما اخبروه بأنهم رسل الله جاؤوا بعذاب قومه وسؤاله الامر، عرفهم حينئذ، وقالوا " بل جئناك بماكانوا فيه يمترون " اي بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه ويكذبون به، وقد يوصف الجاهل بالشك من جهة مايعرض له فيه من حيث لا يرجع إلى ثقة فيما هو عليه. وقالوا له ايضا انا جئناك بالحق فيما أخبرناك به من عذاب قومك، ونحن صادقون فيه.

قوله تعالى:

(فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولايلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون (65) وفضينا إليه ذلك الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66) آيتان بلاخلاف.

هذا حكاية ماقالت الملائكة للوط وأمرهم إياه بأن يسري بأهله. والاسراء سير الليل: سرى يسري سرى واسرى إسراء لغتان قال الشاعر:

سريت بهم حتى تكل مطيهم * وحتى الجياد مايقدن بارسان (1)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر هذا البيت في 6: 43 من هذا الكتاب

 

===============

(346)

وقوله " بقطع من الليل " معناه بقطعة تمضي منه، كأنه جمع قطعة. مثل تمرة وتمر وبسرة وبسر، وقيل: بقطع من الليل ببعض الليل. وقيل: بقية من الليل. وقيل: إذا بقي من الليل قطعة ومضى اكثره.

وقوله " واتبع ادبارهم " اي اقتف آثارهم يعني آثار الاهل. والاتباع اقتفاء الاثر. والاتباع في المذهب، والاقتداء مثله، وخلافه الابتداع. والادبار جمع دبر، وهو جهة الخلف. والقبل جهة القدام، ويكنى بهما عن الفرج. وجمع القبل أقبال ومعنى قوله " ولايلتفت منكم احد " اي لايلتفت إلى ماخلف، كمايقول القائل: امض لشأنك، ولاتعرج على شئ. وقيل: لئلا يرى هو ماينزل بهم مما لاتطيقه نفسه " وامضوا حيث تؤمرون " اي حيث تؤمرون بالمصير اليه.

 وقوله " وقضينا اليه " اي أخبرناه واعلمناه " ذلك الامر " اي ماينزل بهم من العذاب.

وقوله " ان دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " والدابر الاصل وقيل دابرهم آخرهم، وعقب الرجل دابره " مصبحين " نصب على الحال اي في حال مادخلوا في وقت الصبح، ومثله قوله " فأخذتهم الصيحة مشرقين " (1) نصب على الحال.

قوله تعالى:

(وجاء أهل المدينة يستبشرون (67) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون (68) واتقوا الله ولاتخزون (69) قالوا أولم ننهك عن العالمين (70) قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين) (71) خمس آيات بلاخلاف.

هذا إخبار من الله تعالى أنه حين بلغ أهل المدينة نزول من هو في صورة

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الحجر آية 73

 

===============

(347)

الاضياف بلوط، جاؤوا إليه مستبشرين فرحين، يقال استبشر استبشارا وأبشر إبشارا، بمعنى واحد وضده اكتأب اكتابأ. وانما فرحوا طمعا في ان ينالوا الفجور منهم، فقال لهم لوط " إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون " فيهم، والفضيحة ظهور السيئة التي يلزم العار بها عند من عملها، يقال: فضحه يفضحه فضيحة، وأفتضح افتضاحا وتفاضحوا تفاضحا. ثم قال لهم " اتقوا الله " باجتناب معاصيه، وفعل طاعته، " ولاتحزون " والخري الانقماع بالعيب الذي يستحيا يقال منه: خزي خزيا، واخزاه الله إخزاء. والاخزاء والاذلال والاهانة نظائر. وللضيف ذمام كانت العرب تراعيه، وتحافظ عليه، وتعيب من عنده ضيف ولم يقم بحقه، فلذلك قال لهم " ان هؤلاء ضيفي "، فقالوا له في الجواب عن ذلك أو ليس نهيناك أن تستضيف أحدا من جملة الخلائق أو تنزله عندك، فقال لهم عند ذلك " هؤلاء " وأشار إلى بناته. وقيل أنهن كن بناته لصلبه، وقيل انهن كن بنات قومه عرضهن عليهم بالترويج والا ستغناء بهن عن الذكران. وقال الحسن، وقتادة: أراد " هؤلاء بناتي " فتزوجوهن " إن كنتم فاعلين " كناية عن طلب الجماع. وقال الجبائي: ذلك للرؤساء الذين يكفون الاتباع، وقدكان يجوز في تلك الشريعة تزويج المؤمنة بالكافر، وقد كان في صدر شريعتنا جائزا ايضا، ثم حرم. وهو قول الحسن. وقال الزجاج: أراد نساء أمته، فهم بناته في الحكم، قال الجبائي:

وهذا القول كان من لوط لقومه قبل ان يعلم أنهم ملائكة لايحتاج إلى هذا القول لقومه.

قوله تعالى:

(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72) فأخذتهم الصيحة مشرقين (73) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (74) إن في ذلك لآيات للمتوسمين (75) وإنها لبسبيل مقيم (76) إن في ذلك لآية للمؤمنين (77) وإن كان أصحاب

 

===============

(348)

الايكة لظالمين) (78) سبع آيات بلاخلاف.

قال ابن عباس معنى (لعمرك) وحياتك. وقال غيره: هو مدة حياته وبقائه حيا بمعنى لعمرك ومدة بقاءك حيا. والعمر والعمر واحد، غير أنه لا يجوز في القسم إلا بالفتح، قال ابوعبيدة: ارتفع لعمرك وهي يمين، والايمان تكون خفضا إذا كانت الواو في أوائلها، ولوكانت وعمرك لكانت خفضا، ولذلك قولهم: لحق لقد فعلت ذلك، وإنما صارت هذه الايمان رفعا بدخول اللام في اولها، لانها أشبهت لام التأكيد، فأما قولهم: عمرك الله أفعل كذا، فإنهم ينصبون (عمرك) وكذلك ينصبون (الله لافعلن). قال المبرد: لا أفتحها يمينا، بل هي دعاء ومعناه اسأل الله لعمرك. قال المبرد: والتقدير: لعمرك ما اقسم به، ومثله: علي عهد الله لافعلن، فعهد الله رفع بالابتداء، وفيه معنى القسم، وكذلك (لاها الله ذا). قال الخليل: (ذا) معناه ما أقسم عليه. وحكي عن الاخفش أنه قال: (ذا) مااقسم به، لانه قد ذكر الله، وكلاهما حسن جميل.

وقوله " انهم لفي سكرتهم يعمهون " فالسكرة غمور السهو للنفس وهؤلاء في سكرة الجهل " يعمهون " اي يتحيرون، ولا يبصرون طريق الرشد.

وقوله " فأخذتهم الصيحة مشرقين " فالاخذ فعل يصير به الشئ في جهة الفاعل، فالصيحة كأنها أخذتهم بماصاروا في قبضتها حتى هلكوا عن آخرهم.

والصيحة صوت يخرج من الفم بشدة ويقال: إن الملك صاح بهم صيحة أهلكتهم.

ويجوز ان يكون جاء صوت عظيم من فعل الله كالصيحة. والاشراق ضياء الشمس بالنهار شرقت الشمس تشرق شروقا اذا طلعت، وأشرقت إشراقا اذا أضاءت وصفت. ومعنى (مشرقين) داخلين في الاشراق.

