(449)
ادركها أوائل هذه الامة، فكان ذلك آية (ومدكر) أصله متذكر، فقلبت التاء دالا لتواخي الدال بالجهر. ثم أدغمت الذال فيها. وقيل: وجه كونها آية انها كانت تجري بين ما الارض وماء السماء، وكان قد غطاها على ماء أمره الله تعالى به. وقوله " فهل من مدكر " قد بينا معناه. وقال قتادة: معناه فهل من طالب علم فيعان عليه.
وقوله " فكيف كان عذابي ونذر " تهديد للكفار وتنبيه لهم على عظم ما فعله بأمثالهم من الكفار الجاحدين لتوحيده. وإنما كرر " فكيف كان عذابي ونذر " لانه لما ذكر أنواع الانذار والعذاب انعقد التذكير لشئ شئ منه على التفصيل، والنذر جمع نذير - في قول الحسن - قال: وتكذيب بعضهم تكذيب لجميعهم. وقال الفراء: هو مصدر، ومنه " عذرا او نذرا " (1) مخففة ومثقلة و " إلى شئ نكر " ويقال: أنذره نذرا بمعنى إنذارا مثل أنرله نزلا بمعنى إنزالا.
قوله تعالى:
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17) كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر) (21) خمس آيات.
أقسم الله تعالى بأنه يسر القرآن للذكر، والتيسير للشئ هو تسهيله، وأخذه بما ليس فيه كثير مشقة على النفس، فمن سهل له طريق العلم فهو حقيق بالحظ الجزيل
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 77 المراسلات آية 6 (ج 9 م 57 من التبيان (*)
===============
(450)
منه، لان التيسير أكبر داع اليه، وتسهيل القرآن للذكر خفة ذلك على النفس لحسن البيان وظهر البرهان في الحكم السنية والمعاني الصحيحة الموثوق بها لمجيئها من الله تعالى، وإنما صار الذكر من اجل ما يدعى اليه ويحث عليه، لانه طريق العلم، لان الساهي عن الشئ او عن دليله لا يجوز أن يعلمه في حال شهوة، فاذا تذكر الدلائل عليه والطريق المؤدية اليه فقد تعرض لعلمه من الوجه الذي ينبغي له.
وقوله " فهل من مدكر " معناه فهل من متعظ معتبر بذلك ناظر فيه.
ثم قال (كذبت عاد) يعني بالرسول الذي بعثه اليهم، وهو هود (عليه السلام) فاستحقوا الهلاك فاهلكهم الله (فكيف كان عذابي) لهم و (نذر) أي وإنذاري إياهم. ثم بين كيفية إهلاكهم فقال (إنا ارسلنا عليهم ريحا صرصرا) وهي الشديدة الهبوب حتى يسمع في صوتها صرير، وهو مضاعف صر مثل كب وكبكب ونهه ونهنهه، وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: كانت ريحا باردة. وقال ابن زيد وسفيان: كانت شديدة.
وقوله (في يوم نحس) يعني يوم شؤم - في قول قتادة - (مستمر) أى استمر بهم العذاب إلى نار جهنم - في قول قتادة - وقوله (تنزع الناس كأنهم اعجاز نخل منقعر) معناه تقتلع هذه الريح الناس ثم ترمي بهم على رؤسهم فتدق رقابهم فيصيرون كأنهم أعجاز نخل، لان رؤسهم سقطت عن أبدانهم - في قول مجاهد - وقيل: استمرت بهم الريح سبع ليال وثمانية أيام حتى اتت عليهم شيئا بعد شئ. وقيل (تنزع الناس) من حفر حفروها ليمتنعوا بها من الريح. وقال الحسن: فيه اضمار تقديره تنزع أرواح الناس، واعجاز النخل أسافله. والنخل يذكر ويؤنث، والمنقعر المنقلع من أصله، لان قعر الشئ قراره المستقل منه، فلهذا قيل للمنقطع من أصله: منقعر، يقال: انعقر إنعقارا، وقعره تقعيرا، وتقعر - في
===============
(451)
كلامه (تقعرا إذا تعمق. (فكيف كان عذابي ونذر) تعظيم للعذاب النازل بهم.
والانذار في الآية هو الذى تقدم اليهم به. وفائدة الآية التحذير من مثل سببه لئلا يقع بالمحذر مثل موجبه.
قوله تعالى:
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (22) كذبت ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر (24) أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25)
سيعلمون غدا من الكذاب الاشر (26) إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر (27) ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر (28) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (29) فكيف كان عذابي ونذر) (30) تسع آيات.
قرأ " ستعلمون " بالتاء اهل الشام وحمزة، على الخطاب، الباقون بالياء على الغيبة، اللام في قوله (ولقد) جواب القسم فالله تعالى أقسم بأنه يسر القرآن للذكر، وقد بينا معناه. وقيل: الوجوه التي يسر الله بها القرآن هو أنه ابان عن الحكم الذي يعمل عليه، والمواعظ التي يرتدع بها، والمعاني التي يحتاج إلى التنبيه عليها والحجج التي تميز بها الحق من الباطل. وإنما أعيد ذكر التيسير لينبئ عن انه يسر بهذا الوجه من الوجوه كما يسر بالوجه الاول. وقد يسر بحسن التأليف للحفظ كما يسر بحسن البيان عما يخاف للوعظ. وقال الزجاج: إن كتب الانبياء كانوا يقرؤنها نظرا ولم يحفظونها، والقرآن سهل الله تعالى عليهم حفظه فيحفظه الخلق الكثير، والتيسير
===============
(452)
التمكين التام لانه قد يمكن العمل بمشقه وبغير شقة، فالذي تنتفى عنه المشقة للتمكين التام هو المسهل. وفائدة الآية تبيين ما ينبغي أن يطلب العلم من جهته. وإنما كرر لانه حث على ذلك بعد حث، وأنه ميسر بضروب التيسير.
وقوله (كذبت ثمود بالنذر) إخبار من الله تعالى أن ثمود، وهم قوم صالح كذبت بالانذار. ومن قال: النذر جمع نذير قال لان تكذيب واحد من الرسل في إخلاص توحيدالله كتكذيب جميعهم، لانهم متفقون في ذلك وإن اختلفت شرائعهم.
وفائدة الآية التحذير من مثل حالهم.
ثم حكى ما قالته ثمود فانهم (قالوا أبشرا منا واحدا نتبعه) والمعنى أنتبع بشرا منا واحدا انتبعه؟ ! ودخلت عليهم الشبهة، فظنوا أن الانبياء ينبغي أن يكونوا جماعة، لان الاشياء ذووا نظائر تجري على حكم واحد، وتركوا النظر في أنه يجوز ان يصلح واحد من الخلق لتحمل النبوة وإن لم يصلح له غيره، فصار بمنزلة مدع لا دليل معه على صحة دعواه عندهم. وفائدة الآية تبيان شبهتهم الخسيسة الضعيفة وانهم حملوا أنفسهم على تكذيب الرسل لاجلها. وجوابهم أن يقال لهم:
لانه لا يصلح له سواه من جهة معرفته بربه وقيامه باداء رسالته وسلامة ظاهره وباطنه.
وقوله (إنا إذا لفي ضلال) معناه إن اتبعناه مع انه واحد منا إنا إذا لفي ضلال عن الصواب (وسعر) أي وعناء - في قول قتادة - والسعر جمع سعير كأنهم في ضلال وعذاب كعذاب السعير. وقال قوم: معناه وسعر جنون. واصله التهاب الشئ وهو شدة انتشاره، يقال: ناقة مسعورة إذا كان لها جنون. وقال الزجاج:
يجوز أن يكون المراد وعذاب، ويجوز جنون.
وقوله (أألقي الذكر عليه من بيننا) استفهام من قوم صالح على وجه الانكار والجحود والتعجب، ومعنى (أألقي الذكر) يعني الوحي (من بيننا) لما رأوا
===============
(453)
أستواء حال الناس في الظاهر لم يكن بعضهم أحق عندهم بانزال الوحي عليه من بعض. وقد وصفوا أنفسهم أن حاله مساوية لاحوالهم فجاء من هذا ألا يكون أحق بالوحي الذي ينزل عليه منهم، واغفلوا أن الله اعلم بمصالح عباده ومن يصلح للقيام برسالته ممن لا يصلح.
ثم حكى ما قالوه في صالح، فانهم قالوا (بل هو كذاب) في دعواه أنه نبي أوحى الله اليه (أشر) أي بطر، فالاشر البطر الذي لا يبالي ما قال. وقيل: هو المرح الطالب للفخر وعظم الشأن، يقال: أشر يأشر أشرا كقولك: بطر يبطر بطرا وأشر واشر مثل حذر وحذر، وعجل وعجل وفطن وفطن ونحس ونحس. فقال:
الله تعالى على وجه التهديد لهم (ستعلمون غدا من الكذاب الاشر) وقرأ ابوقلابة (الكذاب الاشر) وهذا ضعيف، لانهم يقولون: هذا خير من ذا وشر من ذا، ولا يقال: أشر، ولا أخير إلا في لغة ردية. ومن قرأ (ستعلمون) بالتاء على وجه الخطاب اليهم أي قل لهم، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم. ومن قرأ بالياء فعلى وجه الاخبار عن الغائب وهي قراءة الباقين، لان الكذاب الاشر يوم القيامة يعاقبه الله بعذاب النار، فيعلم حينئذ أي الفريقين هم.
وقرب الله تعالى القيامة كقرب غد من اليوم. والفرق بين قوله (ستعلمون غدا من الكذاب) وبين قوله لو قال (ستعلمون غدا الكذاب الاشر) أن الاول يفيد فريقين التبس الكذب بكل واحد منهما فيأتي العلم مزيلا لذلك الالتباس وليس كذلك الثاني.
ثم بين تعالى أنه ارسل الناقة وبعثها بأن أنشأها معجز لصالح، لانه أخرجها من الجبل الاصم يتبعها ولدها. وقوله (فتنة لهم) نصب (فتنة) على انه مفعول له. ومعنى ذلك إبتلاءلهم ومحنة، لانه تعالى نهاهم ان ينالوها بسوء مع تضيق الشرب
===============
(454)
عليهم بأن لها شرب يوم ولهم شرب يوم آخر. والشرب - بكسر الشين - الحظ من الماء - وبضم الشين - فعل الشارب.
ثم حكى تعالى ما قال لصالح فانه تعالى قال له (واصطبر) أي أصبر على أذاهم (ونبئهم) أي اخبرهم (أن الماء قسمة بينهم) يوم للناقة ويوم لهم (كل شرب محتضر) أي كل قسم يحضره من هو له. وقيل المعنى نبئهم أي يوم لهم وأي يوم لها إلا أنه غلب من يعقل، فقال نبئهم. وقيل: كانوا يحضرون الماء إذا غابت الناقة ويشربونه وإذا حضرت أحضروا اللبن وتركوا الماء لها - ذكره مجاهد - وقيل: كانت الناقة تحضر شربها وتغيب وقت شربهم. وكل فريق يحضر وقت شربه.
وقوله (فنادوا صاحبهم) يعني الذي وافقوه على عقر الناقة، وهو أحمر ثمود، والعرب تغلط فتقول: أحمر عاد. ويريدون بذلك ضرب المثل في الشؤم، وإنما هو أحمر ثمود - ذكره الزجاج - وقال قوم: اسمه قدار بن سالف.
وقوله (فتعاطى فعقر) قال ابن عباس تعاطى تناول الناقة بيده فعقرها، وقال معناه تعاطى عقرها فعقرها فأهلكهم الله تعالى عقوبة على ذلك (فيكف كان عذابي ونذر).
قوله تعالى:
(إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة كانوا كهشيم المحتظر (31)
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (32) كذبت قوم لوط بالنذر (33) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر (34) نعمة من عندنا كذلك نجزى من شكر (35) ولقد
===============
(455)
أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (36) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر (37) ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (38) فذوقوا عذابي ونذر (39) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (40) عشر آيات.
لما اخبرالله تعالى عن قوم صالح أنهم عقروا الناقة وأنه تعالى أهلكهم بين كيف أهلكهم فقال (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة) وهي المرة من الصوت بشدة عظيمة هلكوا كلهم بها، يقال: صاح يصيح صياحا وصايحة ومصايحة وصيح به تصييحا وإنها صيحة تخلع القلوب وتهدم الابدان لعظمها وقوله (فكانوا كهشيم المحتظر) أي صاروا كالهشيم، وهو المنقطع بالتكسير والترضيض، هشم أنفه يهشمه إذا كسره ومنه الهاشمة وهي شجة مخصوصة. والهشم - ههنا - يبس الشجر المتفتت الذي يجمعه صاحب الحظيرة و (المحتظر) المبتني حظيرة على بستانه أو غيره، تقول احتظر احتظارا، وهو من الحظر، وهو المنع من الفعل بحايط أو غيره، وقد يكون الحظر بالنهي. وقرأ بفتح الظاء وهو المكان الذي يحتظر فيه الهشيم. وقيل:
هشيم المحتظر قال الضحاك: هو الحظيرة تتخذ للغنم يبس فتصير رميما. وقيل:
الهشيم حشيش يابس متفتت يجمعه المحتظر لمواشيه. وقيل: الهشيم اليبس من الشجر أجمع الذي يفتت. وقوله (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)
قد فسرناه وقال قتادة: فهل من طالب علم يتعلم؟ وفيها دلالة على بطلان قول المجبرة، لانه ذكر انه يسر القرآن ليتذكر العباد به، ولو كان الامر على ما يقولون لكان ليتذكر القليل منهم دون سائرهم.
===============
(456)
وقوله (كذبت قوم لوط بالنذر) اخبار منه تعالى أن قوم لوط كذبوا الرسل بالانذار على ما فسرناه. وفائدة ذكر التحذير على مابيناه من فعل مثله لئلا ينزل بهم مثل ما نزل باولئك، وفي الكلام حذف وتقديره فأهلكناهم. ثم بين كيف أهلكهم فقال (إنا أرسلنا عليهم حاصبا) والحاصب الحجارة التي يرمى بها القوم، حصبوا بها إذا رموا، ومنه الحصباء الارض ذات الحصى، لانه يحصب بها وقيل: الحاصب سحاب رماهم بالحجارة وحصبهم بها قال الفرزدق:
مستقبلين رياح الشام تضربنا * بحاصب كنديف القطن منثور (1)
ثم استثنى آل لوط، وتقديره إنا أرسلنا عليهم حاصبا أهلكناهم به (إلا آل لوط) فانا (نجيناهم) وخلصناهم من العذاب (بسحر) أي بليل لا سحرا بعينه، لان سحرا إذا اردت به سحر يومك لم تصرفه، وإذا أردت به سحرا من الاسحار صرفته.
وقوله (نعمة من عندنا) قال الزجاج نصبه على انه مفعول له، ويجوز ان يكون على المصدر، وتقديره أنعمنا بها عليهم نعمة. ثم قال (كذلك نجزي من شكر)
أي مثل ما فعلنا بهم نفعل بمن يشكر الله على نعمه، والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم للمنعم، ونقيضه كفر النعمة، ومثله الحمد على النعمة.
ثم اخبر تعالى عن لوط بأنه أنذر قومه بطشة الله وهي الاخذ بالعذاب بشدة فكذلك أخذ الله - عزوجل - آل لوط باشد العذاب بالائفاك ورمي الاحجار من السماء.
وقوله (فتماروا بالنذر) أي تدافعوا على وجه الجدال بالباطل، يقال: تمارى القوم تماريا وماراه مما راة ومراء، ومراه يمريه مريا إذا أستخرج ما عنده من العلم بالمري.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 6 / 502 و 8 / 209 (*)
===============
(457)
وقوله (ولقد راودوه عن ضيفه) إخبار منه تعالى بأن قوم لوط حاولوا ضيفه وراودوهم على الفساد، فالمراود المحاولة، فكأن قوم لوط طالبوه بأن يخلي بينهم وبين ضيفه لما يروته من الفاحشة. والضيف المنضم إلى غيره على طلب القرى، إذ كانوا أنوا لوطا على هذه الصفة إلى ان تبين أمرهم وانهم ملائكة الله أرسلهم لاهلاكهم وقوله (فطمسنا أعينهم) فالطمس محو الاثر بما يبطل معه إدراكه، طمس يطمس طمسا وطمس الكتاب تطميسا وطمست الريح الاثار إذا دفنتها بما تسفي عليها من التراب، قال كعب بن زهير:
من كل نضاخة الذفرى إذا عرفت * عرضتها طامس الاعلام مجهول (1)
وقال الحسن وقتادة: عميت أبصارهم. وقال الضحاك: إنهم دخلوا البيت على لوط، فلما لم يروهم سألوا عنهم وإنصرفوا.
وقوله (فذوقوا عذابي ونذر) معناه قالت لهم الملائكة ذوقوا عذاب الله ونذره أي وما خوفكم به من عذابه.
ثم قال تعالى (ولقد صبحهم) يعني قوم لوط (بكرة) نصبه على الظرف فاذا أردت بكرة يومك لم تصرفه. وإذا أردت بكرة من البكرات صرفته. ومثله غدوة وغدواة. وقوله (عذاب مستقر) أي استقر بهم حتى هلكوا جميعا. وقوله (فذوقوا عذابي ونذر) قيل: قالت لهم الملائكة ذلك. وقال قوم: القائل هو الله تعالى قال لهم في تلك الحال يعني عند طمس أعينهم. والائتفاك بهم ورميهم بالحجارة (ذوقوا عذابي ونذر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) وقد فسرناه وبينا الوجه فيه.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 2 / 226 و 3 / 216 (ج 9 م 58 من التبيان)
(*)
===============
(458)
قوله تعالى:
(ولقد جاء آل فرعون النذر (41) كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (42) أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر (43) أم يقولون نحن جميع منتصر (44)
سيهزم الجمع ويولون الدبر (45) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) (46) ست آيات.
