(328)

من الله تعالى انه رضي عن الذين بايعوا تحت الشجرة النبي (صلى الله عليه وآله) وكانوا مؤمنين في الوقت الذي بايعوه (فعلم ما في قلوبهم) من إيمان ونفاق فرضي عن المؤمنين وسخط على المنافقين. وقيل معناه فعلم ما في قلوبهم من صدق النية في القتال وكراهتهم له، لانه بايعهم على القتال - ذكره مقاتل - (فانزل السكينة عليهم)

يعني على المؤمنين، والسكينة الصبر لقوة البصيرة (وأثانهم فتحا قريبا) قال قتادة وابن أبي ليلى: يعني فتح خيبر وقال قوم: فتح مكة (ومغانم كثيرة يأخذونها)

فالغيمة ملك أموال اهل الحرب من المشركين بالقهر والغلبة في حكمه تعالى، وكان القتال من أجلها. و (المغانم) ههنا يراد به غنائم خيبر.

وقوله (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها) يعني سائر الغنائم وقال قوم: أراد بها ايضا غنائم خيبر. وقوله (فعجل لكم هذه) يعني الصلح وسميت بيعة الرضوان لقول الله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين) وقال ابن عباس كان سبب بيعة الرضوان بالحديبية تأخر عثمان حين بعثه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى قريش أنهم قتلوه، فبايعهم على قتال قريش، وقال ابن عباس: كانو ألفا وخمسمائة نفس. وقال جابر: كانوا ألفا وأربعمائة نفس، وقال ابن أوفى ألفا وثلثمائة. والشجرة التي بايعوا تحتها هي السمرة.

واستدل بهذه الآية جماعة على فضل أبي بكر، فانه لا خلاف أنه كان من المبايعين تحت الشجرة. وقد ذكر الله أنه رضي عنهم، وانه أنزل السكينة عليهم وانه علم ما في قلوبهم من الايمان، واثابهم فتحا قريبا.

والكلام على ذلك مبنى على القول بالعموم، وفي أصحابنا من قال لا صيغة للعموم ينفرد بها. وبه قال كثير من المخالفين، فمن قال بذلك كانت الآية عنده مجملة لا يعلم المعنى بها، وقد بايع (صلى الله عليه وآله) جماعة من المنافقين بلا خلاف، فلابد

 

===============

(329)

من تخصيص الآية على كل حال. على انه تعالى وصف من بايع تحت الشجرة بأوصاف قد علمنا أنها لم تحصل في جميع المبايعين، فوجب أن يختص الرضا بمن جمع الصفات لانه قال (فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا) ولا خلاف بين أهل النقل ان الفتح الذى كان بعد بيعة الرضوان بلا فصل هو فتح خيبر. وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ذلك قال: (لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده) فدعا عليا فأعطاه الراية، وكان الفتح على يده، فوجب ان يكون هو المخصوص بحكم الآية، ومن كان معه في ذلك الفتح لتكامل الصفات فيهم. على ان ممن بايع بيعة الرضوان طلحة والزبير، وقد وقع منهما من قتال علي (عليه السلام) ما خرجا به عن الايمان وفسقا عند جميع المعتزلة ومن جرى مجراهم، ولم يمنع وقوع الرضاء في تلك الحال من مواقعة المعصية في ما بعد، فما الذي يمنع من مثل ذلك في غيره. وليس إذا قلنا:

أن الآية لا تختص بالرجلين، كان طعنا عليهما بل إذا حملناها على العموم دخلا، وكل متابع مؤمن معهما، فكان ذلك أولى.

وقوله (ومغانم كثيرة تأخذونها) يعني ما غنتموه من خيبر من انواع الغنائم (وكان الله عليما) بمصالح عباده (حكيما) في جميع أفعاله. ثم قال (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذ - ه) يعني غنائم خيبر. والباقي كل ما يغنمه المسلمون من دار الحرب (وكف ايدي الناس عنكم) يعني أسدا وغطفان، فانهم كانوا مع خيبر فصالحهم النبي (صلى الله عليه وآله) فكفوا عنه. وقيل: يعني اليهود كف ايديهم عنكم بالمدينة من قبل الحديبية ومجئ قريش، فلم يغلبوكم (ولتكون آية للمؤمنين) يستدلون بها على صحة قولكم (ويهديكم) أي ويرشدكم (صراطا (ج 9 م 42 من التبيان)

 

===============

(330)

مستقيما) يفضي بكم إلى الحق وما يؤدي إلى الثواب. والواو في قوله (ولتكون)

معناه إنا وعدناكم الغنائم لكف أيدي الناس عنكم وليكون ذلك آية للمؤمنين إذ وقع الخبر على ما أخبر به، لانه علم غيب لا يعلمه إلا الله.

قوله تعالى:

(وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شئ قديرا (21) ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا (22) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (24) هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) (25) خمس آيات.

قرأ ابوعمرو " بما يعملون بصيرا " بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب لما ذكر الله تعالى انه وعد المؤمنين مغانم كثيرة يأخذونها وانه عجل لهم هذه منها، يعني غنائم خيبر وعدهم بالغنائم الاخر، فقال (وأخرى لم تقدروا عليها) أي

 

===============

(331)

وغنيمة أخرى - عن ابن عباس والحسن - إنها فارس والروم. وقال قتادة:

هي مكة (قد أحاط الله بها) أي قدر الله عليها واحاط بها علما فجعلهم بمنزلة ما قد أدير حولهم بما يمنع ان يفلت احد منهم (وكان الله على كل شئ قديرا) أي ما يصح أن يكون مقدورا له، فهو قادر عليه. ثم قال (ولو قاتلكم الذين كفروا)

يعني من قريش يا معشر المؤمنين (لولوا الادبار) منهزمين بخذلانه إياهم ونصرة الله إياكم، ومعونته لكم - في قول قتادة - (ثم لا يجدون) يعني الكفار (وليا)

يواليهم (ولا نصيرا) يدفع عنهم.

وقوله (سنة الله التي قد خلت من قبل) معناه سنة الله جارية في خذلانه أهل الكفر ونصرة أهل الايمان في ما مضى من الامم السالفة، ونصره هو أمره بالقتال (ولن تجد) يا محمد " لسنة الله تبديلا " أي لن تجد لسنة الله ما يدفعها فالسنة الطريقة المستمرة في معنى ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وآله) (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها. ومن سن سنة سيئة فعليه اثمها واثم من عمل بها) والتبديل رفع احد الشيئين وجعل الآخر مكانه، في ما حكم أن يستمر على ماهو به ولو رفع الله حكما يأتي بخلافه لم يكن تبديلا لحكمه لانه لا يرفع شيئا إلا في الوقت الذي تقتضي الحكمة رفعه، وقال ابن عباس: كان المشركون بعثوا أربعين رجلا ليصيبوا من المسلمين، فأتى بهم رسول الله، فخلى سبيلهم، وهو المراد بقوله " وهو الذي كف أيديهم عنك " بالرعب " وأيديكم عنهم " بالنهي نزلت في أهل الحديبية واهل مكة، لا في أهل خيبر. وقيل لهم ينهوا عن قتالهم، لانهم لا يستحقون القتل بكفرهم وصدهم لكن للابقاء على المؤمنين الذين في ايديهم " ببطن مكة من بعد أن اظفركم عليهم " يعني فتح مكة " وكان الله بما تعملون بصيرا " يدبركم بحسب ما تقتضيه مصالحكم وقوله " هم الذين كفروا " أي بوحدانية الله، وهم كفار قريش " وصدوكم

 

===============

(332)

عن المسجد الحرام " في الحديبية، وصدوكم أن تعتمروا وتطوفوا بالبيت " والهدي معكوفا أن يبلغ محله " أي المحل الذي يحل نحره فيه. والمعكوف المحبوس أي منعوا الهدي ايضا ليذبح بمكة، لان هدي العمرة لا يذبح إلا بمكة كما لا يذبح هدي الحج إلا بمنى، ثم قال " ولولا رجال مؤمنون " بالله ومصدقون بالنبي " ونساء مؤمنات " مثل ذلك بمكة - في قول قتادة - " لم تعلموهم " أي لم تعلموا بايمانهم " أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم " أي ينالكم أثم لاجلهم من غير علم منكم بذلك - في قول ابن زيد - وقال قوم: معناه عنت. وقال ابن اسحاق: هو غرم الدية في كفارة قتل الخطأ عتق رقبة مؤمنة ومن لم يطق فصيام شهرين، وهو كفارة قتل الخطأ في الحرب. وجواب لولا محذوف، وتقديره ولولا المؤمنون الذين لم تعلموهم لو طئتم رقاب المشركين بنصرنا إياكم. والمعكوف الممنوع من الذهاب في جهة بالاقامة في مكانه، ومنه الاعتكاف، وهو الاقامة في المسجد للعبادة، وعكف على هذا الامر يعكف عكوفا إذا اقام عليه. وقوله " ليدخل الله في رحمته من يشاء لو نزيلوا " أي لو تميز المؤمنون منهم، وقيل لو تفرقوا والمعنى واحد " لعذبنا الذين كفروا منهم " يعني من أهل مكة " عذابا أليما " بالسيف والقتل والاليم المؤلم، وكان النبي (صلى الله عليه وآله): ساق سبعين بدنة في عام الحديبية، ودخل في العام المقبل لعمرة القضاء في الشهر الذي صد فيه ونزل قوله " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " (1) ذكره قتادة.

قوله تعالى:

(إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 2 البقرة آية 194 (*)

 

===============

(333)

الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شئ عليما (26) لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا (27) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28) محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التورية ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (29) أربع آيات.

قرأ ابن كثير إلا ابن فليح " شطأه " بفتح الطاء ومثله ابن ذكوان.

الباقون باسكانها. وقرأ اهل الشام " فازره " مقصور، الباقون بالمد، وهما لغتان من فعل الشئ وفعله غيره نحو كسبت مالا وكسبني غيرى، ونزحت البئر ونزحتها ويقال: أزر النبت وآزره غيره. وقوله " إذ جعل " متعلق بقوله " لعذبنا الذين

 

===============

(334)

كفروا منهم عذابا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية " يعني الانفة. ثم فسر تلك الانفة، فقال " حمية الجاهلية " الاولى يعني عصبتهم لآلهتم من أن يعبدوا غيرها. وقال الزهري: هي انفتهم من الاقرار لمحمد بالرسالة. والاستفتاح ب (بسم الله الرحمن الرحيم) على عادته في الفاتحة، حيث أراد ان يكتب كتاب العهد بينهم. ودخولهم مكة لاداء العمرة.

ثم قال تعالى " فأنزل الله سكينته على رسوله " أي فعل به (صلى الله عليه وآله) من اللطف والنعمة ما سكنت اليه نفسه وصبر على الدخول تحت ما أرادوه منه " وعلى المؤمنين " أي ومثل ذلك فعل بالمؤمنين " وألزمهم كلمه التقوى " قال ابن عباس وقتادة: كلمة التقوى قول: لا إلا إلا الله محمد رسول الله. وقال مجاهد: هي كلمة الاخلاص " وكانوا أحق بها وأهلها " يعني المؤمنين كانوا أهلها واحق بها. قال الفراء: ورأيتها في مصحف الحارث بن سويد التميمي من أصحاب عبدالله (وكانوا أهلها واحق بها) وهو تقديم وتأخير، وكان مصحفه دفن أيام الحجاج. وقيل:

ان التقدير كانوا أحق بنزول السكينة عليهم وأهلالها. وقيل: المعنى فكانوا أحق بمكة أن يدخلوها وأهلها. وإنما قال " أحق " لانه قد يكون حق أحق من حق غيره، لان الحق الذي هو طاعة يستحق به المدح أحق من الحق الذي هو مباح لا يستحق به ذلك " وكان الله بكل شئ عليما " لما ذم الكفار تعالى بحمية الجاهلية ومدح المؤمنين بالسكينة والزوم الكلمة الصادقة بين علمه ببواطن أمورهم وما تنطوي عليه ضمائرهم إذ هو العالم بكل شئ من المعلومات.

وقوله " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام " قسم من الله تعالى ان النبي (صلى الله عليه وآله) صادق في قوله انه رأى في المنام انه يدخل هو والمؤمنون المسجد الحرام، وانه لابد من كون ذلك. وقوله " إن شاء الله آمنين " قال قوم

 

===============

(335)

تقييد لدخول الجميع او البعض. وقال قوم: ليس ذلك شرطا لانه بشارة بالرؤيا التي رآها النبي (صلى الله عليه وآله) وطالبه الصحابة بتأويلها وحققها. قوله " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " ثم استؤنف على طريق الشرح والتأكيد " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " على الفاظ الدين، كأنه قيل بمشيئة الله، وليس ينكر أن يخرج مخرج الشرط ما ليس فيه معنى الشرط، كما يخرج مخرج الامر ما ليس في معنى الامر لقرينة تصحب الكلام. وقال البلخي: معنى " إن شاء الله " أي أمركم الله بها، لان مشيئة الله تعالى بفعل عباده هو أمره به. وقال قوم: هو تأديب لنا، كما قال " ولا تقولن لشئ.. " (1) الآية.

وقوله " آمنين " أي بلا خلاف عليكم " محلقين رؤسكم ومقصرين " أي منكم من يحلق رأسه ومنكم من يقصر " لا تخافون " احدا في ذلك، وكذلك جرى الامر في عمرة القضاء وفي السنة الثانية للحديبية، وروي أن عمر قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قاضا اهل مكة يوم الحديبية، وهم بالرجوع إلى المدينة: أليس وعدتنا يا رسول الله أن تدخل المسجد الحرام محلقين ومقصرين، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) (قلت لكم إنا ندخلها العلم)؟ ! فقال: لا، فقال (صلى الله عليه وآله) (فانكم تدخلونها إن شاء الله) فلما كان في القابل في ذي القعدة خرج النبي (صلى الله عليه وآله) لعمرة القضاء، ودخل مكة مع أصحابه في ذي القعدة واعتمروا، وقام بمكة ثلاثة ايام، ثم رجع إلى المدينة.