وقوله " فجعلنا عاليها سافلها " والجعل حصول الشئ على وجه لم يكن بقادر عليه لولا الجعل، ومثله التصيير، والمعنى: انه قلب القرية فجعل أسفلها اعلاها

 

===============

(349)

واعلاها أسفلها " وأمطرنا عليهم حجارة " اي أرسلنا الحجارة، كمايرسل المطر " من سجيل " وقيل في معناه قولان:

احدهما - انها من طين وهومعرب. وقيل هومن السجل، لانه كان عليها أمثال الخواتيم بدلالة قوله " حجارة من طين مسومة عند ربك " (1)

والثاني - انها حجارة معدة عند الله تعالى للمجرمين، وأصله (سجين)

فابدلت النون لاما.

فان قيل مامعنى امطار الحجارة عليهم مع انقلاب مدينتهم؟ قلنا فيه قولان:

احدهما - أنه أمطرت الحجارة أولا ثم انقلبت بهم المدينة.

الثاني - ان الحجارة أخذت قوما منهم خرجوا من المدينة بحوائجهم قبل الفجر - في قول الحسن - ثم اخبر تعالى ان فيما حكاه آيات ودلالات للمتوسمين.

قال مجاهد يعنى المتفرسين. وقال قتادة: يعنى المعتبرين. وقال ابن زيد:

المتفكرين. وقال الضحاك: الناظرين. وقال ابوعبيدة: المتبصرين. والمتوسم الناظر في السمة الدالة.

وقوله " انها لبسبيل مقيم " معناه إن الاعتبار بها ممكن لان الآيات التي يستدل بها مقيمة ثابتة بها وهي مدينة سدوم، والهاء كناية عن المدينة التي أهلكها الله، وهي مؤنثة. ثم قال ان ان فيما قص من حكاية هذا المدينة " لآية للمؤمنين " ودلالة لهم. وقيل في وجه إضافة الآية إلى المؤمنين قولان:

احدهما - انه يصلح ان يستدل بها.

والآخر - انه يفعل الاستدلال بها. وتضاف الآية إلى الكافر بشرط واحد، وهو أنه يمكنه الاستدلال بها.

وقوله " وإن كان اصحاب الايكة لظالمين " فالايكة الشجرة في قول الحسن والجمع الايك كشجرة وشجر. وقيل: الايكة الشجر الملتف قال امية:

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الذاريات آية 33 - 34

 

===============

(350)

كبكاء الحمام على فروع الاي * ك في الطير الجرائح

وقيل الايكة الغيضة واصحاب الايكة هم أهل الشجر الذين أرسل اليهم شعيب (ع) وأرسل إلى اهل مدين، فأهلكوا بالصيحة، واصحاب الايكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها. وفي قول قتادة، فأخبر الله تعالى انه اهلك اصحاب الايكة بظلمهم وعتوهم وكفرهم بآيات الله وحجدهم نبوة نبيه وقال ابن خالويه: الايكة أسم القرية، والايكة أسم البلد، كما ان مكة اسم البلد، ومكة اسم البيت. ولم يصرفوا الايكة للتعريف والتأنيث، ويجوز ان يكونوا تركوا صرفه، لانه معدول عن الالف واللام، كما ان شجر معدول عن الشجر، فلذلك لم يصرفوه.

قوله تعالى:

(فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين (79) ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين (80) وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين (81) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين (82)

فأخذتهم الصيحة مصبحين (83) فما أغنى عنهم ماكانوا يكسبون (84) ست آيات بلاخلاف.

لما اخبرالله تعالى عن اصحاب الايكة أنهم كذبوا رسل الله، اخبر بأنه انتقم منهم بأن اهلكهم ودمر عليهم. وفرق الرماني بين الانتقام والعقاب، فقال:

الانتقام نقيض الانعام، والعقاب نقيض الثواب، فالعقاب مضمن بأنه على المعصية، والانتقام مطلق، وهو - ههنا - على المعاصي، لان الاطلاق يصلح فيه التقييد: بحذف الاضافة.

وقوله " وإنهما " يعني قريتي قوم لوط، واصحاب الايكة، لبطريق يؤم ويتبع ويهتدى به - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن - وقال أبوعلي

 

===============

(351)

الجبائي " لبإمام " وهو الكتاب السابق الذي هو اللوح المحفوظ، ثابت ذلك فيه ظاهر. والامام - في اللغة - هوالمقدم الذي يتبعه من بعده وإنما كانا بإمام مبين، لانهما على معنى يجب ان يتبع، فيما يقتضيه ويدل عليه، والمبين الظاهر.

وقوله " ولقد كذب اصحاب الحجر المرسلين " اخبار منه تعالى ان اصحاب الحجر، وهي مدينة - في قول ابن شهاب، وسموا أصحاب الحجر، لانهم كا نوا سكانه، كماتقول: اصحاب الصحراء. " كذبوا " ايضا الرسل الذين بعثهم الله اليهم، وحجدوا نبوتهم: وقال قتادة: هم اصحاب الوادي، وهو من الحجر الذي هو الحظر.

واخبر تعالى انه اتاهم الله الدلالات والمعجزات الدالة على توحيده وصدق انبيائه، فكانوا يعرضون عنها ولايستدلون بها، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ينقرون نقرا يأمنون فيهامن الخراب. وقيل آمنين من سقوطها عليهم. وقيل كانوا آمنين من عذاب الله وقيل: من الموت. ونصبه على الحال.

فأخبر تعالى ان هؤلاء " اخذتهم الصيحة مصبحين " اي جاءتهم الصيحة وقت دخولهم في الصباح، ولم يغنهم " ماكانوا يكسبون " من الملاذ القبيحة.

والغنى وجود ماينتفي به الضرر عنهم قوله تعالى:

 (وماخلقنا السموات والارض ومابينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فأفصح الصفح الجميل (85) إن ربك هو الخلاق العليم) (86) آيتان بلاخلاف.

وجه اتصال هذه بما تقدم ذكره هو ان الامم لماخالفوا الحق أهلكوا، لان الله ماخلق " السموات والارض إلابالحق " وعلى " ان الساعة آتية " للجزاء

 

===============

(352)

وأن جمع ماخلق يرجع إلى عالم به وبتدبيره. وقيل: ما أهلكناهم إلا بالحق كما خلقنا السموات والارض بالحق، فأخبر تعالى انه لم يخلق السموات والارض إلا بالحق، ولوجه من وجوه الحكمة، وان الساعة، وهي يوم القيامة لآتية جائية بلاشك، ثم امر نبيه صلى الله عليه وسلم ان يصفح بمعنى يعفو عنهم عفوا جميلا. واختلفوا في كونه منسوخا:

فقال قتادة، ومجاهد، والضحاك: إنه منسوخ بوجوب الجهاد والقتال، وكان الصفح قبل ذلك.

وقال الحسن: هذا فيمابينه وبينهم، لافي ماامر به من جهة جهادهم.

وقال الجبائي: أمره بأن يحلم عنهم فيما كانوا يسفهون عليه من شتمه، وسفاهتهم عليه، فلا يقابلهم بمثله.

ثم اخبر تعالى انه الخلاق لماذكر من السموات والارض، عليهم بمافيه من المصلحة لعباده ووجه الحكمة فيه.

قوله تعالى:

(ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (87) لا تمدن عينيك إلى مامتعنا به أزواجا منهم ولاتحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين (88) وقل إني أنا النذير المبين (89)

كما أنزلنا على المقتسمين (90) ألذين جعلوا القرآن عضين) (91)

خمس آيات.

هذاخطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه آتاه أي أعطاه سبعا من المثاني، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيدبن جبير ومجاهد: هي السبع الطوال سبع سور من أول القرآن.

قال قوم: المثاني التي بعد المئتين قبل المفصل.

