* (كذلك كانوا يؤفكون) * أي يكذبون لانه اخبار عن غالب الظن بمالا يعلمون قال: ولا يجوز أن يقع منهم القبيح في الآخرة، لان معارفهم ضرورة. وقيل:
* (كذلك كانوا يؤفكون) * في دار الدنيا ويجحدون البعث والنشور مثل ما حلفوا أنهم لم يلبثوا إلا ساعة، قال الفراء: وتقديره كما كذبوا في الدنيا بالبعث كذلك يكذبون بقولهم ما لبثنا غير ساعة. ومن استدل بذلك على نفي عذاب القبر فقد أبطل، لان المراد أنهم ما لبثوا بعد انقطاع عذاب القبر إلا ساعة.
قوله تعالى:
وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون (56)
فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون (57)
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون (58) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59) فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) * (60) خمس آيات بلا خلاف.
قرأ اهل الكوفة " لا ينفع " بالياء، لان تأنيث المعذرة غير حقيقي. الباقون
===============
(266)
بالتاء، لان اللفظ لفظ التأنيث.
يقول الله تعالى مخبرا عن الذين قد أعطاهم الله العلم وآتاهم إياه بما نصب لهم من الادلة الموجبة له، ونظروا فيها فحصل لهم العلم، فلذلك أضافه إلى نفسه لما كان هو الناصب للادلة الدالة على العلوم، والتصديق بالله ورسوله * (لقد لبثتم) * أي مكثتم * (في كتاب الله) * ومعناه إن لبثكم مذكور ثابت في كتاب الله بينه الله فيه، فصار من أجل ان بيانه في كتابه كأنه في الكتاب، كما تقول كلما يكون فهو في اللوح المحفوظ أي هو مبين فيه، وقيل * (في كتاب الله) * أي في كتابه الذي أخبرنا به، واللبث لا يكون إلا في المكان، كما لا يكون السكون إلا فيه، والبقاء قد يكون لا في مكان، ولذلك يوصف تعالى بالباقي، ولا يوصف ب (لابث) و * (إلى يوم البعث) * يعني يوم يبعث الله فيه خلقه ويحشرهم. واصل البعث جعل الشئ جاريا في أمر، ومنه انبعث الماء إذا جرى وانبعث من بين الاموات إذا خرج خروج الماء، ويوم البعث يوم اخراج الناس من قبورهم إلى أرض المحشر.
ثم يقول المؤمنون للكفار " فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون " صحة ذلك وكنتم شاكين فيه. وقال الحسن: لقد قدرنا اجالكم إلى يوم البعث ولكنكم لا تعلمون ان البعث حق.
ثم اخبر تعالى ان ذلك اليوم لا تقبل معذرتهم، والمعذرة إظهار ما يسقط اللائمة، وانما لا تقبل معذرتهم لانهم ملجئون في تلك الحال، ولا يصح اعتذارهم وقوله " ولا هم يستعتبون " أي لا يقبل عتبهم، ولا يطلب منهم الاعتاب.
والاستعتاب طلب صلاح المعاتب بالعتاب وذلك بذكر الحقوق التي تقتضي خلاف ما عمله العامل بما لا ينبغي أن يكون عليه مع الحق اللازم له وليس في قولهم
===============
(267)
ما علمنا أنه يكون ولا أننا نبعث عذر، لانه قد نصب لهم الدلالة عليه ودعوا اليه.
ثم اخبر تعالى انه ضرب للناس المكلفين في القرآن الذي أنزله على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) من كل مثل، يحثهم به على الحق واتباع الهدى. ثم قال لنبيه " ولئن جئتهم بآية " يا محمد أي معجزة باهرة " ليقولن الذين كفروا ان انتم إلا مبطلون " في دعواكم البعث والنشور، عنادا وجحدا للامور الظاهرة. ثم قال مثل ما طبع الله على قلوب هؤلاء بأن حكم عليهم بانهم لا يؤمنون كذلك حكم في كل من لا يؤمن. وقيل: الطبع علامة يجعلها الله في قلوب الكافرين يفصل بها الملائكة بينه وبين المؤمن. ثم قال لنبيه " فاصبر " يا محمد على أذى هؤلاء الكفار ومقامهم على كفرهم " ان وعد الله حق " في ما وعدك به من النصر واعزاز دينك " ولا يستخفنك " أي ولا يستفزنك " الذين لا يوقنون " فالاستخفاف طلب الخفة.
===============
(268)
31 - سورة لقمان هي مكية - في قول مجاهد وقتادة - ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. وقال الحسن: هي مكية إلا آية واحدة وهي قوله * (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) * لان الصلاة والزكاة مدنيتان وهي ثلاث وثلاثون آية حجازي وأربع وثلاثون آية في ما عدا الحجازي.
بسم الله الرحمن الرحيم.
* (الم (1) تلك آيات الكتاب الحكيم (2) هدى ورحمة للمحسنين (3) ألذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالآخرة هم يوقنون (4) أولئك هم على هوى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (5) خمس آيات كوفي وأربع بلا خلاف فيما عدا الكوفي.