ثم قال " فعلم " يعني علم الله " وما لم تعلموا " انتم من المصلحة في المقاضاة وإجابتهم إلى ذلك. وقيل المعنى فعلم النبي (صلى الله عليه وآله) من دخولهم إلى سنة ما لم تعلموا معاشر المؤمنين. وقيل: فعلم ان بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 18 الكهف آية 24 (*)

 

===============

(336)

" فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " قال ابن زيد: يعني بذلك فتح خيبر. وقال الزهري: هو فتح الحديبية.

ثم قال تعالى " هو الذي ارسل رسوله " يعني محمدا (صلى الله عليه وآله) " بالهدى يعني الدليل الواضح، والحجة البينة " ودين الحق " يعني الاسلام وإخلاص العبادة " ليظهره على الدين كله " قيل بالحجج والبراهين. وقيل: لان الاسلام ظاهر على الاديان كلها. وقيل: إنه إذا خرج المهدي صار الاسلام في جميع البشر، وتبطل الاديان كلها.

ثم قال (وكفى بالله شهيدا) بذلك من إظهار دين الحق على جميع الاديان.

ثم اخبر تعالى فقال (محمد رسول الله) (صلى الله عليه وآله) ارسله إلى خلقه (والذين معه) من المؤمنين يعني المصدقين بوحدانية الله المعترفين بنبوته الناصرين له (اشداء على الكفار) لانهم يقاتلونهم ويجاهدونهم بنية صادقة (رحماء بينهم) أي يرحم بعضهم بعضا ويتحنن بعضهم على بعض (تراهم ركعا سجدا) لقيامهم بالصلاة والاتيان بها، فهم بنى راكع وساجد (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) اي يلتمسون بذلك زيادة نعيمهم من الله ويطلبون مرضاته من طاعة وترك معصية (سيماهم في وجوههم من اثر السجود) قال ابن عباس: اثر صلاتهم يظهر في وجوههم.

وقال الحسن. هو السمت الحسن. وقال قوم: هو ما يظهر في وجوههم من السهر بالليل. وقال مجاهد: معناه علامتهم في الدنيا من اثر الخشوع. وقيل:

علامة نور يجعلها الله في وجوههم يوم القيامة - في قول الحسن وابن عباس وقتادة وعطية - و (ذلك مثلهم في التوراة) اي وصفهم، كأنه مثلهم في التوراة (ومثلهم في الانجيل) اي وصفهم الله في الانجيل (كمثل زرع اخرج شطأه)

يشبههم بالزرع الذي ينبت في حواليه بنات ويلحق به، فالشطأ فراخ الزرع الذي

 

===============

(337)

ينبت في جوانبه ومنه شاطئ النهر جانبه، يقال أشطأ الزرع، فهو مشطئ إذا أفرخ في جوانبه " فازره " أي عاونه فشد فراخ الزرع لاصول النبت وقواها يقال أزرت النبت وآزره غيره بالمد، ويقال أزر النبت وازرته مثل رجع ورجعته وقال ابوالحسن: هما لغتان. وقال ابوعبيدة: أزره ساواه فصار مثل الام، وفاعل (آزر) الشطأ أي أزر الشطأ الزرع، فصار في طوله " فاستغلظ " أي صار غليظا باجتماع الفراخ مع الاصول " فاستوى " معه أي صار مثل الام " على سوقه " وهو جمع ساق وساق الشجرة حاملة الشجر، وهو عوده الذي يقوم عليه، وهو قصبته. ومثله قوى المحبة بما يخرج منها، كما قوي النبي (صلى الله عليه وآله) باصحابه.

وقوله " يعجب الزراع " يعني الذين زرعوا ذلك " ليغيظ بهم الكفار " قيل: معناه ليغيظ بالنبي وأصحابه الكفار المشركين. ووجه ضرب هذا المثل بالزرع الذي أخرج شطأه هو ان النبي (صلى الله عليه وآله) حين ناداهم إلى دينه كان ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه وفراخه، وكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان وقال البلخي: هو كقوله " كمثل غيث أعجب الكفار نباته " (1) يريد بالكفار - ههنا - الزراع واحدهم كافر، لانه يغطي البذر، وكل شئ غطيته فقد كفرته.

ومنه قولهم: تكفر بالسلاح. وقيل: ليل كافر لانه يستر بظلمته كل شئ قال الشاعر:

في ليلة كفر النجوم غمامها (2)

أي غطاها. ثم قال " وعد الله الذين آمنوا " يعني من عرف الله ووحده

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 57 الحديد آية 20 (2) مر في 1 / 60 (ج 9 م 43 من التبيان)

(*)

 

===============

(338)

وأخلص العبادة له وآمن بالنبي (صلى الله عليه وآله) وصدقه " وعملوا " مع ذلك الاعمال " الصالحات منهم " قيل: انه بيان يخصهم بالوعد دون غيرهم. وقيل يجوز ان يكون ذلك شرطا فيمن أقام على ذلك منهم، لان من خرج عن هذه الاوصاف بالمعاصي فلا يتناوله هذا الوعد " مغفرة " أي سترا على ذنوبهم الماضية " وأجرا " أي ثوابا " عظيما " يوم القيامة.

وقرأ ابن كثير وحده " على سؤقه " بالهمزة. الباقون بلا همزة، وهو الاصح. قال ابوعلي: من همز فعلى قولهم (أحب المؤفدين إلى موسى) واستعمال السوق في الزرع مجاز.

 

===============

(339)

49 - سورة الحجرات مدينة إلا آية واحدة وهي قوله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم.. " إلى آخرها. وقال قوم: كلها مدينه، وهي ثمان عشر آية بلا خلاف.

بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (2) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3) إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم) (5) خمس آيات.

قرأ يعقوب " لا تقدموا " بفتح التاء والدال. الباقون بضم التاء وكسر الدال

 

===============

(340)

من التقديم. وقيل: انهما لغتان. قدم وتقدم مثل عجل وتعجل وقال ابن عباس والحسن: الآية " لا تقدموا " في الحكم أو في الامر قبل كلامه (صلى الله عليه وآله) - بفتح الدال والتاء - وقال الحسن: ذبح قوم قبل صلاة العيد يوم النحر، فأمروا باعادة ذبيحة اخرى. وقال الزجاج: المعنى لا تقدموا أعمال الطاعة قبل الوقت الذي أمر الله والنبي (صلى الله عليه وآله) به حتى قيل لا يجوز تقدم الزكاة قبل وقتها. وقال قوم:

كانوا إذا سألوا عن شئ قالوا فيه قبل النبي (صلى الله عليه وآله) نهوا عن ذلك، والاولى حمل الآية على عمومها فيقال: كل شئ إذا فعل كان خلافا لله ورسوله فهو تقدم بين أيديهما فيجب المنع من جميع ذلك.

هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين الذين اعترفوا بتوحيده وإخلاص عبادته وأقروا بنبوة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) ينهاهم أن يتقدموا بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يفعلوا خلاف ما أمر به او يقولوا في الاحكام قبل ان يقول او يخالفوا أوقات العبادة، فان جميع ذلك تقدم بين يديه، وأمرهم ان يتقوا الله بأن يجتنبوا معاصيه ويفعلوا طاعاته " إن الله سميع " لما يقولونه " عليم " بما ينطوون عليه ويضمرونه. ثم أمرهم ثانيا بأن قال " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " على وجه الاستخفاف به (صلى الله عليه وآله)، فان مجاهد وقتادة قالا: جاء أعراب اجلاف من بني تميم، فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمد إخرج إلينا، ولو أن إنسانا رفع صوته على صوت النبي (صلى الله عليه وآله) على وجه التعظيم له والاجابة لقوله لم يكن مأثورما. وقد فسر ذلك بقوله " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض " فان العادة جارية أن من كلم غيره ورفع صوته فوق صوته أن ذلك على وجه الاستخفاف به، فلذلك نهاهم عنه.

وجهر الصوت اشد من الهمس، ويكون شديدا وضعيفا ووسطا. والجهر ظهور الصوت بقوة الاعتماد، ومنه الجهارة في المنطق. ويقال: نهارا جهارا، وجاهر

 

===============

(341)

بالامر مجاهرة. ونقيض الجهر الهمس.

ثم بين تعالى انهم متى فعلوا ذلك بان يرفعوا الصوت على صوت النبي (صلى الله عليه وآله) على الوجه الذي قلناه أن يحبط اعمالهم، والتقدير لا ترفعوا أصواتكم لان لا تحبط قال الزجاج: ويكون اللام لام العاقبة، والمعنى يحبط ثواب ذلك العمل، لانهم لو أوقعوه على وجه الاستحقاق لاستحقوا به الثواب، فلما فعلوه على خلاف ذلك استحقوا عليه العقاب، وفاتهم ذلك الثواب فذاك إحباط أعمالهم، فلا يمكن أن يستدل بذلك على صحة الاحباط في الآية على ما يقوله أصحاب الوعيد، ولانه تعالى علق الاحباط في الآية بنفس العمل، وأكثر من خالفنا يعلقه بالمستحق على الاعمال، وذلك خلاف الظاهر.

ثم مدح تعالى من كان بخلاف من يرفع الصوت بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " اعظاما للنبي وإجلالا له، والغض الحط من منزلة على وجه التصغير له بحالة، يقال: غض فلان عن فلان إذا ضعف حاله عن حال من هو أرفع منه، وغض بصره إذا ضعف عن حدة النظر، وغض صوته إذا ضعف عن الجهر، وقال جرير:

فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا (1)

ثم قال " اولئك " يعني الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله هم " الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " أي لا خلاص التقوى فعاملهم معاملة المختبر كما يمتحن الذهب لا خلاص جيده. وقيل " امتحن الله قلوبهم للتقوى " اخلصها - في قول مجاهد وقتادة - وقال قوم: معناه أولئك الذين علم الله التقوى في قلوبهم، لان الامتحان يراد به العلم، فعبر عن العلم بالامتحان.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه والطبري 26 / 69 (*)

 

===============

(342)

ثم قال تعالى " لهم مغفرة " من الله لذنوبهم " وأجر عظيم " على افعالهم وطاعاتهم ثم خاطب النبي (صلى الله عليه وآله) على وجه الذم لمن يرفع صوته من اجلاف الاعراب على النبي (صلى الله عليه وآله) " إن الذين ينادونك " يا محمد " من وراء الحجرات " وهي جمع حجرة وكل (فعلة) بضم الفاء يجمع بالالف والتاء، لانه ليس بجمع سلامة محضة إذ ما يعقل من الذكر ألحق به، لانه اشرف المعنيين، فهو احق بالتفصيل، قال الشاعر:

اما كان عباد كفيا لدارم * بلى ولابيات بها الحجرات (1)

أي بلى ولبني هاشم. وقرأ ابوجعفر الحجرات بفتح الجيم. قال المبرد:

أبدل من الضمة الفتحة الستثقالا لتوالي الضمتين، ومنهم من أسكن مثل (عضد وعضد) وقال ابوعبيدة: جمع حجرة وغرفة يقال: حجرات وغرفات.

ثم قال " اكثرهم لا يعقلون " لانهم بمنزلة البهائم لا يعرفون مقدار النبي (صلى الله عليه وآله) وما يستحقه من التوقير والتعظيم. وقيل: إن الذين رفعوا أصواتهم على النبي (صلى الله عليه وآله) قوم من بني تميم. وفي قراءة ابن مسعود (اكثرهم بنو تميم لا يعقلون).

ثم قال " ولو أنهم صبروا " فلم ينادوك " حتى تخرج اليهم " من منزلك " لكان خيرا لهم " من أن ينادونك من وراء الحجرات (والله غفور رحيم) أي ساتر لذنوبهم إن تابوا منها لان ذلك كفر لا يغفره الله إلى بالتوبة.

قوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6) واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الطبري 26 / 69 (*)

 

===============

(343)

الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحديهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) (10) خمس آيات.

قوله (يا ايها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) خطاب من الله - عزوجل - للمؤمنين بأنه (إذا جاءكم فاسق) وهو الخارج من طاعة الله إلى معصيته (بنبأ)

 أي بخبر عظيم الشأن (فتبينوا) صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بمتضمنه (أن تصيبوا قوما بجهالة) لانه ربما كان كاذبا وخبره كذبا، فيعمل به فلا يؤمن بذلك وقال ابن عباس ومجاهد ويزيد بن رومان وقتادة وابن أبي ليلا: نزلت الآية في الوليد ابن عقبة بن أبي معيط، لما بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صدقات بني المصطلق خرجوا يتلقونه فرحا به وإكراما له، فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: انهم منعوا صدقاتهم، وكان الامر بخلافه.

وفي الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل، لان المعنى إن جاءكم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذبا فتوقفوا فيه، وهذا التعليل موجود في خبر العدل، لان العدل على الظاهر يجوز أن يكون كاذبا في خبره،

 

===============

(344)

فالامان غير حاصل في العمل بخبره. وفى الناس من استدل به على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلا، من حيث انه اوجب تعالى التوقف في خبر الفاسق، فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه. وهذا الذي ذكروه غير صحيح، لانه استدلال بدليل الخطاب ودليل الخطاب ليس بدليل عند جمهور العلماء. ولو كان صحيحا فليست الآية بأن يستدل بدليلها على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا بأولى من ان يستدل بتعليلها في دفع الامان من أن يصاب بجهالة إذا عمل بها على ان خبر العدل مثله، على أنه لا يجب العمل بخبر الواحد، وإن كان راويه عدلا.

فان قيل: هذا يؤدي إلى أن لا فائدة في إيجاب التوقف في خبر الفاسق إذا كان خبر العدل مثله في الفائدة.

قلنا: والقول بوجوب العمل بخبر الواحد يوجب أنه لا فائدة في تعليل الآية في خبرالفاسق الذي يشاركه العدل فيه، فاذا تقابلا سقط الاستدلال بها على كل حال وبقي الاصل في انه لا يجوز المل بخبر الواحد إلا بدليل.

