(163)
وابي عبدالله (عليهما السلام) أنهما قالا: هو القيام آخر الليل إلى صلاة الليل. وقال قوم:
ناشئة الليل ابتداء عمل الليل شيئا بعد شئ إلى آخره. والناشئة الظاهرة بحدوث شئ بعد شئ، واضافته إلى الليل توجب انه من عمل الليل الذي يصلح أن ينشأ فيه.
وقوله (هي أشد وطأ) من قرأ - بالفتح - مقصورا، قال معناه: لقوة الفكر فيه أمكن موقعا. وقيل: هو أشد من عمل النهار، وقال مجاهد: معناه واطأ اللسان القلب مواطأة ووطاء والوطاء المهاد المذلل للتقلب عليه، فكذلك عمل الليل الذي هو أصلح له فيه تمهيد للتصرف في الدلائل وضروب الحكم ووجوه المعاني.
وقوله (واقوم قيلا) أي أشد استقامة وصوابا لفراغ البال، وانقطاع ما يشغل القلب. والمعنى إن عمل الليل أشد ثباتا من عمل النهار، وأثبت في القلب من عمل النهار، والاقوم الاخلص استقامة، لانه القول يشمل المعنى على ما فيه استقامة.
وفيه اضطراب. وقد يقل ذلك ويكثر، وهو في القول ظاهر كما هو في الخط، ففيه الحرف المقوم وفيه الحرف المضطرب. وقال ابن زيد: معناه أقوم قراءة لفراغه من شغل الدنيا، وقال أنس: معناه أصوب. وقال مجاهد: معناه اثبت.
وقوله (إن لك في النهار سبحا طويلا) قال قتادة: معناه إن لك يا محمد في النهار متصرفا ومنقلبا أي ما تقضي فيه حوائجك. وقرأ يحيى ابن معمر بالخاء، وكذلك الضحاك، ومعناه التوسعة. يقال اسبخت القطعن إذا وسعته للندف: ويقال لما تطاير من القطن وتفرق عند الندف سبائخ، والسبح المر السهل في الشئ، كالمر في الماء، والسبح في عمل النهار هو المر في العمل الذي يحتاج فيه إلى الضياء. وأما عمل اللياء فلايحتاج فيه إلى ضياء لتمكن ذلك العمل كالفكر في وجوه البرهان وتلاوة القرآن. وقال الجبائي في نوادره (لك في النهار سبحا) أي نوما، وقال الزجاج:
===============
(164)
معناه إن فاتك شئ بالليل فلك في النهار فراغ تقضيه.
ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله) (واذكر اسم ربك) يعني اسماء الله الحسنى التي تعبد بالدعاء بها (وتبتل اليه تبتيلا) أي انقطع اليه انقطاعا، فالتبتل الانقطاع إلى عبادة الله، ومنه مريم البتول وفاطمة البتول، لانقطاع مريم إلى عبادة الله، وانقطاع فاطمة عن القرين، ومنه قول الشاعر:
كأن لها في الارض نسيا تقصه * إذا ماغدت وإن تكلمك تبلت (1)
أي بقطع كلامها رويدا رويدا، وقيل: الانقطاع إلى الله تأميل الخير من جهته دون غيره، وجاء المصدر على غير الفعل، كما قال (انبتكم من الارض نباتا) (2) وقيل: تقديره تبتل نفسك اليه تبتيلا، فوقع المصدر موقع مقاربه. وقوله (رب المشرق والمغرب) من رفع فعلى انه خبر مبتدا محذوف، وتقديره: هو رب المشرق، ومن جر جعله بدلا من قوله (ربك) وتقديره إذكر اسم رب المشرق وهو مطلع الشمس موضع طلوعها ورب المغرب، يعني موضع غروبها، وهو المتصرف فيها والمدبر لما بينهما (لا إله إلا هو) أي لا احد تحق له العبادة سواه (فاتخذه وكيلا) أي حفيظا للقيام بامرك فالوكيل الحفيظ بأمر غيره. وقيل:
معناه اتخذه كافلا لما وعدك به.
ثم قال (واصبر) يا محمد (على ما يقول) هؤلاء الكفار من أذاك وما يشغل قلبك (واهجرهم هجرا جميلا) فالهجر الجميل اظهار الجفوة من غير ترك الدعاء إلى الحق على وجه المناصحة.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 7 / 117 (2) سورة 71 نوح آية 17 (*)
===============
(165)
قوله تعالى:
(وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا (11) إن لدينا أنكالا وجحيما (12) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما (13) يوم ترجف الارض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا (14) إنا إرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا (16)
فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء منفطر به كان وعده مفعولا (18) إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (19) تسع آيات.
لما امر الله تعالى النبي (صلى الله عليه وآله) بالصبر على اذى قومه، وأن يهجرهم هجرا جميلا قال على وجه التهديد للكفار (وذرني) يا محمد (والمكذبين) الذين يكذبونك فيما تدعوهم اليه من التوحيد وإخلاص العبادة والاعتراف بالبعث والنشور، والثواب والجزاء، كما يقول القائل: دعني وإياه إذا أراد أن يهدده، يقال: يذر بمعنى يترك، ويدع، ولا يستعمل ماضيه، ولا ماضي (يدع) ولا يقال: وذر، ولا ودع، استغناء بقولهم ترك عن ذلك، لان الابتداء بالواو عندهم مكروه، ولذلك أبدلوا منها الهمزة في قولهم (أقتت) والاصل (وقتت)، وقالوا (تخمة) والاصل (وخمة) وكذلك كل ما يصرف منه مما في أوله واو إلا قولهم: وادع من الدعة فلم يستغنوا عنه بتارك.
===============
(166)
وقوله (اولي النعمة) معناه ذوي النعمة أي اصحاب النعمة، والنعمة - بفتح النون - لين الملمس وضدها الخشونة، ومعناه (وذرني والمكذبين) أي ارض بعقاب المكذبين لست تحتاج إلى اكثر من ذلك كما يقال: دعني وإياه، فانه يكفيه ماينزل به من غير تقصير مما يقع به، وهذا تهدد شديد.
وقوله (ومهلهم قليلا) أي اخرهم في المدة قليلا فالتمهيل التأخير في المدة، وقد يكون التأخير في المكان، فلا يسمى تمهيلا، فاذا كان في المدة فهو تمهيل كما ان التأخير في الاجل تأجيل آخر.
وقوله (إن لدينا انكالا) أي قيودا - في قول مجاهد وقتادة - واحدها نكل (وجحيما) أي نارا عظيمة، وجحيم اسم من اسماء جهنم (وطعاما ذا غصة)
قال ابن عباس: معناه ذا غصة بشوك يأخذ الحلق، فلا يدخل ولا يخرج. وقيل:
معناه يأخذ بالحلقوم لخشونته وشدة تكرهه (وعذابا اليما) أي عقابا موجعا مؤلما.
ثم بين متى يكون ذلك فقال (يوم ترجف الارض) أي اعتدنا هذه الانواع من العذاب في يوم ترجف الارض أي تتحرك باضطراب شديد (والجبال) أي وترجف الجبال معها إيضا (وكانت الجبال كثيبا مهيلا) قال ابن عباس: تصير الجبال رملا سائلا متناثرا، فالكثيب الرمل المجتمع الكثير، ومهيل مفعول من هلت الرمل اهيله وذلك إذا حرك اسفله فسال أعلاه، ويقال: مهيول كما يقال مكيل ومكيول، وانهال الرمل انهيالا و (الغصة) تردد اللقمة في الفم لا يسيغها الذي يروم أكلها قال الشاعر:
لو بغير الماء حلقي شرق * كنت كالغصان بالماء اعتصاري (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 1 / 130، 421 و 6 / 151 (*)
===============
(167)
يقال غص بريقه يغص غصصا، وفي قلبه غصة من كذا، وهي كاللذغة التي لا يسيغ معها الطعام ولا الشراب.