قرأ روح وزيد (سنهزم) بالنون على وجه الاخبار من الله تعالى عن نفسه الباقون بالياء على ما لم يسم فاعله.
اخبر الله تعالى عن آل فرعون انه جاءهم النذر. ويحتمل ان يكون جمع نذير، وهو الرسول المخوف. ويحتمل ان يكون المراد به الانذار على ما بيناه ومعناه إنه جاءهم التخويف من معاصي الله والوعيد عليها.
ثم اخبر تعالى عنهم بأنهم (كذبوا بآياتنا) يعني حججنا وبراهيننا (كلها)
وآل فرعون خاصته الذين كانوا ينضافون اليه بالقرابة. والموافقة في المذهب، ويقال: آل القرآن آل الله، لانهم بمنزلة الآل في الخاصة والاضافة. والانذار الاعلام بموقع المخافة ليتقى. والنذر والانذار مثل النكر والانكار. وهو جمع نذير وهم الرسل. والداعي إلى تكذيب الرسل الشبهة الداخلة على العقلاء والتقليد والعادة السيئة وغير ذلك.
ثم اخبر تعالى انه اخذهم بالعذاب والاهلاك (أخذ عزيز مقتدر) وهو القاهر الذي لا يقهر ولا ينال، مقتدر على جميع ما يريده لكثرة مقدوراته.
===============
(459)
ثم قال (اكفاركم) يعني قريش وأهل مكة (خير من اولئكم) الكفار، والمعنى إنهم ليسوا بخير من كفار قوم نوح وعاد وثمود. وقوله (أم لكم براءة في الزبر) معناه ألكم براءة في الكتب المنزلة من عذاب الله.
وقوله (أم يقولون نحن جميع منتصر) قال الزجاج: معناه أيقولون ذلك إدلالا بقوتهم. ويحتمل أن يكون أرادوا نحن جميع أي يد واحدة على قتاله وخصومته (منتصر) أي ندفعه عنا وينصر بعضنا بعضا فقال الله تعال مكذبا لظنونهم (سيهزم الجمع) معناه إن جميعهم سيهزمون (ويولون الدبر) ولا يثبتون لقتالك، وكان كذلك فكان موافقته لما أخبر به معجزا له لانه إخبار بالغيب قبل كونه، وانهزم المشركون يوم بدر وقتلوا وسبوا على ما هو معروف.
ثم قال (بل الساعة) يعني القيامة (موعدهم) للجزاء لهم بأنواع العقاب والنيران وقوله (والساعة أدهى وأمر) فالادهى الاعظم في الدهاء. والدهاء عظم سبب الضرر مع شدة انزعاج النفس وهو من الداهية وجمعه دواه، والداهية البلية التي ليس في إزالتها حيلة، والمراد ما يجري عليهم من القتل والاسر عاجلا لا يخلصهم من عذاب الآخرة بل عذاب الآخرة أدهى وأمر. والامر الاشد في المرارة، وهي ضرب من الطعم به يكون الشئ مرا. ويحتمل الامر الاشد في استمرار البلاء، لان الاصل التمرر. وقيل مرارة لشدة مرورها وطلبها الخروج بحدة. وقيل:
الامر الاشد مرارة من القتل والاسر.
قوله تعالى:
(إن المجرمين في ضلال وسعر (47) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شئ خلقناه
===============
(460)
بقدر (49) وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر (50) ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر (51) وكل شئ فعلوه في الزبر (52)
وكل صغير وكبير مستطر (53) إن المتقين في جنات ونهر (54)
في مقعد صدق عند مليك مقتدر) (55) تسع آيات بلا خلاف.
هذا إخبار من الله تعالى بأن المجرمين الذين أرتكبوا معاصي الله وتركوا طاعاته في ضلال وسعر، ومعناه في ضلال عن الحق وعدول عنه (وفي سعر) يعني في عذاب النار تسعرهم ومعناه إنهم يصيرون اليه، وإنما جمع بين الضلال والسعر، لانه لازم لهم ومنعقد بحالهم وإن كان الضلال بعصيانهم والسعر بالعقاب على الضلال، وكأنهم قد حصلوا فيه بحصولهم في سببه الذي يستحق به. وقيل معنى في ضلال يعني في ذهاب عن طريق الجنة والآخرة في نار مسعرة.
وقوله (يوم يسحبون) أي يوم يجرون في النار على وجوههم (ذوقوا مس سقر) أي يقال لهم مع ذلك ذوقوا مس سقر، وهو كقولهم وجدت مس الحمى وكيف ذقت طعم للضرب. وقيل: إن سقر جهنم وقيل: هو باب من ابوابها، ولم يصرف للتعريف والتأنيث. ولما وصف العقاب قال (إنا كل شئ خلقناه بقدر) أي العقاب على مقدار الاستحقاق الذي تقتضيه الحكمة وكذلك غيره في كل خصلة. وفي نصب (كل) ثلاثة أوجه:
أحدها - على تقدير إنا خلقنا كل شئ خلقناه بقدر.
الثاني - انه جاء على زيدا ضربته.
الثالث - على البدل الذي يشتمل عليه، كأنه قال (إن كل شئ خلقناه بقدر) أي هو مقدر في اللوح المحفوظ. وقوله (وما أمرنا إلا واحدة كلمح
===============
(461)
بالبصر) فاللمح خطف البصر، والمعنى وما أمرنا إذا أردنا ان يكون شيئا إلا مرة واحدة إنما نقول له كن فيكون أي هذه منزلته في سرعته وإنطياعه.
ثم قال تعالى مخاطبا لكفار قريش وغيرهم " ولقد أهلكنا أشياعكم " يعني اتباع مذهبكم في كفرهم بعبادة الاوثان تتابعوا قرنا بعد قرن في الاهلاك بعذاب الاستئصال. والشيعة أتباع القائد إلى أمر. وقيل: المعنى ولقد أهلكنا اشياعكم ممن هو منكم كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) فهي لكل أمة فهل من متعظ. وقال الحسن:
هو على الامم السالفة " فهل من مدكر " معناه فهل من متذكر لما يوجبه هذا الوعظ من الانزجار عن مثل ما سلف من أعمال الكفار لئلا يقع به ما وقع بهم من الاهلاك.
وقوله (وكل شئ فعلوه في الزبر) يعني في الكتب التي كتبتها الحفظة.
وقال ابن زيد في الكتاب. وقال الضحاك في الكتب وقوله (وكل صغير، وكبير مستطر) قال ابن عباس معناه إن جميع ذلك مكتوب مسطور في الكتاب المحفوظ، لانه من أعظم العبرة في علم ما يكون قبل أن يكون على التفصيل، وبه قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد.
ثم قال تعالى (إن المتقين) يعني الذين اتقوا معاصيه وفعلوا واجباته (في جنات) يعني بساتين تجنها الاشجار (ونهر) أي انهار، فوضع نهرا في موضع أنهار، لانه اسم جنس يقع على القليل والكثير، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء، وهو خلاف الجدول، لانه المجرى الصغير الشديد الجرى من مجاري الماء (في مقعد صدق) معناه في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم (عند مليك مقتدر) أي بالمكان الذي كرمه لاوليائه المليك المقتدر. وقيل: في مقعد صدق عند المليك المقتدر بما هو عليه من صدق دوام النعيم به. وقال الفراء: معنى (في جنات ونهر) أي في ضياء وسعة، ويقال: أنهر دمه إذا سال وانهر بطنه إذا جاء بطنه مثل جرى النهر.
===============
55 - سورة الرحمن قال قوم: هي مكية. وقال آخرون هي مدنية: وهي ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي وسبع وسبعون عند الحجازيين وست وسبعون في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم (ألرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الانسان (3)
علمه البيان (4) ألشمس والقمر بحسبان (5) والنجم والشجر يسجدان (6) والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9)
والارض وضعها للانام (10) فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام (11) والحب ذو العصف والريحان (12) فبأي آلاء ربكما تكذبان) (13).
ثلاث عشرة آية كوفى وشامي، وإثنتا عشرة آية بصري وإحدى عشرة آية في ما عداه، عد الكوفى والشامي (الرحمن) ولم يعده الباقون، وعدوا (خلق الانسان) إلا أهل المدينة فانهم عدوا (البيان) آخر الآية. وقرأ (الحب ذا العصف) بالنصب شامي (والريحان) خفض كوفى غير عاصم، وعد الكوفيون
===============
(463)
(الرحمن) آية مع أنه ليس بجملة، لانه في تقدير الله الرحمن حتى تصح الفاصلة وهو خبر مبتدأ محذوف نحو قوله (سورة أنزلناها) (1) أي هذه أنزلناها، ومعنى (الرحمن)
هو الذي وسعت رحمته كل شئ، فلذلك لا يجوز أن يوصف به إلا الله تعالى، فأما (راحم ورحيم) فيجوز ان يوصف به العباد.
وقوله (علم القرآن) فالتعليم تبين ما به يصير من لم يعلم عالما. والاعلام إيجاد ما به يصير عالما، وفى قوله (الرحمن علم القرآن) تذكير بالنعمة في ما علم من الحكم بالقرآن التي يحتاج اليها الناس في دينهم ليؤدوا ما يجب عليهم وينالوا الفضل بطاعة ربهم ويستوجبوا به الثواب وينالوا الرضوان.
وقوله (خلق الانسان) معناه إنه الذي اخترع الانسان وأخرجه من العدم إلى الوجود، وقيل: المراد بالانسان - ههنا - آدم (عليه السلام). وقيل: محمد (صلى الله عليه وآله) وقيل: جميع الناس وهو الظاهر وهو الاعم في الجميع. وقوله (علمه البيان) أى خلق فيه التمييز الذي بان به من سائر الحيوان. وقيل: معناه علمه الكلام الذى يبين به عن مراده ويتميز به عن سائر الحيوان، فالبيان هو الادلة الموصلة إلى العلم. وقيل: البيان إظهار المعنى للنفس بما يتميز به عن غيره كتميز معنى رجل من معنى فرس، ومعنى قادر من معنى عاجز، ومعنى عام من معنى خاص، ومعنى شئ من معنى هذا بعينه، وفيه تنبيه على أنه تعالى خلق الانسان غير عالم، ثم علمه البيان، خلافا لقول من يقول من الجهال: إن الانسان لم يزل عالما بالاشياء، وإنما يحتاج فيه إلى تذكير، فكيف يكون عالما من لم يخلق بعد لولا الغباوة وقلة التحصيل.
وقوله (والشمس والقمر بحسبان) أي يجريان بحسبان فاضمر يجريان وحذفه لدلالة الكلام عليه، فيكون إرتفاع الشمس بالفعل المقدر. وقال قوم:
إرتفعا بتقديرهما بحسبان أي بحساب، والمعنى علمه البيان أن الشمس والقمر بحسبان
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 24 النور آية 1 (*)
===============
(464)
وقيل: المعنى أن أمرهما يجري في الادوار على مقدار من الحساب على ما وضعه حكيم عليم بتدبير صحيح، قد كان يمكن وضعهما على خلافه غير انه اختار ذلك لاستغناء العباد بها في وجوه المنافع وما في ذلك من المصالح. وقال ابن عباس وقتادة وابن زيد: بحسبان، ومنازل يجريان فيها ولا يعدوانها. وقيل: إن القمر يقطع بروج السماء في ثمانية وعشرين يوما، والشمس تقطع ذلك في ثلثمائة وخمسمة وستين يوما وشئ. وقوله (بحسبان) خبر الشمس والقمر على قول من رفعهما بالابتداء (وحسبان) مصدر حسبته أحسبه حسبانا نحو السكران والكفران. وقيل: هو جمع حساب كشهاب وشهبان.
وقوله (والنجم والشجر يسجدان) فالنجم من النبات ما طلع، يقال:
نجم ينجم إذا طلع، ونجم القرن والنبات إذا طلعا، وبه سمي نجم السماء، وهو الكوكب لطلوعه. والنجم - ههنا - النبت الطالع من الارض، وهو النبات الذي ليس له ساق - في قول ابن عباس وسعيد وسفيان - وقال مجاهد: هو نجم السماء، وبه قال قتادة، والاول أقوى لمصاحبة الشجر. والشجر عند أهل اللغة النبات الذي له ساق وورق وأغصان يبقى ساقه على دور الحول من الرمان واكثره مما له ثمار تجنى على ما دبرها صانعها من الاتيان بها في أبانها.
وقوله (يسجدان) إخبار من الله تعالى بانهما يسجدان، وسجودهما هو ما فيهما من الآية الدالة على حدوثهما وعلى وجوب الخضوع لله تعالى والتذلل له لما خلق فيها من الاقوات المختلفة في النبات للناس وغيرهم من الحيوان والاستمتاع بأصناف الثمار والفواكه والرياض اللذيذة، فلا شئ أدعى إلى الخضوع والعبادة لمن أنعم بهذه النعمة الجليلة مما فيه مثل الذي ذكرنا في النجم والشجر. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: سجودهما ظلالهما الذي يلقيانه بكرة وعشيا، فكل جسم له ظل
===============
(465)
فهو يقتضي الخضوع بما فيه من دليل الحدوث الذي لا يقدر عليه إلا قادر لا يعجزه شئ.
وقوله (والسماء رفعها) أي رفع السماء رفعها فوق الارض للاعتبار بها والتفكر فيها، وأنه لا يقدر على رفعها غير القادر لنفسه الذي لا يعجزه شئ ولا يماثله موجود.
وقوله " ووضع الميزان " فالميزان آلة التعديل في النقصان والرجحان، والوزن يعدل في ذلك، ولو لا الميزان لتعذر الوصول إلى كثير من الحقوق، فلذلك نبه على النعمة فيه والهداية اليه.
وقوله " إلا تطغوا في الميزان " نهي كأنه قال أي لا تطغوا، لان (أن)
تكون بمعنى أي ويجوز ان تكون علة، وتقديره ووضع الميزان لان لا تطغوا، وإنما أعاد ذكر الميزان من غير أضمار لئلا يكون الثاني مضمنا بالاول، وليكون قائما بنفسه في النهي عنه إذا قيل ألا تطغوا في الميزان. وقيل: لانه نزل في وقتين. والاول أحسن. وقيل: المراد بالميزان العدل لان المعادلة موازنة الاسباب، والطغيان الافراط في مجاوزة الحد في العدل. وقيل: لا تطغوا فيه لان مالا يضبط في الوزن موضوع عنهم. وقال الزجاج: تقديره فعلت ذلك لئلا تطغوا. ويحتمل ان يكون نهيا مفردا. ويجوز أن يكون بمعنى (أي) مفسرة وقوله " واقيموا الوزن بالقسط " أمر من الله تعالى أن يقيموا الوزن إذا أرادوا الاخذ أو الاعطاء " بالقسط " أي بالعدل " ولا تخسروا الميزان " بمعنى لا تنقصوه.
والخسران نقصان أصل المال، وهو ذهاب ما كان من رأس المال: خسر يخسر خسرا وخسرانا، وخسره تخسيرا، فهو خاسر ومخسر. قال الزجاج: قولهم:
(ج 9 م 59 من التبيان)
===============
(466)
أخسرت الميزان وخسرت، فعلى خسرت " لا تخسر " بفتح التاء، وقد قرأ به بعض المتقدمين شاذا لا يؤخذ به.
وقوله " والارض وضعها للانام " ليستقروا عليها. وقال ابن عباس: الانام كل شئ فيه روح. وقال الحسن: الانام الانس والجن. وقال قتادة: الانام الخلق. ويجوز أن يكون الانام من ونم الذباب إذا صوت من نفسه، ويسمى كل ما يصوت من نفسه أناما. وقلبت الواو من ونام همزة كقولهم: أناة من (وناة).
ثم بين وجه المنافع للخلق فوضع الارض " فيها فاكهة " وهي أنواع الثمار التي تؤخذ من الشجر فيها أنواع الملاذ وفنون الامتاع، فسبحان الذي خلقه لعباده وأجرى فيه ضروب الطعوم بلطفه، وكله يسقى بماء واحد في ارض واحدة من شجرة يابسة تنقلب إلى حال الغضاضة والنضرة، ثم تحمل الثمرة الكريمة، وكل ذلك بعين المعتبر وعلم المفكر.
وقوله " والنخل ذات الاكمام " اسم جنس يقع على القليل والكثير وواحده نخلة، وهو يذكر ويؤنث، والاكمام جمع (كم) وهو وعاء ثمر النخل، تكمم في وعائه إذا اشتمل عليه. وقيل: الاكمام ليف النخلة التي تكمم فيه - في قول الحسن وقتادة - وقال ابن زيد: الاكمام الطلع الذي فيه ثمر النخلة. وقال الزجاج: كم القميص من هذا، لانه يغطي اليد.