قرأ حمزة " هدى ورحمة " رفعا. الباقون نصبا. من رفع جعله خبر إبتداء محذوف، وتقديره هو هدى ورحمة، ويجوز أن يكون بدلا من " تلك آيات " أي تلك هدى ورحمة، ومن نصب فعلى المصد وتقديره يهدي به هدى ويرحم به رحمة، ويجوز أن يكون على الحال، وتقديره هاديا أي في حال الهداية والرحمة - ذكره الزجاج - " للمحسنين " الذين يفعلون الافعال الحسنة من الطاعات ويتفضلون على غيرهم. وقد بينا أن اقوى الاقوال في معنى " الم " قول من
===============
(269)
قال هو اسم للسورة، وذكرنا ما في الاقوال في ما تقدم. قال الرماني: انما جعل اسم السورة على الاشتراك للمناسبة بينها وبين ما يتصل بها مع الفصل بالصفات وذلك انها استحقت بذكر الكتاب والمؤمنين به غير العادلين عنه، كما هو في البقرة.
وقوله " تلك آيات الكتاب " اشارة إلى آيات الكتاب التي وعدهم الله بانزالها عليهم في الكتب الماضية، قال ابوعبيدة " تلك " بمعنى هذه " وآيات الكتاب " وإن كانت هي الكتاب فهو جائز، كما قال " حق اليقين " (1) وكما قالوا: مسجد الجامع، وغير ذلك. وقد بيناه في ما مضى " الحكيم " من صفة الكتاب، فلذلك جره وإنما وصف الكتاب بأنه (حكيم) مع انه محكم لانه يظهر الحق والباطل بنفسه، كما يظهره الحكيم بقوله، ولذلك يقال:
الحكمة تدعو إلى الاحسان وتصرف عن الاساءة. وقال ابوصالح: احكمت آياته بالحلال والحرام. وقال غيره: احكمت بأن اتقنت " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل " (2).
ثم قال هذا الكتاب " هدى ورحمة للمحسنين " أي دلالة موصلة لهم إلى الصواب وما يستحق به الثواب، ورحمة رحمهم الله بها وأضافه إلى المحسنين وإن كان هدى لغيرهم لما كانوا هم المنتفعين به دون غيرهم كما قال " هدى للمتقين " (3) والاحسان النفع الذي يستحق به الحمد فكل محسن يستحق الحمد وكل مسيئ يستحق الذم، وما يفعله الفاعل على انه لا ظلم فيه لاحد لينقطع به عن قبيح في انه احسان فهو احسان يستحق عليه الحمد، لان الحكمة تدعو إلى
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 56 الواقعة آية 95 (2) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 42 (3) سورة البقرة آية 2 (*)
===============
(270)
فعله على هذا الوجه، ولا يدعو إلى ان يفعله للشهوة، ولا للهوى.
ثم وصف المحسنين فقال " الذين يقيمون الصلاة " أي يديمون فعلها ويقومون بشرائطها واحكامها ويخرجون الزكاة الواجبة عليهم في أموالهم.
وهم بالآخرة مع ذلك يوقنون، ولا يرتابون بها. ثم اخبر أن هؤلاء الذين وصفهم بهذه الصفات " على هدى من ربهم " أى على حجة من ربهم " وأولئك هم المفلحون " الفائزون بثواب الله ورحمته.
قوله تعالى:
* (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (6) وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرأ فبشره بعذاب أليم (7) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم (8) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم (9) خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) * (10) خمس آيات بلا خلاف قرأ اهل الكوفة إلا أبا بكر " ويتخذها " نصبا، الباقون رفعا من قرأ بالنصب عطفه على " ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها " أي يشتري لهو الحديث
===============
(271)
للامرين. ومن رفع عطف على قوله " يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله... ويتخذها هزوا " ومن قرأ " ليضل " - بضم الياء وكسر الضاد - أراد يفعل ذلك ليضل غيره. ومن - فتح الياء - أراد ليضل هو نفسه بذلك.
اخبر الله تعالى ان " من " جملة " الناس من يشتري لهو الحديث " أي يستبدل لهو الحديث. وقيل في معناه قولان:
احدهما - انه يشتري كتابا فيه لهو الحديث.
الثاني - انه يشتري لهو الحديث عن الحديث. واللهو الاخذ في ما يصرف الهم من غير الحق، تقول: لهى فلان يلهو لهوا، فهو لاه، وتلهى تلهيا وألهاه إلهاء، واللهو واللعلب والهزل نظائر. والحديث الخبر عن حوادث الزمان. وقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد: لهو الحديث الغناء، وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام). وقال قوم: هو شراء المغنيات. وروى أبو أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) تحريم ذلك. وقال قتادة: هو استبدال حديث الباطل على حديث الحق. وقيل: كلما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله الذي أمر باتباعه إلى ما نهى عنه، فهو لهو الحديث. وقيل: الآية نزلت في النضر ابن الحارث بن كلدة كان اشترى كتبا فيها أحاديث الفرس: من حديث رستم واسفنديار، فكان يلهيهم بذلك ويطرف به، ليصد عن سماع القرآن وتدبر ما فيه.
وقوله " ليضل عن سبيل الله " أي ليتشاغل بما يلهيه عن سبيل الله. وقال ابن عباس: سبيل الله قراءة القرآن، وذكر الله، لان حجة الله قائمة عليه بالدواعي التي تزعجه إلى النظر فيما بؤديه إلى العلم بالواجب ليعمل، فيتشاغل ليخف ذلك الازعاج. ومن قرأ بالضم أراد ليضل غيره بذلك.