ومن قرأ (تبينوا) أراد تعرفوا صحة متضمن الخبر الذي يحتاج إلى العمل عليه، ولا تقدموا عليه من غير دليل، يقال: تبين الامر إذا ظهر، وتبين هو نفسه بمعنى واحد، ويقال ايضا: تبينته إذا عرفته. ومن قرأ (فتثبتوا) - بالتاء والثاء - أراد توقفوا فيه حتى يتبين لكم صحته.

وقوله (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) معناه حتى عملتم بخبر الواحد وبان لكم كذب راويه أصبحتم نادمين على ما فعلتموه.

ثم خاطبهم يعني المؤمنين فقال (واعلموا) معاشر المؤمنين (أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) ومعناه لو فعل ما تريدونه في كثير من

 

===============

(345)

الامور (لعنتم) أي اصابكم عنت ومكروه، يقال: أعنت الرجل إذا حملت عليه عامدا لما يكره، يقال: اعنته فعنت، وسمي موافقته لما يريدونه طاعة لهم مجازا لان الطاعة يراعى فيها الرتبة، فلا يكون المطيع مطيعا لمن دونه، وإنما يكون مطيعا لمن فوقه إذا فعل ما أمره به، ألا ترى انه لا يقال في الله تعالى: إنه مطيع لنا إذا فعل ما أردناه. ويقال فينا إذا فعلنا ما أراده الله: انه مطيع. والنبي (صلى الله عليه وآله) فوقنا فلا يكون مطيعا لنا، فاطلاق ذلك مجاز.

وقوله (ولكن الله حبب اليكم الايمان) بما وعد من استحقاق الثواب عليه (وزينه في قلوبكم) بنصب الادلة على صحته (وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان) بما وصفه من العقاب عليه - وهو قول الحسن - وفي الآية دلالة على أن اضداد الايمان ثلاثة كفر وفسوق وعصيان.

ثم قال (أولئك) يعني الذين وصفهم الله بالايمان، وزين الايمان في قلوبهم وانه كره اليهم الفسوق وغيره (هم الراشدون) أي المهتدون إلى طريق الحق الذين أصابوا الرشد.

ثم قال (فصلا من الله ونعمة) أي فعل الله ذلك بهم فضلا منه على خلقه ونعمة مجددة، وهو نصب على المفعول له - في قول الزجاج - (والله عليهم) بالاشياء كلها (حكيم) في جميع أفعاله.

ثم قال (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) يقتل بعضهم بعضا (فأصلحوا بينهما) حتى يصطلحا، وقرأ يعقوب (بين أخوتكم) حمله على أنه جمع (أخ)

أخوة لان الطائفة جمع. ومن قرأ على التثنية رده إلى لفظ الطائفتين، وقرأ زيد ابن ثابت وابن سيرين وعاصم الجحدري (بين اخويكم) والمعاني متقاربة.

(ج 9 م 44 من التبيان)

 

===============

(346)

وقوله (وإن طائفتان من المؤمنين) لا يدل على أنهما إذا اقتتلا بقيا على الايمان، ويطلق عليهما هذا الاسم، بل لا يمتنع ان يفسق احد الطائفتين او يفسقا جميعا، وجرى ذلك مجرى ان تقول: وإن طائفة من المؤمنين ارتدت عن الاسلام فاقتلوها. ثم قال (فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ)

أي فان بغت إحدى الطائفتين على الاخرى بأن تطلب ما لا يجوز لها وتقابل الاخرى ظالمة لها متعدية عليها (فقاتلوا التي تبغي) لانها هي الظالمة المتعدية دون الاخرى (حتى تفئ إلى أمر الله) أي حتى ترجع إلى أمر الله وتترك قتال الطائفة المؤمنة. ثم قال (فان فاءت) أي رجعت وتابت وأقلعت وأنابت إلى طاعة الله (فأصلحوا بينهما) يعني بينها وبين الطائفة التى كانت على الايمان ولم تخرج عنه بالقول، فلا تميلوا على واحدة منهما (وأقسطوا) أي اعدلوا (إن الله يحب المقسطين) يعني العادلين، يقال: أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار. قال الله تعالى (وأما القاسطون فكانوا الجهنم حطبا) (1).

وقيل: إن الآية نزلت في قبيلتين من الانصار وقع بينهما حرب وقتال - ذكره الطبري -.

ثم اخبر تعالى (إنما المؤمنون) الذين يوحدون الله تعالى ويعملون بطاعاته ويقرون بنبوة نبيه ويعملون بما جاء به (أخوة) يلزمهم نصرة بعضهم بعضا (فأصلحوا بين أخويكم) يعني إذا رجعا جميعا إلى الحق وما أمر الله به (وأتقوا الله) أي اجتنبوا معاصيه وافعلوا طاعته واتقوه في مخالفتكم (لعلكم ترحمون) معناه لكي ترحمون لان (لعل) بمعنى الشك والشك لا يجوز على الله تعالى، قال الزجاج: سموا المؤمنين إذا كانوا متفقين في دينهم بأنهم أخوة، لا تفاقهم في الدين ورجوعهم إلى اصل النسب

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 72 الجن آية 15 (*)

 

===============

(347)

لانهم لآدم وحواء.

قوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فاولئك هم الظالمون (11) يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عندالله أتقيكم إن الله عليم خبير (13) قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (14) إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) (14)

خمس آيات.

 

===============

(348)

قرا اهل البصرة (لا يألتكم) بالهمزة. الباقون (لا يلتكم) بلا همزة، وهما لغتان، يقال: ألت يألت إذا أنقص، ولات يليت مثل ذلك. وفى المصحف بلا الف وقال الشاعر:

وليلة ذات ندى سريت * ولم يلتني عن سراها ليت (1)

ومعنى الآية لا ينقصكم من أعمالكم شيئا، ومنه قوله (وما ألتناهم من عملهم من شئ) (2) أي ما نقصناهم. وقرأ يعقوب (ميتا) بالتشديد. الباقون بالتخفيف. والتشديد الاصل، وهو مثل سيد وسيد.

يقول الله مخاطبا للمؤمنين الذين وحدوده وأخلصوا العبادة له وصدقوا نبيه وقبلوا ما دعاهم الله اليه (لا يسخر قوم من قوم) ومعناه لا يهزأ به ويتلهى منه، وقال مجاهد: لا يسخر غني من فقير لفقره بمعنى لا يهزأ به، والسخرية بالاستهزاء ولو سخر المؤمن من الكافر احتقارا له لم يكن بذلك مأثوما، فأما في صفات الله، فلا يقال إلا مجازا كقوله (فانا نسخر منكم كما تسخرون) (3) معناه إنا نجازيكم جزاء السخرية.

ثم قال (عسى أن يكونوا خيرا منهم) لانه ربما كان الفقير المهين في ظاهر الحال خيرا عند الله وأجل منزلة واكثر ثوابا من الغني الحسن الحال. وقال الجبائي: يجوز ان يكونوا خيرا منهم في منافع الدنيا، وكثرة الانتفاع بهم. وقوله (ولا نساء من نساء) أي ولا يسخر نساء من نساء على هذا المعنى (عسى أن يكن خيرا منهن) ويقال: هذا خير من هذا بمعنى أنفع منه في ما يقتضيه العقل، وكذلك كان نسب رسول الله (صلى الله عليه وآله) خير من نسب غيره، ثم قال (ولا تلمزوا أنفسكم)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الطبرى 26 / 82 وقد مر في 6 / 445 (2) سورة 52 الطور آية 21 (3) سورة 11 هود آية 38 (*)

 

===============

(349)

فاللمز هو الرمي بالعيب لمن لا يجوز ان يؤذى بذكره، وهو المنهي عنه، فأما ذكر عيبه، فليس بلمز، وروي انه (صلى الله عليه وآله) قال (قولوا في الفاسق ما فيه كي يحذره الناس) وقال الحسن: في صفة الحجاج أخرج الينا نباتا قصيرا قل ما عرفت فيها إلا عنه في سبيل الله ثم جعل يطبطب بشعيرات له، ويقول: يابا سعيد. ولو كان مؤمنا لما قال فيه ذلك. وقال ابن عباس وقتادة: معناه لا يطعن بعضكم على بعض كما قال (ولا تقتلوا أنفسكم) (1) لان المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتله اخاه قاتل نفسه.

وقوله (ولا تنابزوا بالالقاب) قال ابوعبيدة: الانباز والالقاب واحد فالنبز القذف باللقب، نهاهم الله أن يلقب بعضهم بعضا. وقال الضحاك: معناه كل اسم او صفة يكرة الانسان أن يدعى به، فلا يدع به. وإنما يدعى بأحب اسمائه اليه. وقوله (بئس الاسم الفسوق بعد الايمان) لا يدل على ان المؤمن لا يكون فاسقا لان الايمان والفسق لا يجتمعان، لان ذلك يجري مجرى ان يقال: بئس الحال الفسوق مع الشيب على ان الظاهر يقتضي ان الفسوق الذي يتعقب الايمان بئس الاسم، وذلك لا يكون إلا كفرا، وهو بئس الاسم.

ثم قال (ومن لم يتب) يعني من معاصيه ويرجع إلى طاعة الله ومات مصرا (فاولئك هم الظالمون) الذين ظلموا نفوسهم بأن فعلوا ما يستحقون به العقاب.

ثم خاطبهم ايضا فقال (يا ايها الذين آمنوا) أي صدقوا بوحدانيته (اجتنبوا كثيرا من الظن) وإنما قال (كثيرا) لان في جملته ما يجب العمل عليه، ولا يجوز مخالفته. وقوله (ان بعض الظن أثم) فالظن الذي يكون إثما

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 4 النساء آية 28 (*)

 

===============

(350)

إنما هو ما يفعله صاحبه وله طريق إلى العلم بدلا منه مما يعمل عليه، فهذا ظن محرم لا يجوز فعله، فأما مالا سبيل له إلى دفعه بالعلم بدلا منه، فليس باثم، فلذلك كان بعض الظن أثم، دون جميعه، والظن المحمود قد بينه الله ودل عليه في قوله (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) (1): يلزم المؤمن أن يحسن الظن به ولا يسئ الظن في شئ يجد له تأويله جميلا، وإن كان ظاهره القبيح. ومتى فعل ذلك كان ظنه قبيحا.

وقوله (ولا تجسسوا) أي لا تتبعوا عثرات المؤمن - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقال ابوعبيدة التجسس والتجسس واحد وهو التبحث يقال:

رجل جاسوس، والجاسوس والناموس واحد. وقيل للمؤمن حق على المؤمن ينافي التجسس عن مساوئه. وقيل: يجب على المؤمن أن يتجنب ذكره المستور عند الناس بقبيح، لان عليهم أن يكذبوه ويردوا عليه، وإن كان صادقا عندالله، لان الله ستره عن الناس، وإنما دعى الله تعالى المؤمن إلى حسن الظن في بعضهم ببعض للالفة والتناصر على الحق، ونهوا عن سوء الظن لما في ذلك من التقاطع والتدابر.

وقوله (ولا يغتب بعضكم بعضا) فالغيبة ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه. ويروى في الخبر إذا ذكرت المؤمن بما فيه مما يكرهه الله، فقد اغتبته وإذا ذكرته بما ليس فيه، فقد بهته.

وقوله (ايحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) معناه ان من دعي إلى اكل لحم أخيه فعافته نفسه، فكرهته من جهة طبعه، فانه ينبغي إذا دعي إلى عيب أخيه فعافته نفسه من جهة عقله، فينبغي أن يكرهه، لان داعي العقل أحق بأن يتبع من داعي الطبع لان داعي الطبع أعمى وداعي العقل بصير، وكلاهما

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 24 النور آية 12 (*)

 

===============

(351)

في صفة الناصح، وهذا من أحسن ما يدل على ما ينبغي ان يجتنب من الكلام.

وفي الكلام حذف، وتقديره أيحب احدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا فيقولون: لا، بل عافته نفوسنا، فقيل لكم فكرهتموه، فحذف لدلالة الكلام عليه. وقال الحسن:

معناه فكما كرهتم لحمه ميتا فأكرهوا غيبته حيا، فهذا هو تقدير الكلام.

وقوله (واتقوا الله) معطوف على هذا الفعل المقدر، ومثله (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك) (1) والمعنى ألم نشرح، قد شرحنا فحمل الثاني على معنى الاول، لانه لا يجوز ان يقول ألم وضعنا عنك.

ثم قال (واتقوا الله) باجتناب معاصيه وفعل طاعاته (ان الله تواب)

أي قابل لتوبة من يتوب اليه (رحيم) بهم.

ثم قال (قالت الاعراب آمنا) قال قتادة: نزلت الآية في اعراب مخصوصين انهم قالوا (آمنا) أي صدقنا بالله وأقررنا بنبوتك يا محمد، وكانوا بخلاف ذلك في بواطنهم، فقال الله تعالى لنبيه (قل) لهم (لن تؤمنوا) على الحقيقة في الباطن (ولكن قولوا أسلمنا) أي استسلمنا خوفا من السبي والقتل - وهو قول سعيد بن جبير وابن زيد - ثم بين فقال (ولما يدخل الايمان في قلوبكم) بل أنتم كفار في الباطن. ثم قال لهم (وإن تطيعوا الله ورسوله) وترجعوا إلى ما يأمرانكم به من طاعة الله والانتهاء عن معاصيه (لا يلتكم من أعمالكم شيئا) أي لا ينقصكم من جزاء أعمالكم شيئا (ان الله غفور رحيم) أي ساتر لذنوبهم إذا تابوا رحيم بهم في قبول توبتهم.

ثم وصف المؤمن على الحقيقة فقال (إنما المؤمنون) على الحقيقة (الذين آمنوا بالله) وصدقوا وأخلصوا بتوحيده (ورسوله) أي واقروا بنبوة نبيه

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 94 الانشراح آية 1 - 2 (*)

 

===============

(352)

(ثم لم يرتابوا) أي لم يشكوا في شئ من أقوالهما (وجاهدوا بأموالهم وانفسهم في سبيل الله) ثم قال (اولئك هم الصادقون) في أقوالهم دون من يقول بلسانه ما ليس في قلبه.