وقوله " والحب ذو العصف والريحان " قال ابن عباس وقتادة وابن زيد:
العصف التبن. لان الرياح تعصفه أي تطيره بشدة هبوبها ومنه الريح العاصف، قال علقمة بن عبدة:
تسفي مذانب قد مالت عصيفتها * حدورها من أني الماء مطموم (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 111 واللسان (عصف) ومجاز القرآن 2 / 242 (*)
===============
(467)
وهو دقاق الزرع إذا يبس عصفته الريح. وقيل: العصف التبن. ويقال:
له العصيفة. والحب حب الحنطة والشعير ونحوهما، والريحان الرزق - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك - وقال الحسن وابن زيد: الريحان هو الذي يشم. وفي رواية اخرى عن ابن عباس والضحاك: إن الريحان الحب. والعرب تقول: خرجنا نطلب ريحان الله أى رزقه ويقال: سبحانك وريحانك أى رزقك، قال النمر بن تولب سماء الاله وريحانه * وجنته وسماء درد (1)
وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما " والريحان " جرا على تقدير، وذو الريحان.
الباقون بالرفع عطفا على (الحب) وقرأ ابن عامر وحده " والحب ذا العصف والريحان " بالنصب فيها كلها على تقدير، وخلق الحب ذا العصف وخلق الريحان الباقون بالرفع على تقدير فيها الحب ذو العصف وفيها الريحان.
وقوله " فبأى آلاء ربكما تكذبان " قال ابن عباس والحسن وقتادة: معناه فبأى نعمة من نعمه يا معشر الجن والانس تكذبان؟ ! وريحان أصله ريحان، فخفف. وتلخيصه ريوحان على وزن فيعلان، فلما التقت الواو والياء والثاني ساكن قلبوا الواو ياء وأدغموا ثم خففوا كراهية التشديد كما قالوا: هين لين.
قوله تعالى:
(خلق الانسان من صلصال كالفخار (14) وخلق الجان من مارج من نار (15) فبأي آلآء ربكما تكذبان (16) رب المشرقين ورب المغربين (17) فبأي آلآء ربكما تكذبان (18)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 2 / 243 واللسان (روح)
(*)
===============
(468)
مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20) فبأي آلآء ربكما تكذبان) (21) ثمان آيات بلا خلاف.
يقول الله تعالى إنه " خلق الانسان " وأنشائه ويعني به آدم (عليه السلام) " من صلصال " وهو الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة - في قول قتادة - " كالفخار " أي مثل الطين الذي طبخ بالنار حتى صار خزفا " وخلق الجان من مارج من نار " فالمارج هو المختلط الاجزاء، قال الحسن أبليس ابوالجن، وهو مخلوق من لهب النار، كما أن آدم ابوالبشر مخلوق من طين. وصف الله تعالى الانسان الذي هو آدم ابوالبشر انه خلقه من صلصال. وفي موضع آخر " من طين لازب " (1)
وفي موضع آخر " من حمأ مسنون " (2) وفى موضع آخر " خلقه من تراب " (3)
وإختلاف هذه الالفاظ لا تناقض فيها، لانها ترجع إلى أصل واحد وهو التراب، فجعله طينا. ثم صار كالحمأ المسنون. ثم يبس فصار صلصالا كالفخار.
وقوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " معناه فبأى نعم ربكما يا معشر الجن والانس تكذبان؟ ! وإنما كررت هذه الآية، لانه تقرير بالنعمة عند ذكرها على التفصيل نعمة نعمة. كأنه قيل بأى هذه الآلاء تكذبان. ثم ذكرت آلاء أخر فاقتضت من التذكير والتقرير بها ما اقتضت الاولى ليتأمل كل واحد في نفسها وفى ما تقتضيه صفتها من حقيقتها التي تتفصل بها من غيرها.
وقوله " رب المشرقين ورب المغربين " تقديره هو رب المشرقين، فهو خبر ابتداء، ولو قرئ بالخفض ردا على قوله " فبأى آلاء ربكما تكذبان " لكان جائزا غير انه
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 27 السافات آية 11 (2) سورة 15 الحجر آية 26، 28، 33 (3) سورة 3 آل عمران آية 59 (*)
===============
(469)
لم يقرأ به أحد. والمعنى انه الخالق المشرق الشتاء ومشرق الصيف، وهو عند غاية طول النهار في الصيف وغاية قصره في الشتاء " ورب المغربين " مثل ذلك - وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد - والمشرق موضع شروق الشمس، وهو طلوعها تقول: شرقت الشمس تشرق شروقا إذا طلعت واشرقت إذا أضائت وصفت.
والمغرب موضع غروب الشمس. والغروب مصيرها في حد الغروب وهو المغيب، غربت تغرب غروبا، ومنه الغريب وهو الصابر في حد الغائب عن النفس وأصله الحد ومنه الغروب مجاري الدموع لزوالها من حدها إلى الحد الآخر. وقوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي فبأي نعمة ربكما معاشر الجن والانس تكذبان. وقد بينا الوجه في تكراره. وواحد الآلاء ألى على وزن (معا) و (ألا) على وزن (قفا) عن أبي عبيدة.
وقوله " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " معنى مرج أرسل - في قول ابن عباس. وقال الحسن وقتادة و (البحران) بحر فارس والروم. وقال ابن عباس في رواية أخرى هما بحر السماء وبحر الارض " يلتقيان " في كل عام.
وقيل البحران الملح والعذب. وقيل: مرج البحرين خلط طرفيهما عند التقائهما من غير أن يختلط جملتها " لا يبغيان " أي لا يبغي أحدهما على الآخر بأن يقلبه إلى مثل حاله في الملوحة والعذوبة. ومرج معناه أرسل باذهاب الشيئين فصاعدا في الارض، فمرج البحرين أرسلهما بالاجراء في الارض يلتقيان، ولا يختلطان، ذلك تقدير العزيز العليم. والبرزخ الحاجز بين الشيئين، ومنه البرزخ الحاجز بين الدنيا والآخرة. وقال قتادة: البرزخ الحاجز أن يبغي الملح على العذب أو العذب على الملح. وقال مجاهد: معناه لا يبغيان لا يختلطان ومعناه لا يبغيان على الناس.
والنعمة بتسخير الشمس أنها تجري دائبة بمنافع الخلق في الدنيا والدين، فبأي آلاء
===============
(470)
ربكما تكذبان معاشر الجن والانس.
قوله تعالى:
(يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22) فباي آلآء ربكما تكذبان (23) وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام (24)
فبأي آلآء ربكما تكذبان (25) كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام (27) فبأي آلآء ربكما تكذبان (28)
يسئله من في السموات والارض كل يوم هوفي شأن (29) فبأي آلآء ربكما تكذبان) (30) تسع آيات بلا خلاف.
قرأ " المنشئآت " بالكسر حمزة، ويحيى وقرأ " يخرج " بفتح الياء أهل الكوفة، وابن كثير وابن عامر أسندوا الفعل إلى اللؤلؤ والمرجان. الباقون، على ما لم يسم فاعله. وإنما أجازوا اسناد الفعل إلى الجوار واللؤلؤ والمرجان، كما قالوا مات زيد ومرض عمرو وما أشبه ذلك في ما يضاف الفعل اليه إذا وجد منه.
وإن كان في الحقيقة لغيره، وكان المعنى المنشئات السير فحذف المفعول وأضاف السير اليه إتساعا، لان سيرها إنما يكون بهبوب الريح. وقال الزجاج: من فتح الشين أراد المرفوعات الشرع، وبالكسر الحاملات الرافعات الشرع.
لما ذكر الله تعالى النعمة على الخلق بمرج البحرين اللذين يلتقيان، وإنهما مع ذلك لا يبغيان، بين أيضا ما فيهما من النعمة، فقال يخرج منهما يعني من البحرين اللؤلؤ والمرجان. فاللؤلؤ معروف، ويقع على الصغار والكبار. والمرجان ضرب من الجوهر كالقضبان يخرج من البحر. وقال ابن عباس: اللؤلؤ كبار الدر والمرجان
===============
(471)
صغاره. وبه قال الحسن وقتادة والضحاك، وسمي المرجان بذلك لانه حب من الجوهر كبير مختلط به مرجت أي خلطت. وإنما جاز أن يقول يخرج منهما، وهو يخرج من الملح دون العذب، لان العذب والملح يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للملح، كما يقال يخرج الولد من الذكر والانثى، وإنما تلده الانثى. وقال قوم:
لا يخرج اللؤلؤ إلا من الموضع الذي يلتقي فيه العذب والملح، وذلك معروف عند الغواصين. وقال الزجاج: لانه إذا أخرجه من أحدهما فقد أخرجه من الآخر، لانه داخل فيهما وقال ابن عباس: إذا جاء القطر من السماء تفتحت الاصداف فكان من ذلك القطر اللؤلؤ. وقال قوم المعنى من جهتهما ولا يجب إنه من كل واحد منهما، والاول وجه التأويل.
وقوله " وله الجوار المنشآت " والجوار جمع جارية وهي السفينة لانها تجري في الماء بأمر الله تعالى. والجارية المرأة الشابة، لانه يجري فيها ماء الشباب، والمنشئآت المبتدآت للسير برفع القلاع. وقال مجاهد: ما رفع له القلاع، فهو منشأ وما لم يرفع قلاعه فليس بمنشأ، فجعل الانشاء برفع القلاع. والاعلام الجبال واحدها علم سمي بذلك لارتفاعه كارتفاع الاعلام المعروفة. وقال جرير:
إذا قطعن علما بعد علم * حتى تناهين بنا إلى حكم (1)
وقيل كالاعلام في العظم. وقوله " كل من عليها فان " إخبار من الله تعالى أن جميع من على وجه الارض من العقلاء يفنون ويخرجون من الوجود إلى العدم. وإذا ثبت ذلك وكانت الجواهر لا تفنى إلا بفناء يضادها على الوجود، فاذا وجد الفناء أنتفت الجواهر كلها، لانها إختصاص له بجوهر دون جوهر، فالآية دالة على عدم جميع الاجسام على ما قلناه، لانه إذا ثبت عدم العقلاء بالآية ثبت
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 2 / 244 والقرطبي 17 / 164 (*)
===============
(472)
عدم غيرهم، لانه لا يفرق من الامة أحد بين الموضعين.
وقوله " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " معناه ويبقى ربك الظاهر بأدلته كظهور الانسان بوجهه فالوجه يذكر على وجهين:
احدهما - بعض الشئ كوجه الانسان.
الثاني - بمعنى الشئ المعظم في الذكر كقولهم: هذا وجه الرأى، وهذا وجه التدبير أي هو التدبير، وهو الرأي. والاكرام والاعظام بالاحسان، فالله تعالى يستحق الاعظام بالاحسان الذي هو في أعلى مراتب الاحسان. ومعنى ذو الجلال ذو العظمة بالاحسان.
وقوله " يسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن " معناه يسأل الله تعالى من في السموات والارض من العقلاء حوائجهم، ويضرعون اليه. ثم قال " كل يوم هو في شأن " فالشان معنى له عظم، وكذلك قال كل يوم هو في شان، ويقال: لا يشغله شأن عن شأن. والمعنى إن كل يوم اله تعالى في شأن من احياء قوم وإماتة آخرين، وعافية قوم ومرض غيرهم، ونجاة واهلاك ورزق وحرمان وغير ذلك من الامور والنعمة. وقوله " كل من عليها فان " في التسوية بين الخلق في الفناء " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قد فسرناه.
قوله تعالى:
(سنفرغ لكم أية الثقلان (31) فبأي آلاء ربكما تكذبان (32) يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفدوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33)
فبأي آلآء ربكما تكذبان (34) يرسل عليكما شواظ من نار
===============
(473)
ونحاس فلا تنتصران (35) فبأي آلاء ربكما تكذبان) (36).
سبع آيات حجازى وست في ما عداه، عد الحجازيون " من نار " ولم يعده الباقون.
قرأ " شواظ " - بكسر الشين - أهل مكة. الباقون بضمها، وهما لغتان مثل صوار وصوار. وقرأ " نحاس " بالجر أهل مكة والبصرة، غير يعقوب عطفا على (نار). الباقون بالرفع عطفا على " شواظ " وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما " سيفرغ " على تقدير سيفرغ الله لكم. الباقون - بالنون - على وجه الاخبار من الله عن نفسه يعني قوله " سنفرغ لكم " من أبلغ الوعيد وأعظم التهديد. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - سنفرغ لكم من الوعيد وينقضي ويأتيكم المتوعد به فشبه ذلك بمن فرغ من شئ وأخذ في غيره.
الثاني - إنا نستعمل عمل من يتفرغ للعمل لتجويده من غير تضجيع فيه كما يقول: القائل: سأتفرغ لك. والله تعالى لا يشغله شئ عن شئ، لانه من صفات الاجسام، وهو من أبلغ الوعيد لانه يقتضي أن يجازى بصغير ذنبه وكبيره إذا كان مستحقا لسخط الله. والفراغ انتفاع القاطع عنه من القادر عليه. والشغل والفراغ من صفات الاجسام التي تحلها الاعراض، وشغلها عن الاضداد في تلك الحال ولذلك وجب ان يكون في صفة القديم تعالى مجازا.
وقوله " أيها الثقلان " خطاب للجن والانس، وإنما سميا ثقلين لعظم شأنهما بالاضافة إلى ما في الارض من غيرهما، فهما أثقل وزنا لعظم الشأن بالعقل والتمكين (ج 9 م 60 من التبيان
===============
(474)
والتكليف لاداء الواجب في الحقوق، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله) (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) يريد عظيمي المقدار، فلذلك وصفهما بأنهما ثقلان.
وقوله " إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض " قال الضحاك: ان استطعتم أن تنفذوها ربين من العذاب يقال: لهم ذلك يوم القيامة.
وقال قوم: معناه إن استطعتم أن تنفذوها ربين من الموت فاهربوا فانه حيث كنتم أدرككم الموت. وقال ابن عباس: معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والارض فاعلموا أنه لا يمكنكم ذلك.
وقوله " لا تنفذون إلا بسلطان " معناه إلا بحجة وبيان. وقيل معناه:
إلا بملك وقهر، وليس لكم ذلك. وقال الزجاج: المعنى " فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " أي حيثما كنتم شاهدين. ثم حجة الله وسلطانه الذي يدل على توحيده وواحد الاقطار قطر وهي الاطراف - في قول سفيان - فانفذوا في صورة الامر والمراد به التحدي. ثم قال " لا تنفذون إلا بسلطان " وهو القوة التي يتسلط بها على الامر " فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقد فسرناه. وفائدة الآية أن عجز الثقلين عن الهرب من الجزاء كعجزهم عن النفوذ من الاقطار، وفي ذلك اليأس من رفع الجزاء بوجه من الوجوه، فلينظر امرء ما يختار لنفسه مما يجازى به.
وقوله " يرسل عليكما شواظ من نار " فالشواظ لهب النار - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - ومنه قول رؤية:
إن لهم من وقعنا أيقاظا * ونار حرب تسعر الشواظا (1)
والنحاس الصفر المذاب للعذاب - في قول ابن عباس ومجاهد وسفيان وقتادة - وفي رواية أخرى عن ابن عباس وسعيد: النحاس الدخان قال النابغة الجعدي:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (شوظ) ومجاز القرآن 2 / 244 والطبري 27 / 23 (*)
===============
(475)
يضئ كضوء سراج السليط * السليط لم يجعل الله فيها نحاسا (1)
أي دخانا. والسليط دهن السمسم. وقال قوم: هو دهن السنام. وقال الفراء: هو دهن الزيت.
وقوله " فلا تنتصران " أي لا تقدران على دفع ذلك عنكما، ووجه النعمة في إرسال الشواظ من النار والنحاس على الثقلين هو ما لهم في ذلك من الزجر في دار التكليف عن مواقعة القبيح، وذلك نعمة جزيلة، فلذلك قال " فبأي آلاء ربكما " معاشر الجن والانس " تكذبان ".
قوله تعالى:
(فاذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان (37) فبأي آلآء ربكما تكذبان (38) فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان (39)
فبأي آلآء ربكما تكذبان (40) يعرف المجرمون بسيميهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام (41) فبأي آلاء ربكما تكذبان (42) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون (43) يطوفون بينها وبين حميم آن (44) فبأي آلآء ربكما تكذبان) (45).
ثمان آيات بصرى وتسع في ما عداه، عد الكل " يكذب بها المجرمين " ولم يعده البصريون.
يقول الله تعالى " فاذا انشقت السماء " ومعناه إن ينفك بعضها عن بعض، فالسماء تنشق يومئذ وتصير حمراء كالوردة. ثم تجرى كالدهان قال الفراء: الوردة
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 75 ومجاز القرآن 2 / 245 (*)
===============
(476)
الفرس الوردة. وقال الزجاج: يتلون كما يتلون الدهان المختلفة أى فكان كلون فرس ورده، وهو الكميت فيتلون في الشتاء لونه بخلاف لونه في الصيف، وكذلك في الفصول فسبحان خالقها والمصرف لها كما يشاء. والوردة واحدة الورد، وإنما تصير السماء كالوردة في الاحمرار ثم تجري كالدهان، وهو جمع دهن كقولك قرط وقراط عند انقضاء الامر وتناهي المدة. وقال الحسن: هي كالدهان أى كالدهن الذى يصب بعضه على بعض بألوان مختلفة. وقيل: تمور كالدهن صافية. وقال قتادة:
لونها حينئذ الحمرة كالدهان في صفاء الدهن وإشراقه. وقال قوم: إن السماء تذوب يوم القيامة من حر نار جهنم فتصير حمراء ذائبة كالدهن. قال الجبائي:
وروي أن السماء الدنيا من حديد وليس في الآية مايدل ما قاله، لاحتمال ذلك ما قاله المفسرون. والاقوال التي ذكرناها. وقال الفراء: الدهان الاديم الاحمر ووجه النعمة في إنشقاق السماء حتى وقع التقرير بها في قوله " فبأى آلاء ربكما تكذبان " هو ما في الاخبار به من الزجر والتخويف بانشقاق السماء فوقع في السبب ولا يصلح في المسبب أن يكون منفعة، ولكن لسبب النفع الذى هو الزجر في دار الدنيا، فلذلك وقع التقرير بقوله " فبأى آلاء ربكما تكذبان ".