وقوله (إنا أرسلنا اليكم رسولا شاهدا عليكم) اخبار من الله تعالى وخطاب للمكلفين في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده بأنه أرسل اليهم رسولا يدعوهم إلى عبادته وإخلاص توحيده (شاهدا عليكم) بقبولهم إن قبلوا وعليهم إن لم يقبلوا (كما أرسلنا) أي ارسلناه اليكم مثل ما أرسلنا (إلى فرعون رسولا) يعني موسى ابن عمران (عليه السلام). ثم اخبر عن فرعون فقال (فعصى فرعون الرسول) يعني موسى، فلم يقبل منه ما أمره به ودعاه اليه (فأخذناه أخذا وبيلا) أي اخذا ثقيلا شديدا عقوبة له على عصيانه موسى رسول الله، وكل ثقيل وبيل، ومنه: كلا مستوبل أي متوخم لا يستمرء لثقله، ومنه الوبل، والوابل، وهو المطر العظيم القطر، ومنه الوبال وهو ما يغلظ على النفس وأصله الغلظ قال طرفة:
فمرت كهاة ذات خيف جلالة * عقيلة شيخ كالوبيل يلندد (1)
الوبيل - ههنا - الغليظ من العصى و (كهاة) ناقة مسنة و (الخيف) جلد الضرع و (يلندد) شديد الخصومة.
قوله (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا) أي إن كفرتم بالله وجحدتم نعمه، وكذبتم رسوله، وإنما جعل الولدان، وهم الاولاد الصغار شيبا لشدته، وعظم أهواله، كما يقال: قد حدث أمر تشيب منه النواصي. وقيل:
(يوما يجعل الولدان شيبا) على وجه المثل، والشيب جمع أشيب، يقال: شاب الانسان يشيب شيبا إذا ابيض شعره. ثم زاد في صفة شدة ذلك اليوم أيضا فقال (السماء منفطر به) أي متصدع بشدة ذلك اليوم، وإنما لم يقل منفطرة، لانه جرى
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 38 وتفسير القرطبي 18 / 48 (*)
===============
(168)
على طريق النسبة أي ذات انفطار، ولم يجر على طريق (فاعلة) كما قالوا للمرأة:
مطفل أي ذات طفل. وقال الزجاج: تقديره السماء منفطر باليوم مثقلة به. وقال الحسن: معناه السماء مثقل به. وقال غيره: السماء مثقلة بذلك اليوم من شدته.
وقال قوم: معناه متشقق بالامر الذي يجعل الولدان شيبا. والسماء يؤنث ويذكر، فمن ذكر أراد السقف.
وقوله (كان وعده مفعولا) معناه إن ما وعد الله به فلا بد من كونه، فلذلك عبر عنه بلفظ الماضي فكأنه قد وجد. ثم قال (إن هذه تذكرة) أي هذه القصة التي ذكرناها وبيناها (تذكرة) أي عظة لمن انصف من نفسه وفكر فيها، فالتذكرة التبصرة، وهي الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه.
وقوله (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) معناه إن من شاء من المكلفين اتخذ إلى ثواب ربه سبيلا، لانه قادر على الطاعة التي لو فعلها وصل إلى الثواب. والله تعالى قد دعاه إلى ما يوصله اليه ورغبه فيه، وبعث رسولا يدعوه ايضا اليه. وإن لم يفعل فسبوء اختياره انصرف عنه.
قوله تعالى:
(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه
===============
(169)
وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) (20) آية واحدة. قرأ نافع وابوعمرو وابن عامر (ونصفه وثلثه) بكسر الفاء والثاء بمعنى إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه ومن ثلثه أي وادني من نصفه وأدنى من ثلثه. الباقون بالنصب بمعنى أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصف وثلثه. والثلث يخفف ويثقل، لغتان، ومثله ربع وعشر. وقال ابوعبيدة:
الاختيار الخفض في (ثلثه ونصفه) لانه قال (علم أن لن تحصوه) وكيف يقدرون على أن يقوموا نصفه أو ثلثه، وهم لا يحصونه، وقال غيره: ليس المعنى على ما قال.
وإنما المعنى علم أن لن يطيقوه، يعني قيام الليل، فخفف الله ذلك، قال والاختيار النصب، لانها أوضح في النظر، لانه قال لنبيه (صلى الله عليه وآله) (قم الليل إلا قليلا) ثم نقله عن الليل، كله إلا شيئا يسيرا ينام فيه، وهو الثلث. والثلث يسير عند الثلثين.
ثم قال (نصفه) أي قم نصفه (أو انقص منه قليلا) أي قم نصفه، واكتفى بالفعل الاول من الثاني، لانه دليل عليه أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث (أو زد)
هكذا إلى الثلثين جعله موسعا عليه. وفى الناس من قال: هذه الاية ناسخة لما ذكره في أول السورة من الامر الحتم بقيام الليل إلا قليلا أو نصفه او انقص منه. وقال آخرون: إنما نسخ ما كان فرضا إلى ان صار نفلا.
وقد قلنا: ان الامر في أول السورة على وجه الندب، فكذلك - ههنا - فلا وجه للتنافي حتى ينسخ بعضها ببعض يقول الله تعالى لنبيه ان ربك يا محمد ليعلم انك (ج 10 م 22 من التبيان)
===============
(170)
تقوم اقل من ثلثي الليل واقل من نصفه ومن ثلثه فيمن جر ذلك، ومن نصب فمعناه إنك تقوم أقل من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه وتقوم طائفة من الذين معك على الايمان (والله يقدر الليل والنهار) لتعملوا فيه بالصواب على ما يأمركم به (علم أن لن تحصوه) قال الحسن: معناه علم أن لن تطيقوه (فتاب عليكم) أي لم يلزمكم إثما كما لا يلزم التائب أي رفع التبعة فيه كرفع التبعة عن التائب. وقوله (فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم ان سيكون منكم مرضى) فتاب عليكم بما رغبتم فيه وذلك يقتضي التخفيف عنكم (وآخرون يضربون في الارض) أي ومنكم قوم آخرون يضربون أي يسافرون في الارض ومنكم قوم (آخرون يقاتلون في سبيل الله) وكل ذلك يقتضي التخفيف عنكم (فاقرءوا ما تيسر منه واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ومعناه اقيموا الصلاة بحدودها التي أوجبها الله عليكم واستمروا عليها وأعطوا ما وجب عليكم من الزكوة المفروضة (واقرضوا الله قرضا حسنا) أي وانفقوا في سبيل الله والجهات التي أمركم بها وندبكم إلى النفقة فيها، وسمي ذلك (قرضا) تلطفا في القول، لان الله تعالى من حيث أنه يجازيهم على ذلك بالثواب، فكأنه استقرض منهم ليرد عوضه وإنما قال (حسنا) أي على وجه لا يكون فيه وجه من وجوه القبح.
ثم قال (وما تقدموا لانفسكم من خير) أي ما فعلتم من الطاعات (تجدوه)
أي تجدوا ثوابه وجزاءه (عند الله) وقوله (هو خيرا وأعظم أجرا) أي تجدوه خيرا لكم، وهو أفضل واعظم ثوابا، وهو عطف على (خير). ثم قال (واستغفروا الله) على معاصيكم معاشر المكلفين (إن الله غفور) أي ستار لذنوبكم صفوح لاجرامكم إذا تبتم واقلعتم ورجعتم اليه (رحيم) بكم منعم عليكم. وقال ابن زيد: القرض في الاية النوافل سوى الزكاة.