وقوله " يا ايها الناس " خطاب للخلق كافة من ولد آدم يقول لهم " إنا خلقناكم " باجمعكم " من ذكر وانثى " يعني آدم وحوا (عليهما السلام) وقال مجاهد:

خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة بدلالة الآية " وجعلناكم شعوبا وقبائل " فالشعوب النسب الابعد، والقبائل الاقرب - في قول مجاهد وقتادة - وقيل الشعوب أعم، والقبائل اخص. وقال قوم: الشعوب الافخاذ والقبائل اكثر منهم. والشعوب جمع شعب، وهو الحي العظيم، والقبائل مأخوذ من قبائل الرأس، وقبائل الحقبة التي يضم بعضها إلى بعض، فاما الحي العظيم المستقر بنفسه فهو شعب، قال ابن احمر:

من شعب همدان او سعد العشيرة او * خولان او مذحج جواله طربا (2)

والقبائل جمع قبيلة، وقوله " لتعارفوا " معناه جعلكم كذلك لتعارفوا، فيعرف بعضكم بعضا. ومن قرأ بالياء مشددة، أدغم أحداهما في الاخرى، ومن خفف حذف أحداهما. ثم قال " إن اكرمكم عندالله أتقاكم " لمعاصيه، واعملكم بطاعته قال البلخي: اختلف الناس في فضيلة النسب، فانكرها قوم، واثبتها آخرون والقول عندنا في ذلك انه ليس احد أفضل من مؤمن تقي، فان الحسب والنسب والشرف لا يغنيان في الدين شيئا، لان لهما فضلا كفضل الخز على الكرباس والكتان على البهاري وكفضل الشيخ على الشاب. فان الطبائع مبنية والاجماع واقع على بأن شيخا وشابا لو باستويا في الفضل في الدين لقدم الشيخ على الشاب

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الطبرى 26 / 80 نسبة إلى ابن عمر الباهلي وروايته (هاجرا له)

بدل (جواله)

(*)

 

===============

(353)

وزيد في تعظيمه وتبجيله، وكذلك الاب والابن لو استويا في الفضل في الدين لقدم الاب، وكذلك السيد وعبده. وهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء، وكذلك لو أن رجلين استويا في الدين ثم كان احدهما له قرابة برسول الله أو بالخيار الصالحين لوجب أن يقدم المتصل برسول الله وبالصالح، ويزاد إكرامه في تعظيمه وتبجيله، وكذلك إذا استويا وكان في آباء احدهما أنبياء ثلاثة وأربعة، وكان في آباء الآخر نبي واحد كان الاول مستحقا للتقديم، وكذلك لو كان لاحدهم أب نبي إلا انه من الانبياء المتقدمين، وكان ابوالآخر هو النبي الذي بعث الينا كان الثاني اعظم حقا وأحق بالتقديم، وكذلك لو كان احدهما له آباء معروفون بالفضل والاخلاق الجميلة والافعال الشريفة وبالوقار وبالنجدة والادب والعلم كانت الطبايع مبنية على تقديمه على الآخر. فان قيل: الطبائع مبنية على تقديم ذوي المال فيجب ان يكون الغنى وكثرة المال شرفا. قلنا: كذلك هو لا ننكر هذا ولا ندفعه. فان قيل:

إذا كان لاحدهما مال لا يبذل، والآخر قليل المال يبذل قدر ما يملكه من الحقوق ويضعه في مواضعه؟ قلنا الباذل أفضل من الذي لا يبذل. وإنما تكلمنا في الرجلين إذا استويا في خصالهما وفضل أحدهما كثرة المال وكان واضعا له في موضعه باذلاله في حقوقه وكذلك لو أن رجلا كان ذا حسب وشرف في آبائه إلا انه كان فاسقا او سخيفا او وضيعا في نفسه كان الذي لا حسب له وهو عفيف نبيل افضل منه بالاوصاف التي لا تخفى. وكان حسب ذلك السخيف مما يزيده وبالا، ومعنى الحسب أنه يحسب لنفسه آباء أشرافا فضلا، وعمومة وأخوة - انتهى كلام البلخي -.

وقوله " إن الله عليم خبير " يعني بمن يعمل طاعاته ويتقي معاصيه " خبير " (ج 9 م 45 من التبيان)

 

===============

(354)

بذلك لا يخفى عليه شئ من ذلك. ثم وصف المؤمنين الذين تقدم ذكرهم فقال " اولئك هم الصادقون " على الحقيقة الذين يستحقون ثواب الله تعالى.

قوله تعالى:

(قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الارض والله بكل شئ عليم (16) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هديكم للايمان إن كنتم صادقين (17) إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما تعملون) (18) ثلاث آيات.

قرأ ابن كثير وحده " بما يعملون " بالياء على الغيبة. الباقون بالتاء على الخطاب.

يقول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) " قل " لهؤلاء الكفار " أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الارض والله بكل شئ عليم " فالتعليم تعريض من لا يعلم حتى يعلم بافهام المعنى او خلق العلم له في قلبه، فعلى هذا لا يجوز ان يعلم العالم لنفسه الذي يعلم المعلومات كلها بنفسه، ولا يحتاج إلى من يعلمه ولا إلى علم يعلم به، كما انه من يكون قديما بنفسه استغنى عن موجد يوجده، وإنما يحتاج إلى التعليم من يجوز أن يعلم وألا يعلم، ومن يخفى عليه شئ دون شئ، ففي الآية دلالة على ان العالم بكل وجه لا يجوز ان يعلم. والمعني بالآية هم الذين ذكرهم في الآية الاولى وبين أنهم منافقون لقول الله لهم " أتعلمون الله بدينكم " إنا آمنا بالله وبرسوله، وهو تعالى يعلم منكم خلاف ذلك من الكفر والنفاق، فلفظه لفظ الاستفهام والمراد

 

===============

(355)

به الانكار.

ثم خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله) فقال " يمنون عليك أن أسلموا " فالمن القطع بايصال النفع الموجب للحق، ومنه قوله " فلهم اجر غير ممنون " (1) أي غير مقطوع، ومنه قولهم: المنة تكدر الصنيعة وقيل: إذا كفرت النعمة حسنت المنة. ومن لا أحد إلا وهو محتاج اليه، فليس في منه تكدير النعمة، لان الحاجة لازمة لامتناع أن يستغنى عنه بغيره. واكثر المفسرين على ان الآية نزلت في المنافقين. وقال الحسن: نزلت في قوم من المسلمين قالوا: أسلمنا يا رسول الله قبل ان يسلم بنو فلان، وقاتلنا معك بني فلان. وقال الفراء: نزلت في اعراب من بني أسد قدموا على النبي (صلى الله عليه وآله) بعيالاتهم طمعا في الصدقة، وكانوا يقولون أعطنا، فانا أتيناك بالعيال والاثقال وجاءتك العرب على ظهور رواحلها، فأنزل الله فيهم الآية. ثم قال " بل الله يمن عليكم " بانواع نعمه و " بأن هداكم للايمان " وارشدكم اليه بما نصب لكم من الادلة عليه ورغبكم فيه " إن كنتم صادقين " في إيمانكم الذي تدعونه.

ومتى كنتم صادقين يجب أن تعلموا ان المنة الله عليكم في إيمانكم، لا لكم على الله ورسوله.

وموضع " أن اسلموا " نصب ب " يمنوا " وهو مفعول به. وقيل: موضعه الجر، لان تقديره بأن اسلموا. ثم قال إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما يعملون من طاعة ومعصية وإيمان وكفر في باطن او ظاهر لا يخفى عليه شئ من ذلك.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 95 التين آية 6 (*)

 

===============

(356)

50 - سورة ق مكية بلا خلاف: وهي خمس وأربعون آية بلا خلاف.

بسم الله الرحمن الرحيم (ق والقرآن المجيد (1) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب (2) ءإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد (3) قد علمنا ما تنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) (5)

لم يعد أحد (ق) آية، وكذلك نظائره مثل (ن) و(صلى الله عليه وآله) لانه من المفرد، وكل مفرد فانه لا يعد لعبده عن شبه الجملة. وأما المركب فما اشبه الجملة ووافق رؤس الآي، فانه يعد مثل (طه) و (حم) و (ألم) وما أشبه ذلك.

 و (قاف) قيل هو اسم للجبل المحيط بالارض. وقيل: هو اسم من اسماء السورة ومفتاحها على ما بيناه في حروف المعجم. وهو الاقوى. وقيل: (ق) من قضى الامر و (حم) من حم أي دنا.

وقوله " والقرآن " قسم من الله تعالى بالقرآن. وجواب القسم محذوف، وتقديره لحق الامر الذي وعدتم به انكم لمبعوثون، تعجبوا فقالوا " أئذا متنا

 

===============

(357)

وكنا ترابا " ! وقيل: تقديره، ورب القرآن. واستدل بذلك على حدوثه، وهو خلاف الظاهر. والمجيد العظيم الكرم. ووصف القرآن وبعثه بأنه مجيد معناه انه عظيم القدر عالي الذكر. ويقال مجد الرجل ومجد مجدا وهما لغتان إذا عظم كرمه وأمجد كرمت فعاله، والمجيد في اسم الله تعالى العظيم الكرم، ومجده خلقه: عظموه بكرمه، ورجل ماجد عظيم الكرم. وتماجد القوم تماجدا، وذلك إذا تفاخروا باظهار مجدهم. والمجد مأخوذ من قولهم: مجدت الابل مجودا، وذلك إذا عظمت بطونها لكثرة أكلها من كلا الربيع. وأمجد القوم ابلهم وذلك في الربيع، كأنهم أصابوا أكلا عظيما كريما قال الشاعر:

رفعت مجد تميم باهلال لها * رفع الطراف على العلياء بالعمد (1)

وقوله " بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب " اخبار منه تعالى عن حال الكافرين الذين بعث الله اليهم النبي (صلى الله عليه وآله) من كفار قريش وغيرهم مخوفا لهم من معاصيه وترك طاعاته باستحقاق العقاب على ذلك وانه تعالى سيبعثهم ويجازيهم على ذلك بعد الموت، فقال الكافرون جوابا لهذا القول:

هذا شئ عجيب، والتعجب بثير النفس تعظيم الامر الخارج عن العادة الذي لا يقع بسببه معرفة، يقال عجب عجبا وتعجب تعجبا، فالذي يتعجب منه عجب.

وقيل: العجب هو كل مالا يعرف علته ولا سببه، وأفحش العجب التعجب مما ليس بعجب على طريق الانكار للحق، لانه يجتمع فيه سببا القبيح، فهؤلاء تعجبوا من مجئ النذير من الله تعالى اليهم فقد فحشوا غاية التفحش، مع انه مما يعظم ضرر الجهل به. ثم قالوا أيضا في الجواب عن ذلك ائذا متنا وخرجنا من كوننا أحياء وكنا ترابا يبعثنا الله !؟ وحذف لدلالة الكلام عليه. ثم قالوا " ذلك رجع بعيد "

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر في 6 / 34 (*)

 

===============

(358)

أي يبعد عندنا أن نبعث بعد الموت، لان ذلك غير ممكن، فقال الله تعالى " قد علمنا ما تنقص الارض منهم " أي علمنا الذي تأكل الارض من لحومهم، لا يخفى علينا شئ منه " وعندنا كتاب حفيظ " أي ممتنع الذهاب بالبلى والدروس، كل ذلك ثابت فيه ولا يخفى منه شئ وهو اللوح المحفوظ ثم قال " بل كذبوا بالحق لما جاءهم " يعني بالنبي والقرآن الذي جاء به دالا على صدقه، وبالبعث والنشور، الذي أنذرهم به فهم في أمر مريج أي مختلط ملتبس واصله ارسال الشئ مع غيره في المرج من قولهم: مرج الخيل الذكور مع الاناث وهو مرج بالخيل أي المسرح الذي يمرج فيه، و " مرج البحرين " ارسلهما في مرج " يلتقيان " ولا يختلطان.

قوله " من مارج من نار " أي مرسل الشعاع بانتشاره. قال ابوذؤيب فحالت فالتمست به حشاها * فخر كانه غصن مريج (1)

أي قد التبس بكثرة تشعبه ومرجت عهودهم وأمرجوها أي خلطوها، ولم يفوا بها. وقال ابوعبيدة: مرج أمر الناس إذا اختلط، قال ابوذؤيب (فخر كأنه خوط مريج) أي سهم مختلط الامر باضطرابه، فهؤلاء الكفار حصلوا في أمر مختلط ملتبس من أمر النبي (صلى الله عليه وآله)، فقالوا تارة هو مجنون وأخرى هو كاهن وأخرى هو شاعر، فلم يثبتوا على شئ واحد، فلذلك كانوا في أمر مريج.

قوله تعالى:

(أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج (6) والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الطبري 26 / 86 وروايته (فحط كأنه حوط مريج)

(*)

 

===============

(359)

منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) (11) ست آيات.

لما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم كذبوا بالحق الذي هو القرآن وجحدوا البعث والنشور والثواب والعقاب، وتعجبوا من ذلك نبههم الله تعالى على ذلك وبين لهم الطريق الذي إذا نظروا فيه علموا صحته، فقال " أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها " ومعناه أفلم يفكروا في بناء هذه السماء وعظمها، وحسن تزيينها فيعلموا أن لها بانيا بناها وصانعا صنعها وانه لابد أن يكون قادرا عليها، وانه لا يعجزه شئ، لانه لا يقدر على مثل ذلك إلا القادر لنفسه الذي لا يجوز عليه العجز ويعلمه، لانه عالم بما يرون من إحكام الصنعة فيها وانه الذي لا يخفى عليه خافيه وقوله " وزيناها " يعني حسنا صورتها بما خلقنا فيها من النجوم الثاقبة والشمس والقمر، وانه " مالها من فروج " أي ليس فيها فتوق يمكن السلوك فيها وإنما يسلكها الملائكة بأن يفتح لها أبواب السماء إذا عرجت اليها.

ثم قال " والارض مددناها " أي بسطناها، وتقديره ومددنا الارض مددناها، كما قال " والقمر قدرناه " (1) فيمن نصب ولو رفع كان جائزا، والنصب أحسن - ههنا - لكونه معطوفا على بنيناها، فعطف الفعل على الفعل احسن.