وقوله " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان " معناه لا يسأل في ذلك الموطن لما يلحقه من الدهش والذهول الذى تحار له العقول، وإن وقعت المسألة في وقت غيره بدلالة قوله " وقفوهم إنهم مسؤلون " (1) وقال قتادة: يكون المسائلة قبل ثم يختم على الافواه عند الجحد فتنطق الجوارح. وقيل: معناه إن يومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان ليعرف المذنب من المؤمن المخلص، لان الله تعالى قد جعل عليهم علامة كسواد الوجوه وقبح الخلق ولم يدخل في ذلك سؤال المحاسبة للتوبيخ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 37 الصافات آية 24 (*)
===============
(477)
والتقريع، لانه تعالى قال " وقفوهم إنهم مسؤلون " وتقدير الاية فيومئذ لا يسأل أنس عن ذنبه ولا جان عن ذنبه. وقيل: يجوز أن يكون المراد أنه لا يسأل احد من انس ولا جان عن ذنب غيره، وإنما يسأل هو سؤال توبيخ عن فعل نفسه.
وقوله " يعرف المجرمون بسيماهم " معناه إن الله تعالى جعل للكفار والعصاة علامات تعرفهم بها الملائكة والسيماء العلامة. ومنه قوله " سيماهم في وجوههم من اثر السجود " (1) وهو مشتق من السوم وهو رفع الثمن عن مقداره، ومنه " مسومين " (2) أي معلمين بعلامة والعلامة يرفع باظهارها لتقع المعرفة بها والمعرفة هي العلم عند المتكلمين. وقال بعض النحويين: إن متعلق المعرفة المفرد ومتعلق العلم الجملة كقولهم عرفت زيدا وعلمت زيد قائما ولو جئت بقائم في عرفت لكان حالا ولم يخرج عن معرفة زيد.
وقوله " فيؤخذ بالنواصي والاقدام " قال الحسن: يجمع بين ناصيته وقدمه بالغل فيسحب إلى النار. والناصية شعر مقدم الرأس، ومنه ناصية الفرس ومنه قوله تعالى " لنسفعا بالناصية " (3) أي ليقترن بها ما سحقته النار إذلالا لها وأصله الاتصال من قول الشاعر:
في يناصيها بلادقى أي يتصل بها فالناصية متصلة بالرأس و (الاقدام) جمع قدم وهو العضو الذي يقدمه صاحبه للوطئ به على الارض. وقيل: يأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم فتسحبهم إلى النار أى تأخذهم تارة بذا، وتارة بذا. وقال الحسن وقتادة يعرفون بأنهم سود الوجوه زرق العيون، كما قال تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 48 الفتح آية 29 (2) سورة 3 آل عمران آية 125 (3) سورة 96 العلق آية 15 (*)
===============
(478)
وجوه " (1) " فبأى آلاء ربكما تكذبان " وجه النعمة بذلك ما فيه من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات وذلك نعمة من الله على العباد في الدين.
وقوله " هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون " معناه يقال لهم يوم القيامة إذا شاهدوا جهنم " هذه جهنم " ويحتمل أن يكون المراد هذه جهنم التي وصفتها هي التي يكذب بها المجرمون الكفار بنعم الله " يطوفون بينها وبين حميم آن " قيل:
يطوفون بين أطباقها في عذاب النار، وبين الحميم آن. والحميم الماء الحار. والآن الذي بلغ نهايته. والمراد - ههنا - هو الذى قد بلغ نهاية حره من آنى يأنى إنيا فهو آن، ومنه قوله " غير ناظرين إناه " (2) يعني نضاجه وبلوغه غايته " فبأي آلاء ربكما تكذبان " والاخبار بذلك لطف وزجر عن المعاصي فلذلك كانت نعمة اعتد بها وقرر بها.
قوله تعالى:
(ولمن خاف مقام ربه جنتان (46) فباي آلآء ربكما تكذبان (47) ذواتا أفنان (48) فبأى آلآء ربكما تكذبان (49)
فيهما عينان تجريان (50) فبأي آلآء ربكما تكذبان (51) فيهما من كل فاكهة زوجان (52) فبأي آلآء ربكما تكذبان (53)
متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان (54)
فبأي آلآء ربكما تكذبان) (55) عشر آيات بلا خلاف.
لما وصف الله تعالى ما أعد للكفار من أنواع العذاب، بين بعد ذلك ما أعد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 3 آل عمران آية 106 (2) سورة 33 الاحزاب آية 53 (*)
===============
(479)
للمؤمنين والمتقين، فقال " ولمن خاف مقام ربه جنتان " والمعنى ولمن خاف المقام الذي يقفه فيه ربه للمسائلة عما عمل في ما يجب عليه مما أمره به أو نهاه عنه، فيكفه ذلك عما يدعوه هواه اليه يصبر صبر مؤثر للهدى على طريق الردى. والمقام الموضع الذي يصلح للقيام فيه وبضم الميم الموضع الذي يصلح للاقامة فيه. والجنتان اللتان وعد الله من وصفه بهما قيل هما جنتان: إحداهما داخل قصره والاخرى خارج قصره على ما طبع الله تعالى العباد عليه من شهوة ذلك وجلالته فشوقوا إلى ما في طباعهم شهوة مثله.
ثم وصف الجنتين فقال " ذواتا أفنان " والافنان جمع (فن) وهو الغصن الفصن الورق، ومنه قولهم: له فنون، وهذا فن آخر أي نوع آخر أي ضرب آخر، وفيه فنون أي ضروب مختلفة، ويجوز أن يكون جمع فن. وقال ابن عباس:
معناه ذواتا ألوان. وقال عكرمة. ظل الاغصان على الحيطان. وقال الضحاك:
ذواتا ألوان يفضل بها على ما سواها " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قد بيناه.
وقوله " فيهما عينان تجريان " اخبار منه تعالى أن في الجنتين اللتتين وعدتهما المؤمنين عينين من الماء تجريان بين أشجارها، فالجاري هو الذاهب ذهاب الماء المنحدر، فكل ذاهب على هذه الصفة فهو جار، وصفت بالعين لصفائها أو بأنها جارية لانه أمتنع لها " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قد فسرناه.
وقوله " فيهما من كل فاكهة زوجان " معناه إن في تلك الجنتين من كل ثمرة نوعين وضربين متشاكلين كتشاكل الذكر والانثى، فلذلك سماهما (زوجين)
وذلك بالرطب واليابس من العنب والزبيب والتين والرطب واليابس، فكذلك
سائر الانواع لا يقصر يابسه عن رطبه في الفصل والطيب إلا أنه امتنع وأعذب بأن يكون على هذا المنهاج. وقيل: فيهما من كل نوع من الفواكه ضربان ضرب
===============
(480)
معروف وضرب من شكله غريب، وكل ذلك للاطراف والامتاع " فبأي آلاء ربكما تكذبان. متكئين على فرش بطائنها من استبرق " فالاتكاء الاستناد للتكرمة والامتناع والمتكى هو ما يطرح للانسان في مجالس الملوك للاكرام والاجلال إتكا يتكي إتكاءا، فهو متكي، ومنه وكاة السقاء إذا شددته، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله) (العين وكاء الجسد) والاتكاء شدة التقوية للاكرام والامتاع. وهو نصب على الحال (على فرش) وهو جمع فراش وهو الموطأ الممهد للنم عليه بطائنها، وهو جمع بطانة وهي باطن الظهار، فالبطانة من اسفله والظاهرة من أعلاه.
وقوله (وجنا الجنتين دان) فالجنى الثمرة التي قد أدركت في الشجرة وصلح أن تحبى غضه قال الشاعر:
هذا جناي وضياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه (1)
والاستبرق الغليظ من الديباج - في قول عكرمة وابن اسحاق - وقيل:
ان ثمارها دانية لا يرد يده عنها بعد، ولا شوك - في قول قتادة - وقيل: الظواهر من سندس وهو الديباج الرقيق، والبطاين من أستبرق وهو الديباج الغليظ. وقيل:
الاستبرق المتاع الصيني من الحرير، وهو بين الغليظ والرقيق. وقال الفراء:
الاستبرق غليظ الديباج. وقوله (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد تكرر تفسيره.
قوله تعالى:
(فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (56)
فبأي آلآء ربكما تكذبان (57) كانهن الياقوت والمرجان (58)
فبأي آلآء ربكما تكذبان (59) هل جزاء الاحسان إلا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي 17 / 180 (*)
===============
(481)
الاحسان (60) فبأي آلآء ربكما تكذبان (61) ومن دونهما جنتان (62)
فبأي آلآء ربكما تكذبان (63) مدها متان (64) فبأي آلآء ربكما تكذبان) (65) عشر آيات بلا خلاف.
قرأ الكسائي (لم يطمثهن) بكسر إحداهما وضم الاخرى الباقون بكسرهما وهما لغتان، يقال: طمثت المرأة تطمث وتطمثت إذا حاضت. قال الزجاج وغيره:
في الآية دلالة على أن الجن تنكح. وقال الفراء: لم ينكحهن إنس ولا جان نكاح تدمية أي لم يقتضهن، والطمث الدم. والضهير في قوله (فيهن قاصرات الطرف)
عائد على الفرش التي بطائنها من استبرق، لانه قد تقدم ذكره، وكان أولى بالعود عليه، ولو لم يتقدم هذا الذكر لجاز أن يرجع إلى الجنان وإلى الجنتين المذكورتين وغيرهما من الجنان لانه معلوم، لكن المذكور أولى، لان اقتضاءه له أشد، والقاصر المانع من ذهاب الشئ إلى جهة من الجهات، فالحور قاصرات الطرف عن غير أزواجهن إلى أزواجهن. والطرف جفن العين، لانه طرف لها، فيطبق عليها تارة وينفتح تارة، ومنه الاطراف بالامر لانه كالطرف الذي يليك بحدوثه لك.
وقوله (لم يطمثهن) قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال مجاهد وابن زيد وعكرمة: لم يمسسهن بجماع من قولهم: ما طمث هذا البعير جمل قط أي ما مسه جمل.
الثاني - قال ابن عباس: لم يدمهن بنكاح من قولهم: امرأة طامث أي حائض كأنه قال هن أبكار لم يقتضهن أحد قبلهم. والاصل المس، كأنه ما مسها دم الحيض. وقيل: إنما نفى الجان، لان للمؤمنين منهم لهم أزواجا من الحور، (ج 9 م 61 من التبيان)
===============
(482)
وهو قول ضمرة بن حبيب، قال البلخي: المعنى إن ما يهب الله لمؤمني الجن من الحور العين لم يطمثهن جان، وما يهب الله لمؤمني الانس لم يطمثهن إنس قبلهم، على أن هذا مبالغة. وقال ضمرة بن حبيب في: الآية دلالة على أن للجن ثوابا فالانسيات للانس والجنيات للجن (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد مضى تفسيره.
وقوله (كأنهن الياقوت والمرجان) قال الحسن: هن على صفاء الياقوت في بياض المرجان. وقيل: كالياقوت في الحسن والصفاء والنور. وقال الحسن:
المرجان أشد اللؤلؤ بياضيا وهو صغاره (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد بيناه.
وقوله (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) معناه ليس جزاء من فعل الاعمال الحسنة وأنعم على غيره إلا أن ينعم عليه بالثواب ويحسن اليه (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد مضى بيانه.
وقوله (ومن دونهما جنتان) معناه إن من دون الجنتين اللتين ذكرنا (لمن خاف مقام ربه) جنتين أخرتين دون الاولتين، وإنهما أقرب إلى قصره ومجالسه في قصره ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف في طبع البشرية من شهوة مثل ذلك. ومعنى (دون) مكان قريب من الشئ بالاضافة إلى غيره، مما ليس له مثل قربه، وهو ظرف مكان، وإنما كان التنقل من جهة إلى جهة أنفع، لانه أبعد من الملل على ما طبع عليه البشر، لان من الاشياء مالا يمل لغلبة محبته على النفس بالامر اللازم، ومنها ما يمل لتطلع النفس إلى غيره، ثم الرجوع اليه.
وقوله (مدها متان) معناه خضراوتان تضرب خضرتهما إلى السواد من الري على أتم ما يكون من الحسن، لان الله شوق اليهما ووعد المطيعين في خوف مقامه بها، فناهيك بحسن صفتهما وما يقتضيه ذكرهما في موضعهما. وقال ابن عباس
===============
(483)
وابن الزبير وعطية وأبوصالح وقتادة: هما خضراوان من الري. وقال قوم:
الجنان الاربع (لمن خاف مقام ربه) ذهب اليه ابن عباس: وقال الحسن: إلا وليان للسابقين والاخيرتان للتابعين.
قوله تعالى:
(فيهما عينان نضاختان (66) فباي آلآء ربكما تكذبان (67)
فيهما فاكهة ونخل ورمان (68) فبأي آلآء ربكما تكذبان (69) فيهن خيرات حسان (70) فبأي آلآء ربكما تكذبان (71) حور مقصورات في الخيام (72) فبأي آلآء ربكما تكذبان (73) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (74) فبأي آلآء ربكما تكذبان (75)
متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان (76) فبأى آلآء ربكما تكذبان (77) تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام) (78)
ثلاث عشرة آية.
قرأ اهل الشام (ذوالجلال) على الرفع، على أنه نعت ل (إسم). الباقون - بالخفض - على أنه نعت ل (ربك).
وقوله (فيهما) يعني الجنتين اللتين وصفهما بأنهما (مدها متان) (عينان نضاختان) فعين الماء المكان الذي ينبع منه الماء، ومعنى (نضاختان) فوارتان بالماء. وقيل: نضاختان بكل خير. والنضخ - بالخاء - أكثر من النضح - بالحاء - لان النضح غير المعجمة الرش وبالخاء كالبرك والفوارة التي ترمى بالماء صعداء،
===============
(484)
نضخ ينضخ نضخا فهو ناضخ. وفى نضاخة مبالغة، ووجه الحكمة في العين النضاخة أن النفس إذا رأت الماء يفور كان أمتع، وذلك على ما جرت به العادة (فبأي آلاء ربكما تكذبان).
وقوله (فيهما فاكهة ونخل ورمان) أخبار منه تعالى أن في الجنتين المتقدم وصفهما (فاكهة) وهي الثمار (ونخل ورمان) وإنما افرد ذكر النخل والرمان من الفاكهة، وإن كان من جملتها تنبيها على فضلهما وجلالة النعمة بهما، كما أفرد ذكر جبرائيل وميكائيل في قوله (من كان عدوا لله وملائكته ورسوله وجبريل وميكال فان الله عدو للكافرين) (1) وقال قوم: ليسا من الفاكهة بدلا الآية. وليس له في ذلك حجة، لاحتمال ما قلناه. قال يونس النحوي: النخل والرمان من أفضل الفاكهة، وإنما فضلا لفضلهما، والنخل شجر الرطب والتمر. والرمان مشتق من رم يرم رما، لان من شأنه أن يرم الفؤاد بجلائه له (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد مضى بيانه.
وقوله (فيهن خيرات حسان) قال ابوعبيدة: إمرأة خيرة ورجل خير، والجمع خيرات. والرجال أخيار قال الشاعر:
ولقد طعنت مجامع الربلات * ربلات هند خيرة الملكات (2)
وقال الزجاج: أصل (خيرات) خيرات، وخفف. وفى الخبر المرفوع إن المعنى (خيرات الاخلاق حسان الوجوه) وإنما قيل للمرأة في الجنة: خيرة، لانها مما ينبغي أن تختار لفضلها في أخلاقها وأفعالها، وهي مع ذلك حسنة الصورة، فقد جمعت الاحوال التي تجل بها النعمة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد بينا معناه.
وقوله (حور مقصورات في الخيام) فالحور البيض الحسان البياض، ومنه
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 2 البقرة آية 98 (2) مر في 5 / 319 وهو في مجاز القرآن شاهد 298 (*)
===============
(485)
الدقيق الحواري لشدة بياضه، والعين الحورا اذا كانت شديدة بياض البياض، وشديدة سواد، السواد، وبذلك يتم حسن العين. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد:
الحور: البيض. وقوله (مقصورات) أي قصرن على أزواجهن، فلا بردن بدلا منهم - في قول مجاهد والربيع - وقيل: معناه محبوسات في الحجال - في قول ابن عباس وأبي العالية ومحمد بن كعب والضحاك والحسن، وعلى وجه الصيانة لهن والتكرمة لهن عن البذلة. وقال ابوعبيدة: مقصورات أي مخدرات و (الخيام)
جمع خيمة وهو بيت من الثياب على الاعمدة، والاوتاد مما يتخذ للاصحار، فاذا اصحر هؤلاء الحور، كانت لهن الخيام في تلك الحال وغيرها مما ينفى الابتذال.
وقال الزجاج: يقال للهوارج الخيام وقال عبدالله: الخيام در مجوف على هيئة البيت وقال ابن عباس: بيوت اللؤلؤ. وقيل: الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب (فبأى آلاء ربكما تكذبان) قد مضى بيانه.