 

===============

(353)

وفي رواية أخرى عن ابن عباس وابن مسعود: أنها فاتحة الكتاب، وهو قول الحسن وعطاء.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السبع المثاني أم القرآن) وهي سبع آيات بلاخلاف في جملتها، وإنما سميت مثاني، في قول الحسن، لانها تثنى في كل صلاة وقراءة.

وقيل: المثاني السبع الطوال لمايثنى فيهامن الحكم المصرفة قال الراجز:

نشدتكم بمنزل الفرقان * ام الكتاب السبع من مثاني

ثنتين من آي من القرآن * والسبع سبع الطول الدواني (1)

وقد وصف الله تعالى القرآن. كله بذلك في قوله " ألله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني " (2) فعلى هذا تكون (من) للتبعيض. ومن قال: انها الحمد قال:

(من) بمعنى تبيين الصفة، كقوله " اجتنبوا الرجس من الاوثان " (3)

وقوله " والقرآن العظيم " تقديره وآتيناك القرآن العظيم سوى الحمد.

وقوله " لاتمدن عينيك إلى مامتعنابه أزواجا منهم " خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الامة، نهاهم الله تعالى ان يمدوا أعينهم إلى ما متع هؤلاء الكفار به من نعيم الدنيا. ومعنى أزواجا منهم أمثالا من النعم " ولاتحزن عليهم " قال الجبائي:

معناه لاتحزن لما أنعمت عليهم دونك. وقال الحسن " لاتحزن عليهم " على ما يصيرون اليه من النار بكفرهم.

ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ان يخفض جناحه للمؤمنين وهو ان يلين لهم جانبه ويتواضع لهم ويحسن خلقه معهم، وأن يقول لهم " إني أنا النذير المبين " يعني المخوف من عقاب الله من ارتكب مايستحق به العقوبة، ومبين لهم مايجب عليهم العمل به.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مجاز القرآن 1: 7 وتفسير القرطبي 10: 54 وتفسير الطبري 1: 36 ومجمع البيان 3: 345 (2) سورة الزمر آية 23 (3) سورة الحج آية 30 تفسير التبيان ج 6 - م 23

 

===============

(354)

وقوله " كما انزلنا على المقتسمين " قال ابن عباس وسعيد بن جبير، والحسن:

هؤلاء هم أهل الكتاب اقتسموا القرآن، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وقال قتادة: هم قوم من قريش عضوا كتاب الله. وقال ابن زيد: هم قوم صالح " تقاسموا لنبيتنه واهله " وقال الحسن: أنزلنا عليك الكتاب، كما انزلنا على المقتسمين من قبل، قوم اقتسموا طرق مكة ينفرون عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون:

إنه ساحر، وبعضهم يقول هوكاهن، وبعضهم يقول انه مجنون، فأنزل الله بهم عذابا اهلكهم به، وتقديره أنذركم بماأنزل بالمقتسمين. ذكره الفراء وقوله " الذين جعلوا القرآن عضين " أي جعلوه متفرقا بالايمان ببعضه والكفر ببعض، فعضوه على هذا السبيل الذي ذمهم الله بها. وقيل جعلوه عضين، بأن قالوا سحر وكهانة - في قول قتادة - واصل عضين عضه منقوصة الواو، مثل عزة وعزين، قال الشاعر:

ذاك ديار يأزم المآزما * وعضوات تقطع اللهازما (1)

وقال آخر:

للماء من عضاتهن زمزمه وقال رؤبة:

وليس دين الله بالمعضي (2)

فالمعنى انهم عضوه أي فرقوه، كماتعضا الشاة والجزور، واصل عضه عضوه فنقصت الواو، ولذلك جمعت عضين بلاواو كما قالوا عزين جمع عزة والاصل عزوة ومثله ثبه وثبون، واصله ثبوة والعضيهة الكذب، فلما نسبوا القرآن إلى الكذب وانه ليس من قبل الله فقد عضهوا بذلك.

قوله تعالى:

(فوربك لنسئلنهم أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان 3: 344 واللسان " عضه " وروايته:

هذا طريق يأزم المآزما * وعضوات تقطع اللهازما

(2) اللسان " عضا "

 

===============

(355)

فأصدع بماتؤمر وأعرض عن المشركين (94) إنا كفيناك المستهزئين (95) ألذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون (96) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) فسبح بحمدربك وكن من الساجدين (98) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99) ثمان آيات بلاخلاف.

أقسم الله تعالى بقوله " فوربك " يامحمد، وفي ذلك تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه على عظم منزلته عند الله " لنسألنهم " يعني هؤلاء الكفار " أجمعين " وانما يسألهم سؤال توبيخ وتقريع، فيقول لهم لم عضيتم القرآن، وماحجتكم فيه ومادليلكم عليه، فيظهر عند ذلك خزيهم وفضيحتهم عندتعذر جواب بصح منهم.

وقوله " فاصدع بماتؤمر " أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ان يفرق بماأمربه، والمعنى افرق بين الحق والباطل بما تؤمر به، قال أبوذؤيب:

وكأنهن ربابة وكأنه * يسر يفيض على القداح ويصدع (1)

وقال مجاهد: مععناه فاجهر بماتؤمر، وانما قال بماتؤمر، ولم يقل بماتؤمر به، لامرين: احدهما - انه حذف (به) كمايقال آمرك وآمربك، وأكفرك وأكفر بك قال الشاعر:

إذا قالت حذام فصدقوها * فإن القول ماقالت حذام (2)

وكماقال الآخر:

أمرتك حازما فعصيتني * وأصبحت مسلوب الامارة نادما

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه 81 ومجاز القران 1: 355 وتفسير الطبري 14: 41 واللسان " صدع " ومجمع البيان 3: 346 (2) قطر الندى (باب المعرب والمبنى) واللسان (حذم)

===============

(356)

 

وقوله " أعرض عن المشركين " أمر بأن يعرض عن المشركين، ولايخاصمهم إلى ان يأمره بقتالهم.

وقوله " انا كفيناك المستهزئين " المعنى كفيناك شرهم واستهزاءهم بأن أهلكناهم وكانوا خمسة نفر من قريش: الوليدبن المغيرة، والعاص بن وائل، وابوزمعة والاسود بن عبد يغوث، والحرث بن عيطلة - في قول سعيدبن جبر - وقيل الاسودبن المطلب، أهلكهم الله.

وقوله " الذين يجعلون مع الله إلها آخر " الذين في موضع جر، لانه بدل من المستهزئين، وصفهم بأنهم اتخذوا مع الله إلها آخر عبدوه، ثم قال " فسوف يعلمون " وبال ذلك يوم القيامة، وهذا غاية التهديد، ثم قال " ولقد نعلم انك " يامحمد " يضيق صدرك " ويشق عليك مايقولون من التكذيب والاستهزاء. ثم أمره ان يحمد ربه على نعمه وان يكون من الساجدين الذين يسجدون لله.

ويوجهون عبادتهم اليه، وان يعبد ربه إلى الوقت الذي يأتيه اليقين، ومعناه حتى يأتيه الموت في قول الحسن ومجاهد وقتادة - وسمي يقينا، لانه موقن به توسعا وتجوزا، لانه مما يوقن به جميع العقلاء. ويحتمل أن يكون أراد. حتى يأتيه العلم الضروري بالموت والخروج من الدنيا الذي يزول معه التكليف

 

===============

(357)

 

(16) سورة النحل هي مكية إلا آية هي قوله " والذين هاجروا في الله من بعد ماظلموا " الآية.

وقال الشعبي: نزلت النحل كلها بمكة إلا قوله " وان عاقبتم " إلى آخرها. وقال قتادة: من أول السورة إلى قوله " كن فيكون " مكي، والباقي مدني. وقال مجاهد: أولها مكي وآخرها مدني، وهي مئة وثمان وعشرون آية ليس فيها خلاف.