ثم قال " والقينا فيها رواسي " أي طرحنا جبالا تمنعها من الحركة ليتمكن استقرار الحيوان عليها " وانبتنا فيها من كل زوج بهيج " قال ابن زيد: البهيج الحسن المنظر والبهجة الحسن الذي له روعة عند الرؤية، كالزهرة والاشجار الملتفة

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 36 يس آية 39 (*)

 

===============

(360)

والرياض الخضرة في الانواع المتشاكلة والمباري المصطفة خلالها الانهار الجارية.

وقوله " تبصرة وذكرى لكل عبد منيب " أي فعلنا ذلك وخلقناه على ما وصفناه ليتبصر به ويتفكر به كل مكلف كامل العقل يريد الرجوع إلى الله والانابة اليه.

ثم قال " ونزلنا من السماء ماء مباركا " يعني مطرا وغيثا " فانبتنا به " بذلك الماء " جنات " أي بساتين فيها أشجار تجنها " وحب الحصيد " يعني البر والشعير، وكل ما يحصد - في قول قتادة - لان من شأنه ان يحصد، والحب هو الحصيد، وإنما أضافه إلى نفسه، كما قال " لحق اليقين " (1) وكما قالوا: مسجد الجامع وغير ذلك. وقوله " والنخل " عطف على (جنات) فلذلك نصبه و " باسقات " أي عاليات يقال: بسقت النخلة بسوقا قال ابن نوفل لابن هبيرة:

يابن الذين بفضلهم * بسقت على قيس فزاره (2)

وقال ابن عباس " باسقات " طوال النخل، وبه قال مجاهد وقتادة " لها طلع نضيد " أي لهذه النخل التي وصفها بالعلو " طلع نضيد " نضد بعضه على بعض - في قول مجاهد وقتادة - وقوله " رزقا للعباد " أي خلقنا ما ذكرنا من حب الحصيد والطلع النضيد رزقا للعباد وغذاء لهم، وهو نصب على المصدر أي رزقناهم رزقا، ويجوز أن يكون مفعولا له أي لرزق العباد والرزق هو ما للحي الانتفاع به على وجه ليس لغيره منعه منه، والحرام ليس برزق، لان الله تعالى منع منه بالنهي والحظر وكل رزق فهو من الله تعالى إما بأن يفعله او يفعل سببه، لانه مما يريده. وقد يرزق الواحد منا غيره، كما يقال: رزق السلطان الجند.

وقوله " واحيينا به بلدة ميتا " أي احيينا بذلك الماء الذي انزلنا من السماء

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 69 الحاقة آية 51 (2) تفسير الطبرى 26 / 87 (*)

 

===============

(361)

بلدة ميتا أي جدبا قحطا، لا تنبت شيئا، فأنبتت وعاشت ثم قال " كذلك الخروج " أي مثل ما أحيينا هذه الارض الميتة بالماء، مثل ذلك نحيي الموتى يوم القيامة فيخرجون من قبورهم لان من قدر على أحدهما قدر على الآخر، وإنما دخلت على القوم شبهة من حيث انهم رأوا العادة جارية باحياء الارض الموات بنزول المطر عليها، ولم يروا إحياء الاموات، فظنوا انه يخالف ذلك، ولو انعموا النظر لعلموا ان القادر على احدهما قادر على الآخر.

قوله تعالى:

(كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود (12)

وعاد وفرعون وإخوان لوط (13) وأصحاب الايكة وقوم اتبع كل كذب الرسل فحق وعيد (14) أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد) (15) أربع آيات.

يقول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) تسلية له عن كفر قومه وتركهم الايمان به مهددا لكفار قومه أنه كما كذبوك يا محمد هؤلاء وجحدوا نبوتك مثل ذلك كذب قبلهم من الامم الماضية قوم نوح فأهلكهم الله واغرقهم واصحاب الرس وهم اصحاب البئر الذين قتلوا نبيهم ورسوه فيها - في قول عكرمة - وقال الضحاك: الرس بئر قتل فيها صاحب ياسين. وقيل: الرس بئر لم يطو بحجر ولا غيره. قال الجعدي:

تنابلة يحفرون الرساسا (1)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر في 7 / 490 (ج 9 م 46 من التبيان)

(*)

 

===============

(362)

و " ثمود " هم قوم صالح حيث كذبوه ونحروا ناقة الله التي اخرجها آية له من الجبل " وعاد " وهم قوم هود، فكذبوه فأهلكهم الله " وفرعون واخوان لوط " أي كذب فرعون موسى، وقوم لوط لوطا، وسماهم اخوته لكونهم من نسبه " واصحاب الايكة " وهم قوم شعيب، والايكة الغيظة " وقوم تبع " روي في الحديث لا تلعنوا تبعا، فانه كان اسلم، وإنما ذم الله قومه.

ثم اخبر تعالى عنهم كلهم فقال " كل كذب الرسل " المبعوثة اليهم، وجحدوا نبوتهم " فحق وعيد " فاستحقوا بما وعدهم به من العقاب، فاذا كانت منازل الامم الخيالية إذا كذبوا الرسل الهلاك والدمار، وأنتم معاشر الكفار قد سلكتم مسلكهم في التكذيب فحالكم كحالهم في استحقاق مثل ذلك.

ثم قال الله تعالى على وجه الانكار عليهم، بلفظ الاستفهام " أفعيينا بالخلق الاول " قال الحسن الخلق الاول آدم وقد يكون ذلك المراد لاقرارهم به وأنهم ولده يقال: عييت بالامر إذا لم يعرف وجهه واعييت إذا تعبت، وكل ذلك من التعب في الطلب. والمعنى إنا كما لم نعي بالخلق الاول لا نعيا بخلقهم على وجه الاعادة، والعي عجز بانقلاب المعنى على النفس، ثم قال " بل هم في لبس من خلق " فاللبس منع من إدراك المعنى بما هو كالستر له " من خلق جديد " وهو القريب الانشاء، يقال: بناء جديد وثوب جديد، وخلق جديد وأصله القريب العهد، بالقطع للبس لانه من جددته أجده جدا إذا قطعته فهو كفرت العهد بالقطع للبس.

قوله تعالى:

(ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين

 

===============

(363)

وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18) وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد) (20) خمس آيات.

يقول الله تعالى مقسما إنه خلق الانسان أي اخترعه وانشأه مقدرا. والخلق الفعل الواقع على تقدير وترتيب. والمعنى إنه يوجده على ما تقتضيه الحكمة من غير زيادة ولا نقصان. وأخبر انه يعلم ما يوسوس به صدر الانسان. فالوسوسة حديث النفس بالشئ في خفى، ومنه قوله " فوسوس اليه الشيطان " (1) ومنه الواسوس كثرة حديث النفس بالشئ من غير تحصيل قال رؤبة:

وسوس يدعو مخلصا رب الفلق (2)

ثم اخبر تعالى انه اقرب إلى الانسان من حبل الوريد. قال ابن عباس ومجاهد: الوريد عرق في الحلق وهما وريدان في العنق: من عن يمين وشمال، وكأنه العرق الذي يرد اليه ما ينصب من الرأس، فسبحان الله الخلاق العليم الذي احسن الخلق والتدبير، وجعل حبل الوريد العاتق، وهو يتصل من الحلق إلى العاتق هذا العرق الممتد للانسان من ناحيتي حلقه إلى عاتقه، وهو الموضع الذي يقع الرداء عليه لانه يطلق الرداء من موضعه. قال رؤبة:

كان وريديه رشاخلب أي ليف. وقال الحسن: الوريد الوتين: وهو عرق معلق به القلب، فالله تعالى أقرب إلى المرء من قلبه. وقيل: المعنى ونحن أقرب اليه ممن كان بمنزلة حبل

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 20 طه آية 120 (2) مرفي 4 / 397 (*)

 

===============

(364)

الوريد في القرب في أني أعلم به. وقيل: معناه اقرب اليه بما يدركه من حبل الوريد لو كان مدركا. وقيل: ونحن أملك به من حبل الوريد في الاستيلاء عليه، وذلك أن حبل الوريد في حيز غير حيزه. والله تعالى مدرك له بنفسه ومالك له بنفسه.

وقوله " إذ يتلقى المتلقيان " (إذ) متعلقة بقوله " ونحن اقرب اليه " حين يتلقى المتلقيان، يعني الملكين الموكلين بالانسان " عن اليمين وعن الشمال قعيد " أي عن يمينه وعن شماله. وإنما وحد " قعيد " لاحد وجهين:

احدهما - إنه حذف من الاول لدلالة الثاني عليه، كما قال الشاعر:

نحن بما عندنا وانت بما * عندك راض والرأى مختلف (1)

أي نحن بما عندنا راضون، فتقدير الآية عن اليمين قعيد، وعن الشماء قعيد الثاني - إنه يكون القعيد على لفظ الواحد، ويصلح للاثنين والجمع كالرسول لانه من صفات المبالغة، وفيه معنى المصدر، كأنه قيل: ذو المراقبة. وقال مجاهد:

القعيد الرصيد. وقيل: عن اليمين ملك يكتب الحسنات، وعن الشمال ملك يكتب السيئات - في قول الحسن ومجاهد - وقال الحسن: حتى إذا مات طويت صحيفة عمله وقيل له يوم القيامة " إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " (2) فقد عدل - والله - عليه من جعله حسيب نفسه. وقال الحسن: الحفظة أربعة: ملكان بالنهار وملكان بالليل.

وقوله " ما يلفظ من قول الالديه رقيب عتيد " أي لا يتكلم بشئ من القول إلا وعنده حافظ يحفظ عليه، فالرقيب الحافظ والعتيد المعد المزوم الامر.

وقوله " وجاءت سكرة الموت بالحق " قيل في معناه قولان:

احدهما - جاءت السكرة بالحق من أمر الآخرة حتى عرفه صاحبه واضطر اليه

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر في 1 / 172، 203، 263 و 5 / 246، 289 و 8 / 457 (2) سورة 17 الاسرى آية 14 (*)

 

===============

(365)

والآخر - وجاءت سكرة الموت بالحق الذي هو الموت. وروي ان أبا بكروابن مسعود كانا يقرآن " وجاءت سكرة الحق بالموت " وهي قراءة اهل البيت (عليهم السلام) و (سكرة الموت) غمرة الموت التي تأخذه عند نزع روحه فيصير بمنزلة السكران.

وقوله " ذلك ما كنت منه تحيد " أي يقال له عند ذلك هذا الذى كنت منه تعرب وتروغ. وقوله " ونفخ في الصور " قيل فيه وجهان:

احدهما - إنه جمع صورة ينفخ الله في الصور بأن يحييها يوم القيامة.

الثاني - ان الصور قرن ينفخ اسرافيل فيه النفخة الاولى فيموت الخلق، والنفخة الثانية فيحيون يوم القيامة، وهو يوم الوعيد الذي وعد الله أن يعاقب فيه من يكفر به ويعصى أمره، ويثيب من يؤمن به ويمتثل.

قوله تعالى:

وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22)

وقال قرينه هذا ما لدي عتيد (23) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24) مناع للخير معتد مريب) (25) خمس آيات.

يقول الله تعالى إن يوم الوعيد الذي بينه تجئ كل نفس من المكلفين " معها سائق " يسوقها " وشهيد " يشهد عليها، وهما ملكان احدهما يسوقه ويحثه على السير، والآخر يشهد عليه بما يعلمه من حاله ويشاهده منه وكتبه عليه، فهو يشهد بذلك على مابينه الله ودبره.

 

===============

(366)

وقوله " لقد كنت في غفلة " أي يقال له " لقد كنت في غفلة " أي في سهو ونسيان " من هذا " اليوم، فالغفلة ذهاب المعنى عن النفس، وضده اليقظة.

وقوله " فكشفنا عنك غطاءك " أي أزلنا الغطاء عنك حتى ظهر لك الامر، وإنما تظهر الامور في الآخرة بما يخلق الله فيهم من العلوم الضرورية، فيصير بمنزلة كشف الغطاء عما يرى، والمراد به جميع المكلفين: برهم وفاجرهم، لان معارب الجميع ضرورية، وقوله " فبصرك اليوم جديد " معناه إن عينك حادة النظر لا يدخل عليها شك ولا شبهة. وقيل: المعنى فعلمك بما كنت فيه من أحوال الدنيا نافذ ليس يراد به بصر العين، كما يقال: فلان بصير بالنحو أو بالفقه. وقال الرماني:

حديد مشتق من الحد، ومعناه منيع من الادخال في الشئ ما ليس منه والاخراج عنه ما هو منه، وذلك في صفة رؤيته للاشياء في الآخرة، وقوله " وقال قرينه " قال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني الملك الشهيد عليه. وقال بعضهم: قرينه من الشياطين. والاول الوجه " هذا مالدي عتيد " أي معد محفوظ " ألقيا في جهنم كل كفار عنيد " إنما قيل: ألقيا، لان المأمور به إلقاا كل كافر في النار إثنان من الملائكة. وقيل: يجوز ان يكون على لفظ الاثنين والمأمور واحد، لانه بمنزلة إلقاء اثنين في شدته، كما قال الشاعر:

فان تزجراني يابن عفان انزجر * وإن تدعاني احم عرضا ممنعا (1)

والاول اظهر، وحكى الزجاج عن بعض النحويين: ان العرب تأمر الواحد بلفظ الاثنين تقول: قوما، واقعدا، قال الحجاج: (يا حرسي إضربا عنقه)

وإنما قالوا ذلك، لان اكثر ما يتكلم به العرب فيمن تأمر به بلفظ الاثنين نحو، خليلي مرابى على أم جندب (2)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير القرطبي 17 / 16 (2) قائله امرؤ القيس ديوانمه 27 القصيدة 2 (*)

 

===============

(367)

وقوله: قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل (1)

وقال المبرد هذا فعل مبني للتأكيد، كأنه قال: ألق ألق، والعنيد الذاهب عن الحق وسبيل الرشد " مناع للخير " الذي أمر الله به من بذل المال في وجوهه من الزكاة وغيرها، لانه صفة ذم تعم منع الخير الذي يجب بذله. ويدخل فيه الاول على وجهه التبع " معتد " أي متجاوز للحق في قوله وفعله (مريب) أي آت من المنكر بما يشكك في أمره.