===============
74 - سورة المدثر:
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك هي مدنية وهي خمسون وست آيات في الكوفي والبصري والمدني الاول، وخمس في المدني الاخير. وقال ابوسلمكة ابن عبدالرحمن أول ما نزل من القرآن (يا أيها المدثر) وحكى ذات ابوسلمة عن جابر بن عبدالله. قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (جاوزت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا فنظرت عن شمالي فلم أر شيئا فنظرت أمامي فلم أر شيئا فنظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فلم أر شيئا، فاتيت خديجة فقلت دثروني وصبواعلي ماء باردا قال فدثروني فصبوا علي ماء باردا فنزلت (يا ايها المدثر) وقال الزهري: أول ما نزل قوله (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها المدثر (1) قم فانذر (2) وربك فكبر (3)
وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5) ولا تمنن تستكثر (6)
ولربك فاصبر (7) فاذا نقر في الناقور (8) فذلك يومئذ يوم عسير (9) على الكافرين غير يسير) (10) عشر آيات.
===============
(172)
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) يقول له (يا أيها المدثر) واصله المتدثر بثيابه، فادغمت التاء في الدال، لانها من مخرجها مع أن الدال اقوى بالجهر فيها، يقال: تدثر تدثرا ودثره تدثيرا، ودثر الرسم يدثر دثورا إذا محي أثره، فكأنه قال: يا ايها الطالب صرف الاذى بالدثار اطلبه بالانذار.
وقوله (قم فانذر) أمر من الله تعالى له أن يقوم وينذر قومه، والانذار الاعلام بموضع المخافة ليتقى، فلما كان لا مخافة أشد من الخوف من عقاب الله كان الانذار منه اجل الانذار، وتقديره قم إلى الكفار فانذر من النار.
وقوله (وربك) منصوب ب (كبر) والتكبير وصف الاكبر على اعتقاد معناه كتكبير المكبر في الصلاة بقوله الله اكبر، والتكبير نقيض التصغير، ومثله التعظيم. والكبير الشأن هو المختص باتساع المقدور والمعلوم من غير مانع من الجود فالله تعالى قادر لا يعجزه شئ، وعالم لا يخفى عليه شئ لا يمنعه من الجود على عباده شئ، فهو اكبر من كل كبير بما لا يساويه شئ، واختصاصه بالمقدور والمعلوم بأنه ما صح من مقدور او معلوم فهو قادر عليه عالم به فهو لنفسه كبير واكبر من كل كبير سواه.
وقوله (وثيابك فطهر) أي وطهر ئيابك فهو منصوب به. والطهارة النظافة بانتفاء النجاسة، لان النظافة قد تكون بانتفاء الوسخ من غير نجاسة، وقد تكون بانتفاء النجاسة. فالطهارة في الاية هوالقسم الاخير. وقال ابن عباس (وثيابك فطهر) معناه من لبسها على معصيته، كما قال سلامة بن غيلان الثقفي - انشده ابن عباس:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست ولا من غدة أتقنع (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 6 / 489 (*)
===============
(173)
وقال الزجاج: معناه لم أكن غادرا، قال يقال: للغادر دنس الثياب أي لم أعص قط وقيل: معناه شمر ثيابك - وفي رواية عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة - ان معناه وثيابك فطهر من الذنوب. وقال ابن سيرين وابن زيد: اغسلها بالماء.
وقيل معناه شمر ثيابك، وقيل: معناه وثيابك فطهر للصلاة فيها.
وقوله (والرجز) منصوب بقوله (فاهجر) وقال الحسن: كل معصية رجز وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري: معناه فاهجر الاصنام. وقال ابراهيم والضحاك: الرجز الاثم. وقال الكسائي: الرجز - بكسر الراء - العذاب، وبفتحها الصنم والوثن. وقالوا: المعنى اهجر ما يؤدي إلى العذاب، ولم يفرق احد بينهما.
وبالضم قرأ حفص ويعقوب وسهل. الباقون بالكسر إما لانهما لغتان مثل الذكر والذكر او بما قاله الكسائي. وقال قوم: الرجز بالضم الصنم. وقال: كان الرجز صنمين: أساف ونائلة، نهى الله تعالى عن تعظيمهما.
وقوله (ولا تمنن تستكثر) قال ابن عباس وابراهيم والضحاك وقتادة ومجاهد: معناه لا تعط عطية لتعطى أكثر منها، وقال الحسن والربيع وانس: معناه لا تمنن حسناتك على الله مستكثرا لها، فينفصل ذلك عبدالله. وقال ابن زيد:
معناه لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة والقرآن مستكثرا به الاجر من الناس.
وقال ابن مجاهد: معناه لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعتك، وقال قوم: معناه لا تمنن على الناس بما تنعم به عليهم على سبيل الاستكثار لذلك. وقال جماعة من النحويين:
إن (تستكثر) في موضع الحال ولذلك رفع. وأجاز الفراء الجزم على أن يكون جوابا للنهي، والرفع هو الوجه. والمن ذكر النعمة بما يكدرها، ويقطع حق الشكر بها، يقال: من بعطائه يمن منا إذا فعل ذلك، فأما من على الاسير إذا أطلقه، فهو قطع أسباب الاعتقال عنه. ويقال: لمن أنعم على وجه المن، لانه بهذه المنزلة، وأصله
===============
(174)
القطع من قوله (فلهم أجر غير ممنون) (1) أى غير مقطوع. والاستكثار طلب الكثرة يقال: استكثر فلان من المال والعلم، والمراد - ههنا - هو طلب ذكر الاستكثار للعطية.
وقوله (ولربك فاصبر) قال ابراهيم: من أجل ربك فاصبروا على عطيتك.
وقال مجاهد: لاجل الله فاصبر على أذى المشركين. وقيل: معناه (ولربك فاصبر)
على ما أمرك به من أداء الرسالة وتعليم الدين، وماينالك من الاذى والتكذيب، فاحتمله لتنال الفوز من الله بالنعيم والصبر الذى هو طاعة الله هو الصبر على الضرر الذى يدعو اليه العقل، لان ما يدعو اليه العقل فخالق العقل يريده، لانه بمنزلة دعاء المر إلى الفعل، والسبب الذى يتقوى به على الصبر هوالتمسك بداعي العقل دون داعي الطبع، لان العقل يدعو بالترغيب فيما ينبغي أن يرغب فيه. والطبع داعي الهوى يدعو إلى خلاف ما في العقل.
وقوله (فاذا نقر في الناقور) معناه إذا نفخ في الصور، وهو كهيأة البوق - في قول مجاهد - وقيل: ان ذلك في اول النفختين، وهو أول الشدة الهائلة العامة، والناقور على وزن (فاعول) من النقر، كقولك: هاضوم من الهضم وحاطوم من الحطم، وهو الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت به.
وقوله (فذلك يومئذ) يعني اليوم الذي ينفر فيه في الناقور (يوم عسير)
أى يوم شديد عسر (على الكافرين) لنعم الله الجاحدين لاياته (غير يسير)
فاليسير القليل الكلفة، ومنه اليسار وهو كثرة المال لقلة الكلفة به في الانفاق، ومنه تيسر الامر لسهولته وقلة الكلفة فيه. وقال الزجاج: قوله (يوم عسير) مرتفع بقوله (فذلك) والمعنى فذلك يوم عسير يوم النفخ في الصور، ويومئذ يجوز أن يكون
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 95 التين آية 6 (*)
===============
(175)
نصبا على معنى فذلك يوم عسير في يوم ينفخ في الصور، ويجوز الرفع، وإنما بني على الفتح لاضافته إلى (إذ) لان (إذ) غير متمكنة.