بسم الله الرحمن الرحيم.

(أتى أمر الله فلا تسعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون)

(1) آية بلاخلاف.

قرأنافع وعاصم وابوعمرو " يشركون " بالياء. وقرأ ابن عامر وابن كثير مثل ذلك. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.

من قرأ بالتاء، فلقوله " فلا تستعجلوه " فرد الخطاب الثاني إلى الاول ومن قرأ بالياء قال لان الله أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فقال محمد تنزيها لله " سبحانه وتعالى عما يشركون "

 

===============

(358)

وقرأسعيد بن جبير " أتى أمر الله، فلاتستعجله " وروي عن عباس انه قال:

المشركون قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين، فقال الله تعالى " أتى امر الله فلا تستعجلوه " وانما قال " أتى امر الله " ولم يقل يأتي، لان الله تعالى قرب الساعة، فجعلها كلمح البصر، فقال " وماأمر الساعة إلا كلمح البصر أوهو أقرب " (1) وقال " اقتربت الساعة " (2) وكل ماهو آت قريب، فعبر بلفظ الماضي ليكون أبلغ في الموعظه، وإن كان قوله " فلا تستعجلوه " يدل على أنه في معني يأتي، وأمر الله يراد به العذاب - في قول الحسن وابن جريح وغيرهما - وقال الضحاك: معناه فرائضه واحكامه. وقال الجبائي: امره القيامة والاول أصح، لانهم استعجلوا عذابه دون غيره.

والتسبيح في اللغة ينقسم أربعة أقسام:

احدها - التنزيه مثل قوله " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا " (3) وقال الشاعر:

أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر (4)

والثاني - معنى الاستثناء كقوله " لولاتسبحون " (5) أي هلا تستثنون.

والثالث - الصلاة كقوله " فلولا انه كان من المسبحين " (6).

والرابع - النور، جاء في الحديث (فلولا سبحان وجهه) أي نوره ومعنى " تعالى ": تعاظم بأعلى صفات المدح عن ان يكون له شريك في العبادة، وجميع صفات النقص منتفية عنه.

قوله تعالى:

(ينزل الملئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.

ـــــــــــــــــــ

(1) سورة النحل آية 77 (2) سورة القمر آية 1.

(3) سورة الاسرى آية 1 (4) مرهذا الشعر في 1: 134، 3: 81، 5: 241، 395 (5) سورة القلم اية 28 (6) سورة الصافات آية 143

 

===============

(359)

أن أنذروا أنه لاإله إلا أنا فاتقون) (2) آية بلاخلاف.

قرأ روح والكسائي عن ابي بكر " تنزل الملائكة " بالتاء وفتحها، وفتح النون والزاي ورفع الملائكة. الباقون بالياء وضمها وفتح النون وتشديد الزاي وكسرها، ونصب الملائكة، إلا أن ابن كثير واباعمرو، وورشا يسكنون النون ويخففون الزاي.

من قرأ بالياء ففاعل (ينزل) هو الضمير العائد إلى اسم الله في قوله " اتى امر الله " وإسكان النون وتخفيف الزاي وتشديدها، فكلاهما جائز، قال تعالى:

" إنا نحن نزلنا الذكر " (1) وقال " وأنزلنا اليك الذكر " (2) فأماما روي عن عاصم من القراءة بالتاء، فلانه انث الفعل باسناده إلى الملائكة كقوله " إذ قالت الملائكة " (3) وبنى الفعل للمفعول به واسنده اليهم والاول ابين.

اخبر الله تعالى أنه ينزل الملائكة بالروح من امره، واختلفوا في معنى الروح - ههنا - فقال ابن عباس: اراد به الوحي، وقال الربيع بن انس: اراد به كلام الله، وقال قوم: أراد حياة النفوس، والارشاد لهم إلى الدين، وقد فسر ذلك بقوله " ان أنذروا " وهو بدل من الروح، وموضعه الجر وتقديره ب (أن أنذروا) لان الموعظة والانذار للكافر حياة، لانه تعالى شبه الكافر بالميت، فقال " او من كان ميتا فأحييناه " (4) بالاسلام. والروح تنقسم عشرة اقسام: فالروح الارشاد والحياة، والروح الرحمة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " فروح وريحان " (5) والروح النبوة لقوله " يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده " (6) والروح عيسى روح الله أي خلق من غير بشر، وقال آخرون: من غير فحل. وقيل انه سمي بذلك لكونه رحمة على عباد الله بمايدعوهم إلى الله، والروح جبرائيل. والروح النفخ، يقال: أحييت النار بروحي أي بنفخي، قال ذو الرمة يصف الموقد والزندة:

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الحجر آية 9 (2) سورة النحل آية 44 (3) سورة ال عمران اية 42، 45 (4) سورة الانعام اية 122 (5) سورة الواقعة اية 89 (6) سورة المؤمن (غافر) اية 15

 

===============

(360)

فلما بدت كفنتها وهي طفلة * بطلساء لم تكمل ذراعا ولاشبرا

فقلت له ارفعها اليك وأحيها * بروحك واقتته لها قيتة قدرا (1)

والروح الوحي قال الله تعالى " وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا " (2)

قيل انه جبرائيل، وقيل الوحي. والروح ملك في السماء من أعظم خلقه، فاذا كان يوم القيامة وقف صفا، والملك كلهم صفا، والروح روح الانسان. وقال ابن عباس في الانسان روح ونفس، فالنفس هي التي تكون فيها التمييز والكلام، والروح هوالذي يكون به الغطيط والنفس، فاذا نام العبد خرجت نفسه وبقيت روحه، واذا مات خرجت نفسه وروحه معا. وقوله " على من يشاء من عباده " يعني الانبياء يأمرهم أن يخبروا عباده أنه لا إله يستحق العبادة غير الله تعالى، ويأمرهم بأن يتقوا معاصيه ويفعلوا طاعاته.

قوله تعالى:

(خلق السموات والارض بالحق تعالى عما يشركون (3)

خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) (4) آيتان بلاخلاف.

قرأحمزة والكسائي " تشركون " بالتاء في الموضعين لقوله " فلا تستعجلوه " فرد الخطاب إلى الاول. ومن قرأ بالياء فلما تقدم ذكره. احتج الله تعالى بالآية وما قبلها ومابعدها على خلقه وأعلمهم عظيم نعمه، ودلهم على قدرته، إذ " خلق السموات والارض " بمافيهما من العجائب والمنافع، و " الخلق الانسان من نطفة " مهينة ضعيفة سيالة فرباها ودبرها حتى صار إنسانا يخاصم ويبين. ولو وضعنا

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) اللسان (حيا) ذكر البيت الثاني فقط (طلس) ذكر الشطر الثاني من البيت الاول.

(2) سورة الشورى آية 52

 

===============

(361)

النطفة بين أيدي الخلائق فاجتهدوا، وفكروا ماقدروا على قلبها، ولاعرفوا كيف يتمكن ويتأتى أن تقلب حالا بعد حال حتى تصير فيها روح، وعقل، وسمع، وبصر، وحتى تنطق وتعرب عن نفسها، وتحتج فتدفع عنها وقيل في معنى " خصيم مبين " قولان:

أحدهما - انه أخرج من النطفة ماهذه صفته، ففي ذلك أعظم العبرة.

والثاني - لماخلقه ومكنه خاصم عن نفسه خصومة أبان فيها عن نفسه. وقيل انه يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها - تعريف قدرة الله في اخراجه من النطفة ماهذه سبيله.

الثاني - تعريف نعم الله في تبليغ هذه المنزلة من خلق من نطفة.