قوله تعالى:

(ألذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد (26) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد (27) قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد (28)

ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (29) يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد) (30) خمس آيات.

قرأ نافع وابوبكر عن عاصم (يوم يقول) بالياء بمعنى يقول الله تعالى (لجهنم) الباقون بالنون على وجه الاخبار من الله عن نفسه و (يوم) متعلق بقوله (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) وقيل: إنه متعلق بمحذوف بتقدير (إذكر) يا محمد يوم، وقوله (الذي جعل) موضعه الجر، لانه من صفة (كفار عنيد مناع للخير معتد مريب.. الذى جعل مع الله إلها آخر) أى اتخذ مع الله معبودا آخر من الاصنام والاوثان، ووجه قرباته اليه. والجعل تكوين الشئ على

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قائله امرؤ القيس ديوانه 43، قصيدة 53 (*)

 

===============

(368)

غير ما كان بقادر عليه فمن جعل مع الله إله آخر فقد صير ذلك الشئ على غير ما كان عليه باعتقاده انه إله آخر مع الله وذلك جعل منه عظيم وذهاب عن الصواب بعيد، فيقول الله للملكين الموكلين به يوم القيامة (ألقياه) أى الرحاه (في العذاب الشديد) والالقاء الرمي بالشئ إلى جهة السفل، وقولهم: ألقي عليه مسألة بمعنى طرحها عليه مشبه بذلك. واصل إللقاء المماسة، والالتقاء من هذا ففي الالقاء طلب مماسة الشئ الارض بالرمي (قال قرينه ربنا ما اطغيته) قال ابن عباس: قرينه - ههنا - شيطانه. وبه قال مجاهد وقتادة والضحاك. وسمي قرينه لانه يقرن به في العذاب، وهو غير قرينه الذى معه يشهد عليه، والقرين نظير الشئ من جهة مصيره بازائه.

حكى الله عن شيطانه الذي أغواه انه يقول " ماأطغيته " فالاطغاء الاخراج إلى الطغيان، وهو تجاوز الحد في الفساد أطغاء وطغى يطغى طغيانا، فهو طاغ.

والاول مطغى. وقال الحسن: ما اطغيته باستكراه، وهو من دعاه إلى الطغيان.

والمعنى لم أجعله طاغيا " ولكن كان " هو بسوء اختياره " في ضلال " عن الايمان " بعيد " عن إتباعه. ومثله قوله " وما كان لي عليكم من سلطان إلا ان دعوتكم فاستجبتم لي " (1) فيقول الله تعالى لهم " لا تختصموا لدي " أي لا يخاصم بعضكم بعضا عندي (وقد قدمت اليكم بالوعيد) في دار التكيف، فلم تنزجروا وخالفتم امري (ما يبدل القول لدي) معناه إن الذي قدمته اليكم في الدنيا من أني أعاقب من جحدني وكذب برسلي وخالفتي في أمري لا يبدل بغيره، ولا يكون خلافه (وما أنا بظلام للعبيد) أي لست بظالم لاحد في عقابي لمن استحقه بل هو الظلام لنفسه بارتكاب المعاصي التي استحق بها ذلك. وإنما قال: بظلام للعبيد على وجه المبالغة ردا لقول من أضاف جميع الظلم اليه - تعالى الله عن ذلك -.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 14 ابراهيم آية 22 (*)

 

===============

(369)

وقوله (يوم نقول لجهنم) من قرأ بالنون فعلى وجه الاخبار من الله عن نفسه. ومن قرأ - بالياء - وهو نافع وابوبكر، فعلى تقدير يقول الله لجهنم (هل امتلات) من كثرة من ألقي فيك من العصاة (فتقول) جهنم (هل من مزيد)

أي ما من مزيد؟ أي ليس يسعني اكثر من ذلك. وقال قوم: هذا خطاب من الله لخزنة جهنم على وجه التقريع والتقرير لهم هل امتلات جهنم، فتقول الخزنة هل من مزيد؟ وقال قوم: وهو الاظهر إن الكلام خرج مخرج المثل أي ان جهنم من سعتها وعظمها في ما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة التي إذا قيل لها هل امتلات فتقول هل من مزيد أي لم امتلئ اي في سعه كثرة، ومثله قول الشاعر:

امتلا الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملات بطني (1)

والحوض لم يقل شيئا، وإنما أخبر عن امتلائها وانها لو كانت ممن تنطق لقالت قطني مهلا رويدا قد ملات بطني. وكذلك القول في الآية. وقال الحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء: معنى هل من مزيد ما من مزيد، وانه بمعنى لا مزيد وانكروا أن يكون طلبا للزيادة، لقوله (لاملان جهنم من الجنة والناس اجمعين) (2) وقال بعضهم: هذا ليس بمنكر من وجهين:

احدهما - أن يكون ذلك حكاية عن الحال التي قبل دخول جميع اهل النار فيها ولم تمتلا بعد وان امتلات في ما بعد.

والآخر - ان يكون طلب الزيادة بشرط ان يزاد في سعتها. وقال قوم:

هل من مزيد بمنزلة قول النبي (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة وقد قيل له ألا تنزل دارك، فقال (وهل ترك لنا عقيل من ربع) لانه كل قد باع دور بني هاشم لما خرجوا

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر في 1 / 431 و 8 / 85، 369، 471 (2) سورة (11) هود آية 119 (ج 9 م 47 من التبيان)

(*)

 

===============

(370)

إلى المدينة، وإنما أراد ان يقول: لم يترك لنا دارا. وقال انس بن مالك: هل من مزيد طلبا للزيادة. وقال مجاهد: هو بمعنى الكفاية.

قوله تعالى:

(وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (34) لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد) (35) خمس آيات.

لما حكى الله تعالى ما أعده للكافرين والعصاة من جهنم وعظم موضعها وسعتها أخبر عما اعده للمتقين المجتنبين لمعاصيه الفاغلين لطاعاته فقال (وأزلفت الجنة للمتقين) والازلاف التقريب إلى الخير، ومنه الزلفة، والزلفى. ويقولون:

أزدلف اليه أي اقترب والمزدلفة قريب من الموقف. وهو المشعر وجمع، ومنه قول الراجز:

ناج طواه الاين مما وجفا * طي الليالي زلفا فزلفا سماؤه الهلال حتى احقوقفا (1)

والجنة التي وعد الله المتقين بها هي البستان الذي يجمع من اللذة ارفع كل نوع في الزينة من الابنية الفاخرة بالياقوت والزمرد وفاخر الجوهر، ومن الانهار والاشجار وطيب الثمار ومن الازواج الكرام والحور الحسان وكريم الخدم من الولدان الذين هم زينة لكل ناظر ومتعة لكل مبصر، قد أمن اهلها العلة وانواع

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مر في 6 / 79 و 8 / 29 (*)

 

===============

(371)

الاذى من فضول الاطعمة والاشربة، نسال الله حسن الاستعداد لها بالعمل الصالح المقرب منها الموجب لرضوان مالكها.

وقوله (غير بعيد) أي ليس ببعيد مجئ ذلك، لان كل آت قريب، ولذلك قال الحسن: كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل.

ثم قال (هذا ما توعدون) من قرأ بالتاء فعلى الخطاب أي هذا الذي ذكرناه هو ما وعدتم به من الثواب (لكل أواب) أي رجاع إلى الله تائب اليه (حفيظ) لما أمر الله به يتحفظ من الخروج إلى مالا يجوز من سيئة تدنسه او خطيئة تحط منه وتشينه. وقال ابن زيد: الاواب التواب، وهو من آب يؤب اوبا إذا رجع.

وقوله (من خشى الرحمن بالغيب) فالخشية انزعاج القلب عند ذكر السيئة وداعي الشهوة حتى يكون في اعظم حال من طلبه سبع يفترسه او عدو يأتي على نفسه او طعام مسموم يدعى إلى اكله هذه خشية الرحمن التي تنفعه والتي دعا اليها ربه ومعنى (بالغيب) أي في باطنه وسريرته (وجاء بقلب منيب) أي راجع إلى الله من اناب ينيب إنابة، وموضع (من) يحتلم وجهين من الاعراب:

احدهما - الجر على البدن من (كل) كأنه قيل لمن خشى.

والثاني - الرفع على الاستئناف كأنه قال (من خشى الرحمن بالغيب) يقال لهم (ادخلوها بسلام) أي بأمان من كل مكروه ويحيون بذلك على وجه الاكرام.

وقوله (ذلك يوم الخلود) أي الوقت الذي يبقون فيه في النعيم مؤبدين لا إلى غاية.

وقوله (لهم ما يشاؤن فيها) أي ما يريدونه ويشتهونه يجعل لهم فيها (ولدينا مزيد) من نعم الله الذي يعطيهم زيادة على مقدار استحقاقهم بعملهم.

 

===============

(372)

قوله تعالى:

(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد (37) ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود) (40) خمس آيات قرأ (وإدبار) بكسر الالف ابن كثير ونافع واهل الحجاز وحمزة على المصدر من أدبر إدبارا، وتقديره وقت إدبار السجود. والمصادر تجعل ظرفا على إرادة اضافة اسماء الزمان اليها وحذفها، كقولهم جئتك مقدم الحاج وخلوق النجم ونحو ذلك يريدون في ذلك كله وقت كذا وكذا فحذفوه. الباقون بفتح الالف على انه جمع (دبر):

يقول الله تعالى مخبرا (وكم أهلكنا) ومعناه وكثيرا أهلكنا وذلك أن (كم) تكون إستفهاما تارة في معنى الخبر للتكثير وإنما خرجت عن الاستفهام إلى التكثير لتكون نقيضة (رب) في التقليل وكانت احق به، لانها (اسم) مع إحتمالها للتقليل، فأما رب في الكلام، فهي حرف يجري مجرى حرف النفي، لان التقليل أقرب إلى النفي، وإنما وجب ل (كم) صدر الكلام في الخبر إعلاما بأنها خرجت عن الاستفهام مع انها نقيضة (رب) التي هي بمنزلة حروف النفي، ودخلت (من) على مفسر (كم) في الخبر بمنزلة عدد يفسر بالمضاف كقولك عشر أثواب، وعشرة من الاثواب. فجاز حرف الاضافة

 

===============

(373)

كما جازت الاضافة، وليس كذلك عشرون درهما، وجاز ان يفسر في الخبر بالواحد وبالجمع: والقرن المقدار من الزمان الذي يقترون بالبقاء فيه أهله على مجرى العادة. وقال قوم: هو مئة وعشرون سنة. وقيل: ثمانون سنة وقال آخرون:

هو سبعون سنة. وقال قوم: أربعون سنة. وقيل ثلاثون سنة. وقيل: عشر سنين " هم اشد منهم بطشا " أى الذين أهلكناهم مثل هؤلاء الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء واكثر عدة كقوم عاد وغيرهم فلم يتعذر علينا ذلك، فما الذي يؤمن هؤلاء من مثل ذلك.

وقوله (فنقبوا في البلاد) أى فتحوا مسالك في البلاد بشدة بطشهم فالتنقيب التفتيح بما يصلح للسلوك من نقض البنية، ومنه النقب الفتح الذى يصلح للمسلك وقد يفتح الله على العباد في الرزق بأن يوسع عليهم في رزقهم، ولا يصلح فيه النقب. وكل نقب فتح. وليس كل فتح نقبا، فالنقب نقض موضع بما يصلح للسلوك. وقال مجاهد: نقبوا في البلاد أى ضربوا في الارض ضرب جاعل المسالك بالنقب، قال امرؤ القيس:

لقد نقبت في الافاق حتى * رضيت من الغنيمة بالآياب (1)

وقوله (هل من محيص) أى هل من محيد، وهو الذهاب في ناحية عن الامر للهرب منه، حاص يحيص حيصا فهو حايص مثل حاد يحيد حيدا فهو حايد والمعنى إن أولئك الكفار الذى وصفهم بشدة البطش لما نزل بهم عذاب الله لم يكن لهم مهرب ولا محيص عنه. وقيل هل من محيد من الموت، ومنجا من الهلاك.

قال الزجاج: هؤلاء الكفار طوفوا في البلاد، فلم يجدوا مخلصا من الموت.

وقوله (إن في ذلك لذكرى) يعني في ما أخبرته وقصصته لك لذكرى أى

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه 48 ومجاز القرآن 2 / 224 الشاهد 836 (*)

 

===============

(374)

ما يتفكر فيه ويعتبر به (لمن كان له قلب) قيل معنى القلب - ههنا - العقل من قولهم اين ذهب قلبك، وفلان ذاهب القلب، وفلان قلبه معه، وإنما قال (لمن كان له قلب) لان من لا يعيي الذكر لا يعتد بماله من القلب.

وقوله (او القى السمع وهو شهيد) قال ابن عباس: معناه استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع، فهو شهيد لما يسمع ويفقهه غير غافل عنه، وهو قول مجاهد والضحاك وسفيان، يقال ألق إلي سمعك أى استمع. وقال قتادة: وهو شهيد على صفة النبي (صلى الله عليه وآله) في الكتب السالفة، وهذا في أهل الكتاب. والاول اظهر.

ثم أقسم الله تعالى فقال (ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام) وقد مضى تفسير مثله في غير موضع (1) (وما مسنا من لغوب) أى من نصب وتعب - في قول ابن عباس ومجاهد - واللغوب الاعياء. قال قتادة: أكذب الله تعالى بذلك اليهود، فانهم قالوا: استراح الله يوم السبت، فهو عندهم يوم الراحة.

وقيل: إنما خلق الله السموات والارض وما بينهما في ستة أيام مع قدرته على ان يخلفهما في وقت، لان في ذلك لطفا للملائكة حين شاهدوه يظهر حالا بعد حال وقيل: لان في الخبر بذلك لطفا للمكلفين في ما بعد إذا تصوروا أن ذلك يوجد شيئا بعد شئ مع أدب النفس به في ترك الاستعجال إذا جرى في فعل الله لضروب من التدبير.

ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله) (فاصبر) يامحمد (على ما يقولون) من قولهم: هو ساحر، وكذاب، ومجنون، واحتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج (وسبح بحمد ربك) أى نزهه عما لا يليق به (قبل طلوع الشمس) صلاة الفجر (وقبل الغروب)

صلاة العصر - في قول قتادة وابن زيد - (ومن الليل) يعني صلاة الليل يدخل

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر 4 / 451 و 5 / 385، 517 و 7 / 500 و 8 / 293 و 9 / 9 1 (*)

 

===============

(375)

فيه صلاة المغرب والعتمة. وقال ابن زيد: هو صلاة العتمة (وأدبار السجود)

الركعتان بعد المغرب - في قول الحسن بن علي (عليهما السلام) ومجاهد والشعبي وابراهيم.

وقال الحسن (وقبل الغروب) صلاة الظهر والعصر. وقال الركعتان بعد المغرب تطوعا. وقيل: التسبيح بعد الصلاة - عن ابن عباس ومجاهد - وقيل: النوافل -

 عن ابن زيد - وأصل التسبيح التنزيه لله عن كل ما لا يجوز في صفة، وسميت الصلاة تسبيحا لما فيها من التسبيح، يقال: سبحان ربي العظيم، وروي ايضا أراد ب (ادبار السجود) الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل طلوع الفجر. وروي في الشواذ عن أبي عمر وأنه قرأ " فنقبوا " بتخفيف القاف، وهي لغة في التشديد. ورجل نقاب أى حاذق فظن عالم كان ابن عباس نقابا، والنقبة الحرب ونقب خف البعير إذا انتقب وقرئ على لفظ الامر وهو شاذ.

قوله تعالى:

(واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج (42) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير (43) يوم تشقق الارض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير (44) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) (45) خمس آيات.

قرأ ابن كثير (يوم تشقق) مشددة الشين على معنى تتشقق وحذف احدى التائين: والتشقق التفطير. يقول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) والمراد به جميع المكلفين (واستمع) أي اصغ إلى النداء وتوقعه (يوم ينادي المنادي) فالنداء الدعاء بطريقة

 

===============

(376)

يا فلان، وكأن الناس يدعون فيقال لهم: يا معشر الناس قوموا إلى الموقف للجزاء والحساب، وقيل: ينادي المنادي من الصخرة التي في بيت المقدس، فلذلك قال (من مكان قريب) فيقول: يا أيها العظام البالية قومي لفصل القضاء وما اعد من الجزاء - في قول قتادة - (من مكان قريب) أي يسمع الخلق كلهم على حد واحد، فلا يخفى على احد لا قريب ولا بعيد وقوله (يوم يسمعون الصيحة بالحق) فالصيحة المرة الواحدة من الصوت الشديد ونقيضها الخدة تقول صاح يصيح صياحا وصيحة، فهو صائح، وتصايح وتصايحوا في الامر تصايحا، وصيح تصييحا وصايحه مصايحة، وهذه الصيحة هي النفخة الثانية للحشر إلى أرض الموقف (ذلك يوم الخروج).

وقوله (إنا نحن نحيي ونميت والينا المصير) اخبار منه تعالى عن نفسه بأنه هو الذي يحيي الخلق بعد ان كانوا جمادا أمواتا. ثم يميتهم بعد أن كانوا أحياء ثم يحييهم يوم القيامة وإلى الله يصيرون ويرجعون يوم القيامة (يوم تشقق الارض عنهم سراعا) أي الينا المصير في اليوم الذي تشقق الارض عن الاموات (سراعا)

أي بسرعة لا تأخير فيها ثم قال (ذلك حشر علينا يسير) أي سهل علينا غير شاق. والحشر الجمع بالسوق من كل جهة.

ثم قال (نحن اعلم بما يقولون) يعني هؤلاء الكفار من حجدهم نبوتك وإنكارهم البعث والنشور، لا يخفى علينا من أمرهم شئ (وما أنت عليهم) يامحمد (بجبار) قال الحسن: ما أنت عليهم برب تجازيهم بأعمالهم. وإنما أنا المجازي لهم. وقيل: وما انت عليهم بفظ في دعائهم إلى توحيدالله وإخلاص عبادته.

والجبار العالي السلطان بأنه قادر على اذلال جميع العصاة بحسب الاستحقاق وهذه الصفة لا تصح إلا لله تعالى وحده، فان وصف بها الانسان كان ذما، لانه جعل

 

===============

(377)

لنفسه من المقدرة ما ليس لها، وانشد الفضل:

عصينا حرمة الجبار حتى * صبحنا الخوف الفا معلمينا (1)

وقيل (وما أنت بجبار) أي لا تتجبر عليهم، قال الفراء: يجوز ان يكون لا يجبرهم على الاسلام يقال: جبرته على الامر واجبرته بمعنى واحد. وقال غيره:

لم يسمع (فعال) من (أفعلت) إلا (دراك) من (أدركت) ويكون الجبار العالي السلطان على كل سلطان باستحقاق، ويكون العالي السلطان بادعاء. ا ثم قال (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) إنما خص بالتذكير من يخاف وعيد الله، لانه الذي ينتفع به وإن كان تذكيره متوجها إلى جميع المكلفين. قال الزجاج:

إنما قال الله للنبي (صلى الله عليه وآله) ذلك قبل ان يأمره بالقتال.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الطبرى 26 / 103 (ج 9 م 48 من التبيان)

(*)

 

===============

(378)

51 - سورة الذاريات مكية بلا خلاف. وهي ستون آية بلا خلاف.

بسم الله الرحمن الرحيم (والذاريات ذروا (1) فالحاملات وقرا (2) فالجاريات يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4) إنما توعدون لصادق (5) وإن الدين لواقع (6) والمساء ذات الحبك (7) إنكم لفي قول مختلف (8) يؤفك عنه من أفك (9) قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة ساهون (11) يسئلون أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون) (14) أربع عشر آية.

روى عن أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وابن عباس (رحمة الله عليه) ومجاهد ان (الذاريات) الرياح يقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا، وهي ذارية إذا طيرته وأذرت تذري إذراء بمعنى واحد وسأل ابن الكوا أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يخطب على المنبر (ما الذاريات ذروا) قال: الرياح، قال ما

 

===============

(379)

(الحاملات وقرا) فقال السحاب. فقال ما (الجاريات يسرا) قال السفن.

والمعنى إنها تجري سهلا، فقال ما (المقسمات أمرا) قال الملائكة. وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن، وهذا قسم من الله تعالى بهذه الاشياء. وقال قوم: التقدير القسم برب هذه الاشياء لانه لا يجوز القسم إلا بالله. وقد روي عن أبي جعفر وابي عبدالله (عليهما السلام) أنه لا يجوز القسم إلا بالله. والله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه.

وقيل: الوجه في القسم بالذاريات تعظيم ما فيها من العبرة في هبوبها تارة وسكونها اخرى، وذلك يقتضي مسكنا لها ومحركا لا يشبه الاجسام، وفي مجيئها وقت الحاجة لتنشئة السحاب وتذرية الطعام ما يقتضي مصرفا لها قادرا عليها، وما في عصوفها تارة ولينها أخرى ما يقتضي قاهرا لها ولكل شئ سواها.

والوجه في القسم بالحاملات وقرا، ما فيه من الآيات الدلالة على محمل حملها الماء وأمسكه من غير عماد واغاث بمطره العباد واحيي البلاد وصرفه في وقت الغنى عنه بما لو دام لصاروا إلى الهلاك، ولو انقطع اصلا، لا ضربهم جميعا. والوجه في القسم بالجاريات يسرا ما فيها من الدلائل وبتسخير البحر الملح والعذب بجريانها وتقدير الريح لها بمالو زاد لغرق ولو ركد لاهلك، وبما في هداية النفوس إلى تدبير مصالحها وما في عظم النفع بها في ما ينقل من بلد إلى بلد بها.

والوجه في القسم بالملائكة ما فيها من اللطف وعظم الفائدة وجلالة المنزلة بتقسيم الامور بأمرالله تعالى من دفع الآفة عن ذا واسلام ذاك ومن كتب حسنات ذا وسيئات ذاك، ومن قبض روح ذا وتأخير ذاك. ومن الدعاء للمؤمنين ولعن الكافرين، ومن استدعائهم إلى طريق الهدى وطلب ما هو أولى بصد داعي الشيطان والهوى عدو الانسان.

 

===============

(380)

وقوله (إن ما توعدون لصادق) جواب القسم. ومعناه إن الذي وعدتم به من الثواب والعقاب والجنة والنار وعد صدق لابد من كونه (وإن الدين لواقع)

معناه إن الجزاء لكائن يوم القيامة، وهذا يفيد ان من استحق عقابا، فانه يجازى به ويدخل في ذلك كل مستحق للعقاب، كأنه قال: إن جميع الجزاء واقع بأهله يوم القيامة في الآخرة. ثم استأنف قسما آخر فقال (والسماء ذات الحبك)

فالحبك الطرائق التي تجري على الشئ كالطرائق التي ترى في السماء. وترى في الماء الصافي إذا مرت عليه الريح، وهو تكسر جار فيه. ويقال للشعر الجعد حبك والوحد حبيك وحبيكة، والحبك أثر الصنعة في الشئ واستوائه، حبكه يحبكه ويحبكه حبكا " والسماء ذات الحبك " أي ذات حسن الطرائق، وحبك الماء طرائقه قال زهير:

مكلل باصول النجم تنسجه * ريح خريق لصافي مائه حبك (1)

وتحبكت المرأة بنطاقها إذا شدته في وسطها، وذلك زينة لها، وحبك السيف إذا قطع اللحم دون العظم وقال الحسن وسعيد بن جبير: ذات الحبك ذات الزينة بالنجوم والصنعة وللطرائق الحسنة. وقيل: الحبك النسج الحسن، يقال:

ثوب محبوك. وقوله (إنكم لفي قول مختلف) معناه إنكم في الحق لفي قول مختلف، لا يصح إلا واحد منه، وهو أمر النبي (صلى الله عليه وآله) وما دعا اليه، وهو تكذيب فريق به وتصديق فريق. ودليل الحق ظاهر، وفائدته أن احد الفريقين في هذا الاختلاف مبطل، لانه اختلاف تناقض فاطلبوا الحق منه بدليله وإلا هلكتم. وقوله (يؤفك عنه من أفك) معناه يصرف عنه من صرف، ومنه قوله (أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا) (2) أي لتصرفنا، وتصدنا. وإنما قيل (يؤفك) عن الحق

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ديوانه 176 ومجاز القرآن 2 / 225 والقرطبي 17 / 32 (2) سورة 46 الاحقاف آية 22 (*)

 

===============

(381)

لانه يمكن فيه ذلك من غيره، ولا يمكن من نفسه، لان الحق يدعو إلى نفسه ولا يصرف عنها إلى خلافه.

وقوله ((قتل الخراصون) معناه لعن الكذابون، ومثله (قتل الانسان ما اكفره) (1) والخراص الكذاب. وأصله الخرص وهو القطع من قولهم: خرص فلان كلامه واخترصه إذا افتراه، لانه اقتطعه من غير أصل. والخرص جريد يشقق ويتخذ منه الحصر قال الشاعر:

ترى قصد المران فيهم كأنه * تذرع خرصان بأيدي شواطب (2)

والخرص حلقة القرط المنقطعة عن ملاصقة الاذن، والخريص الخليج من من البحر، والخرص الخرز من العدد والكيل، ومنه خارص النخل، وهو خارزه وجمعه خراص. وقوله (الذين هم في غمرة ساهون) صفة للخراصين وموضعه رفع وتقديره في غمرة ساهون عن الحق كقوله (طبع الله على قلوبهم) (3) والغمرة المرة من علو الشئ على ما هو فائض فيه، غمره الماء يغمره غمرا وغمرة، فهو غامر له، والانسان مغمور، ويقال: غمره الشغل وغمره الموت وغمره الحياء وغمره الجهل وأصل الغمرة من الغمر وهو السيد الكثير العطاء، لانه يغمر بعطائه، والغمر الفرس الكثير الجري، لانه يغمر بحريه، والغمر الذي لم يجرب الامور والغمر الحقد والغمرة رائحة الزهومة في اليد، وغمار الناس مجتمعهم، وغمرة المرأة ما تطلى به من الطيب وغيره مما يحسن اللون. والغمر القدح الصغير، والغمر النبت الصغار، لانه تغمره الكبار والمعنى ان هؤلاء الكفار لجهلهم بما يجب عليهم معرفته ساهون عما يلزمهم العلم به أي غافلون عن الحق متعامون عنه (يسألون أيان يوم الدين) يعني يسأل

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 80 عبس آية 7 (2) مر في 4 / 269 مع اختلاف يسير (3) سورة 9 التوبة آية 94 وسورة 16 النحل آية 108 وسورة 47 محمد آية 16 (*)

 

===============

(382)

هؤلاء الكفار الذين وصفهم بالجهل والغمرة: متى يوم الجزاء؟ ! على وجه الانكار لذلك لا على وجه الاستفادة لمعرفته، فاجيبوا بما يسوءهم من الحق الذي لا محالة انه نازل بهم فقيل (يوم هم على النار يفتنون) أي يحرقون بالنار ويعذبون فيها وأصل الفتنة تخليص الذهب باحراق الغش الذى فيه، فهؤلاء يفتنون بالاحراق كما يفتن الذهب. ومنه قوله (وفتناك فتونا) (1) أى أخلصناك للحق، ورجل مفتون بالمرءة أى مخلص بحبها، وهي صفة ذم، (وفتناهم) أى اختبرناهم بما يطلب به خلاصهم للحق. وقيل: يفتنون أى يحرقون، كما يفتن الذهب في النار - في قول مجاهد والضحاك - وقوله (يوم هم) يصلح أن يكون في موضع رفع، لانك أضفته إلى شيئين، ويصلح فيه النصب على الظرف والبناء، وكله على جواب (أيان)

وقوله (ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون) معناه انه يقال للكفار الذين يعذبون بها هذا الذي كنتم به تستعجلون في دار التكليف إستبعادا له، فقد حصلتم الآن فيه وعرفتم صحته.