قوله تعالى:
(ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12)
وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15)
كلا إنه كان لا ياتنا عنيدا (16) سارهقه صعودا (17) إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20)
ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر) (25) خمس عشرة آية.
يقول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) على وجه التهديد للكافر الذى وصفه (ذرني ومن خلقت وحيدا) ومعناه دعني وإياه فاني كاف في عقابه كما تقول العرب: دعني وإياه لا أن الله تعالى يجوز عليه المنع حتى يقول: ذرني وإياه. ولكن المعنى ما قلناه.
وقوله (وحيدا) قال الزجاج: يحتمل ان يكون من صفة الخالق، ويحتمل أن يكون من صفة المخلوق، فاذا حملناه على صفة الخالق كان معناه دعني ومن خلقته متوحدا بخلقه لا شريك لي في خلقه وجعلته على الاوصاف التي ذكرتها، وإذا حمل على صفه المخلوق، كان معناه ومن خلقته في بطن أمه وحده لاشئ له ثم جعلت له كذا وكذا - ذكره مجاهد وقتادة - وقوله (وجعلت له مالا ممدودا) أى مالا كثيرا له مدد يأتي شيئا بعد شئ، فوضفه بأنه ممدود يقتضي هذا المعنى. وقال مجاهد
===============
(176)
وسعيد بن جبير: نزلت الاية في الوليد بن المغيرة المخزومي. وقالا: كان ماله الف دينار. وقال سفيان: كان ماله أربعة آلاف دينار. وقال النعمان بن سالم: كان أبرص. وقال عطاء عن عمر: كان غلة شهر شهر. وقال مجاهد: كان بنوه عشرة (وبنين شهودا) أي واولادا ذكورا معه يستمتع بمشاهدتهم، وينتفع بحضورهم. وقيل كان بنوه لا يغيبون عنه لغنائهم عن ركوب السفر في التجارة بخلاف من هو غائب عنهم.
وقوله (ومهدت له تمهيدا) أي سهلت له التصرف في الامور تسهيلا وقد يكون التسهيل من المصيبة ليخف الحزن بها، وقد يكون لما يتصرف فيه من المبالغة.
وقوله (ثم يطمع أن ازيد) أي لم يشكرني على هذه النعم، وهو مع ذلك يطمع ان أزيد في إنعامه. والتمهيد والتوطئة والتذليل والتسهيل نظائر.
ثم قال تعالى على وجه الردع والزجر (كلا) كأنه قال: ارتدع عن هذا وانزجر كما ان (صه) بمنزلة اسكت (ومه) بمنزلة اكفف. إنما هي أصولت سمي الفعل بها، فكأنه قال: انزجر، فليس الامر على ما تتوهم.
ثم بين لم كان كذلك فقال (إنه كان لا ياتنا) أي إنما لم أفعل به ذلك، لانه لحجتنا وأدلتنا (عنيدا) أي معاندا، فالعنيد الذاهب عن الشئ على طريق العداوة له، يقال عند العرق يعند عنودا، فهو عاند إذا نفر، وهو من هذا، والمعاندة منافرة المضادة، وكذلك العناد، وهذا الكافر يذهب عن آيات الله ذهاب نافر عنها. وقيل معنى (عنيد) عنود أي جحود بتكذيب المعاندة - في قول ابن عباس وقتادة - وقيل: معناه معاند، وبعير عنود أي نافر قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا * إني كبير لا أطيق العندا (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 6 / 14، 283 (*)
===============
(177)
أي نفرا، وقوله (سأرهقه صعودا) فالارهاق الاعجال بالعنف والصعود العقبة التي يصعب صعودها، وهي الكؤد والكدود في ارتقائها ونقيض الصعود الهبوط، وقيل: صعود جبل من نار في جهنم يؤخذون بارتقائه، فاذا وضع يديه ذابت، فاذا رفعها عادت وكذلك رجلاه، في خبر مرفوع. وقيل: صعود جبل في جهنم من نار يضرب بالمقامع حتى يصعد عليه، ثم يضرب حتى ينزل ذلك دأبه ابدا.
ثم قال (إنه فكر) أى فكر فكرا يحتال به للباطل، لانه لو فكر على وجه طلب الرشاد لم يكن مذموما بل كان ممدوحا، ولذلك مدح الله قوما فقال (إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) (1) أى على وجه طلب الحق. وقوله (وقدر) أي قدر فقال: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب باعتبار ما أتى به، وإن قلنا كاهن لم يصدقونا، لان كلامه لا يشبه كلام الكهان، فنقول ساحر يأثر ما أتى به عن غيره من السحرة. فقال الله تعالى (فقتل) أي لعن (كيف قدر) هذا. ثم كرر تعالى فقال (ثم قتل كيف قدر) أى عوقب بعقاب آخر كيف قدر من ابطال الحق تقديرا آخر. وقيل: لعن بما يجري مجرى القتل، ومثله (قتل الخراصون) (2)
وقال الحسن: هو شتم من الله لهذا الكافر.
وقوله (ثم نظر) نظر من ينكر الحق وبدفعه، ولو نظر طلبا للحق كان ممدوحا وكان نظره صحيحا. وقوله (ثم عبس) أى قبض وجهه تكرها للحق، يقال: عبس يعبس عبوسا، فهو عابس وعباس فالعبوس والتكليح والتقطيب نظائر
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 13 الرعد آية 3 وسورة 30 الروم آية 21 وسورة 39 الزمر آية 42 وسورة 45 الجائية آية 12 (2) سورة 51 الذاريات آية 10 (ج 10 م 23 من التبيان) (*)
===============
(178)
في اللغة، وضده الطلاقة والبشاشة. وقوله (وبسر) فالبسور بدو التكره الذى يظهر في الوجه وأصله من قولهم: بسر بالامر إذا عجل به قبل حينه، ومنه البسر لتعجيل حاله قبل الارطاب قال توبة:
وقد رابني منها صدود رأيته * وإعراضها عن حاجتي وبسورها (1)
فكأنه قيل: قبض وجهه وبدي التكره فيه. وقوله (ثم أدبر) فالادبار الاخذ في جهة الدبر خلاف جهة الاقبال، فذلك ادبار وهذا إقبال، يقال: دبر يدبر دبورا وأدبر إدبارا، وتدبر نظر في عاقبة الامر، ودبره أى عمله على إحكام العاقبة وكل مأخوذ من جهة الخلف مدبر.
وقوله (واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر) أى طلب كبرا ليس له، ولو طلب كبرا هو له لم يكن مذموما، وفي صفات الله تعالى (الجبار المتكبر) (2)
لان له الكبرياء، وهو كبير الشأن في أعلى المراتب لاختصاصه باتساع مقدوراته والمعلوم في أعلى المراتب. وقيل: ان الوليد قال في القرآن: والله ليعلو وما يعلا وما هو بشعر ولاكهانة، ولكنه سحر يؤثر من قول البشر، والسحر حيلة يخفى سببها فيوهم الشئ على خلاف ما هو به وذلك منفي عن كل ما يشاهد ويعلم انه قد خرج عن العادة مما لا يمكن عليه معارضة، ولو كان القرآن من قول البشر لا مكنهم أن يأتوا بمثله، كما لو كان قلب العصاحية من فعل ساحر لا مكن السحرة أن يأتوا بمثله. ثم قال يعني الوليد (إن هذا إلا قول البشر) أى ليس هذا إلا قول البشر وليس من كلام الله عنادا منه وبهتانا.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 2 / 275 والقرطبي 19 / 74 (2) سورة 59 الحشر آية 23 (*)
===============
(179)
قوله تعالى:
(ساصليه سقر (26) وما أدريك ما سقر (27) لا تبقي ولا تذر (28) لواحة للبشر (29) عليها تسعة عشر (30) وما جعلنا أصحاب النار إلا ملئكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر (31)
كلا والقمر (32) والليل إذ أدبر (33) والصبح إذا أسفر (35) إنها لا حدى الكبر) (35) عشر ايات.