الثالث - تعريف فاحش ماارتكب الانسان من تضييع حق الله بالخصومة.

قوله تعالى:

(والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5)

ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس إن ربكم لرؤوف رحيم) (7) ثلاث آيات بلاخلاف.

الانعام جمع نعم، وهي الابل، والبقر، والغنم، سميت بذلك لنعومة مشيها بخلاف ذات الحافر الذي يصلب مشيها. ونصب بفعل مقدر يفسره مابعده، والتقدير وخلق الانعام خلقها، وإنما نصب لمكان الواو، العاطفة على منصوب قبله. وقوله " خلقها لكم " تمام، لان المعنى خلق الانعام لكم أي لمنافعكم. ثم أخبر، فقال " فيها دفء " والدفء ما استدفأت به. وقال الحسن يريد ما استدفئ به من أوبارها، وأصوافها، وأشعارها. وقال ابن عباس: هواللباس

 

===============

(362)

من الاكيسة وغيرها، كأنه سمي بالمصدر ومنه دفوء يومنا دفأ، ونظيره (الكن)

قال الفراء: كتبت (دفء) بغير همز، لان الهمزة إذا سكن ماقبلها حذفت من الكتاب، ولو كتبت في الرفع بالواو، وفي النصب بالالف وفي الخفض بالياء كان صوابا. وقال قتادة " فيها دفء ومنافع " معناه منفعة هي بلغة، من الالبان وركوب ظهرها " ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون " وذاك أعجب مايكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسمنتها " وحين تسرحون " إذا سرحت لرعيها. فالسروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة. والاراحة رجوعها من المرعى عشيا: سرحت الماشية سرحا وسروحا وسرحها أهلها قال الشاعر:

كأن بقايا الاثر فوق متونه * مدب الدبا فوق النقا وهو سارح (1)

وقوله " وتحمل أثقالكم " يعني هذه الانعام تحمل أثقالكم، وهو جمع ثقل، وهوالمتاع الذي يثقل حمله، وجمعه أثقال " لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس " والبلوغ المصير إلى حد من الحدود، بلغ يبلغ بلوغا وأبلغه إبلاغا، وبلغه تبلغا وتبلغ تبلغا وتبالغ تبالغا، والشق المشقة، وفيه لغتان، فتح الشين وكسرها، فالكسر عليه القراء السبعة. وبالفتح قرأ أبوجعفر المدني.

والشق أيضا أحد قسمي الشئ الذي في احدى جهتيه،، وقال قتادة: معناه بجهد الانفس، وكسرت الشين من شق الانفس مع أن المصدر بفتح الشين لامرين:

احدهما - قال قوم: هما لغتان في المصدر، قال الشاعر:

وذي إبل يسعى ويحسبها له * أخي نصب من شقها ودؤوب (2)

بالكسر والفتح، وقال العجاج:

اصبح مسحول يوازي شقا (3)

لكسر والفتح بمعنى يقاسي مشقة، وقال قوم: ان المعنى إلا بذهاب شق قوى النفس

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الطبري 4 1 / 1؟ (الطبعة الاولى) وروايته:

كأن بقايا الاتن فوق متونه * مدب الذي فوق النقا وهو سارح

(2) قائله النمربن تولب. اللسان (شقق) (3) اللسان (شقق)

 

===============

(363)

ذكره الفراء والزجاج، واختاره الطبري. وقوله " ان ربكم لرؤوف رحيم " أي رؤوف بكم رحيم، ومن رحمته أنه خلق لكم الانعام لتنتفعوا بها، على ماذكره قوله تعالى:

(والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون (8) وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولوشاء لهدكم أجمعين (9) آيتان بلاخلاف.

هذه الآية عطف على التي قبلها، فلذلك نصب " والخيل " وتقديرها، وخلق الخيل، وهي الدواب التي تركب " والبغال " واحدها بغل " والحمير " واحدها حمار " لتركبوها " وتتزينوا بها، ونصب (وزينة) بتقدير، وجعلها زينة " ويخلق مالاتعلمون " من أنواع الحيوان والجماد والنبات لمنافعكم، ويخلق من أنواع الثواب للمطيعين، وأنواع العقاب للعصاة مالاتعلمون.

وحكي عن ابن عباس: أن الآية دالة على تحريم لحم الخيل، لانها للركوب والزينة والانعام لماذكر قبل، وهو قول الحكم والاسود. وقالوا: لانه تعالى ذكر في آية الانعام " ومنها تأكلون " (1) ولم يذكر ذلك في آية الخيل بل ذكرها للركوب والزينة. وابراهيم لم يربه بأسا، وهو قول جميع الفقهاء. وقال جابر: كنا نأكل لحم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله " وعلى الله قصد السبيل " قال ابن عباس: معناه بيان قصد السبيل أي بيان الهدى من الضلال " ومنها جائر " أي عادل عن الحق فمن الطريق ما يهدي إلى الحق، ومنها مايضل عن الحق، ثم قال " ولوشاء لهداكم أجمعين " وقيل في معناه قولان:

أحدهما - قال الحسن والبلخي: لوشاء لهداكم بالالجاء، لانه قادر على ذلك.

الثاني - قال الجبائي: لوشاء لهداكم إلى الجنة.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة المؤمن (غافر) آية 79

 

===============

(364)

قوله تعالى:

(هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)

(11) آيتان بلاخلاف.

قرأأبوبكر عن عاصم إلا الاعشى والبرجمي " ننبت " بالنون. الباقون بالياء من قرأبالياء فلما تقدم من قوله " هو الذي أنزل من السماء ماء.. ينبت لكم " وهو أشكل بماتقدم، والنون لايمتنع ايضا، يقال نبت البقل وانبته الله، وقدروي انبت البقل، وأنكر ذلك الاصمعي، وقال قصيدة زهير التي فيها (حتى إذا أنبت البقل) مبهمة قال أبوعلي فأما قوله " تنبت بالدهن " (1) فيجوز أن تكون الباء زائدة، كقوله " ولاتلقوا بأيديكم " (2) قال " وألقى في الارض رواسي أن تميد " (3) فعدى (ألقى) مرة بالباء وأخرى بغير باء، وإذا ثبت أن (انبت) في معنى (نبت) جاز ان تكون الباء للتعدي، كمالو كانت مع (نبت) كان كذلك، ويجوز ان تكون الهمزة في (انبت) للتعدي، والمفعول محذوف، والباء للحال، كأنه قال تنبت ثمرة بالدهن، فحذف المفعول و (بالدهن) في موضع حال، كأنه قال تنبت، وفيه دهن، ويجوز في (تنبت بالدهن) ان تنبت مافيه دهن.

اخبر الله تعالى انه الذي ينزل من السماء ماء يعني غيثا ومطرا لمنافع خلقه، من ذلك الماء شراب تشربونه، ومن ذلك نبات الشجر، والشجر ماينبت من الارض وقام على ساق وله ورق وجمعه أشجار، ومنه المشاجرة لتداخل بعض الكلام في بعض كتداخل ورق الشجر وقال الازهري: ما نبت من الارض شجر،

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة المؤمنون آية 20 (2) سورة البقرة آية 195 (3) سورة النحل آية 15 وسورة لقمان آية 10.

 

===============

(365)

قام على ساق أو لم يقم ترعاه الابل والانعام كلها.

وقوله " فيه تسيمون " اي ترعون، يقال: اسمت الابل اذا رعيتها، وقد سامت تسوم، فهي سائمة اذارعت. واصل السوم الابعاد في المرعي، والسوم في البيع الارتفاع في الثمن، والانبات اخراج الزرع، والانسان يزرع، والله تعالى ينبت.