===============
(272)
وقوله " ويتخذها هزوا " أي يتخذ سبيل الله سخرية، فلا يتبعها ويشغل غيره عن اتباعها. والضمير في قوله " ويتخذها " يجوز أن يكون راجعا إلى الحديث، لانه بمعنى الاحاديث، ويجوز أن يكون راجعا إلى (سبيل الله)
والسبيل يؤنث ويذكر. ويجوز أن يكون راجعا إلى (آيات الله) في قوله " تلك آيات الكتاب ".
ثم اخبر تعالى أن من هذه صفته " له عذاب مهين " أي عذاب بذله.
والاذلال بالعداوة هو الهوان. فأما اذلال الفقر والمرض، فليس بهوان، ولا إذلال على الحقيقة. وإذلال العقاب لا يكون إلا هوانا، وإن كان العذاب على وجه الامتحان، فلا يكون هوانا أيضا.
ثم اخبر تعالى عن صفة هذا الذي يتخذ آيات الله هزوا ويشتري لهو الحديث أنه " إذا تتلى عليه آياتنا " التي هي القرآن " ولى مستكبرا " أي اعرض عنها تكبرا عن استماعها. والكفر فيها، كأنه " لم يسمعها " من حيث لم يفكر فيها، ولم يعتبر بها و " كأن في اذنيه وقرا " أي ثقلا يمنع من سماعه. ثم امر نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يبشر من هذه صفة " بعذاب اليم " أي مؤلم موجع.
ثم اخبر تعالى عن صفة المؤمنين للمصدقين بتوحيد الله وصدق انبيائه فقال " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي صدقوا بالله ونبيه وفعلوا الطاعات " لهم جنات النعيم " يوم القيامة يتنعمون فيها * (خالدين فيها) * أي مؤبدين في تلك البساتين * (وعد الله حقا) * أي وعده الله حقا، لا خلف لوعده * (وهو العزيز) * في انتقامه * (الحكيم) * في أفعاله، إذ لا يفعل إلا ما فيه المصلحة ووجه من وجوه الحكمة ثم اخبر تعالى عن نفسه بأنه * (خلق السموات) * فأنشاها واخترعها
===============
(273)
* (بغير عمد ترونها) * أي ليس لها عمد يسندها، لانه لو كان لها عمد لرأيتموها فلما لم تروها دل على أنه ليس لها عمد، لانه لو كان لها عمد لكانت اجساما عظيمة حتى يصح منها إقلال السموات، ولو كانت كذلك لاحتاجت إلى عمد آخر، فكان يتسلسل. فاذا لا عمد لها، بل الله تعالى سكنها حالا بعد حال بقدرته التي لا توازيها قدرة قادر. وقال مجاهد: لها عمد لا ترونها، هذا فاسد لانه لو كان لها عمد لكانت أجساما عظيمة، لانه لا يقل مثل السموات والارض إلا ما فيه الاعتمادات العظيمة. ولو كانت كذلك لرأيت، وكان يؤدي إلى ما ذكرناه من التسلسل.
ثم قال * (والقى في الارض رواسي) * يعني الجبال الثابتة * (أن تميد بكم) * وقيل معناه لئلا تميد بكم، كما قال الراجز:
والمهر يأبى أن يزال ملهيا بمعنى لا يزال. وقال قوم: معناه كراهة أن تميد بكم * (وبث فيها من كل دابة) * أي فرق فيها من كل دابة أى من كل ما يدب على الارض " وأنزلنا من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا " فأنبتنا فيها " بذلك الماء * (من كل زوج كريم) * أى من كل نوع حسن النبت طيب الريح والطعم.
قوله تعالى:
* (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين (11) ولقد آتينا لقمان الحكمة أن
===============
(274)
اشكر لله ومن يشكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان الله غني حميد (12) وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13) ووصينا الانسان بوالديه حلمته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير (14) وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون) * (15) خمس آيات بلا خلاف.
هذا اشارة إلى ما تقدم ذكره من خلق السموات والارض على ما هي به من عظمها وكبر شأنها من غير عمد يمنع من انحدارها، وألقى الرواسي في الارض لئلا تميد بأهلها " وبث فيها من كل دابة " للاعتبار والانتفاع بها، وأنزل من السماء ماء لاخراج كل نوع كريم على ما فيه من بهجة ولذة يستمتع بها. فهذا كله خلق الله فأين خلق من اشركتموه في عبادته حتى جاز لكم أن تعبدوه من دونه وهذا لا يمكن معه معارضة، وفيه دليل على توحيده تعالى.
ثم اخبر تعالى فقال " بل الظالمون " لانفسهم بترك الاعتبار بآيات الله " في ضلال مبين " أي عدول عن الحق بين ظاهر وما دعاهم إلى عبادتها انها تخلق شيئا ولكن ضلالهم بالجهل الذي اعتقدوه من التقرب بذلك إلى الله وانها
===============
(275)
تقربهم إلى الله زلفى.
ثم اخبر تعالى انه اعطى لقمان الحكمة، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة:
لم يكن لقمان نبيا. وقال عكرمة: كان نبيا. وقيل: انه كان عبدا أسودا حبشيا ذا سفة. فقال له بعض الناس: ألست الذي كنت ترعى معنا؟ فقال: نعم.