قرأ نافع وحمزة وحفص عن عاصم (إذ أدبر) باسكان الذال وقطع الهمزة من (أدبر) الباقون بفتح الذال والالف معها (دبر) بغير الف. وقرأ ابن مسعود بزيادة الف، ومن قال (دبر، وأدبر) فهما لغتان. قيل: هو مثل قبل واقبل والاختيار عندهم (أدبر) لقوله (إذا أسفر) ولم يقل إذا سفر، لان ابن عباس، قال لعكرمة: حين دبر الليل، لان العرب تقول: دبر فهو دابر، وحجة نافع وحمزة قول النبي (صلى الله عليه وآله) (إذا اقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصيام) ثم قال ابوعبيدة: أدبر ولى، ودبرني جاء خلفي.
لما حكى الله تعالى صفات الكافر الذي ذكره، وهو الوليد بن المغيرة، وانه
===============
(180)
فكر وقدر إلى ان قال: هذا القرآن سحر مأثور، وهو قول البشر، قال الله تعالى مهددا له ومتوعدا (سأصليه سقر) أى ألزمه جهنم، والاصلاء إلزام موضع النار أصلاه يصليه إصلاه واصطلى فهو يصطلي اصطلاء، وصلاه يصليه، واصله اللزوم.
وسقر اسم من اسماء جهنم، ولم يصرف للتعريف والتأنيث وأصله من سقرته الشمس تستقره سقرا إذا آلمت دماغه. وقد سميت النار سقر لشدة إيلامها، ومنه الصقر بالسين والصاد، لان شدته في نفسه كشدة الالم في أذى صيده.
وقوله (وما أدراك ما سقر) إعظاما للنار وتهويلا لها أي ولم يعلمك الله سقر على كنهها وصفتها، ثم وصف بعض صفاتها فقال (لا تبقي ولا تذر) وقال مجاهد: معناه لا تبقي من فيها حيا، ولا تذره ميتا. وقال غيره: لا تبقي احدا من أهلها إلا تناولته، ولا تذره من العذاب. والابقاء ترك شئ مما اخذ، يقال أبقى شيئا يبقيه ابقاء، وأبقاه الله أي اطال مدته. والباقي هو المستمر الوجود.
وقوله (لواحة للبشر) أي مغيرة لجلد الانسان الذي هو البشرة - في قول مجاهد - وقال المؤرج: لواحة بمعنى حراقة، وبه قال الفراء. وقال غيرهما: معناه تلوح لجميع الخلق حتى يروها، كما قال (وبرزت الجحيم لمن يرى) (1) لانه لا يجوز أن يصفها بأنها تسود البشرة مع قوله (إنها لا تبقي ولا تذر) والتلويح تغير اللون إلى الاحمر والتلويح بالنار تغير بشرة أهلها إلى الاحمرار، يقال: لوحته الشمس تلوحه تلويحا فهي لواحة على المبالغة في كثرة التلويح، والبشر جمع بشرة، وهي ظاهر الجلدة، ومنه سمي الانسان بشرا، لانه ظآهر الجلدة، بتعريه من الوبر والريش والشعر الذي يكون في غيره من الحيوان في غالب أمره.
وقوله (عليها تسعة عشر) أي على سقر تسعة عشر من الملائكة. وإنما خص بهذه العدة لتوافق صحة الخبر لما جاء به الانبياء قبله (صلى الله عليه وآله)، ويكون في
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 79 النازعات آية 36 (*)
===============
(181)
ذلك مصلحة للمكلفين. وقد بين ذلك بقوله (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم) أي لم نجعل من يتولى تدبير النار إلا من الملائكة ولم نجعلهم على هذه العدة (إلا فتنة) ومحنة وتشديدا في التكليف (للذين كفروا) نعم الله وجحدوا ربوبيته ليلزمهم النظر في ذلك، فلما كانت هذه العدة التي جعلت عليها الملائكة يظهر عندها ما كان في نفس الكافر مما يقتضيه كفره، كان فتنة له، لان الفتنة هي المحنة التي تخرج ما في النفس من خير او شر باظهار حاله كاظهار الحكاية للمحكي والملك عبارة عما كان على خلاف صورة الجن والانس من المكلفين. وقال قوم: لا يكون ملكا إلا رسولا لانه من الرسالة، كما قال الهذلي:
الكني اليها وخير الرسو * ل أعلمهم بنواحي الخبر (1)
واصله ملاك بالهمز كما قال الشاعر:
فلست لا نسى ولكن بملاك * تنزل من جو السماء يصوب (2)
والملك عظيم الخلق شديد البطش كريم النفس. والاصل نفسه منشرحة بالطاعة إنشراح الكريم بالجود، وأصله من النور، ووجه دلالة هذه العدة من الملائكة على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله) هو انه اذا كان الله - عزوجل - قد اخبر به في الكتب المتقدمة ولم يكن محمد (صلى الله عليه وآله) ممن قرأها ولا تعلمها من أحد من الناس دل على أن الله أعلمه وانزل عليه به وحيا أبانه به من جميع الخلق ليدل على صدقه مع انه احد الاشياء التي أخبر بها على هذه الصفة (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) والتقدير ليعلم أهل الكتاب يقينا ان محمدا صادق من حيث اخبر بما هو في كتبهم من غير قراءة لكتبهم ولا تعلم منهم (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) أي ويزداد بذلك ايضا المؤمنون الذين عرفوا الله إيمانا مضافا إلى ايمانهم. ووجه المحنة على الكفار بتكليفهم ان يستدلوا حتى
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 8 / 11، 299 (2) اللسان (ملك) (*)
===============
(182)
يعرفوا ان الله تعالى قادر ان يقوي هذه العدة من الملائكة بما يفي بتعذيب أهل النار على ما هم عليه من الكثرة (ولا يرتاب) أي لا يشك (الذين أوتوا الكتاب)
في خبره ولا يرتاب أيضا (المؤمنون) في خبره.
وقوله (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون) ومعناه لئلا يقول الذين في قلوبهم شك ونفاق (ماذا أراد الله بهذامثلا) اي أي شئ ارادالله بهذا مثلا، وقيل اللام في قوله (وليقول الذين في قلوبهم مرض) لام العاقبة كما قال (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (1) فقال الله تعالى (كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء) أى مثل ما فضح الله هؤلاء الكفار وذمهم مثل ذلك يضل من يشاء من الكفار. والاضلال - ههنا - اظهار فضيحة الكفار بما يوجب الذم، ومعناه الحكم عليهم بالضلال عن الحق، والاخبار بأنهم يستحقون اللعن بتكذيبهم النبي (صلى الله عليه وآله)، وما انزل عليه. ونقيضه الهداية أي ويحكم بهداية المؤمنين إلى الحق ومصيرهم إلى الطاعة، وتصديقهم بالحق عند نزوله وقبولهم له. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك:
عدة الملائكة الموكلين بالنار في التوراة والانجيل تسعة عشر.
ثم اخبر تعالى فقال (وما يعلم جنود ربك إلا هو) أي لا يعلم جنود الله إلا الله. ثم قال (وما هي إلا ذكرى للبشر) قيل معناه إن النار في الدنيا تذكير بالنار في الاخرة. وقال قتادة ومجاهد: النار الموصوفة بهذه الصفة ذكرى للبشر وعظة لهم. وقال البلخي: إلا ذكرى للبشر أي الجنود ذكرى أي عظة للبشر، لان الله تعالى لا يحتاج إلى ناصر ومعين.