وقوله (لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان) قد مضى تفسيره. قال البلخي في الآية دلالة على قول الحسن البصري: أن الحور العين هو أزواجهم في الدنيا إذا كن مؤمنات مطيعات لان الله قال (لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان) وقال: من نصر الحسن أن المراد لم يطمثهن بعد النشأة الثانية إنس قبلهم ولا جان. وإنما كرر قوله (لم يطمثهن) في الآية للبيان على أن صفة الحور المقصورات في الخيام كصفة القاصرات الطرف مع تمكين التشويق بهذه الحال الجليلة التي رغب فيها كل نفس سليمة.
وقوله (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) (متكئين) نصب على الحال، وقد فسرنا معناه. والرفارف جمع رفرف، وهي المجالس - في قول ابن عباس وقتادة والضحاك - وقيل: الرفرف هي فصول المجالس للفرش. وقال
===============
(486)
الحسن: هي المرافق، وقيل: الرفارف الوسائد. وقيل: الرفرفة الروضة. وأصله من رف النبت يرف إذا صاد غضا نضرا. وقيل: لما في الاطراف رفرف، لانه كالنبت الغض الذي يرف من غضاضته. والخضر جمع أخضر (والعبقري) الزرابي
- في قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة - وهي الطنافس. وقال مجاهد: هو الديباج: وقال الحسن: هو البسط. وقيل (عبقر) اسم بلد ينسج به ضروب من الوشي الحسن، قال زهير:
بخيل عليها جبة عبقرية * جد يرون يوما ان يبالوا ويستعلوا (1)
وقيل: الموشى من الديباج عبقري تشبيها بذلك، ومن قرأ (عباقري)
فقط غلط لانه لا يكون بعد الف الجمع أربعة احرف ولا ثلاثة إلا أن يكون الثاني حرف لين نحو (قناديل).
وقوله (تبارك اسم ربك) معناه تعاظم وتعالى إسم ربك، لانه يستحق أن يوصف بما لا يوصف به أحد من كونه قديما وإلها، وقادرا لنفسه وعالما حيا لنفسه وغير ذلك.
وقوله (ذي الجلال والاكرام) خفض، لانه بدل من قوله (ربك)
ومعنى الجلال العظمة والاكرام الاعظام بالاحسان والانعام. وقال الحسن: الاكرام الذي يكرم به أهل دينه وولايته. ومن قرأ (ذو الجلال) بالرفع أراد ان اسم الله فيه البركة، وإذا قرئ بالخفض دل على أن اسم الله غير الله، لانه لو كان اسمه هو الله لجرى مجرى ذكر وجهه إلا ترى أنه لما قال (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) ورفعه، لانه أراد الله تعالى وههنا بخلافه.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 103 ومجاز القرآن 2 / 246 واللسان (عبقر)
(*)
===============
56 - سورة الواقعة هي مكية بلا خلاف وهي تسع وتسعون آية حجازي وشامي، وسبع وتسعون بصرى، وست وتسعون كوفي، وسبع وتسعون في المدنيين. وروي عن مسروق أنه قال من أراد أن يعلم نبأ الاولين ونبأ الآخرين ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة، فليقرأ الواقعة.
بسم الله الرحمن الرحيم (إذا وقعت الواقعة (1) ليس لواقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة (3) إذا رجت الارض رجا (4) وبست الجبال بسا (5)
فكانت هباء منبثا (6) وكنتم أزواجا ثلثة (7) فأصحاب الميمنة * ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشئمة * ما أصحاب المشئمة (9)
والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11) في جنات النعيم (12)
ثلة من الاولين (13) وقليل من الاخرين (14) على سرر موضونة (15) متكئين عليها متقابلين) (16).
ست عشرة آية كوفي، وسبع عشرة آية بصري وشامي، وثمان عشرة آية
===============
(488)
حجازى، عد الكل (وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) ولم يعده الكوفيون.
وعد الحجازيون والكوفيون (موضونة) ولم يعده الباقون.
(إذا) متعلقة بمحذوف، وتقديره إذكروا (إذا وقعت الواقعة) قال المبرد: إذا وقعت معناه إذا تقع، وإنما وقع الماضي - ههنا - لان (إذا) للاستقبال ومعناه إذا ظهرت القيامة وحدثت. والوقوع ظهور الشئ بالحدوث، وقع يقع وقوعا فهو واقع، والانثى واقعة (وإذا) تقع للجزاء (ليس لوقعتها كاذبة) معناه قال الفراء ليس لها مردودة ولا رد. وقيل: ليس لوقعتها قضية كاذبة فيها، لاخبار الله تعالى بها ودلالة العقل عليها، وقال قوم: معناه ليس لها نفس كاذبة في الخبر بها. وقيل:
الكاذبة - ههنا - مصدر مثل العاقبة والعافية. وقال الضحاك: القيامة تقع بصيحة عند النفخة الثانية.
وقوله (خافضة رافعة) قيل: تخفيض قوما بالمعصية وترفع قوما بالطاعة، لانها إنما وقعت للمجازاة، فالله تعالى يرفع أهل الثواب ويخفض أهل العقاب، فهو مضاف إلى الواقعة على هذا المعنى. وقال الحسن: تخفض أقواما إلى النار، وترفع أقواما إلى الجنة. والقراء: كلهم على رفع خافضة بتقدير هي خافضة رافعة. وقرأه الترمذى في اختياره بالنصب على الحال، وتقديره إذا وقعت الواقعة تقع خافضة رافعة على الحال.
وقوله (إذا رجت الارض رجا) معناه زلزلت الارض زلزالا - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - والزلزلة الحركة باضطراب وإهتزاز، ومنه قولهم:
ارتج السهم عند خروجه عن القوس. وقيل: ترتج الارض بمعنى أنه ينهدم كل بناء على الارض.
وقوله (وبست الجبال بسا) معناه فتت فتا - في قول ابن عباس ومجاهد
===============
(489)
وابي صالح والسدى - وهو كما يبس السويق أى يلت. والبسيس السويق او الدقيق يلت ويتخذ زادا. وقال لص من غطفان:
لا تخبزا خبزا وبسا بسا * ولا تطيلا مناخ حبسا (1)
وقال الزجاج: يجوز أن يكون معنى بست سيفت وأنشد:
وانبس حيات الكيثب الاهيل (2)
وقوله " فكانت هباء منبثا " فالهباء غبار كالشعاع في الرقة، وكثيرا ما يخرج مع شعا الشمس من الكوة النافذة، فسبحان الله القادر على أن يجعل الجبال بهذه الصفة. والانبثات افتراق الاجزاء الكثيرة في الجهات المختلفة، فكل أجزاء أنفرشت بالتفرق في الجهات فهي منبثة، وفى تفرق الجبال على هذه الصفة عبرة ومعجزة لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
وقوله " وكنتم أزواجا ثلاثة " معناه كنتم أصنافا ثلاثة، كل صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة، ولذلك قيل على هذه المزاوجة: قد زاوج بين الكلامين أي شاكل بينهما.
وقوله " فاصحب الميمنة " يعني أصحاب اليمن والبركة والثواب من الله تعالى. وقوله " ما أصحاب الميمنة " بصورة الاستفهام، والمراد تعظيم شأنهم في الخبر عن حالهم " واصحاب المشئمة " معناه الشؤم والنكد وعقاب الابد. وقوله " ما أصحاب المشأمة " على تعظيم شأنهم في الشر وسوء الحال. وقيل: أصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، وخبر (أصحاب الميمنة) ما أصحاب الميمنة، كأنه قيل: أي
ـــــــــــــــــــــــ
(1، 2) الصحاح واللسان (بسس) والقرطبي 17 / 196 (ج 9 م 62 من التبيان)
(*)
===============
(490)
شئ هم؟ وفيه تعجيب عن حالهم. وقيل: أصحاب اليمين هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، وأصحاب الشمال الذين يأخذون كتبهم بشمالهم.
وقوله " والسابقون السابقون " معناه الذين سبقوا إلى اتباع الانبياء فصاروا أئمة الهدى. وقيل: السابقون إلى طاعة الله السابقون إلى رحمته، والسابقون إلى الخير إنما كانوا أفضل لانهم يقتدى بهم في الخير ويسبقوا إلى أعلى المراتب قبل من يجيئ بعدهم فلهذا تميزوا من التابعين بما لا يلحقونهم به ولو اجتهدوا كل الاجتهاد والسابقون الثاني يصلح أن يكون خبرا عن الاول، كأنه قال: والسابقون الاولون في الخير، ويصلح أن يكون " أولئك المقربون " وقوله " أولئك المقربون " معناه الذين قربوا من جزيل ثواب الله وعظيم كرامته بالامر الاكثر الذي لا يبلغه من دونهم في الفضل. والسابقون إلى الطاعات يقربون إلى رحمة الله في أعلا المراتب وأقربها إلى مجالس كرامته بما يظهر لاهل المعرفة منزلة صاحبه في جلالته ويصل بذلك السرور إلى قلبه، وإنما قال " في جنات النعيم " مع أنه معلوم من صفة المقربين، لئلا يتوهم أن التقريب يخرجهم إلى دار أخرى، وإنما هم مقربون من كرامة الله في الجنة لانها درجات ومنازل بعضها أرفع من بعض. والفرق بين النعيم والنعمة أن النعمة تقتضي شكر المنعم من أنعم عليه نعمة وانعاما، والنعيم من نعم نعيما كقولك أنتفع انتفاعا.
وقوله " ثلة من الاولين " فالثلة الجماعة. وأصله القطعة من قولهم: ثل عرشه إذا قطع ملكه بهدم سريره. والثلة القطعة من الناس، وقال الزجاج: الثل القطع، والثلة كالفرقة والقطعة. وهو خبر ابتداء محذوف، وتقديره: هم ثلة من الاولين، وهم قليل من الاخرين. وقوله " وقليل من الآخرين " إنما قال ذلك لان الذين سبقوا إلى إجابة النبي (صلى الله عليه وآله) قليل من كثير ممن سبق إلى النبيين.
===============
(491)
وقوله " على سرر موضونة " فالموضونة المنسوجة المداخلة كصفة الدرع المضاعفة قال الاعشى:
ومن نسج داود موضونة * تساق إلى الحي عيرا فعيرا (1)
ومنه (وضين الناقة) وهي البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض مضاعفا وقيل: موضونة مشبكة بالذهب والجوهر، وقال ابن عباس ومجاهد: موضونة بالذهب وقال عكرمة: مشبكة بالدر، وقال ابن عباس - في رواية أخرى - موضونة معناه مظفورة، والوضين حبل منسوج من سيور.
وقوله " متكئين عليها متقابلين " معناه مستندين متحاذيين كل واحد بازاء الآخر، وذلك أعظم في باب السرور. والتقابل والتحاذي والتواجه واحد.
والمعنى إن بعضهم ينظر إلى بعض وينظر إلى وجه بعض لا ينظر في قفاه، من حسن عشرته وتهذيب أخلاقه.
قوله تعالى:
(يطوف عليهم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأن من معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفاكهة مما يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون (21) وحور عين (22)
كأمثال اللؤلؤ المكنون (23) جزاء بما كانوا يعملون (24)
لا يسمعون فيها لغوا ولا تاثيما (25) إلا قيلا سلاما سلاما) (26)
عشر آيات كوفى ومدني الاخير، وتسع فيما عداه، عد المكي واسماعيل
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 71 واللسان (وضمن) ومجاز القرآن 2 / 248 (*)
===============
(492)
" وأباريق " ولم يعده الباقون. وعد المدني والكوفى " وحور عين " ولم يعده الباقون.
قرأ ابوجعفر وأهل الكوفة إلا عاصما وخلفا " وحور عين " خفضا. الباقون بالرفع. فمن رفع حمله على: ولهم حور عين. واختاروا الرفع لان الحور العين لا يطاف بهن، وإنما يطاف بالكأس، وعلى هذا يلزم أن يقرأ " وفاكهة " رفعا وكذلك " ولحم طير " بالرفع لانهما لا يطاف بهما، فما اعتذروا في ذلك فهو عذر من قرأ بالخفض. ومن خفض عطف على الاول لتشاكل الكلام من غير اخلال بالمعنى إذ هو مفهوم. وقال الزجاج: ويكون تقديره ينعمون بكذا وحور عين. وقال ابوعلى تقديره وفي مجاورة حور عين أو معانقة حور عين، لان الكلام الاول يدل عليه وقال الشاعر:
اذا ما الغانيات برزن يوما * وزججن الحواجب والعيونا (1)
والمعنى وكحلن العيون فرده على قوله (وزججن) ومثله:
(متقلدا سيفا ورمحا) (2)
اي وحاملا رمحا. وكان يجوز النصب على تقدير ويعطون حورا عينا كما قال الشاعر:
جئني بمثل بني بدر لقومهم * او مثل اخوة منظور بن سيار (3)
لما كان معنى جئني هات عطف او مثل على المعنى وقال الحسن الحور البيض. وقال مجاهد يحار فيهن البصر.
لما ذكرالله تعالى ان السابقين إلى الخيرات والطاعات هم المقربون إلى نعيم
ــــــــــــــــــــ
(1) القرطبى 17 / 205 (2) مر في 4 / 232 (3) مر في 3 / 455 و 6 / 30 (*)
===============
(493)
الجنة وثوابها، فانهم على سرر موضونة متقابلين، اخبر انه " يطوف عليهم ولدان " يعني صبيان " مخلدون " فالطوف الزور بالتنقل في المكان، ومنه الطائف الذي يطوف بالبلد على وجه الحرس. والولدان جمع وليد. ومخلدون قال مجاهد معناه باقون لهم لا يموتون. وقال الحسن: معناه انهم على حالة واحد لا يهرمون، يقال:
رجل مخلد اي باق زمانا أسود اللحية لا يشيب وقال الفراء: معناه مقرطون والخلد القرط. والاكواب جمع كوب وهي اباريق واسعة الرؤوس بلا خراطيم - في قول قتادة - قال الاعشى:
صليفية طيبا طعمها * لها زبد بين كوب ودن (1)
والاباريق التي لها عرى وخراطيم واحدها إبريق و " كأس من معين " اي يطوفون عليهم ايضا بكأس من خمر معين ظاهر للعيون جار " لا يصدعون عنها " اي لا يلحقهم الصداع من شربها " ولا ينزفون " اي لا تنزف عقولهم بمعنى لا تذهب بالسكر - في قول مجاهد وقتادة والضحاك - ومن قرأ " ينزفون " بالكسر، وهو حمزة والكسائي وخلف، حمله على أنه لا تفنى خمرهم قال الابرد:
لعمري لئن أنزفتم او صحوتم * لبئس الندامى كنتم آل أبجرا (2)
وقوله " وفاكهة مما يتخيرون " أي ويطاف عليهم بفاكهة مما يختارونه ومما يشتهونه، وينعمون بفاكهة مما يشتهونه. وقوله " ولحم طير مما يشتهون " أي ويطاف عليهم او ينعمون بلحم طير مما يشتهون. وقوله " وحور عين " من رفعه حمله على معنى ولهم فيها حور عين، لانهن لا يطاف بهن وإنما يطاف بالكأس. ومن جر فعلى معنى وينعمون بحور عين او يحصلون في معانقة حور عين. والحور جمع حوراء والحور نقاء البياض من كل شائب يجري مجرى الوسخ. وقوله " كأمثال اللؤلؤ "
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 9 / 216 (2) مر في 8 / 496 (*)
===============
(494)
أي مثل هؤلاء الحور في البياض والنقاء مثل اللؤلؤ " المكنون " يعني الدر المصون عما يلحق به من دنس كأنه مأخوذ من أن الدرة تبقى على حسنها اكثر مما يبقى غيرها لطبعها وصيانة الناس لها قال عمر بن أبي ربيعة:
وهي زهراء مثل لؤلؤ الغواص * ميزت من جوهر مكنون
" جزاء " أي يفعل ذلك بهم جزاء ومكافأة على ما عملوه في دار الدنيا من الطاعات وأجتناب المعاصي ثم قال " لا يسمعون فيها لغوا " أي لا يسمع المثابون في الجنة لغوا يعنى مالا فائدة فيه من الكلام، لان كل ما يتكلمون به فيه فائدة (ولا تأثيما)
ولا يجري فيها ما يؤثم فيه قائله من قبيح القول (إلا قيلا سلاما سلاما) يعني لكن يسمعون قول بعضهم لبعض على وجه التحية " سلاما سلاما " إنهم يتداعون بالسلام على حسن الآداب وكريم الاخلاق الذي يوجب التواد، لان طباعهم قد هذبت على أتم الكمال. ونصب (سلاما) على تقدير سلمك الله سلاما بدوام النعمة وحال الغبطة، وجاز ان يعمل فيه سلام، لانه يدل عليه، كما يدل على قوله " والله أنبتكم من الارض نباتا " (1) ويصلح أن يكون سلاما نعتا لقوله " قيلا " ويصلح أن ينتصب ب (قيل) فالوجوه الثلاثة محتملة. وقيل " إلا قيلا سلاما سلاما " أي قولا يؤدي إلى السلامة.