وقوله " ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات " اي ينبت بذلك المطر هذه الاشياء التي عددها لينتفعوا بها. ثم اخبر ان في ذلك لدلالة وحجة واضحة لمن يفكر فيه، فيعرف الله به، وإنما أضاف الدلالة اليهم، لانهم الذين انتفعوا بها، ولان من لم يفكر فيها فكأنها لم تنصب له.

قوله تعالى:

(وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12) وما ذرألكم في الارض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون)

(13) آيتان بلاخلاف.

قرأابن عامر " والشمس والقمر والنجوم مسخرات " بالرفع فيهن كلهن، وافقه حفص في رفع " والنجوم مسخرات " الباقون بالنصب فيهن كلهن، اما ابن عامر فانما رفع ذلك، لانه جعل الواو، واو حال، وابتدأ، (والشمس)

رفع بالابتداء و (النجوم) نسق عليها، (والقمر) نسق عليها (والمسخرات)

رفع خبرها، ومن نصبها كلها جعلها منسوقة على قوله " وسخر لكم الليل والنهار " واما حفص فانما رفع (النجوم مسخرات) فقطعها مما قبلها، فعلى هذا حجة من نصب ان يقدر فعلا آخر ينصبه به، وتقديره وجعل النجوم مسخرات.

 

===============

(366)

ووجه تسخير الشمس والقمر والليل والنهار، ان الليل والنهار إنما يكون بطلوع الشمس وغروبها، فما بين غروب الشم إلى طلوع الفجر، وهو غياب ضوء الشمس، فهو ليل. ومابين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهو نهار، فالله تعالى سخر الشمس على هذا التقدير لاتختلف، لمنافع خلقه ومصالحهم وليستدلوا بذلك على ان المسخر لذلك والمقدر له حكيم ثم بين ان في ذلك التسخير لدلالات لقوم يعقلون عن الله ويتبينون مواضع الاستدلال بادلته.

وقوله " وماذرألكم في الارض مختلفا ألوانه " معنى (ما) الذي وموضعه النصب والتقدير وخلق لكم (ما).

أخبر الله تعالى ان الذي خلقه وأظهره من الاجسام المختلفة الالوان ان في ذلك دلالة لقوم يذكرون وأصله يتذكرون، فادغت التاء في الذال. والذرء إظهار الشئ بإيجاده ذرأه يذرؤه ذرءا. وذرأه، وفطره، وانشاءه نظائر. وملح ذرءاني ظاهر البياض والاختلاف هوالامتناع من ان يسد احد الشيئين مسد الآخر ونقيضه الاتفاق. قال قتادة: قوله " وماذرأ لكم في الارض " معناه خلق لكم " مختلفا ألوانه " من الدواب والشجر والثمار، نعما ظاهرة فاشكروها لله، قال المؤرج: ذرأ بمعنى خلق بلغة قريش.

قوله تعالى:

(وهوالذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14) وألقى في الارض رواسي أن تميدبكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون (15) وعلامات وبالنجم هم يهتدون)

(16) ثلاث آيات بلاخلاف.

وهذا تعداد لنوع آخر من نعمه، فقال " وهوالذي سخر البحر " أي ذلله لكم

 

===============

(367)

وسهل لكم الطريق إلى ركوبه واستخراج مافيه من انواع المنافع فتصطادون منه أنواع السمك، فتأكلون لحمه طريا، ولايجوز ان تهمز طريا، لانه من الطراوة لا من الطراءة، و " تستخرجوا " من البحر حلية يعني اللؤلؤ والمرجان الذي يخرج من البحار " تلبسونها " وتتزينون بها " وترى الفلك " يعني السفن " مواخر فيه " قال الحسن معناه مقبلة ومدبرة بريح واحدة، وقال قوم: معناه منقلة، والمواخر جمع ماخرة، والمخرشق الماء من عن يمين وشمال، يقال: مخرت السفينة الماء تمخره مخرا، فهي ماخرة، والمخر ايضا صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها.

وقوله " ولتبتغوا من فضله " اي ولتكتسبوا من فضل الله ونعمه بركوب البحر، ولكي تشكروه على أياديه، والواو دخلت ليعلم ان الله خلق ذلك. وأراد جميع ذلك وقصده. ثم أخبر انه القى في الارض رواسي، وهوجمع راسية وهي الجبل العالي الثابت " ان تميدبكم " اي لئلا تميد بكم الارض. وقال الزجاج:

معناه كراهة ان تمتد، ولم يجز حذف (لا) والميد الميل يمينا وشمالا، وهو الاضطراب: ماد يميد ميدا، وهومائد.

وقوله " وانهارا وسبلا " تقديره وجعل لكم انهارا، لدلالة (القى) عليه، لانه لايجوز ان يكون عطفا على (القى) ومثله قول الشاعر:

تسمع في اجوافهن صردا * وفي اليدين جسأة وبددا (1)

اي وترى في اليدين يبسا وتفرقا، ومثله قولهم: (علفتها تبنا وماء باردا)

والمعنى وسقيتها ماء، ومثله كثير، و (سبلا) عطف على (أنهارا) لكي تهتدوا بها في سلوككم، وانتقالكم في أغراضكم.

وقوله " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " اي جعل لكم علامات. وقيل انها الجبال ونحوها. قال ابن عباس: يعني الجبال يهتدى بها نهارا، والنجم يهتدى به ليلا، وهواختيار الطبري. و (العلامة) صورة يعلم بها المعنى، من خط او لفظ او إشارة او هيئة، وقد تكون وضعية، وقدتكون برهانية.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر هذا الشعر في 5 / 107، وروايته هناك (لغطا) بدل (صردا).

 

===============

(368)

وقوله و " بالنجم هم يهتدون " فالنجم هوالكوكب، ويقال: نجم النبت إذا طلع تشبيها بطلوع النجم، وانما قال - ههنا - و " بالنجم " فوحد، وقال فيماتقدم " والنجوم مسخرات " لان النجوم على ثلاثة أضرب: ضرب يهتدى بها مثل الفرقدين، والجدي، لانها لاتزول، وضرب هي الشهب، وضرب هي زينة السماء، كماقال " زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " (1) فقوله " وبالنجم " يجوز ان يريد به النجوم، فأخبر بالواحد عن الجميع، كماقال " او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " (2) والنجم في قوله " النجم الثاقب " (3) يريد الثريا فقط " والنجم اذا هوى " (4) يعني نزول القرآن إذا نزل به جبرائيل (ع)

وقوله " والنجم والشجر يسجدان " (5) يريد كلما نجم من الارض اي نبت، مما لايقوم على ساق كالبطيخ والقرع والضغا بيس وهو الفتاء الصغار، ويشبه الخسيس بالضغبوس أنشد ابن عرفة:

قد جربت عركي في كل معترك * غلب الاسود فمابال الضغابيس (6)

قوله تعالى:

(أفمن يخلق كمن لايخلق أفلا تذكرون (17) وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الله لغفور رحيم) (18) آيتان بلاخلاف.

في هذه الآية رد على عباد الاصنام والاوثان بأن يقال: أفمن يخلق ماتقدم ذكره من السموات والارض والشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من أنواع

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الصفات آية 6 (2) سورة النور آية 31 (3) سورة الطارق آية 3 (4) سورة النجم 53 آية 1    (5) سورة الرحمن آية 6 (6) البيت لجرير ديوانه (دار بيروت) 251 واللسان (ضغبس) وقدروي (الرجال) بدل (الاسود).

 

===============

(369)

 

العجائب، كمن لايخلق ذلك من الصنام التي هي جمادات، فكيف توجه العبادة اليها، ويسوى بينها، وبين خالق جميع ذلك، " أفلا يتفكرون " في ذلك ويعتبرون به، فان ذلك من الخطأ الفاحش. وجعل (من) فيمالايعقل، لما اتصلت بذكر الخالق.