فقال له: من اين أوتيت ما أرى؟ فقال: بصدق الحديث والصمت عما لا يعنيني.
والحكمة التي آتى الله لقمان هو معرفته بتوحيده، ونفي الشرك عنه. وما فسرناه في ما بعد وهو ان أمره بأن يشكر لله على نعمه التي أنعم بها عليه.
ثم اخبر تعالى فقال " ومن يشكر فانما يشكر لنفسه " أي من يشكر نعمة الله ونعمة من أنعم عليه، فانه يشكر لنفسه، لان ثواب شكره عائد عليه " ومن كفر فان الله غني حميد " أي من جحد نعمة الله، فانه تعالى غني عن شكره حميد على أفعاله، وعقاب ذلك عائد على الكفار دون غيرهم، والشكر لا يكون إلا على نعمة سبقت، فهو يقتضي منعما، فلا يصح على ذلك أن يشكر الانسان نفسه، لانه لا يجوز أن يكون منعما عليها، وهو جرى مجرى الدين في أنه حق لغيره عليه يلزمه أداؤه، فكما لا يصح أن يقرض نفسه فيجب أن يقضي ذلك الدين لنفسه، فكذلك لا يصح أن ينعم على نفسه فيلزمه شكر تلك النعمة ثم قال تعالى وأذكر يا محمد " إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " إذ قال له لا تعبد مع الله غيره فان من فعل ذلك فقد ظلم نفسه ظلما عظيما. ويجوز أن يتعلق قوله " وإذ قال لقمان " بقوله " ولقد آتينا لقمان الحكمة... إذ قال لابنه... لا تشرك بالله " ثم قال تعالى " ووصينا الانسان بوالديه " أي وصيناه وأمرناه بالاحسان إلى والديه.
والرفق بهما " حملته امه وهنا على وهن " قال الضحاك: معناه ضعفا على ضعف
===============
(276)
أي ضعف نطفة الوالد إلى ضعف نطفة الام. وقيل: هو ما يلحقها بحملها إياه مرة بعد مرة من الضعف. وقيل: بل المعنى شدة الجهد، قال زهير:
فان يقولوا بجعل واهن خلق * لو كان قومك في اسبابه هلكوا (1)
وقال ابن عباس " وهن على وهن " أي شدة على شدة. وقيل: ضعف الولد حالا بعد حال، لانه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم مولودا.
وقوله " وفصاله في عامين " يعني قطامه في انقضاء عامين. وقيل: نزلت في سعد بن ابي وقاص حلفت أمه لا تأكل طعاما حتى تموت أو يرجع سعد ابنها فلما رأته بعد ثلاث لا يرجع عن الاسلام أكلت. ثم قال " أن اشكر لي ولوالديك " أي وصيناه بأن اشكر لي على نعمي، واشكر والديك أيضا على ما أنعما عليك. ثم قال " إلي المصير " فيه تهديد أي إلي مرجعكم، فاجازيكم أيها الناس على حسب عملكم.
ثم قال " وإن جاهداك " يعني الوالدين أيها الانسان " على أن تشرك بي " معبودا آخر " فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معرفا " أي احسن اليهما في الدنيا وارفق بهما. ثم قال " واتبع سبيل من أناب إلي " أي رجع إلى طاعتي من النبي والمؤمنين " ثم إلي مرجعكم " أي منقلبكم " فانبئكم " أي اخبركم " بما كنتم تعملون " في دار الدنيا من الاعمال. واجازبكم عليها بحسبه، وقرأ ابن كثير، إلا ابن فليح " يا بني لا تشرك بالله " بسكون الياء الباقون بتشديدها وكسرها، إلا حفصا فانه فتحها على اصله " يا بني أقم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) هو زهير بن ابي سلمى. ديوانه (دار بيروت) 51 وروايته (فلن)
بدل (فان) (*)
===============
(277)
الصلاة " بفتح الياء، وابن كثير إلا قنبلا وحفص، الباقون بكسر الياء. فوجه السكون أنه أجرى الوصل كالوقف، ووجه الفتح على الاضافة، وحذف ما قبلها لاجتماع ثلاث ياآت.. والكسر على الاجتزاء بها من ياء الاضافة، وعندنا أن الرضاع بعد الحولين يحرم لقوله " وفصاله في عامين " ولقوله (عليه السلام) لا رضاع بعد الحولين.
قوله تعالى:
* (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الارض يأت بها الله إن الله لطيف خبير (16) يا بني أقم الصلوة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور (17) ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور (18) واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير (19) ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الارض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) * (20) خمس آيات بلا خلاف.
===============
(278)
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر " ولا تصعر " بغير ألف في التصعير.
الباقون " تصاعر " بألف. وقرأ اهل المدينة " مثقال حبة " رفعا. الباقون نصبا من رفعه جعل (كان) بمعنى حدث، ووقع، ولم يجعل لها خبرا. ومن نصب فعلى أنه خبر (كان) والاسم مضمر فيها أي إن تك الحبة مثقال. وقرأ نافع وأبوجعفر وابن كثير وابوعمرو وحفص عن عاصم " نعمه " على لفظ الجمع.