قوله تعالى:
(وأصحاب اليمين * ما أصحاب اليمين (27) في سدر مخضود (28) وطلح منضود (29) وظل ممدود (30) وماء مسكوب (31)
وفاكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا ممنوعة (33) وفرش مرفوعة (34)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 71 نوح آية 17 (*)
===============
(495)
إنا أنشاناهن إنشاء (35) فجعلناهن أبكارا (36) عربا أترابا (37)
لاصحاب اليمين (38) ثلة من الاولين (39) وثلة من الآخرين) (40)
أربع عشرة آية كوفى وعدد اسماعيل وبصري، وخمس عشرة آية فيما عداه عد المدني والمكي والبصري " وأصحاب اليمين " ولم يعده الباقون. وعد المدنيان والمكي والكوفى والشامي " انشاء " ولم يعده الباقون.
قرأ اسماعيل وحمزة وخلف ويحيى " عربا " مخففة. الباقون مثقلة، وهما لغتان. وروي عن علي (عليه السلام) انه قرأ " وطلع منضود " بالعين. والقراء على الحاء وقال علي (عليه السلام): هو كقوله " ونخل طلعها هضيم " (1) وقال كالمتعجب: وما هو شأن الطلع؟ ! فقيل: له ألا تغيره؟ قال: القرآن لا يهاج اليوم ولا يحول.
وقوله " وأصحاب اليمين " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أولها - الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم.
الثاني - الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة.
الثالث - اصحاب اليمين والبركة. وقوله " ما اصحاب اليمين " معنا ومعنى " ما أصحاب الميمنة " سواء وقد فسرناه.
وقوله " في سدر مخضود " فالسدر شجر النبق، والمخضود هو الذي لا شوك فيه وخضد بكثرة جملته وذهاب شوكه - في قول ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد والضحاك - وأصل الخضد عطف العود اللين. فمن ههنا قيل: لا شوك فيه، لان الغالب على الرطب اللين أنه لا شوك له.
وقوله " وطلح منضود " قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة وابن زيد:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 26 الشعراء آية 148 (*)
===============
(496)
الطلح شجر الموز. وقال ابوعبيدة: الطلح كل شجر عظيم كثير الشوك، وقال الحارثي:
بشرها دليلها وقالا * غدا ترين الطلح والجبالا (1)
وقال الزجاج: الطلح شجر أم غيلان. وقد يكون على أحسن حال، والمنضود هو الذي نضد بعضه على بعض من الموز - ذكره ابن عباس - وهو من نضدت المتاع إذا عبيت بعضه على بعض. قيل: فقنوا الموز منضود بعضه على بعض " وظل ممدود " معناه دائم لا تنسخه الشمس قال لبيد:
غلب البقاء وكنت غير مغلب * دهر طويل دائم ممدود (2)
وروي في الخبر أن (في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة سنة).
وقوله " وماء مسكوب " أي مصبوب على الخمر يشرب بالمزاج. وقال قوم: يعني مصبوب يشرب على ما يرى من حسنه وصفائه، ولا يحتاجون إلى تعب في استقائه.
وقوله " وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة " أي وثمار مختلفة كثيرة غير قليلة. وقيل الوجه في تكرار ذكر الفاكهة البيان عن اختلاف صفاتها فذكرت اولا بأنها مما يتخيرون، وذكرت - ههنا - بأنها كثيرة وبأنها لا مقطوعة ولا ممنوعة. ومعناه لا مقطوعة كما تنقطع فواكه الدنيا في الشتاء في اوقات مخصوصة، ولا ممنوع بتعذر تناول او شوك يؤذي كما يكون ذلك في الدنيا.
وقوله " وفرش مرفوعة " أي عالية يقال: بناء مرفوع أي عال. وقيل:
معناه ونساء مرتفعات القدر في عقولهن وحسنهن وكمالهن. وقال الحسن: فرش
ـــــــــــــــــــــــ
(1) القرطبى 17 / 208 ومجاز القرآن 2 / 250 (2) القرطبي 17 / 209 والطبري 27 / 94 (*)
===============
(497)
مرفوعة بعضها فوق بعض، والفرش المهاد المهيأ للاضطجاع، فرش يفرش فرشا فهو فارش والشئ مفروش، ومنه قوله " الذي جعل لكم الارض فراشا " (1) لانها تصلح للاستقرار عليها.
وقوله " إنا انشأناهن انشاء " معناه إن اخترعنا أزواجهم اختراعا، وهذا يقوي قول من حمل الفرش على النساء. وقيل: المعنى انا أنشأناهن من البنية " فجعلناهن أبكارا " والبكر التي لم يفتضها الرجل، ولم تفتض وهي على خلقتها الاولى من حال الانشاء. واصله الاول، ومنه بكرة أول النهار. والابتكار عمل الشئ اولا.
والباكورة أول ما يأتي من الفاكهة. والبكر من الابل الفتى في اول أمره وحداثة سنه. وقال الضحاك: ابكارا عذارى. وفى الخبر المرفوع (انهن كن عجائز رمضا في الدنيا).
وقوله " عربا أترابا " فالعرب العواشق لازواجهن المنجبات اليهم - في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة - وقال لبيد:
وفى الحدوج عروب غير فاحشة * ريا الروادف يعشى دونها البصر (2)
والعرب جمع عروب على وزن (رسول، ورسل) وهي اللعوب مع زوجها انسا به راغبة فيه، كأنس العربي بكلام العرب، فكأن لها فطنة العرب وإلفهم وعهدهم. والاتراب جمع ترب وهو الوليدة التي تنشأ مع مثلها في حال الصبى، وهو مأخوذ من لعب الصبيان بالتراب أي هم كالصبيان الذين على سن واحد. قال عمر ابن ابي ربيعة:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 2 البقرة آية 22 (2) مجاز القرآن 2 / 251 والقرطبي 17 / 211 (ج 9 م 63 من التبيان)
(*)
===============
(498)
ابرزوها مثل المهاة تهادي * بين عشر كواعب أتراب (1)
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك: الاتراب المستويات على سن واحد. وقوله " لاصحاب اليمين " أي جميع ما تقدم ذكره لهم جزاء وثوابا على طاعاتهم. وقوله " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين " فالثلة القطعة من الجماعة، فكأنه قال جماعة من الاولين وجماعة من الآخرين. وإذا ذكر بالتنكير كان على معنى البعض من الجملة، كما تقول رجال من جملة الرجال. وفائدة الآية أنه ليس هذا لجميع الاولين والآخرين. وإنما هو لجماعة منهم. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال (إني لارجوان تكون أمتي شطر أهل الجنة) ثم تلا قوله " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين " وقال الحسن: سابقوا من مضى أكثر من سابقينا، فلذلك قيل " وقليل من الآخرين " وفى التابعين وثلة من الآخرين.
قوله تعالى:
(وأصحاب الشمال * ما أصحاب الشمال (41) في سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43) لا بارد ولا كريم (44) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين (45) وكانوا يصرون على الحنث العظيم (46) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون (47) أو آباؤنا الاولون (48) قل إن الاولين والآخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) (50).
عشر آيات كوفي عند جميعهم. وأحدى عشر آية في المدني الاول. عد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 8 / 573 (*)
===============
(499)
الكل " وأصحاب الشمال " ولم يعده الكوفيون. وعد الكل " في سموم وحميم " ولم يعده الكوفيون، وعد " المكنون " و " كانوا يقولون " ولم يعده الباقون. وعد الكل إلا اسماعيل والشاميين " الاولين والآخرين " وعد اسماعيل والشاميون " لمجموعون " ولم يعده الباقون.
قيل في معنى قوله " وأصحاب الشمال " ثلاثة اقوال:
أحدها - إنهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى جهنم.
الثاني - هم الذين يأخذون كتبهم بشمالهم.
الثالث - الذين يلزمهم حال الشؤم والنكد. وكل هذا من أوصافهم.
وقوله " ما أصحاب الشمال " معناه معنى قوله " واصحاب المشأمة ما اصحاب المشئمة " وقد فسرناه.
وقوله " في سموم وحميم " فالسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، ومسام البدن خروقه، ومنه أخذ السم، لانه يسري في المسام. والحميم الحار الشديد الحرارة من الماء، ومنه قوله " يصب من فوق رؤسهم الحميم " (1) وحم ذلك أي ادناه كأنه حرر أمره حتى دنا. وقيل: في سمون جهنم وحميمها.
وقوله " وظل من يحموم " فاليحموم الاسود الشديد السواد باحتراق النار، وهو (يفعول) من الحم، وهو الشحم المسود باحتراق النار. وأسود يحموم أي شديد السواد " وظل من يحموم " أي دخان شديد السواد - في قول ابن عباس وابي مالك ومجاهد وقتادة وابن زيد - وقوله " لا بارد ولا كريم " معناه لا بارد كبرد ظلال الشمس، لانه دخان جهنم، ولا كريم، لان كل ما انتفى عنه الخير، فليس بكريم. وقال قتادة: لا بارد المنزل ولا كريم المنظر.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 22 الحج آية 19 (*)
===============
(500)
وقوله " إنهم كانوا قبل ذلك مترفين " قال ابن عباس: معناه إنهم كانوا في الدنيا متنغمين. وقوله " وكانوا يصرون على الحنث العظيم " قال قتادة ومجاهد كانوا يقيمون على الذنب العظيم، ولا يتوبون منه، ولا يقلعون عنه. وقال الحسن والضحاك وابن زيد: كانوا يقيمون على الشرك العظيم. وقيل: اصرارهم على الحنث هو ما بينه الله تعالى في قوله " واقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت " (1)
والاصرار الاقامة على الامر من جهة العزم على فعله، فالاصرار على الذنب نقيض التوبة منه، والحنث نقض العهد المؤكد بالحلف، فهؤلاء ينقضون العهود التي يلزمهم الوفاء بها، ويقمون على ذلك غير تائبين منه، ووصف الذنب بأنه عظيم أنه اكبر من غيره مما هو أصغر منه من الذنوب.
وقوله " وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الاولون "؟ ! حكاية من الله تعالى عما كان يقول هؤلاء الكفار من انكارهم البعث والنشور والثواب والعقاب وأنهم كانوا يقولون مستبعدين منكرين: أئذا متنا وخرجنا عن كوننا أحياء وصرنا ترابا وعظاما بالية أئنا لمبعوثون؟ ! ولم يجمع ابن عامر بين الاستفهامين إلا ههنا، أو يبعث واحد من آبائنا الذين تقدموا قبلنا ويحشرون ويردون
إلى كونهم أحياء إن هذا لبعيد. والواو في قوله (او آباؤنا) متحركة، لانها واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام، فقال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (قل إن الاولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) أي قل لهم يا محمد إن تقدمكم من آبائكم او غير آبائكم، والآخرين الذين يتأخرون عن زمانكم يجمعهم الله ويبعثهم ويحشرهم إلى وقت يوم معلوم عندالله، وهو يوم القيامة
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 16 النحل آية 38 (*)
===============
(501)
قوله تعالى:
(ثم إنكم أيها الضالون المكذبون (51) لآكلون من شجر من زقوم (52) فمالؤن منها البطون (53) فشاربون عليه من الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم الدين (56) نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرأيتم ما تمنون (58) ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في مالا تعلمون) (61) احدى عشرة آية بلا خلاف قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وسهل (شرب الهيم) بضم الشين.
الباقون بالفتح، وهما لغتان. وقرأ (نحن قدرنا) خفيفة ابن كثير. الباقون بالتشديد وهما لغتان. يقال قدرت، وقدرت، وقد فرق بينهما فيما ذكره.
لما امر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يقول لمن انكر البعث والنشور قل لهم إنكم ومن تقدمكم وتأخر عنكم مبعوثون ومحشورون إلى يوم القيامة بين مالهم في ذلك اليوم فقال (ثم أنكم أيها الضالون المكذبون) يعني الذين ضللتم عن الدين وعن طريق الحق وحرمتم عن إتباع الصحيح المكذبون الذين كذبتم بتوحيد الله واخلاص العبادة له وجحدتم نبوة نبيه (لا كلون) يوم القيامة (من شجر من زقوم) فالزقوم ما يبتلع بتصعب، يقال: تزقم هذا الطعام تزقما إذا ابتلعه بتصعب. وقيل: هو طعام خشن مركريه يعسر نزوله في الحلق.
وقوله (فما لئون منها البطون) أي تملئون بطونكم من أكل هذا الزقوم
===============
(502)
والشجر يؤنث ويذكر، فلذلك قال (منها) وكذلك الثمر يذكر ويؤنث، فالتذكير على الجنس، والتأنيث على المبالغة. والبطون جمع بطن وهو خلاف الظهر، وهو داخل الوعاء وخارجه ظهر، وبطن الامر إذا غمض، ومنه الظهارة والبطانة، وبطن الانسان، وبطن الارض، وبطن الكتاب.
وقوله (فشاربون عليه من الحميم) معناه إنكم تشربون على هذا الزقوم الذي ملاتم بطونكم منه (من الحميم) وهو الماء الحار الشديد الحرارة (فشاربون شرب الهيم) أي تشربون مثل ما تشرب الهيم، فمن فتح الشين أراد المصدر ومن ضمه أراد الاسم، وقيل هما لغتان. وروى جعفر بن محمد أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بلالا ان ينادي بمنى إنها أيام اكل وشرب - بفتح الشين - و (الهيم) الابل التي لا تروى من الماء لداء يصيبها، واحدها (أهيم) والانثى (هيما) ومن العرب من يقول:
هايم وهايمة، وتجمعه على هيم كغايط وغيط. وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة: معناه شرب الابل العطاشى التي لا تروى. وقيل: هو داء الهيام. وحكى الفراء: إن الهيم الرجل الذي لا يروى من الماء يشرب ما يحصل فيه.
وقوله (هذا نزلهم يوم الدين) فالنزل الامر الذي ينزل عليه صاحبه، ومنه النزل وهو الجاري للانسان من الخير، وأهل الضلال قد نزلوا على أنواع العذاب في النار، وكل ما فصله الله تعالى من ذلك ففيه أتم الزجر واعظم الردع. وقيل:
معنى الآية هذا طعامهم وشرابهم يوم الجزاء.
وقوله (نحن خلقناكم) أي نحن انشأناكم وابتدأناكم في النشأة الاولى (فهلا تصدقون) أنكم تبعثون. ثم نبههم على وجه الاستدلال على صحة ما ذكرناه فقال (أفرأيتم ما تمنون) ومعناه الذي يخرج منكم من المني عند الجماع، ويخلق منه الولد (أأنتم تخلقونه) وتنشئونه (أم نحن الخالقون) فهم لا يمكنهم ادعاء إضافة ذلك
===============
(503)
إلى نفوسهم لعجزهم عن ذلك، فلا بد من الاعتراف بأن الله هو الخالق لذلك، واذا ثبت انه قادر على خلق الولد من النطفة وجب أن يكون قادرا على اعادته بعد موته لانه مثله، وليس بأبعد منه، يقال: أمنى يمني، ومنى يمني، بمعنى واحد، وكذلك أمذى، ومذى - في قول الفراء.
وقوله تعالى (نحن قدرنا بينكم الموت) فالتقدير ترتيب الامور على مقدار فالله تعالى أجرى الموت بين العباد على مقدار ما تقتضيه الحكمة، فانما أجراه الحكيم على ذلك المقدار.
وقوله (وما نحن بمسبوقين) أي لسنا بمسبوقين في تدبيرنا، لان الامور كلها في مقدور الله وسلطانه على ما يصح ويجوز فيما مكن منه أو اعجز عنه. وقال مجاهد: تقدير الموت بالتعجيل لقوم والتأخير لغيرهم. وقيل (نحن قدرنا بينكم الموت) بأن كتبناه على مقدار، لا زيادة فيه ولا نقصان. ويقال: قدرت الشئ مخففا، وقدرته مثقلا بمعنى واحد.
وقوله (على ان نبدل امثالكم) فالتبديل جعل الشئ موضع غيره، فتبديل الحكمة بالحكمة صواب وتبديل الحكمة بخلافها خطأ وسفه، فعلى هذا ينشئ الله قوما بعد قوم، لان المصلحة تقتضي ذلك، والحكمة توجب إنشاءهم في وقت وإماتتهم في وقت آخر. وانشاؤهم بعد ذلك للحساب والثواب والعقاب. وقيل: إن معنى (على أن نبدل) التبدل أي لنبدل أمثالكم، وبين (على) و (اللام) فرق، لانه يجوز أن يقال: عمله على قبحه، ولا يجوز عمله لقبحه. وتعليم الاستدلال بالنشأة الاولى على النشأة الثانية فيه تعليم القياس.
وقوله (وننشئكم فيما لا تعلمون) معناه فيما لا تعلمون من الهيآت والصور المختلفة، لان المؤمن يخلق على أحسن صورة، والكافر على أقبح صورة. وقيل:
===============
(504)
هذا على النشأة الثانية يكونها الله في وقت لا يعلمه العباد، ولا يعلمون كيفيته، كما علموا الانشاء الاول من جهة التناسل. وقيل: معناه لو أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم يعييننا ذلك، ولا سبقنا اليه سابق. ويجوز أن يقال: أمثال متفقة، ولا يجوز أن يقال اجناس متفقة، لان المثل ينفصل بالصورة كما ينفصل رجل عن رجل بالصورة، وما انفصل بالصورة يجوز جمعه، لان الصورة قد منعت أن تجري على الكثير منه صفة التوحيد، فلا يجوز أن يقال هؤلاء الرجال كلهم رجال واحد ويجوز هذا الماء كله ماء واحد، وهذه المذاهب كلها مذهب واحد، ولا يجوز هؤلاء الامثال كلهم أمثال واحد، لانهم ينفصلون بالصورة. وجرى مجرى المختلفة في انه لايقع على صفة التوحيد.