ثم قال (كلا والقمر) أي حقا ثم اقسم بالقمر (والليل إذ ادبر) قيل معناه إذا ولى يقال: دبر وادبر، وقد قرئ بهما. وقيل: إنما دبر الليل بان جاء
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 28 القصص آية 8 (*)
===============
(183)
بعده النهار وآخره. وتقول العرب: قبح الله ما قبل منك وما دبر (والصبح إذا اسفر) أي اضاء وأنار - في قول قتادة - وهو قسم آخر. وقال قوم: التقدير ورب هذه الاشياء، لان اليمين لا يكون إلا بالله. وقال قوم: معنى قوله (والصبح اذا اسفر) أي كشف عن الظلام وأنار الاشخاص. وقوله (انها لاحدى الكبر)
جواب القسم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: معناه إن النار لاحدي الكبر. وقال قوم: ان هذه الاية لاحدى الكبر. والكبر جمع الكبرى، وهي العظمى وروي عن ابن كثير أنه (قرأ إنها لحدى الكبر) لا يهمزه ولا يكسر يسقط الهمزة تخفيفا، كقولهم في زيد الاحمر زيد لحمر. وفي أصحاب الايكة اصحاب ليكة.
والاختيار قطع الالف، لان العرب اذا حذفت مثل هذا نقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها، واللام قبل هذه الهمزة متحركة، واللام في الاحمر لام التعريف ساكنة.
قوله تعالى:
(نذيرا للبشر (36) لمن يشاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (37)
كل نفس بما كسبت رهينة (38) إلا أصحاب اليمين (39) في جنات يتساءلون (40) عن المجرمين (41) ماسلككم في سقر (42)
قالوا لم نك من المصلين (43) ولم نك نطعم المسكين (44) وكنا نخوض مع الخائضين (45) وكنا نكذب بيوم الدين (46) حتى أتينا اليقين (47) فما تنفعهم شفاعة الشافعين (48) فما لهم عن التذكرة معرضين (49) كانهم حمر مستنفرة (50) فرت من
===============
(184)
قسورة (51) بل يريد كل امرئ منهم إن يؤتى صحفا منشرة (52)
كلا بل لا يخافون الاخرة (53) كلا إنه تذكرة (54) فمن شاء ذكره (55) وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة) (56) احدى وعشرون آية.
قرأ نافع وابن عامر وابوجعفر (مستنفرة) بفتح الفاء. الباقون بكسرها ومعناهما متقارب، لان من فتح الفاء أراد أنه نفرها غيرها، ومن كسر الفاء اراد أنها نافرة، وانشد الفراء:
امسك حمارك إنه مستنفر * في أثر أحمرة عمدن لغرب (1)
والنفور الذهاب عن المخوف بانزعاج، نفر عن الشئ ينفر نفورا فهو نافر، والتنافر خلاف التلاؤم، واستنفر طلب النفور (ومستنفرة) طالبة للنفور. وقرأ نافع ويعقوب (وما تذكرون) بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر.
لما اخبر الله تعالى ان الاية التي ذكرها لاحدى الكبر، بين أنه بعث النبي (نذيرا للبشر) أي منذرا مخوفا معلما مواضع المخافة، والنذير الحكيم بالتحذير عما ينبغي ان يحذر منه، فكل نبي نذير، لانه حكيم بتحذيره عقاب الله تعالى على معاصيه.
(ونذيرا) نصب على الحال. وقال الحسن: إنه وصف النار وقال ابن زيد: هو وصف النبي. وقال أبورزين: هو من صفة الله تعالى، فمن قال: هو للنبي قال كأنه قيل: قم نذيرا. وقوله (لمن شاء منكم أن يتقدم او يتأخر) معناه إن هذا الانذار متوجه إلى من يمكنه ان يتقي عذاب النار بأن يجتنب معاصيه ويفعل طاعاته، فيقدر
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اللسان (نفر)
===============
(185)
على التقدم والتأخير في أمره بخلاف ما يقوله المجبرة الذين يقولون بتكليف ما لايطاق لمنع القدرة. وقال قتادة: معناه لمن شاء منكم أن يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عنها بمعصيته. والمشيئة هي الارادة.
وقوله (كل نفس بما كسبت رهينة) معناه إن كل نفس مكلفة مطالبة بما عملته وكسبته من طاعة او معصية، فالرهن أخذ الشئ بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج منه رهنه يرهنه رهنا قال زهير:
وفارقتك برهن لافكاك له * يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا (1)
وكذلك هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لا فكاك له. قال الرماني: في ذلك دلالة على القائلين باستحقاق الذم، لانه عم الارتهان بالكسب في هذا الموضع، وهم يزعمون انه يرتهن بأن لم يفعل ما وجب عليه من غير كسب شئ منه، فكانت الاية حجة على فساد مذهبهم. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لان الذي في الظاهر ان الانسان رهن بما كسبت يداه. ولم يقل: ولا يرهن إلا بما كسب له إلا من جهة دليل الخطاب الذي هو فاسد عند اكثر الاصوليين، على ان الكسب هو ما يجتلب به نفع او يدفع به ضرر، ويدخل في ذلك الفعل، وألا يفعل، فلا تعلق في الاية.
ولما ذكر تعالى أن (كل نفس بما كسبت رهينة) استثنى من جملة النفوس فقال (إلا اصحاب اليمين) والاستثناء منقطع، لان اصحاب اليمين ليسوا من الضلال الذين هم رهن بما كسبوه، وتقديره لكن أصحاب اليمين (في جنات) أي بساتين آجنها الشجر، واصحاب اليمين هم كل من لم يكن من الضالين: وقال الحسن:
هم اصحاب الجنة. وقال قوم: هم الذين ليس لهم شئ من الذنوب. وقال قوم:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 39 (دار بيروت)
(ج 10 م 24 من التبيان) (*)
===============
(186)
هم اطفال المؤمنين. وقوله (يتساءلون) اى يسأل بعضهم بعضا (عن المجرمين)
العصاه في طاعة الله، فيقولولن لهم (ما سلككم في سقر) أي ما أدخلكم في جهنم فالمجرم هو القاطع بالخروج عن أمر الله ونهيه إلى إرتكاب الكبائر من القبيح، والجاروم القاطع. والسلوك الدخول. وسقر اسم من السماء جهنم. ثم حكى ما يجيبهم به اصحاب النار فانهم يقولون لهم: ادخلنا في النال لانا (لم نك من المصلين) أي لم نك نصلى ما أوجب علينا من الصلاة المفروضه على ما قررها الشرع، وفي ذات دلالة على ان الخلال بالواجب يستحق به الذم والعقاب، لانهم لم يقولوا انا فعلنا تركا للصلاة بل علقوا استحقاقهم للعقاب بالاخلال بالصلاة وفيها دلالة على أن الكفار مخاطبون بالعبادة.
لان ذلك حكاية عن الكفار بدلالة قوله في آخر الاية (كنا نكذب بيوم الدين).