ويتعلق بهذه الآية المجبرة، فقالوا: أعلمنا الله تعالى ان احدا لايخلق، لانه خلاف الخالق، وانه لوكان خالق غيره لوجب ان يكون مثله، ونظيره.

وهذا باطل، لان الخلق في حقيقة اللغة هو التقدير والاتقان في الصنعة وفعل الشئ لاعلى وجه السهو والمجازفة بدلالة قوله " وتخلقون إفكا " (1) وقوله " واذ تخلق من الطين كهيئة الطير " (2) وقوله " احسن الخالقين " (3) كمالايجوز أنه اعظم الآلهة لمالم يستحق الآلهية غيره، وقال زهير:

ولانت تفري ماخلقت وبع * - ض القوم يخلق ثم لايفري (4)

وقال الججاج: لاأعد إلا وفيت ولاأخلق إلا فريت (5)

وقال الشاعر:

ولايئط بأيدي الخالقين ولا * أيدى الخوالق الاجبد الادم

فعلمنا بذلك جواز تسمية غيره بأنه خالق إلا انا لانطلق هذه الصفة إلا لله تعالى، لان ذلك توهم، فاذا ثبت ذلك فالوجه في الآية ماقدمنا ذكره من الرد على عباد الاصنام والجمادات التي لاتقدر على ضرر ولانفع ولاخلق شئ ولا

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة العنكبوت اية 17 (2) سورة المائدة اية 113 (3) سورة المؤمنون آية 14 وسورة الصافات آية 125 (4) ديوانه 29 (دار بيروت) واللسان (فرا)، (خلق).

(5) وقد رواها ابن منظور في لسان العرب (خلق) قال: قال الحجاج: (ماخلقت إلا فريت ولاوعدت إلا وفيت).

تفسير التبيان ج 6 م 24

 

===============

(370)

استطاعة لها على فعل، وان من سوى بينها وبين من خلق ماتقدم ذكره من أنواع النعم وأشرك بينهما في العبادة، كان جاهلا بعيدا عن الصواب عادلا عن طريق الهدى. ويقوي ذلك انه قال عقيب هذه الآية، " والذين يدعون من دون الله لايخلقون شيئا وهم يخلقون اموات غير احياء " فعلمنا انه أراد بذلك ما ماقدمنا من اسقاط رأيهم وتسويتهم بين الجماد والحي والفاعل ومن ليس بفاعل، وهذا واضح.

وقوله " وان تعدوا نعمة الله لاتحصوها " قال الحسن: لاتحصوها بأداء حقها وتعظيمها. وقال الجبائي: لاتحصوها مفصلة لكثرتها وإن صح منكم احصاؤها على وجه الجملة.

قوله تعالى:

(والله يعلم ماتسرون وماتعلنون (19) والذين يدعون من دون الله لايخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء ومايشعرون أيان يبعثون) (21) ثلاث آيات بلاخلاف.

قرأيعقوب وحفص ويحيي والعليمي " والذين يدعون " بالياء. الباقون بالتاء، قال أبوعلي: هذا كله على الخطاب، لان مابعده خطاب كقوله بعد " أفلا تذكرون " وقوله " وألقى في الارض رواسي ان تميدبكم "، " وإلهكم إله واحد " فكل هذا خطاب.

فان قلت: ان فيه " والذين يدعون من دون الله " فانه لايكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للمسلمين، قيل: التقدير في ذلك قل لهم: والذين تدعون من دون الله، فلايمتنع الخطاب على هذا الوجه، ولهذا قرأ عاصم بالياء لماكان عنده ذلك اخبارا عن المشركين، ولم يجز ان يكون في الظاهر خطابا للمسلمين.

يقول الله لعباده ان الله الذي يستحق العبادة هوالذي يعلم مايظهرونه وما

 

===============

(371)

يستسرون به ويخفونه، وان الذين يدعون من دون الله من الاصنام لايخلقون شيئا، فضلا عن ان يخلقوا مايستحق به العبادة، وهم مع ذلك مخلوقون مربوبون، وهم مع ذلك أموات غير احياء، وانماقال أموات غير احياء، لانها في حكم الاموات في انها لاتعقل شيئا. وقيل غير أحياء على وجه التأكيد بماصارت به، كالاموات، لانه قد يقال للحي هوكالميت إذا كان بعيدا من ان يعلم. و (اموات)

رفع بأنه خبر ابتداء، والتقدير هن أموات غير احياء، ويجوز ان يكون خبرا عن (الذين) والتقدير والذين يدعون أموات.

وقوله " ومايشعرون أيان يبعثون " اي هم لايعلمون اي وقت يحشرهم الله للجزاء والحساب، بل ذلك لايعلمه الا الله تعالى، ومعنى (أيان) متى و (متى)

اوضح، لانه اغلب في الاستعمال فلذلك فسر به (أيان) وهوسؤال عن الزمان كما ان (اين) سؤال عن المكان وقال الفراء: معناه هي أموات فكيف يشعرون متى تبعث يعني الاصنام. قال ويقال للكفار أيضا ومايشعرون أيان يبعثون، و (إيان) بكسر الهمزة لغة سليم قرأها أبو عبدالرحمن السلمي.

قوله: تعالى (إلهكم إله واحد فالذين لايؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22) لاجرم أن الله يعلم مايسرون ومايعلنون إنه لايحب المستكبرين) (23) آيتان بلاخلاف.

يقول الله تعالى لعباده ان " إلهكم " الذي يستحق العبادة " إله واحد " لانه لايقدر على مايستحق به العبادة من أصول النعم سواه ثم قال ان الذين لايصدقون بالاخرة وبالبعث والنشور والثواب والعقاب، تجحد قلوبهم وتنكر ماذكرناه وهم مع ذلك " يستكبرون " اي يمتنعون من قبول الحق ألفة من أهله.

و (الاستكبار) طلب الترفع بترك الاذعان للحق ثم قال تعالى " لاجرم " اي

 

===============

(372)

حق ووجب انه يعلم مايبطنونه ويخفونه في نفوسهم، وما يظهرونه، لايخفى عليه منه شئ، و " انه لايحب المستكبرين " يعني لايريد ثوابهم ولامنافعهم، ولايفعل ذلك بهم لكونهم مستحقين للعقاب.

قوله تعالى:

(وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الاولين (24)

ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الاساء مايزرون) (25) آيتان بلاخلاف.

يقول الله تعالى إذا قيل لهؤلاء الكفار على وجه الاستفهام: ماالذي أنزل ربكم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ أجابوا بأن " قالوا: أساطير الاولين " يعني أحاديث الاولين الكاذبة، في قول ابن عباس وغيره، وأحدها أسطورة سمي ذلك، لانهم كانوا يسطرونها في الكتب.

وقوله " ليحملوا أوزاهم " أي أثقالهم من المعاصي، والوزر الاثم، والوزر الثقل، ومنه الوزير، لانه يحمل الاثقال عن الملك، يقال وازره على امره أي عاونه بحمل الثقل معه، واللام لام العاقبة، لانهم لم يقصدوا بمافعلوه ليتحملوا أوزارهم.

وقوله " كاملة " معناه حمل المعاصي تامة على أقبح وجوهها من غير اخلال بشئ منها " ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " معناه إنهم يتحملون مع أوزارهم من أوزار من أضلوه عن دين الله وأغووه عن اتباع الحق، بغير علم منهم بذلك بل كانوا جاهلين. والمعنى إن هؤلاء كانوا يصدون من أراد الايمان بالنبي (صلى الله عليه وسلم)

فعليهم آثامهم وآثام أبنائهم لاقتدائهم بهم.