قوله تعالى:
(ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون (62) أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلو لا تشكرون) (71) تسع آيات بلا خلاف.
قرأ ابوبكر " أإنا لمغرمون " على الاستفهام. الباقون على الخبر.
يقول الله تعالى مخاطبا للكفار الذين أنكروا النشأة الثانية، ومنبها لهم على قدرته عليها، فقال (ولقد علمتم النشأة الاولى فهلا تذكرون) وتفكرون وتعتبرون
===============
(505)
بأن من قدر عليها قدر على النشأة الثانية. والنشأة المرة من الانشاء، كالضربة من الضرب، والانشاء إيجاد الشئ من غير سبب يولده، ومثله الاختراع والابتداع.
ثم نبههم على طريق غيره فقال (أفرأيتم ما تحرثون) من الزرع (أأنتم تزرعونه)
أي أأنتم تنبتونه وتجعلونه رزقا (أم نحن الزارعون) فان من قدر على إنبات الزرع من الحبة الحقيرة وجعلها حبوبا كثيرة قدر على إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه. وقوله (لو نشاء لجعلناه) يعني ذات الزرع (حطاما) أي هشيما لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء لفعلنا. وقوله (فظلتم تفكهون) معناه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة - في رواية عنه - تعجبون. وقال الحسن وقتادة - في رواية - فظلتم تندمون أي لو جعلناه حطاما لظلتم تندمون. والمعنى إنكم كنتم تتروحون إلى التندم، كما تتروح الفكه إلى الحديث بما يزيل الهم، وأصله التفكه تناول ضروب الفاكهة للاكل، وقوله (إنا لمغرمون) المغرم الذي ذهب ماله بغير عوض عنه. وأصله ذهاب المال بغير عوض، فمنه الغريم لذهاب ماله بالاحتباس على المدين من غير عوض منه في الاحتباس، والغارم الذي عليه الدين الذي يطالبه به الغريم. ومنه قوله (ان عذابها كان غراما) (1) أي ملحا دائما كالحاح الغريم. وقال الحسن: هو من الغرم. وقال قتادة معنى (لمغرمون) لمعذبون، قال الاعشى:
إن يعاقب يكن غراما وإن يعد *؟ جزيلا فانه لا يبالي (2)
أي يكن عقابه عذابا ملحا كالحاح الغريم. وقال الراجز:
يوم النسار ويوم الجفار * كانا عذابا وكانا غراما (3).
أي ملحا كالحاح الغريم، وحذف يقولون إنا لمغرمون، لدلالة الحكاية.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 25 الفرقان آية 65 (2، 3) مر في 7 / 505 (ج 9 م 64 من التبيان)
(*)
===============
(506)
وقال: معنى لغرمون محدودون عن الخط. وقال قتادة محارفون. وقال مجاهد - في رواية أخرى - إنا لمولع بنا. وفى رواية غيره عنه معناه إنا لملقون في الشر.
ومن قرأ (أإنا لمغرمون) على الاستفهام حمل على أنهم يقرعون ويقولون منكرين.
أإنا لمغرمون؟ ! ومن قرأ على الخبر حمله على أنهم مخبرون بذلك عن انفسهم. ثم يستدركون فيقولون لا (بل نحن محرومون) مبخوسون بحظوظنا محارفون بهلاك زرعنا.
ثم قال لهم منبها على دلالة اخرى فقال (افرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم انزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) والمعنى إنه تعالى امتن عليهم بما انعم عليهم من انزال الماء العذب (من المزن) يعني السحاب ليشربوه وينتفعوا به، فقال لهم (أأنتم انزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) له عليكم نعمة منا عليكم ورحمة بكم. ثم قال (لو نشاء جعلناه اجاجا) قال الفراء: الاجاج المر الشديد المرارة من الماء. وقال قوم: الاجاج الذي اشتدت ملوحته (فلو لا تشكرون) أي فهلا تشكرون على هذه النعمة التي لا يقدر عليها غيرالله، وعلمتم بذلك ان من قدر على ذلك قدر على النشأة الاخرى فانها لا تتعذر عليه كمالا يتعذر عليه هذه النعم.
قوله تعالى:
(أفرأيتم النار التي تورون (71) ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73)
فسبح باسم ربك العظيم (74) فلا أقسم بمواقع النجوم (75)
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون (78) لا يمسه إلا المطهرون (79) تنزيل من رب العالمين) (80)
===============
(507)
عشر آيات بلا خلاف.
قرأ اهل الكوفة إلا عاصما (بموقع) على التوحيد. الباقون (بمواقع)
على الجمع.
هذا تنبيه آخر من الله تعالى على قدرته على النشأة الثانية، وعلى وجه الدلالة على ذلك وعلى اختصاصه بصفات لا يشركه فيها غيره، لانه قال (افرأيتم)
معاشر العقلاء (النار التي تورون) فالنار مأخوذ من النور، ومنه قول الحارث ابن حلزة:
فتنورت نارها من بعيد * بخزازي هيهات منك الصلاء (1)
وجمع النور انوار، وجمع النار نيران، والنار على ضربين: نار محرقة، ونار غير محرقة. فالتي لا تحرق النار الكامنة بما هي مغمورة به كنار الشجر ونار الحجر ونار الكيد. والتي تحرق هي النار الظاهرة فيما هي مجاورة له مما من شأنه الاشتعال، وهي معروفة. ومعنى " تورون " تظهرون النار، ولا يجوز الهمزة، لانه من اورى يورى إيراء إذا قدح، فمعنى تورون تقدحون. وورى الزند يوري، فهو وار إذا.
أنقدحت منه النار، ووريت بك زنادي إذا اصابك أمري كما يضيئ القدح بالزناد ثم قال " أانتم أنشأتم شجرتها " يعني الشجرة التي تنقدح منها النار أي انتم انبتموها وابتد أتموها " أم نحن المنشئون " لها، فلا يمكن أحد ان يدعي ان الذي أنشأها غير الله تعالى والعرب تقدح بالزند والزندة، وهو خشب معروف يحك بعضه ببعض فيخرج منه النار - ذكره الزجاج وغيره - وفى المثل (كل شجرة فيها نار واستمجد المرخ والعفار) فان قيل: لم لا يكون نار الشجر بطبع الشجر لا من
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (نور)
(*)
===============
(508)
قادر عليه. قيل: الطبع غيرمعقول، فلا يجوز أن يسند اليه الافعال، ولو جاز ذلك للزم في جميع افعال الله، وذلك باطل ولو كان معقولا لكان ذلك الطبع لابد ان يكون في الشجر والله تعالى الذي أنشأ الشجرة وما فيها، فقد رجع إلى قادر عليه وإن كان بواسطة، ولو جاز ان تكون النار من غير قادر عليها لجاز أن يكون من عاجز، لانه إذا امتنع الفعل ممن ليس بقادر عليه منا، لانه فعل، وكل فعل ممتنع ممن ليس بقادر عليه.
وقوله " نحن جعلناها " يعني تلك النار " تذكرة ومتاعا للمقوين " أي جعلنا النار تذكرة للنار الكبرى، وهي نار جهنم، فيكون ذلك زجرا عن المعاصي التي يستحق بها النار - في قول مجاهد وقتادة - ويجوز ان يكون المراد تذكرة يتذكر بها ويتفكر فيها ويعتبر بها، فيعلم انه تعالى قادر على النشأة الثانية، كما قدر على إخراج النار من الشجر الرطب. وقوله " ومتاعا للمقوين " يعني ينتفع بها المسافرون الذين نزلوا الارض القي وهي القفر، قال الراجز:
قي يناصيها بلاد قي (1)
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: للمقوين المسافرين، وقيل: هو من أقوت الدار إذا خلت من أهلها قال الشاعر:
اقوى واقفر من نعم وغيرها * هوج الرياح بها في الترب موار (2)
وقد يكون المقوي الذي قويت خيله ونعمه في هذا الموضع.
ثم أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) والمراد به جميع المكلفين بأن " سبح بحمد ربك العظيم " أي نزه الله تعالى عما لا يليق به وأدعه باسمه العظيم.
وقوله " فلا اقسم بمواقع النجوم " قال سعيد به جبير: (لا) صلة والتقدير
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (قوا) (2) تفسير الطبري 27 / 104 (*)
===============
(509)
أقسم. وقال الفراء: هي نفي بمعنى ليس الامر كما تقولون. ثم استؤنف " اقسم " وقيل (لا) تزاد قبل القسم، كقولك لا والله لا افعل، ولا والله ما كلمت زيدا
وقال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري * لا يدعي القوم اني أفر (1)
بمعنى وابيك و (لا) زائدة و " مواقع النجوم " قال ابن عباس ومجاهد أي القرآن، لانه أنزل نجوما. وقال مجاهد - في رواية أخرى - وقتادة: يعني مساقط نجوم السماء ومطالعها. وقال الحسن: معناه إنكدارها وهو إنتشارها يوم القيامة، ومن قرأ " بموقع " فلانه يقع على الكثير والقليل. ومن قرأ على الجمع، فلا ختلاف أجناسه.
وقوله " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " اخبار من الله تعالى بأن هذا القسم الذي ذكره بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون عظمه لا نتفعتم بعلمه. والقسم جملة من الكلام يؤكد بها الخبر بما يجعله في قسم الصواب دون الخطأ على طريقة بالله إنه لكذا. وقال ابوعلي الجبائي: القسم في كل ما ذكر في القرآن من المخلوقات إنما هو قسم بربه، وهذا ترك الظاهر من غير دليل، لانه قد يجوز ذلك على جهة التنبيه على ما في الاشياء من العبرة والمنفعة. وقد روي أنه لا ينبغي لاحد أن يقسم إلا بالله، ولله ان يقسم بما يشاء من خلقه، فعلى هذا كل من اقسم بغير الله او بشي من صفاته من جميع المخلوقات او الطلاق او العتاق لا يكون ذلك يمينا منعقدة، بل يكون كلاما لغوا. والعظيم هو الذي يقصر عن مقداره غيره فيما يكون منه، وهو على ضربين: احدهما - عظيم الشخص، والآخر - عظيم الشأن.
وقوله " إنه لقرآن كريم " معناه إن الذي تلوناه عليكم لقرآن تفرقون به
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه (السندوبى) 94 (*)
===============
(510)
بين الحق والباطل " كريم " فالكريم هو الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير، فلما كان القرآن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالادلة التي تؤدي إلى الحق في الدين كان كريما على حقيقة معنى الكريم، لا على التشبيه بطريق المجاز، والكريم في صفات الله من الصفات النفسية التي يجوز فيها لم يزل كريما، لان حقيقته تقتضي ذلك من جهة ان الكريم الذي من شأنه ان يعطي الخير الكثير، فلما كان القادر على التكرم هو الذي لا يمنعه مانع من شأنه ان يعطي الخير الكثير صح أن يقال إنه لم يزل كريما.
وقوله " في كتاب مكنون " قيل: هو اللوح المحفوظ أثبت الله تعالى فيه القرآن والمكنون المصون.
وقوله " لا يمسه إلا المطهرون " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: لا يمس الكتاب الذي في السماء إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة - في قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وجابر وابن زيد وأبي نهيد ومجاهد. وقيل " لا يمسه إلا المطهرون " في حكم الله. وقد استدل بهذه الآية على أنه لا يجوز للجنب والحائض والمحدث أن يمسوا القرآن، وهو المكتوب في الكتاب الذي فيه القرآن أو اللوح.
وقال قوم: إنه لا يجوز لهم ان يمسوا الكتاب الذي فيه، ولا أطراف او راقه، وحملوا الضمير على انه راجع إلى الكتاب وهو كل كتاب فيه القرآن. وعندنا إن الضمير راجع إلى القرآن. وإن قلنا إن الكتاب هو اللوح المحفوظ، فلذلك وصفه بأنه مصون، ويبين ما قلناه قوله " تنزيل من رب العالمين " يعني هذا القرآن تنزيل من رب العالمين أنزله الله الذي خلق الخلائق ودبرهم على ما أراد.
قوله تعالى:
(أفبهذا الحديث أنتم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم
===============
(511)
أنكم تكذبون (82) فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85)
فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صادقين (87)
فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89)
وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين) (91).
إثنا عشرة آية شامي، واحدى عشرة فيما عداه، عد الشاميون " وروح وريحان " ولم يعده الباقون.
قرأ يعقوب " فروح وريحان " بضم الراء. الباقون بفتحها، وهما لغتان.
وقال الزجاج: الروح بفتح الراء معناه الراحة وبالضم معناه حياة دائمة لا موت معها.
يقول الله تعالى مخاطبا للمكلفين على وجه التقريع لهم والتوبيخ بصورة الاستفهام " أفبهذا الحديث " الذي حدثناكم به وأخبرناكم به من حوادث الامور " أنتم مدهنون " قال ابن عباس: معنى مدهنون مكذبون. وقال مجاهد: معناه تريدون أن تمالؤهم فيه وتركنوا اليهم لانه جريان معهم في باطلهم. وقيل: معناه منافقون في التصديق بهذا الحديث وسماه الله تعالى حديثا كما قال " الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها " (1) ومعناه معنى الحدوث شيئا بعد شئ ونقيض (حديث)
قديم، والمدهن الذي يجري في الباطل على خلاف الظاهر، كالدهن في سهولة ذلك
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 39 الزمر آية 23 (*)
===============
(512)
عليه والاسراع فيه، أدهن يدهن إدهانا وداهنه مداهنة مثل نافقه منافقة، وكل مدهن بصواب الحديث مذموم.
وقوله " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " معناه وتجعلون حظكم من الخير الذي هو كالرزق لكم إنكم تكذبون ويجوز شكر رزقكم، وقال ابن عباس: معناه وتجعلون شكركم، وروي انه كان يقرأ كذلك. وقيل: حظكم من القرآن - الذي رزقكم الله - التكذيب به - في قول الحسن - وقيل: إنهم كانوا إذا أمطرو او أخصبوا، قالوا مطرنا بنؤ كذا، فأنزل الله تعالى الآية تكذيبا لهم. وكذلك قرأ المفضل عن عاصم " تكذبون " بفتح التاء خفيفا.
وقوله " فلولا إذا بلغت الحلقوم " قال الحسن: معناه هلا إذا بلغت هذه النفس التي زعمتم أن الله لا يبعثها الحلقوم " وانتم حينئذ تنظرون " أي تنظرون ما ينزل بكم من امر الله قال الزجاج: قوله تعالى " وانتم حينئذ " خطاب لاهل الميت، وتقديره إذا بلغت الحلقوم وانتم معاشر اهله ترونه على تلك الصورة.
ويحتمل ان يكون المراد وأنتم حينئذ تبصرون على ضرب من المجاز. وقوله " ونحن اقرب اليه منكم " معناه إن الله تعالى يراه من غير مساقة بينه وبينه، فلا شئ اقرب اليه منه، واقرب من كل من يراه بمسافة بينه وبينه " ولكن لا تبصرون " معناه ولكن لا تعلمون ذلك لجهلكم بالله وبما يجوز عليه ومالا يجوز. ويحتمل أن يكون المراد ولكن لا تبصرون الله، لان الرؤية مستحيلة عليه. وقيل معناه: ولكن لا تبصرون الملائكة التي تتولى قبض روحه.
وقوله " فلولا ان كنتم غير مدينين " معناه هلا إن كنتم غير مجزيين بثواب الله او عقابه على ما تدعونه من إنكار البعث والنشور " ترجعونها " أي تردون هذه النفس إلى موضعها " إن كنتم صادقين " في قولكم وإدعائكم. وحكى الطبري
===============
(513)
عن بعض النحويين ان الكلام خرج متوجها إلى قوم أنكروا البعث، وقالوا نحن نقدر على الامتناع من الموت، فقيل لهم: هلا رددتم النفس إذا بلغت الحلقوم إن كنتم صادقين فيما تدعونه. وقال الفراء: جواب (لولا) (ترجعونها) وهو جواب " فلولا إن كنتم غير مدينين " اجيبا بجواب واحد، قال ومثله " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب " (1)
يعني إن الجواب والخبر في هذا على قياس واحد، وإنما جاز ان يجاب معنيان بجواب واحد، لان كل واحد منهما يوجب ذلك المعنى، والمعنى فلولا إذا بلغت الحلقوم على ادعائهم انه لا يصح ان يكون القادر على إخراجها قادرا على ردها يلزم ان يكون القادر على ردها غيره، وكذلك يلزم من قولهم إنه لا يصح ان يقدر على ردها للجزاء ان يكون القادر غيره منهم ومن أشبهاههم. والرجع جعل الشئ على الصفة التي كان عليها قبل، وهو إنقلابه إلى الحال الاولى، ولو انقلب إلى غيرها لم يكن راجعا. ووجه إلزامهم على إنكار الجزاء ورجوع النفس إلى الدنيا ان إنكار ان يكون القادر على النشأة الاولى قادرا على النشأة الثانية كادعاء ان القادر على الثانية انما هو من لم يقدر على الاولى، لان إنكار الاول يقتضي ايجاب الثاني كانكار ان يكون زيد المتحرك حركت نفسه في اقتضاء ان غيره حركه. ومعنى " غير مدينين " غير مجزبين. وقيل: معناه غير مملوكين، والدين الجزاء. ومنه قولهم: كما تدين تدان أي تجزي تجزى والدين العمل الذي يستحق به الجزاء من قوله " ان الدين عندالله الاسلام " (2) ومنه دين اليهود غير دين النصارى، وفلان يتدين أي يعمل ما يطلب به الجزاء من الله تعالى، والعبد مدين، لانه تحت جزاء
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 3 آل عمران آية 188 (2) سورة 3 آل عمران آية 19 (ج 9 م 65 من التبيان)
(*)
===============
(514)
مولاه، وإنما يجوز الانقلاب من صفة إلى صفة على ان يكون على احدهما بجعل جاعل ومن استحق صفة النفس لا لمعنى ولا بالفاعل لا يجوز ان ينقلب عنها إلى غيرها.