وقوله (ولم نك نطعم المسكين) أي لم نكن نخرج الزكوات التي وجبت علينا، والكفارات التي يلزمنا دفعها إلى المساكين. وهم الفقراء. وهم الفقراء، فالمسكين الذي سكنته الحاجة إلى ما في ايدي الناس عن حال النشط. وحال الفقير اشد من حال المسكين. قال الله تعالى (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) (1) فسماهم الله مساكين مع أن لهم مركبا في البحر قال الشاعر:
أنا الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سبد (2)
(وكنا نخوض مع الخائضين) قال قتادة: معناه كلما غوي غاويا لدخول في الباطل غوينا معه أي كنا نلوث انفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض فلما كان هؤلاء يخرجون مع من يكذب بالحق مشيعين لهم في القول كانوا خائضين معهم (وكنا) مع ذلك (نكذب بيوم الدين) اي كنا نجحد يوم الجزاء وهو يو القيامة، فالتكذيب تنزيل الخبر على انه كذب باعتقاد ذلك فيه أو الحكم به.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 18 الكهف آية 80 (2) مر تخريجه في 5 / 283 (*)
===============
(187)
فهؤلاء اعتقدوا ان الخبر يكون يوم الدين كذب. والدين الجزاء، وهو الايصال إلى كل من له شئ او عليه شئ ما يستحقه، فلذلك يوم الدين، وهو يوم الجزاء وهو يوم أخذ المستحق بالعدل. وقوله (حتى أتانا اليقين) معناه حتى جاءنا العلم واليقين الذي يوجد برد الثقة به في الصدر أو دليله، يقال: وجد فلان برد اليقين وثلج في صدره، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن، فقال الله تعالى لهم (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) الذين يشفعون لهم، لان عذاب الكفر لا يسقطه الله بالشفاعة بالاجماع. ثم قال (فما لهم عن التذكرة) أي أي شئ لهم؟ ولم أعرضوا وتولوا عن النبوة والرشد؟ ! ولم يتعظوا به إلى ان صاروا إلى جهة الضلال على وجه الانكار عليهم. ثم شبههم، فقال (كأنهم حمر مستنفرة) أي مثلهم في النفور عما تدعوهم اليه من الحق واعراضهم، مثل الحمر إذا نفرت ومرت على وجهها إذا (فرت من قسورة) وهو السبع يعني الاسد، يقال نفر، واستنفر، مثل علامتنه واستعلاه وسمع إعرابي رجلا يقرأ (كأنهم حمر مستنفرة) فقال: طلبها قسورة، فقيل له:
ويحك إن في القرآن (فرت من قسورة) قال (مستنفرة) إذا، فالفرار الذهاب عن الشئ خوفا منه، فريفر فرا وفرارا، فهو فار إذا هرب والفار الهارب.
والهرب نقيض الطلب، واصل الفرار الانكشاف عن الشئ، ومنه فر الفرس يفره فرا إذا كشف عن سنه. والقسورة الاسد. وقيل: هو الرامي للصيد. وأصله الاخذ بالشدة من قسره يقسره قسرا أي قهره. وقال ابن عباس: القسورة الرماة وقال سعيد بن جبير: هم القناص. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: جماعة الرجال وقال ابوهريرة: هو الاسد. وهو قول زيد بن اسلم، وفى رواية عن ابن عباس وابي زيد: القسور بغير هاء تأنيث.
وقوله (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) اخبار من الله
===============
(188)
تعالى بأنهم ليسوا كالحمر المستنفرة الفارة من القسورة، بل لان كل رجل منهم يريد أن يعطى صحفا منشرة. قال قال الحسن وقتادة ومجاهد: انهم يريدون صحفا منشرة اي كتبا تنزل من السماء كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان: أن آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله). وقيل: إنهم قالوا كانت بنو إسرائيل إذا اذنب منهم مدنب أنزل الله كتابا أن فلانا أذنب فما بالنا لا ينزل علينا مثل ذلك إن كنت صادقا به؟ والصحف جمع صحيفة، وهي الورقة التي من شأنها ان تقلب من جهة إلى جهة، لما فيها من الكتابة، وتجمع الصحيفة صحفا وصحائف، ومنه مصحف ومصاحف. والنشر بسط ما كان مطويا او ملتفا من غير التحام. وقيل: معناه إنهم يريدون صحفا من الله تعالى بالبراءة من العقوبة واسباغ النعمة حتى يؤمنوا وإلا أقاموا على أمرهم. وقيل: تفسيره ما ذكره الله تعالى في قوله (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) (1) فقال الله تعالى (كلا) أي حقا ليس الامر على ما قالوه (بل لا يخافون) هؤلاء الكفار (الاخرة)
بجحدهم صحته. ثم قال (انه تذكرة) يعني القرآن تبصرة وموعظة لمن عمل به واتعظ بما فيه، وهو قول قتادة. ثم قال (فمن شاء ذكره) أي من شاء أن يتعظ بما فيه وهو يتذكر به، فعل، لانه قادر عليه. ثم قال (وما يذكرون إلا ان يشاء الله)
من قرأ بالتاء، فعلى الخطاب، ومن قرأ بالياء، فعلى الاخبار عنهم. ومعناه ليس يتذكرون ولا يتعظون بالقرآن إلا ان يشاء الله، ومعناه إلا والله شاءه له، لانه طاعة والله يريد الطاعات من خلقه. وقوله (هو اهل التقوى واهل المغفرة) معناه هو اهل ان يتقى عقابه، واهل ان يعمل بما يؤدي إلى مغفرته. وقيل: معناه هو اهل ان يغفر المعاصي إذا تاب المذنب من معاصيه.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 17 الاسرى آية 93 (*)
===============
75 - سورة القيامة:
مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي أربعون آية في الكوفي وتسع وثلاثون في البصري والمدنيين.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(لا أقسم بيوم القيمة (1) ولا أقسم بالنفس اللوامة (2)
أيحسب الانسان ألن نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4) بل يريد الانسان ليفجر أمامه يسئل أيان يوم القيمة (6) فاذا برق البصر (7) وخسف القمر (8) وجمع الشمس والقمر (9) يقول الانسان يومئذ أين المفر) (10)
عشر آيات.
قرأ (برق) بفتح الراء اهل المدينة وأبان عن عاصم، الباقون بكسر الراء وقرأ القواس عن ابن كثير (لا قسم) باثبات القسم جعل اللام لام تأكيد، واقسم، والاختيار لمن قصد هذا (لا قسمن) وقد روي ذلك عن الحسن، قال: لان الله تعالى اقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة. وقال مقاتل: لم يقسم الله تعالى
===============
(190)
بالقيامة إلا في هذه السورة فقط. الباقون (لا اقسم) التقدير بنفي اليمين في اللفظ واختلف في ذلك النحويون فقال ابوعبيدة والكسائي (لا) صلة والتقدير اقسم.
وقال قوم (لا) تزيدها العرب لا إبتداء، لكن (لا) ههنا رد لقوم انكروا البعث وكفروا بالتنزيل. فقال الله (لا) أي ليس كما تقولون. ثم قال (اقسم بيوم القيامة) قال ابن خالويه: (لا) تنقسم اربعين قسما ذكرته في كل مفرد.
قوله (لا أقسم) معناه اقسم و (لا) صلة في قول سعيد بن جبير. وقال ابن عباس (لا) تأكيد كقولك: لا والله. بلى والله ما كان كذا، فكأنه قال لا، اقسم بيوم القيامة ما الامر على ما توهموه. والقسم تأكيد الخبر بما جعله في حيز المتحقق. والمعنى اقسم بيوم القيامة ويوم القيامة هو النشأه الاخيرة التي تقوم فيها الناس من قبورهم للمجازاة، وبذلك سميت القيامة، ويومها يوم عظيم، على خطر عظيم جسيم.
وقوله (ولا اقسم بالنفس اللوامة) قسم ثان، ومعناه معنى الاول. وقال الحسن: أقسم تعالى بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة، بل نفى ان يقسم بها.