الباقون " نعمة " على التوحيد.
يقول الله تعالى مخبرا عن لقمان ووصيته لابنه، وأنه قال " يا بني أنها إن تك مثقال حبة من خردل " من خير أو شر (فتكن) عطف على الشرط فلذلك جزمه. وتقديره: إن تلك الحبة لو كانت في جوف صخرة، وهي الحجر العظيم او تكون في السموات او الارض " يأت بها الله " ويحاسب عليها ويجازي لانه لا يخفى عليه شئ منها، ولا يتعذر عليه الاتيان بها أي موضع كانت، لانه قادر لنفسه لا يعجزه شئ عالم لنفسه لا تخفى عليه خافية.
وقوله " يأت بها الله " معناه إنه يجازي بها ويواقف عليها فكأنه أنى بها وإن كانت أفعال العباد لا يصح إعادتها، ولو صح اعادتها لما كانت مقدورة لله.
وإنما أراد ما قلناه، وفي ذلك غاية التهديد والحث على الاخذ بالحزم. والهاء في قوله " انها " قيل: انها عماد وهو الضمير على شريطة التفسير. وقيل:
(إنها) كناية عن الخطيئة او الفعلة التي تقتضي الجزاء، وهي المضمرة في تلك وانما أنث مثقال، لانه مضاف إلى مؤنث وهي الحبة، كما قيل: ذهبت بعض اصابعه. وكما قيل:
ـ وتشرق بالقول الذي قد اذعته ـ شرقت صدر القناة من الدم (1)
ــــــــــــــــــــــ
(1) قائله الاعشى، ديوانه 183، واللسان (شرق) (*)
===============
(279)
والصخرة وإن كانت في الارض أو في السماء، فذكر السموات والارض بعدها مبالغة كقوله " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق " (1)
وقد قال بعض المفسرين: ان الصخرة خارجة عن السموات والارض، وهو ايضا جائز. وقرأ قتادة " فتكن في صخرة " بكسر الكاف مخففا من (وكن يكن) أي جعل الصخرة كالوكنة. وهو عش الطائر. ذكره ابن خالويه. وحكاه عن ابن مجاهد سماعا، واستحسنه.
وقوله " ان الله لطيف خبير " قال قتادة: معناه - ها هنا - لطيف باستخراجها، خبير بمستقرها. واللطيف القادر الذي لا يحفو عن عمل شئ، لان من القادرين من يحفو عن عمل اشياء كثيرة كاخراج الجزء الذي لا يتجزأ وتأليفه إلى مثله، فهو فان كان قادرا عليه، فهو ممتنع منه، لانه يحفو عن عمل مثله. والخبير العالم وفيه مبالغة في الصفة، مشتق من الخبر. ولم يزل الله خبيرا عالما بوجوه ما يصح أن يخبربه، والمثقال مقدار يساوي غيره في الوزن، فمقدار الحبة مقدار حبة في الوزن. وقد صار بالعرف عبارة عن وزن الدينار، فاذا قيل:
مثقال كافور او عنبر، فمعناه مقدار الدينار بالوزن.
ثم حكى ما قاله لقمان لابنه ايضا قال له " يا بني اقم الصلاة " أي دم عليها وأقم حدودها وشرائطها " وأمر بالمعروف " والمعروف هو الطاعات " وانه عن المنكر " وهي القبائح سواء كانت قبائح عقلية او شرعية " واصبر على ما أصابك " من الناس في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من المشقة والاذى وفي ذلك دلالة على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان فيه
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 96 العلق آية 2 (*)
===============
(280)
بعض المشقة. ثم قال " إن ذلك " أي ما ذكره من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر " من عزم الامور " من العقد الصحيح على فعل الحسن بدلا من القبيح، والعزم العقد على الامر لتوطين النفس على فعله وهي الارادة المتقدمة للفعل بأكثر من وقت، لان التلون في الرأي يناقض العزم. قال الله تعالى " فاصبر كما صبر اولوا العزم من الرسل " (1).
ثم حكى ما قال لقمان لابنه، فانه قال له ايضا " ولا تصعر خدك للناس " ومعناه لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا - ذكره ابن عباس - واصل الصعر داء يأخذ الابل في اعناقها أو رؤسها حتى يلفت أعناقها فتشبه به الرجل المتكبر على الناس. وقال عمر بن جني الثعلبي واضافه المبرد إلى الفرزدق:
وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من مثله فتقوما (2)
قال ابوعلي الفارسي: يجوز أن يكون تصعر وتصاعر بمعنى، كقولهم ضعف وضاعف، قال ابوالحسن (لا تصاعر) لغة اهل الحجاز و (لا تصعر) لغة بني تميم. والمعنى ولا تتكبر، ولا تعرض عنهم تكبرا " ولا تمش في الارض مرحا " أي مشي مختال متكبر " ان الله لا يحب كل مختال فخور " فالاختيال مشية البطر، قال مجاهد: المختال المتكبر، والفخر ذكر المناقب للتطاول بها على السامع، يقال: فخر يفخر فخرا وفاخره مفاخرة وفخارا، وتفاخرا تفاخرا وافتخر افتخارا.