وقوله " فاما ان كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم " اخبار من الله تعالى بما يستحقه المكلفون لمن كان منهم سابقا إلى الخيرات والى افعال الطاعات فله روح وريحان، وهو الهوى الذي يلذ النفس ويزيل عنها الهم. وقيل: الروح الراحة والريحان: الرزق - في قول مجاهد وسعيد بن جبير - وقال الحسن وقتادة: هو الريحان المشموم، وكل نبات طيب الريح، فهو ريحان، وقيل الروح الفرح. وقيل:
الروح النسيم الذي تستريح اليه النفس. واصل ريحان روحان، لانه من الواو إلا انه خفف، وأهمل التثقيل للزيادة التي لحقته من الالف والنون - ذكره الزجاج - وقوله " وجنة نعيم " أي ولهذا المقرب مع الروح والريحان " جنة نعيم " أي بستان ينعم فيها ويلتذ بأنواع الثمار والفواكه فيها.
وقوله " واما ان كان من اصحاب اليمين " وقد فسرنا معناه " فسلام لك من اصحاب اليمين " دخلت كاف الخطاب كما يدخل في ناهيك به شرفا، وحسبك به كرما أي لا تطلب زيادة جلالة على جلالة، وكذلك سلام لك منهم أي لا تطلب زيادة على سلامهم جلالة وعظم منزلة. وقال قتادة: معناه فسلام لك ايها الانسان الذي من اصحاب اليمين من عذاب الله وسلمت عليك ملائكة الله.
وقال الفراء: وسلام لك إنك من اصحاب اليمين فحذفت إنك. وقيل معناه سلمت مما تكره لانك من اصحاب اليمين. وقال الزجاج: معناه وسلام لك إنك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وذكر اصحاب اليمين في اول السورة بأنهم " في سدر مخضود " وذكرهم في أخرها بأنهم يبشرون بالسلامة من كل ما يكرهون. وقيل:
إنما كان التبرك باليمين، لان العمل يتيسر بها، واما الشمال فيتعسر العمل بها من
===============
(515)
نحو الكتابة والتجارة والاعمال الدقيقة.
قوله تعالى:
(وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94) إن هذا او حق اليقين (95)
فسبح باسم ربك العظيم) (96) خمس آيات بلا خلاف.
لما اخبرالله تعالى ما للسابقين من انواع الثواب والنعيم، وبين ما لاصحاب اليمين من الخيرات والثواب الجزيل، اخبر بما للكفار المكذبين بيوم الدين المنكرين للبعث والنشور والجزاء بالثواب والعقاب، فقال " واما إن كان " هذا الانسان المكلف (من المكذبين) بتوحيد الله الجاحدين لنبوة نبيه الدافعين للبعث والنشور (الضالين)
عن طريق الهدى العادلين عنه (فنزل من حميم) أي نزلهم الذي أعدلهم من الطعام والشراب من ماء من حميم (وتصلية جحيم) أي احراق بنار جهنم، يقال صلاه الله تصلية إذا ألزمه الاحتراق بها، وتقديره فله نزل من حميم.
وقوله (إن هذا لهو حق اليقين) أي هذا الذي اخبرنك به هو الحق الذي لاشك فيه بل هو اليقين الذي لا شبهة فيه وحق اليقين إنما جاز اضافته إلى نفسه، لانها إضافة لفظية جعلت بدلا من الصفة، لان المعنى إن هذا لهو حق اليقين، كما قيل هذا نفس الحائط، بمعنى النفس الحايط، وجاز ذلك للايجاز مع مناسبة الاضافة للصفة. واما قولهم (رجل سوء) فكقولك رجل سواء وفساد. وقيل معنى حق اليقين حق الامر اليقين.
وقوله (فسبح باسم ربك العظيم) أمر من الله تعالى لنبيه ان ينزه الله تعالى
===============
(516)
عما لا يليق به ويذكره باسمه العظيم. وقيل: انه لما نزلت هذه الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله) (ضعوها في ركوعكم) وقولوا (سبحان ربي العظيم) والعظيم في صفة الله معناه ان كل شئ سواه مقصر عن صفته بأنه قادر عالم غني إذ هو قادر لا يعجزه شئ ولا يساويه شئ في مقدوراته، وعالم لا يخفى عليه شي على كل وجوه التفصيل، وغني بنفسه عن كل شئ سواه لا يجوز عليه الحاجة بوجه من الوجوه ولا على حال من الاحوال.
===============
57 - سورة الحديد مدينة بلا خلاف، وهي تسع وعشرون آية في الكوفي والبصري وثمان وعشرون في المدينين.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(سبح لله ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (1)
له ملك السموات والارض يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير (2) هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم (3) هو الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منا وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4) له ملك السموات والارض وإلى الله ترجع الامور) (5) خمس آيات بلا خلاف.
يقول الله تعالى مخبرا ان جميع ما في السموات والارض يسبح له. وقد بينا في غير موضع معنى التسبيح وانه التنزيه له عن الصفات التى لا تليق به. فمن كان
===============
(518)
من العقلاء عارفا به فانه يسبحه لفظا ومعنى، وما ليس بعاقل من سائر الحيوان والجمادات فتسبيحها ما فيها من الآية الدالة على وحدانيته وعلى الصفات التي باين بها جميع خلقه، وما فيها من الحجج على أنه لا يشبه خلقه وأن خلقه لا يشبهه، ذلك بالتسبيح. وإنما كرر ذكر التسبيح في غير موضع من القرآن لانعقاده لمعان مختلفة لا ينوب بعضها مناب بعض، فمن ذلك قوله " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " (1)
فهذا تسبيح بحمد الله وأما " سبح لله ما في السموات والارض " فهو تسبيح بالله " العزيز الحكيم " فكل موضع ذكر فيه فلعقده بمعنى لا ينوب عنه غيره منابه، وإن كان مخرج الكلام على الاطلاق " والعزيز الحكيم " معناه المنيع بأنه قادر لا يعجزه شئ العليم بوجوه الصواب في التدبير، ولا تطلق صفة " العزيز الحكيم " إلا فيه تعالى، لانه على هذا المعنى.
وقوله " له ملك السموات والارض " اخبار بأن له التصرف في جميع ما في السموات والارض وليس لاحد منعه منه ولا أن احدا ملكه ذلك وذاك هو الملك الاعظم، لان كل ما عداه فما يملكه، فان الله هو الذي ملكه إياه، وله منعه منه.
وقوله " يحيي ويميت " معناه يحيي الموات، لانه يجعل النطفة وهي جماد حيوانا ويحييها بعد موتها يوم القيامة، ويميت الاحياء إذا بلغوا آجالهم التي قدرها لهم " وهو على كل شئ قديرا " أي كل ما يصح ان يكون مقدورا له، فهو قادر عليه.
وقوله " هو الاول والآخر " قيل في معناه قولان:
احدهما - قال البلخي إنه كقول القائل: فلان اول هذا الامر وآخره وظاهره وباطنه أي عليه يدور الامر وبه يتم.
الثاني - قال قوم: هو أول الموجودات لانه قديم سابق لجميع الموجودات وما
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 17 الاسرى آية 44 (*)
===============
(519)
عداه محدث. والقديم يسبق المحدث بمالا يتناهى من تقدير الاوقات. والآخر بعد فناء كل شئ، لانه تعالى بفني الاجسام كلها وما فيها من الاعراض، ويبقى وحده ففي الآية دلالة على فناء الاجسام.
وقوله " الظاهر والباطن " قيل في معناه قولان:
احدهما - انه العالم بما ظهر وما بطن.
الثاني - انه القاهر لما ظهر وما بطن من قوله تعالى " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فاصبحوا ظاهرين " (1) ومنه قوله " ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (2)
وقيل: المعنى إنه الظاهر بادلته الباطن من أحساس خلقه " وهو بكل شئ عليم " ما يصح ان يكون معلوما، لانه عالم لنفسه.
ثم اخبر تعالى عن نفسه فقال " هو الذي خلق السموات والارض " أي اخترعهما وانشأهما " في ستة ايام " لما في ذلك من اعتبار الملائكة بظهور شئ بعد شئ من جهة ولما في الاخبار به من المصلحة للمكلفين ولو لا ذلك لكان خلقها في لحظة واحدة، لانه قادر على ذلك من حيث هو قادر لنفسه.
وقوله " ثم استوى على العرش " أي استولى عليه بالتدبير قال البعيث.
ثم استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (3)
وهو بشر بن مروان، لما ولاه اخوه عبدالملك بن مروان. وقيل: معناه ثم عمد وقصد إلى خلق العرش، وقد بينا ذلك فيما تقدم. ثم قال " يعلم ما يلج في الارض " أي ما يدخل في الارض ويستتر فيها، فالله عالم به لا يخفى عليه منه شئ " وما يخرج منها " أي ويعلم ما يخرج من الارض من سائر النبات والحيوان والجماد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 61 الصف آية 14 (2) سورة 17 الاسرى آية 88 (3) مر في 1 / 125، و 2 / 396 و 4 / 452 و 5 / 386 (*)
===============
(520)
ولا يخفى عليه شئ " وما ينزل من السماء " أي ويعلم ما ينزل من السماء من مطر وغير ذلك من انواع ما ينزل منها لا يخفى عليه شئ منها " وما يعرج فيها " أي ويعلم ما يعرج في السماء من الملائكة وما يرفع اليها من أعمال الخلق " وهو معكم " بعني بالعلم لا يخفى عليه حالكم وما تعملونه " والله بما تعملون بصير " من خير وشر أي عالم به.
ثم قال " له ملك السموات والارض " أي له التصرف فيهما على وجه ليس لاحد منعه منه " واليه ترجع الامور " يوم القيامة. والمعنى أن جميع من ملكه شيئا في دار الدنيا يزول ملكه ولا يبقى ملك أحد، ويتفرد تعالى بالملك، فذلك معنى قوله (واليه ترجع الامور) كما كان كذلك قبل أن يخلق الخلق.
قوله تعالى:
(يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور (6) آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين (8) هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤف رحيم (9) وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والارض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم
===============
(521)
درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) (10) خمس آيات بلا خلاف.
قرأ ابوعمرو وحده (وقد اخذ ميثاقكم) بضم الالف، على ما لم يسم فاعله. الباقون - بالفتح - بمعنى واخذ الله ميثاقكم، وقرأ ابن عامر ووحده (وكل وعد الله الحسنى) بالرفع، وهي في مصاحفهم بلا الف جعله مبتدءا وخبرا وعدى الفعل إلى ضميره، وتقديره: وكل وعده الله الحسنى، كما قال الراجز:
قد اصبحت أم الخيار تدعي * علي ذنبا كله لم أصنع أي لم اصنعه، فحذف الهاء. الباقون بالنصب على أنه مفعول (وعد الله)
وتقديره وعد الله كلا الحسنى، ويكون (الحسنى) في موضع نصب بأنه مفعول ثان وهو الاقوى.
معنى قوله (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) أي إن ما ينقص من الليل يزيده في النهار، وما ينقص من النهار يزيده في الليل حسب ما قدره على علم من مصالح عباده. وقيل: إن معناه إن كل واحد منهما يتعقب صاحبه (وهو عليم بذات الصدور) ومعناه هو عالم بأسرار خلقه وما يخفونه في قلوبهم من الضمائر والاعتقادات لا يخفى عليه شئ منها.
ثم امر تعالى المكلفين فقال (آمنوا بالله) معاشر العقلاء وصدقوا نبيه وأقروا بوحدانيته واخلاص العبادة له، وصدقوا رسوله، واعترفوا بنبوته (وانفقوا) في طاعة الله والوجوه التي أمركم الله بالانفاق فيها (مما جعلكم مستخلفين (ج 9 م 66 من التبيان)
===============
(522)
فيه) قال الحسن: معناه ما استخلفكم فيه بوراثتكم اياه عمن كان قبلكم.
ثم بين ما يكافيهم به اذا فعلوا ذلك، فقال (فالذين آمنوا منكم) بما أمرتهم بالايمان به (وانفقوا) مما دعوتهم إلى الانفاق فيه (لهم مغفرة) من الله لذنوبهم (واجر كبير) أي وثواب عظيم.
ثم قال الله تعالى على وجه التوبيخ لهم (ومالكم) معاشر المكلفين (لا تؤمنون بالله) وتعترفون بوحدانيته واخلاص العبادة له (والرسول يدعوكم) إلى ذلك (لتؤمنوا بربكم) أي لتعترفوا به وتقروا بوحدانيته (وقد أخذ ميثاقكم) معناه إنه لما ذكر تعالى دعاء الرسول إلى الايمان بين انه قد اخذ ميثاقكم ايضا به، ومعنى اخذ ميثاقكم انه نصب لكم الادلة الدالة إلى الايمان بالله ورسوله ورغبكم فيه وحثكم عليه وزهدكم في خلافه، ومعنى (إن كنتم مؤمنين) اي إن كنتم مؤمنين بحق فالايمان قد ظهرت أعلامه ووضحت براهينه:
ثم قال (هو الذي ينزل على عبده) يعني ان الله تعالى هو الذي ينزل على محمد (صلى الله عليه وآله) (آيات بينات) أى حججا وادلة واضحة وبراهين نيرة (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) ومعناه فعل بكم ذلك ليخرجكم من الضلال إلى الهدى - في قول مجاهد وغيره - وفي ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة: إن الله تعالى خلق كثيرا من خلقه ليكفروا به ويضلوا عن دينه. وإنما اخرجهم من الضلال إلى الهدى بما نصب لهم من الادلة التي إذا نظروا فيها افضى بهم إلى الهدى والحق، فكأنه اخرجهم من الضلال، وإن كان الخروج من الضلال إلى الهدى من فعلهم، وسمى الدلالة نورا، لانه يبصر بها الحق من الباطل، وكذلك العلم، لانه يدرك به الامور كما تدرك بالنور، فالقرآن بيان الاحكام على تفصيلها ومراتبها.
وقوله (إن الله بكم لرؤف رحيم) اخبار منه تعالى أنه بخلقه رؤف رحيم.
===============
(523)
والرأفة والرحمة من النظائر.
وقوله " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله " استبطأهم في الانفاق في سبيل الله الذي رغبهم بالانفاق فيها.
وقوله " ولله ميراث السموات والارض " قد بينا أن جميع ما يملكونه في الدنيا يرجع إلى الله، ويزول ملكهم عنه، فان أنفقوه كان ثواب ذلك باقيا لهم.
وقوله " لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل.. " بين الله تعالى أن الانفاق قبل الفتح في سبيل الله إذا انضم اليه الجهاد في سبيله أكثر ثوابا عند الله، والمراد بالفتح فتح مكة وفي الكلام حذف، لان تقديره لا يستوى هؤلاء مع الذين أنفقوا بعد الفتح، والكلام يدل عليه. وإنما امتنع مساواة من انفق بعده لمن انفق قبله، لعظم العناية الذي لا يقوم غيره مقامه فيه، في الصلاح في الدين وعظم الانتفاع به، كمالا يقوم دعاء غير النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الحق مقام دعائه ولا يبلغه أبدا، وليس في الآية دلالة على فضل انسان بعينه ممن يدعى له الفضل، لانه يحتاج أن يثبت ان له الانفاق قبل الفتح، وذلك غير ثابت. ويثبت أن له القتال بعده.
ولما يثبت ذلك ايضا فكيف يستدل به على فضله.
فأما الفتح فقال الشعبي: أراد فتح الحديبية. وقال زيد بن اسلم، وقتادة:
أراد به فتح مكة. ثم سوى تعالى بين الكل في الوعد بالخير والجنة والثواب فيها - وإن تفاضلوا في مقاديره - فقال " وكلا وعد الله الحسنى " يعني الجنة والثواب فيها " والله بما تعملون خبير " لا يخفى عليه شئ من ذلك من انفاقكم وقتالكم وغير ذلك فيجازيكم بحسب ذلك.
قوله تعالى:
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله
===============
(524)
أجر كريم (11) يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشريكم اليوم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12) يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب (13) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الاماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأويكم النار هي موليكم وبئس المصير) (15).
خمس آيات كوفى وأربع فيما عداه، عد الكوفيون " من قبله العذاب " ولم يعده الباقون قرأ ابن كثير " فيضعفه " بالتشديد وضم الفاء، وبه قرأ ابن عامر إلا انه فتح الفاء. وقد مضى تفسيره في البقرة، وقرأ حمزة وحده " للذين آمنوا انظرونا " بقطع الهمزة وكسر الظاء. الباقون بوصلها وضم الظاء. وقرأ ابوجعفر وابن عامر ويعقوب وسهل " فاليوم لا تؤخذ " بالتاء لتأنيث الفدية. الباقون - بالياء - لان التأنيث ليس بحقيقي. وقد فصل بين الفعل والفاعل ب (منكم).
قال الحسن: معنى قوله (من ذاالذي يقرض الله قرضا حسنا) هو التطوع في جميع الدين. وقال غيره: معناه من ذا الذي ينفق في سبيل الله إنفاقا كالقرض