قوله تعالى:

(إن المتقين في جنات وعيون (15) آخذين ما آتيهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالاسحار هم يستغفرون (18) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (19) وفي الارض إيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21) وفي السماء رزقكم وما توعدون (22)

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 20 طه آية 40 (*)

 

===============

(383)

فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) (23) تسع آيات.

قرأ حمزة والكسائي وابوبكر عن عاصم (لحق مثل) بالرفع على أنه صفة للحق الباقون بالنصب، ويحتمل نصبه وجهين:

أحدهما - قول الجرمي أن يكون نصبا على الحال، كأنه قيل: حق مشبها لنطقكم في الثبوت.

الثاني - قال المازني إن (مثل) مبني، لانه مبهم أضيف إلى مبني، كما قال الشاعر:

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت * حمامة في غصون ذات او قال (1)

وقال: فجعل (مثل) مع (ما) كالامر الواحد، كما قال (لاريب فيه) (2)

وقولهم: خمسة عشر، فيكون على هذا (ما) زائدة وأضاف (مثل) إلى (إنكم تنطقون) فبناه على الفتح حين أضافه إلى المبني، ولو كان مضافا إلى معرب لم يجز البناء نحو: مثل زيد. وقيل: يجوز أن يكون نصبا على المصدر، وكأنه قال إنه لحق حقا كنطقكم.

لما حكى الله تعالى حكم الكفار وما أعده لهم انواع العذاب، أخبر بما أعده للمؤمنين المطيعين الذين يتقون معاصي الله خوفا من عقابه، ويفعلون ما أوجبه عليهم فقال (إن المتقين في جنات وعيون) أي في بساتين تجنها الاشجار (وعيون) ماء تجري لهم في جنة الخلد، فهؤلاء ينعمون وأولئك يعذبون (آخذين ما آتاهم ربهم)

من كرامته وثوابه بمعنى آخذين ما أعطاهم الله من ذلك ونصب (آخذين) على الحال (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) يفعلون الطاعات وينعمون على غيرهم

ـــــــــــــــــــــ

(1) مر في 4 / 479 (2) سورة 2 البقرة آية 1 (*)

 

===============

(384)

بضروب الاحسان، ثم وصفهم فقال (كانوا) يعني المتقين الذين وعدهم بالجنات (قليلا من الليل ما يهجعون) في دار التكليف أي كان هجوعهم قليلا - في قول الزهري وإبراهيم - وقال الحسن: (ما) صلة وتقديره كانوا قليلا يهجعون، وقال قتادة: لا ينامون عن العتمة ينتظرونها لوقتها، كأنه قيل هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة والعبادة. وقال الضحاك: تقديره كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا، ثم ابتدأ فقال (من الليل ما يهجعون) وتكون (ما) بمعنى النفي والمعنى إنهم كانوا يحيوون الليل بالقيام في الصلاة وقراءة القرآن وغير ذلك. ولا يجوز ان تكون (ما) جحدا لانه لا يقدم عليها معمولها. والهجوع النوم - في قول قتادة وابن عباس وإبراهيم والضحاك (وبالاسحارهم يستغفرون) أي يطلبون من الله المغفرة والستر لذنوبهم في قول الحسن وابن زيد - وقال مجاهد: معناه يصلون في السحر.

وقوله (وفي أموالهم حق) وهو ما يلزمهم لزوم الديون من الزكوات وغير ذلك أو ما التزموه من مكارم الاخلاق، فهو الذي رغب الله فيه بقوله (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) فالسائل هو الذي يسأل الناس، والمحروم هو المحارف - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك - وقال قتادة والزهري: المحروم هو المتعفف الذي لا يسأل. وقال إبراهيم: المحروم الذي لا سهم له في الغنيمة. وقيل: المحروم الممنوع الرزق بترك السؤال أو إذهاب مال او سقوط سهم او خراب ضيعة إذا صار فقيرا من هذه الجهة. وقال الشعبي: اعياني أن أعلم ما المحروم. وفرق قوم بين الفقير والمحروم بأنه قد يحرمه الناس بترك الاعطاء، وقد يحرم نفسه بترك السؤال، فاذا سأل لا يكون ممن حرم نفسه بترك السؤال، وإنما حرمه الغير، وإذا لم يسأل فقد حرم نفسه وحرمه الناس.

وقوله (وفى الارض آيات) أي دلالات واضحات وحجج نيرات (للموقنين)

 

===============

(385)

الذين يتحققون بتوحيد الله، وإنما أضافها إلى الموقنين، لانهم الذين نظروا فيها وحصل لهم العلم بموجبها وآيات الارض جبالها ونباتها ومعادنها وبحارها، ووقوفها بلا عمد لتصرف الخلق عليها.

وقوله (وفى أنفسكم أفلا تبصرون) معناه وفى أنفسكم أفلا تتفكرون بأن تروها مصرفة من حال إلى حال ومنتقلة من صفة إلى أخرى، فكنتم نطفا فصرتم أحياء ثم كنتم أطفالا فصرتم شبابا، ثم صرتم كهولا وكنتم ضعفاء فصرتم أقوياء، فهلا دلكم ذلك على ان لها صانعا صنعها ومدبرا دبرها يصرفها على ما تقتضيه الحكمة ويدبرها بحسب ما توجبه المصلحة. وقيل: المعنى أفلا تبصرون بقلوبكم نظر من كأنه يرى الحق بعينه.

وقوله (وفي السماء رزقكم) ينزله الله اليكم بأن يرسل عليكم الغيث والمطر فيخرج به من الارض أنواع ما تقتاتونه وتلبسونه وتنتفعون به (وما توعدون) به من العذاب ينزله الله عليكم إذا استحققتموه، وقال الضحاك: وفي السماء رزقكم يعني المطر الذي هو سبب كل خير وهو من الرزق الذي قسمه الله وكتبه للعبد في السماء. وقال مجاهد: وما توعدون يعني من خير او شر، وقيل وما توعدون الجنة، لانها في السماء الرابعة.

ثم قال تعالى (فو رب السماء والارض) قسما منه تعالى (إنه لحق) ومعناه إن ما وعدتكم به من الثواب والعقاب والجنة والنار لابد من كونه " مثل ما تنطقون " أي مثل نطقكم الذي تنطقون به فكما لا تشكون في ما تنطقون، فكذلك لا تشكوا في حصول ما وعدتكم به. وقيل الفرق بين قوله " حق مثل ما إنكم تنطقون " وبين ما تنطقون مثل الفرق بين أحق منطقك وبين أحق إنك تنطق أي أحق إنك ممن (ج 9 من 49 من التبيان)

 

===============

(386)

ينطق، ولم يثبت له نطقا. والاول قد أثبته إلا أنه قال: أحق هو أم باطل، ذكره الفراء. ومعنى الآية أن هذا القرآن وأمر محمد (صلى الله عليه وآله) وما توعدون به من أرزاقكم حق ككلامكم، كقول القائل: إنه لحق مثل ما أنت ههنا أي كما أنت ههنا. وقال الفراء: وإنما جمع بين (ما) و (إن) مع انه يكتفى باحدهما، كما يجمع بين اللائي والذين، وأحدهما يجزي عن الآخر قال الشاعر:

من النفر اللائي والذين إذاهم * يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا (1)

فجمع بين اللائي والذين، ولو أفرده ب (ما) لكان المنطق في نفسه حقا، ولم يرد ذلك، وإنما أراد أنه لحق كما حق أن الآدمي ناطق، ألا ترى ان قولك أحق منطقك معناه أحق هو أم كذب، وقولك أحق إنك تنطق معناه إن للانسان النطق لا لغيره، فادخلت (أن) ليفرق بين المعنيين. قال وهذا أعجب الوجهين إلي قوله تعالى:

(1) هل أتيك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27)

فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28)

فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (29)

قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (30) سبع آيات.

يقول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) " هل أتاك " يامحمد " حديث ضيف إبراهيم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الطبرى 26 / 113 (*)

 

===============

(387)

المكرمين " قال الحسن: يعني المكرمين عندالله. وقيل: اكرمهم إبراهيم برفع مجالسهم في الاكرام والاعظام الذي يسر بالاحسان. والاجلال هو الاعظام بالاحسان، وكذلك يلزم اعظام الله وإجلاله في جميع صفاته، ولا يجوز مثل ذلك في الاكرام، ولكن الله يكرم أنبياءه والمؤمنين على طاعتهم.

وقوله " إذ دخلوا عليه " يعني حين دخلوا على إبراهيم " فقالوا " له " سلاما " على وجه التحية له أي اسلم سلاما " فقال " لهم جوابا عن ذلك " سلام " وقرئ سلم، فلما ارتاب (عليه السلام) بهم قال " قوم منكرون " أى انتم قوم منكرون، والانكار بنفي صحة الامن ونقيضه الاقرار، ومثله الاعتراف. وإنما قال: منكرون، لانه لم يكن يعرف مثلهم في أضيافه، وسماهم الله أضيافيا، لانهم جاؤه في صفة الاضياف وعلى وجه مجيئهم. ومعنى (سلاما) أي اسلم سلاما، وقوله " قال سلام " أي سلام لنا. وقوله " فراغ إلى أهله " أي ذهب اليهم خفيا، فالروغ الذهاب في خفى، راغ يروغ روغا وروغانا، وراوغه مراوغة ورواغا، وأراغه على كذا إذا أراده عليه في خفى أنفا من رده. وقوله " فجاء بعجل سمين " فالعجل واحد البقر الصغير مأخوذ من تعجيل أمره بقرب ميلاده، وسمي عجولا وجمعه عجاجيل. وقال قتادة: كان عامة مال نبي الله إبراهيم (عليه السلام) البقر. والسمين الكثير الشحم على اللحم، سمن يسمن سمنا، وسمنه تسمينا واسمنه اسمانا وتسمن تسمنا، ونقيض السمن الهزال. وقوله " فقربه اليهم " أي ادناه لهم وقدمه بين أيديهم وقال لهم: كلوه، فلما رآهم لا يأكلون عرض عليهم ف " قال ألا تأكلون " وفي الكلام حذف، لان تقديره فقدمه اليهم فأمسكوا عن الاكل فقال ألا تأكلون فلما أمتنعوا من الاكل " أوجس منهم خيفة " أي خاف منهم وظن أنهم يريدون به سوء، فالايجاس الاحساس بالشئ خفيا، أوجس يوجس إيجاسا وتوجس توجسا.

 

===============

(388)

ومنه قوله " فاوجس في نفسه خيفة موسى " (1) فقالت حينئذ له الملائكة " لا تخف " يا إبراهيم فانا رسل الله وملائكته أرسلنا الله إلى قوم لوط لنهلكهم. وقيل: إنهم دعوا الله فأحيا العجل له فعلم إبراهيم عند ذلك انهم من الملائكة (عليهم السلام) " وبشروه " عند ذلك " بغلام عليم " أي يكون عالما إذا كبر وبلغ. قال مجاهد: المبشر به إسماعيل. وقال غيره: هو اسحاق، لانه من سارة، وهذه القصة لها لا لهاجر، سمعت البشارة امرأته سارة " فأقبلت في صرة " يعني في صيحة - في قول ابن عباس ومجاهد وسفيان - وقال مجاهد وسفيان أيضا في رنة " فصكت وجهها " قال ابن عباس لطمت وجهها. وقال السدي: ضربت وجهها تعجبا، وهو قول مجاهد وسفيان، فالصك الضرب باعتماد شديد " وقالت عجوز عقيم " فالتقدير أنا عجوز عقيم كيف ألد؟ ! والعقيم الممتنعة من الولادة لكبر او آفة. وقال الحسن: العقيم العاقر. وأصل العقم الشدة مما جاء في الحديث (يعقم أصلاب المشركين) أى يشد، فلا يستطيعون السجود، وداء مقام إذا أعيا، أي اشتد حتى أيأس ان يبرأ، ومعاقم الفرس مفاصله يشد بعضها إلى بعض، والعقم والعقمة ثياب معلمة أي شدت بها الاعلام، وعقمت المرأة، فهي معقومة وعقيم، وقالوا عقمت ايضا ورجل عقيم مثل المرأة من قوم عقيمين والريح العقيم التي لا تنشئ السحاب للمطر، والملك عقيم يقطع الولاء لان الابن يقتل أباه على الملك، فقالت الملائكة عند ذلك لها " كذلك " أي مثل ما بشرناك به " قال ربك " ما بشرناك به فلا تشك فيه " إنه هو الحكيم " في أفعاله " العليم " بخفايا الامور لا يخفى عليه خافية والمعنى كما ان إخبارنا وبشارتنا لاشك فيه، كذلك قال الله ما بشرناك به.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة 20 طه آية 67 (*)

 

===============

(389)

قوله تعالى:

(قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (32) لنرسل عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند ربك للمسرفين (34) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35)

فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم) (37) سبع آيات.

لما سمع إبراهيم (عليه السلام) بشرى الملائكة له بالغلام العليم، وعلم أنهم ليسوا ببشر ولا أضياف " قال " لهم " فما خطبكم أيها المرسلون " أي ما شأنكم. والخطب هو الامر الجليل، فكأنه قال قد بعثتم لامر جليل، فما هو؟ ومنه الخطبة، لانها كلام بليغ لعقد أمر جليل تستفتح بالتحميد والتمجيد. والخطاب أجل من الابلاغ.

وقوله " أيها " لا يثنى ولا يجمع لانه مبهم يقتضي البيان عنه ما بعده من غير أن يلزم ما قبله، كما يلزم (الذي وهذا) كقولك مررت بالرجلين هذين، فتبعه في تثنيته، كما تبعه في اعرابه.

فاجابته الملائكة فقالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " عاصين لله كافرين لنعمه أستحقوا العقاب والهلاك " لنرسل عليهم حجارة من طين مسمومة عند ربك للمسرفين " فالمسرف المكثر من المعاصي، وهو صفة ذم، لانه خروج عن الحق.

ونقيض الاسراف الاقتار، وهو التقصير عن بلوغ الحق. وليس في الاكثار من طاعة الله سرف، ولا في نعمه اقتار، لانه سائغ على مقتضى الحكمة، وإرسال الرسول إطلاقه بالامر إلى المصير إلى من أرسل اليه، فالملائكة أمروا بالمصير إلى