ثم قال له " واقصد في مشيك " أي اجعل مشيك مشي قصد، لا تمشي مشي مختال ولا متكبر " واغضض من صوتك " أي لا ترفع صوتك متطاولا لانه مذموم " ان انكر الاصوات لصوت الحمير " قال الفراء: معناه إن اشد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 46 الاحقاف آية 35 (2) مجاز القرآن 2 / 172
===============
(281)
الاصوات. وقال غيره: معناه أقبح الاصوات - في قول مجاهد - كما يقال:
هذا وجه منكر. ثم نبههم على وجوه نعم الله على خلقه. فقال " ألم تروا ان الله سخر لكم ما في السموات وما في الارض " أي ذلله لكم تتصرفون فيه بحسب ما تريدون من أنواع الحالات من الثمار والبهائم، وغير ذلك " واسبغ عليكم نعمه " ظاهرة أي وسع عليكم نعمه، والسابغ الواسع الذي يفضل عن مقدار القوت. وقوله " ظاهرة وباطنة " أي من نعمه ما هو ظاهر لكم لا يمكنكم جحده: من خلقكم، واحيائكم واقداركم، وخلق الشهوة فيكم وضروب نعمه، ومنها ما هو باطن مستور لا يعرفها إلا من أمعن النظر فيها وقيل: النعم الباطنة مصالح الدين والدنيا، مما لا يشعرون به. وقيل: سخر لكم ما في السموات من شمس وقمر ونجم وسحاب، وما في الارض من دابة وشجر وثمار، وغير ذلك مما تنتفعون به في اقواتكم ومصالحكم.
ثم قال تعالى * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) * اي يخاصم ولا علم له بما يقوله، ويجادل فيه * (ولا هدى) * أي ولا حجة على صحة ما يقوله * (ولا كتاب منير) * أي، ولا كتاب من عند الله منير أي ظاهر عليه نور وهدى.
قوله تعالى:
* (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير (21) ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك
===============
(282)
بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الامور (22) ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور (23) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (24) ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) * (25) خمس آيات بلا خلاف.
حكى الله سبحانه عن الكفار وسوء اختيارهم أنه * (إذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله) * من القرآن والاحكام واعملوا بموجبه واقتدرا به * (قالوا) * في الجواب عن ذلك * (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) * من عبادة الاصنام، ولا نتبع ذلك، فقال الله تعالى منكرا عليهم * (او لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) * ومعناه إنكم تتبعون ما وجدتم عليه آباءكم، ولو كان ذلك يدعوكم إلى عذاب جهنم !. وادخل على واو العطف ألف الاستفهام على وجه الانكار.
ثم قال * (ومن يسلم وجهه إلى الله) * أي يوجه طاعته إلى الله ويقصد وجهه بها دون الرياء والسمعة * (وهو محسن) * اي لا يخلط طاعاته بالمعاصي * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * أى من فعل ما وصفه فقد تعلق بالعروة الوثيقة التي لا يخشى انتقاضها، والتوثق امتناع سبب الانتقاض، لان البناء الموثق قد جعل على امتناع سبب الانتقاض، وما ليس بموثق على سبب الانتقاض.
ثم قال * (والى الله عاقبة الامور) * أى اليه ترجع أواخر الامور على وجه
===============
(283)
لا يكون لاحد التصرف فيها، ولا الامر والنهي.
ثم قال لنبيه * (ومن كفر) * يا محمد من هؤلاء الناس * (فلا يحزنك كفره) * اى لا يغمك ذلك * (الينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا) * اى نعلمهم باعمالهم ونجازيهم على معاصيهم بالعقاب، * (إن الله عليم بذات الصدور) * أى بما تضمره الصدور، لا يخفى عليه شئ منها. ثم قال * (نمتعهم قليلا) * اى نتركهم يتمتعون في هذه الدنيا مدة قليلة * (ثم نضطرهم) * أى نصيرهم مكرهين * (إلى عذاب غليظ) * يغلظ عليهم ويصعب وهو عذاب النار. ثم قال * (ولئن سألتهم) * يعني هؤلاء الذين كفروا بآيات الله * (من خلق السموات والارض) *؟ ليقولن في جواب ذلك: الله خلق ذلك، لانهم لا يمكنهم أن يقولوا خلق ذلك الاصنام والاوثان، لانهم يقرون بالنشاة الاولى، ولانهم لو قالوا ذلك لعلم ضرورة بطلان قولهم، فقل عند ذلك يا محمد * (الحمد لله) * على هدايته وتوفيقه لنا بالمعرفة له * (بل اكثرهم لا يعلمون) * انكم وفقكم الله لمعرفته.
قوله تعالى:
* (لله ما في السموات والارض إن الله هو الغني الحميد (26)
ولو أن ما في الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27)
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير (28)
ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر
===============
(284)
الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير (29) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير) * (30) خمس آيات بلا خلاف.
قرأ ابوعمرو ويعقوب وابن شاهي * (والبحر يمده) * نصبا. الباقون رفعا. من نصبه عطفه على * (ما) * في قوله * (أن ما) * لان موضعها نصب ب * (أن) * لان الكلام لم يتم عند قوله * (أقلام) * فاشبه المعطوف قبل الخبر. قال ابن خالويه:
وهذا من حذق ابي عمرو، وجودة تمييزه. وإنما لم يتم الكلام مع الاتيان بالخبر لان (لو) يحتج إلى جواب. ومن رفع استأنف الكلام.