وعلى هذا ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (ايما داع دعا إلى الهدى فاتبع،

 

===============

(373)

فله مثل اجورهم من غير ان ينقص من اجورهم شئ، وايما داع دعا إلى الضلالة فان عليه مثل اوزار من اتبعه من غير ان ينقص من اوزارهم شئ).

والوجه في تحملهم أوزار غيرهم أحد شيئين:

احدهما - انه اراد بذلك إغواء هم واضلالهم، وهي اوزارهم فأضاف الوزر إلى المفعول به، كما قال " اني اريد أن تبوء باثمي واثمك " (1)

والثاني - ان يكون أراد اقتداء غيرهم بهم فيستحقون على معصيتهم زيادة عقاب، فجاز لذلك أن يضاف اليهم. ثم أخبر تعالى فقال " ألا ساء مايزرون " أي بئس الشئ الذي يتحملونه، لانهم يحملون مايؤدي إلى العقاب، ومعنى يزرون يحملون ثقل الآثام.

قوله تعالى:

(قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتهم العذاب من حيث لا يشعرون (26) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) (27) آيتان بلاخلاف.

قرأ نافع وحده " تشاقون " بكسر النون اراد تشاقونني، فحذف النون تخفيفا وحذف الياء اجتزاء بالكسرة، وقد ذكر فيما مضى علة ذلك في قوله " فبم تبشرون " (2)

وقرأ الباقون بفتح النون، لا يجعلونه مضافا إلى الياء. والنون في هذه القراءة علامة الرفع، والنون مع الياء المحذوفة في موضع النصب.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة المائدة اية 30 (2) سورة الحجر آية 54

 

===============

(374)

ومعنى " تشاقون " أي يعادون الله فيهم فيجعلونها شركاء له، والشقاق الخلاف في المعنى، ومعنى " تشاقون " تكونون في جانب، والمسلمون في جانب، لايكونون معهم يدا واحدة، ومن ثم قيل لمن خرج عن طاعة الامام وعن جماعة المسلمين: شق العصا أي صار في جانب عنهم، فلم يكن مجتمعا في كلمتهم.

يقول الله ان الذين من قبل هؤلاء الكفار " قد مكروا " واحتالوا على رسلهم والمكر الفتل والحيلة إلى جهة منكرة، يقال مكر به يمكر مكرا، فهو ماكر ومكار، ثم قال: فان الله تعالى أتى أمره وعقابه " بنيانهم " التي بنوها فهدمها " فخر عليهم السقف من فوقهم " وقيل في معنى " من فوقهم " قولان:

احدهما - انه قال ذلك تأكيدا، كقولك قلت انت.

الثاني - انهم كانوا تحته، وقد يقول القائل: تهدمت علي المنازل، وان لم يكن تحتها، وأيضا فليعلم انهم لم يكونوا فوق السقوف.

وقال ابن عباس وزيد بن اسلم: الذين خر عليهم السقف من فوقهم نمرود ابن كنعان. وقال غيرهم: بخت نصر، وقال الزجاج وأبوبكر بن الانباري: المعنى فأتى الله مكرهم من اصله اي عاد ضرر المكر عليهم وبهم. وذكر الاسا مثلا كما ذكر السقف، مع انه لاسقف ثم ولا أساس، وهذا الذي ذكره يليق بكلام العرب ويشبهه، والمعنى إن الله أتى بنيانهم من القواعد اي قلعه من اصله كقولهم:

أتي فلان من مأمنه اي أتاه الهلاك من جهة مأمنه وأتاهم العذاب من جهة الله " وهم لايشعرن " أي لايعلمون انه من جهة الله نزل بهم العذاب. ثم قال انه تعالى مع ذلك يخزيهم يوم القيامة أي يذلهم بأنواع العذاب ويقول لهم أين شركائي الذين اتخذتموهم آلهة، فعبد تموهم يعني الذين كنتم تشاقون فيهم الله تعالى وتخرجون عن طاعة الله.

ثم أخبر ان الذين أعطوا العلم والمعرفة بالله تعالى وأوتوه يقولون لهم: ان الخزي يعني الذل والهوان " اليوم " والسوء الذي هو العذاب، " على الكافرين " الجاحدين لنعمه المنكرين لتوحيده وصدق انبيائه.

 

===============

(375)

قوله تعالى:

(ألذين تتوفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (28)

فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين 29)

وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين (30)

ثلاث آيات بلاخلاف.

قرأحمزة " الذين يتوفاهم " بالياء. الباقون بالتاء، من قرأبالتاء فلتأنيث لفظة الملائكة، ومن قرأ بالياء، فلان التأنيث غير حقيقي وقد مضى نظيره كثيرا.

يقول الله تعالى ان الخزي اليوم والسوء على الكافرين، الذين يتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم و " الذين " في موضع الجر بأنه بدل من الكافرين وانما قال ذلك ليعلم به ان الوعيد يتناول من كان مات على كفره، لانه ان تاب لم يتوجه الوعيد اليه، ومعنى " تتوفاهم الملائكة " أي تقبض ارواحهم بالموت، ظالمي انفسهم بما فعلوه من ارتكاب المعاصي التي استحقوا بها العقاب. والظالم من فعل الظلم، ويصح ان يظلم الانسان نفسه كما يظلم غيره.

وقوله " فألقوا السلم " اي استسلموا للحق حين لاينفعهم السلم، يعني الانقياد والاذعان.

وقوله " ماكنا نعمل من سوء " اي قالوا ماعملنا من سوء، فكذبهم الله، وقال " بلى " قد فعلتم والله عالم بماكنتم تعملون في الدنيا من المعاصي وغيرها.

وقيل في معنى ذلك قولان:

 

===============

(376)

احدهما - ماكنا نعمل من سوء عند انفسنا، لانهم في الآخرة ملجؤن إلى ترك القبيح والكذب، ذكره الجبائي. وقال الحسن وابن الاخشاذ: في الآخرة مواطن يلجؤن في بعضها دون بعض، ثم بين انه تعالى يقول لهم " ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها " اي مؤبدين فيها " فلبئس مثوى المتكبرين " قسم من الله تعالى انها بئس المأوى لمن تكبر على الله، ولم يعمل بطاعته، " وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم " اي اي شئ " انزل ربكم قالوا خيرا " على معنى ماذا، والمعنى انزل الله خيرا، وانما نصب (خيرا) ههنا بعد قوله " قالوا " ورفع " اساطير " فيما تقدم لامرين.

احدهما - انهم جحدوا التنزيل، فقالوا إنما هي اساطير الاولين وأقر المؤمنون بالتنزيل، فقالوا أنزل ربنا خيرا.

والثاني - قال سبيويه ان يكون الرفع على تقدير ماالذي انزل ربكم فيكون ذا بمعنى الذي، وفي النصب يكون (ذا، وما) بمنزلة اسم واحد وقوله " الذين احسنوا الحسنى " يحتمل ان يكون من كلام من قال خيرا، ويحتمل ان يكون اخبارا من الله تعالى، وهو الاقوى، لانه ابلغ في باب الدعاء إلى الاحسان، فأجاز الحسن والزجاج كلا الوجهين، والمعنى ان للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة مكافأة لهم في الدنيا قبل الآخرة خيرا " ولنعم دار المتقين " يعني الجنة التي يدخلها الذين اتقوا معاصي الله وفعلوا طاعاته قوله تعالى:

(جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الانهار لهم فيها مايشاؤن كذلك يجزي الله المتقين (31) ألذين تتوفاهم الملئكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بماكنتم تعملون) (32)

آيتان بلاخلاف.