اخبر الله تعالى أن له جميع ما في السموات والارض ملك له يتصرف فيه بحسب إرادته لا يجوز لاحد الاعتراض عليه. ثم اخبر انه تعالى * (هو الغني) * الذي لا يحتاج إلى شئ من جميع المخلوقات كما يحتاج غيره من الاحياء المخلوقين وأنه * (الحميد) * مع ذات، يعني المستحق للحمد العظيم، ونقيضه الدميم ويقال (محمود) بمعنى حميد. ومعناه أنه اهل الحمد.
ثم قال تعالى * (ولو أن ما في الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر) * وفيه حذف، لان المعنى يكتب به كلام الله * (ما نفدت كلمات الله) * والآية تقتضي انه ليس لكلمات الله نهاية بالحكم، لانه يقدر منها على مالا نهاية له. وقال قوم: المعنى ان وجه الحكمة وعجيب الصنعة وإتقانها لا ينفد، وليس المراد به الكلام. وقال ابوعبيدة: المراد بالبحر - ههنا - العذب، لان المالح لا ينبت الافلام. وقال ابن عباس: نزلت الآية جوابا
===============
(285)
لليهود، لما قالوا قد أوتينا التوراة، وفيها كل الحكمة، فبين الله تعالى أن ما يقدر عليه من الكلمات لا حصر لولا نهاية. والشجر جمع شجرة مثل تمرة وتمر، وهو كل نبات يقوم على ساق ويورق الاغصان. ومنه اشتقت المشاجرة بين الناس في الامر. ومنه قوله * (في ما شجر بينهم) * وشجر تشجيرا وتشاجروا تشاجرا، ومد البحر إذا جرى غيره اليه حالا بعد حال. ومنه المد والجزر.
ومد النهر ومده نهر آخر يمده مدا. وقال الفراء: يقولون: أمدد تك الفا فمددت.
* (ان الله عزيز حكيم) * معناه عزيز في انتقامه من اعدائه * (حكيم) * في أفعاله. ثم قال * (ما خلقكم) * معشر الخلق * (ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * أي إلا كبعث نفس واحدة أي لا يشق عليه ابتداء جميع الخلق ولا إعادتهم بعد إفنائهم، وأن جميع ذلك من سعة قدرة الله كالنفس الواحدة. إذ المراد أن خلقها لا يشق عليه.
وقوله * (إن الله سميع) * أي يسمع ما يقول القائلون في ذلك * (بصير) * بما يضمرونه في قوله " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " وفي ذلك تهديد على المخالفة فيه. ثم قال " ألم تر " يا محمد، والمراد به جميع المكلفين " أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " قال قتادة: معناه ينقص من الليل في النهار، ومن النهار في الليل. وقال غيره: معناه إن كل واحد منهما يتعقب الآخر * (وسخر الشمس والقمر كل يجري) * لانهما يجريان على وتيرة واحدة لا يختلفان بحسب ما سخرهما له، كل ذلك يجري * (إلى أجل مسمى) * قدره الله ان يفنيه فيه. وقال الحسن: الاجل المسمى القيامة * (وإن الله) * عطف على * (ألم تر) * فلذلك نصبه، وتقديره: وتعلم * (أن الله بما تعملون خبير) * من
===============
(286)
قرأ بالياء - وهو عياش عن أبي عمرو - أراد الاخبار. ومن قرأ بالتاء حمله على الخطاب. وهو الاظهر. والمعنى * (ان الله بما تعملون) * معشر المكلفين * (خبير) * أي عالم، فيجازيكم بحسب ذلك ليطابق قوله * (الم تر أن الله يولج الليل في النهار) * ثم قال * (ذلك بأن الله هو الحق) * الذي يجب توجيه العبادة اليه * (وأن ما تدعون من دونه الباطل) *. ومن قرأ بالياء فعلى الاخبار عنهم.
ومن قرأ بالتاء على وجه الخطاب.
يقول الله تعالى: ألم تعلم ان ما يدعون هؤلاء الكفار من الاصنام هو الباطل. ومن قرأ بالياء فعلى: قل لهم يا محمد * (وأن الله هو العلي الكبير) * فالعلي هو الذي علا على الاشياء واقتدر عليها، والكبير معناه العظيم في صفاته لا يستحق صفاته غيره تعالى. وذكر ابوعبيدة - في كتاب المجاز - ان البحر المذكور في الآية البحر العذب، لان المالح لا ينبت الاقلام.
قوله تعالى:
* (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (31) وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين * فلما نجيهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور (32) يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم
===============
(287)
الحيوة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (33) إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) * (34).
خمس آيات بصرى وشامي واربع فيما عداهما عدوا * (مخلصين له الدين) * ولم يعده الباقون.
يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله) والمراد به جميع المكلفين منبها لهم على جهات نعمه التي انعم بها عليهم وما يدلهم على انه يستحق العبادة خالصا، فقال * (الم تر) * ومعناه الم تعلم * (ان الفلك) * وهي السفن تجري في البحر بنعمة الله عليكم * (ليريكم من آياته) * اي ليريكم بعض ادلته الدالة على وحدانيته، ووجه الدلالة في ذلك ان الله تعالى يجري الفلك بالرياح التي يرسلها في الوجوه التي تريدون المسير فيها، ولو اجتمع جميع الخلق ليجروا الفلك في بعض الجهات مخالفا لجهة الرياح لما قدروا على ذلك. وفي ذلك اعظلم دلالة على ان المجري لها بالرياح هو القادر الذى لا يعجزه شئ، وذلك بعض الادلة التي تدل على وحدانيته، فلذلك قال * (من آياته) * ثم قال * (إن في ذلك لآيات) * يعني في تسخير الفلك وإجرائها في البحر على ما بيناه لدلالات * (لكل صبار) * يعني الصبار على مشاق التكليف. وعلى الم المصائب، وأذى الكفار * (شكور) * لنعم الله عليهم واضاف الآيات اليهم لما كانوا هم المنتفعين بها، وانما ذكر * (كل صبار شكور) * لان الصبر عليه بأمر الله، والشكر لنعم الله من افضل
===============
(288)
ما في المؤمن. وقال الشعبي: الصبر نصف الايمان، والشكر نصف الايمان فكأنه قال: لكل مؤمن.
ثم قال تعالى * (وإذا غشيهم موج) * يعني إذا غشي اصحاب السفن الراكبي البحر موج، وهو هيجان البحر * (كالظلل) * اى الماء في ارتفاعه وتغطيته ما تحته كالظلل، قال النابغة الجعدي: يصف البحر:
يغاشيهن اخضر ذو ظلال * على حافاته فلق الدنان (1)
شبه الموج لانه يجئ منه شئ بعد شئ بالسحاب الذي يركب بعضه فوق بعض، ويكون اسودا بما فيه من الماء " دعوا الله مخلصين له الدين " أي طاعة العبادة، فالاخلاص إفراد المعنى من كل شائب كان من غيره، أى يخلصون الدعاء في هذه الحال لله تعالى دون الاصنام وجميع ما يعبدونه من دون الله " فلما نجاهم " أي خلصهم إلى البر وسلمهم من هول البحر " فمنهم مقتصد " قال قتادة: يعني منهم مقتصد في قوله مضمر لكفره. وقال الحسن: المقتصد المؤمن.
وقيل: مقتصد على طريقة مستقيمة " وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور " فالختار الغدار بعهده أقبح الغدر، وهو صاحب ختل وختر أي غدر قال عمرو ابن معدي كرب:
فانك لو رأيت أبا عمير * ملات يديك من غدر وختر (2)
وقال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: الختار الغدار، ثم خاطب تعالى جميع المكلفين من الناس فقال " يا ايها الناس اتقوا ربكم " امرهم باجتناب معاصيه خوفا من عقابه " واخشوا يوما لا يجزي والد عن
ـــــــــــــــــــــــ
(1، 2) مجاز القرآن 2 / 129 (*)
===============
(289)
ولده... " يعني يوم القيامة الذي لا يغني فيه أحد عن احد، لا والد عن ولده ولا ولد عن والده، يقال: جزيت عنك أجزي إذا أغنيت عنك. وفيه لغة أخرى: أجزأ يجزئ من أجزأت بالهمزة. ثم قال " ان وعد الله حق " اي الذي وعدته من الثواب والعقاب حق لا خلف فيه " فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور " قال مجاهد وقتادة والضحاك: الغرور الشيطان. وقال سعيد بن جبير: هو يمنيك المغفرة في عمل المعصية. قال ابوعبيدة: الغرور كل شئ غرك حتى تعصي الله، وتترك ما أمرك به الله، شيطانا كان أو غيره، فهو غرور. وهو أحسن، لانه أعم. ثم قال تعالى " إن الله عنده علم الساعة " يعني وقت قيام القيامة يعلمه تعالى لا يعلمه سواه " وينزل الغيث " أي وهو الذي يعلم وقت نزول الغيث بعينه وهو الذي " يعلم ما في الارحام " من ذكر او أنثى " وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت " يقال: بأي ارض وبأية ارض. من قال: بأي، فلان تأنيث الارض بالصيغة لا باللفظ. ومن قال: بأية ارض فلان الارض مؤنثة. والمعنى انه لا يعلم موت الانسان في أي موضع من البلاد يكون سواه. وقد روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) إن هذه الخمسة اشياء مما لا يعلمها غيره تعالى على التفصيل والتحقيق " إن الله عليم " بتفصيل ذلك " خبير " به لا يخفي عليه شئ من ذلك.
وسأل البلخي نفسه، فقال: إذا قلتم: إن من اعتقد الشئ على ما هو به تقليدا أو تخمينا أو تنجيما يكون عالما، فلو أن إنسانا أعتقد ان امرأة تلد ذكرا او رجلا يموت في بلد بعينه او يكسب في الغد كذا، فوافق ذلك اعتقداده، فيجب
===============
(290)
ان يكون عالما، ويبطل الاختصاص في الآية؟ ! وأجاب: إن ذلك وإن كان جائزا، فانه لا يقع لظاهر الآية. وهذا غير صحيح، لان من المعلوم ضرورة أن الانسان يخبر شيئا فيعتقده، فيكون على ما اعتقده من هذه الاشياء الخمسة. وانما لا يكون علما، لانه لا تسكن نفسه إلى ذلك، فأما المنع من وقوعه فمعلوم خلافه.