قال الرماني: وهذا يضعف، لانه يخرج عن تشاكل الكلام. وقيل: ان جواب القسم محذوف، وتقديره ما الامر على ما تتوهمون. وقال قوم: جواب القسم قوله (بلى قادرين)
واللوامة الكثيرة اللوم لقلة رضاها بالامر وتمييز ما يرضى مما لا يرضى، وما يلام عليه مما لا يلام عليه. وقال ابن عباس: اللوامة من اللوم.
وقال مجاهد: تلوم على ما مضى وفات. وقال قتادة: اللوامة الفاجرة، كأنه قال ذات اللوام الكثير. وقال سعيد بن جبير: هي التي تلوم على الخير والشر وقيل: معناه لاصبر لها على محن الدنيا وشدائدها، فهي كثيرة اللوم فيها. وقال
===============
(191)
الحسن: اللوامة هي التي تلوم نفسها على ما ضيعت من حق الله يوم القيامة، وهي نفس الكافر. وقيل: معناها أنها تلوم نفسها في الاخرة على الشر لم عملته وعلى الخير هلا استكثرت منه.
وقوله (ايحسب الانسان أن لن نجمع عظامه) صورته صورة الاستفهام ومعناه الانكار على من أنكر البعث والنشور، فقال الله له ايظن الانسان الكافر أن لن نجمع عظامه ونعيده إلى ما كان أولا عليه. ثم قال: ليس الامر على ما ظنه (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) قال ابن عباس: يجعل بنانه كالخف والحافر فيتناول المأكول بفيه، ولكننا مننا عليه. وقال قتادة كخف البحير او حافر الدابة. ونصب (قادرين) على أحد وجهين:
احدهما - على تقدير بلى نجمعها قادرين.
والاخر - بلى نقدر قادرين إلا أنه لم يظهر (نقدر) لدلالة (قادرين)
عليه، فاستغني به. وقيل: معناه بلى قادرين على ان نسوي بنانه حتى نعيده على ما كان عليه خلقا سويا.
وقوله (بل يريد الانسان ليفجر أمامه) اخبار منه ان الانسان يفجر أمامه ومعناه يمضي أمامه راكبا رأسه في هواه - في قول مجاهد - أي فهذا الذي يحمله على الاعراض عن مقدورات ربه، فلذلك لا يقر بالبعث والنشور. وقال الزجاج:
إنه يسوف بالتوبة ويقدم الاعمال السيئة. قال: ويجوز أن يكون المراد ليكفر بما قدامه من البعث بدلالة قوله (يسأل أيان يوم القيامة) فهو يفجر أمامه بأن يكذب بما قدامه من البعث. وقوله (يسأل أيان يوم القيامة) معناه ان الذي يفجر أمامه يسأل متى يكون يوم القيامة؟ فمعنى (أيان) (متى) إلا ان السؤال ب (متى) اكثر من السؤال ب (أيان)، فلذلك حسن ان يفسر بها لما دخلها من الابهام الذي يحتاج
===============
(192)
فيه إلى بيان ما يتصل بها من الكلام. والسؤال على ضربين: سؤال تعجيز، وسؤال طلب للتبيين.
وقوله (فاذا برق البصر) فالبرق اللمعان بالشعاع الذي لا يلبث، لانه مأخوذ من البرق، يقال: برق يبرق برقا، وإنما قيل (برق البصر) لان ذلك يلحقه عند شدة الامر، والبارقة الذين تلمع سيوفهم إذا جردوها كالبرق، وانشد ابوعبيدة للكلابي:
لما اتاني ابن عمير راغبا * اعطيته عيسا صهابا فبرق (1)
بكسر الراء وانشد الفراء:
نعاني حنانة طوبا له * يسف يبسا من العشرق
فنفسك فانع ولا تنعنى * وداو الكلوم ولا تبرق (2)
بالفتح، أي لا تفزع من هول الجراح، و (حنانة) اسم رجل و (طويا) له نعجة، وقال ابن خالويه: من كسر قال: لان (برق) بالفتح لا يكون إلا في الضوء يقال برق البرق إذا لمع، وبرق الحنظل، فاما برق بالكسر، فمعناه تحير والذي قاله اهل اللغة إنهما لغتان، وتقول العرب، لكل داخل: برقة أي دهشة. وقال الزجاج: برق إذا فزع وبرق اذا حار.
وقوله (وخسف القمر) أي ذهب نوره بغيبة النور عن البصر، وخسف وكسف بمعنى كأنه يذهب نوره في خسف من الارض فلا يرى.
وقوله (وجمع الشمس والقمر) أي جمعا في ذهاب نورهما بما يراه الانسان والجمع جعل احد الشيئين مع الاخر. والجمع على ثلاثة اقسام: جمع في المكان، وجمع
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 2 / 277 والقرطبي 19 / 94 (2) قائله طرفة بن العبد ديوانه 70 (دار بيروت) البيت الثاني فقط (*)
===============
(193)
في الزمان، وجمع الاعراض في المحل. وجمع الشيئين في حكم او صفة مجاز، وقوله (يقول الانسان يومئذ اين المفر) اخبار من الله تعالى بأن الانسان يقول في ذلك الوقت: اين المهرب؟ والفرار بفتح الفاء. وروي عن ابن عباس (أين المفر) بكسر الفاء، قال الزجاج: المفر بفتح الفاء مصدر، وبالكسر مكان الفرار. وهذا سؤال تعجيز عن وجود مفر يهرب اليه من عذاب الله في ذلك اليوم.
وقيل فيه معنى جواب هذا السائل، كأنه قيل يوم القيامة إذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر. والمفر مصدر. ويجوز فيه الكسر، ومثله مدب ومدب وقال البصريون: الكسر لمكان الفرار. وقال الفراء الفتح والكسر لغتان.
قوله تعالى:
(كلا لا وزر (11) إلى ربك يومئذ المستقر (12) ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر (13) بل الانسان على نفسه بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره (15) لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فاذا قرأناه فاتبع قرآنه (18)
ثم إن علينا بيانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الاخرة (21) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه يومئذ باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة) (25) خمس عشرة آية قرأ (كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الاخرة) بالياء فيهما ابن كثير (ج 10 م 25 من التبيان)
===============
(194)
وابوعمرو وابن عامر على وجه الاخبار عنهم. الباقون بالتاء على وجه الخطاب لهم، لما حكى الله تعالى عن الكافر انه يقول يوم القيامة (اين المفر) والمهرب حكى ما يقال له، فانه يقال له (كلا لا وزر) أي لا ملجأ. والوزر الملجأ من جبل يتحصن به او غيره من الحصون المنيعة. ومنه الوزير المعين الذي يلجأ اليه في الامور، يقال وزرت الحائط إذا قويته بأساس يعتمد عليه. وقال ابن عباس ومجاهد: لا وزر، معناه لا ملجا. وقال الحسن: لا جبل، لان العرب إذا دهمتهم الخيل بغتة، قالوا: الوزر، يعنون الجبل، قال ابن الدمينة:
لعمرك ما للفتى من وزر * من الموت ينجو به والكبر (1)
وقال الضحاك: معناه لا حصن. وقيل معناه لا منجا ينجو اليه، وهو مثل الملجأ. ثم قال تعالى (إلى ربك يومئذ المستقر) أي المرجع الذي يفر فيه. ومثله المأوى والمثوى، وخلافه المرتحل. والمستقر على وجهين: مستقر إلى أمد، ومستقر على الابد.
وقوله (ينبؤ الانسان يومئذ بما قدم واخر) أي يخبر بجميع ما عمله، وما تركه من الطاعات والمعاصي، فالنبأ الخبر بما يعظم شأنه، وحسن في هذا الموضع لان ما جرى مجرى اللغو والمباح لا يعتد به في هذا الباب. وإنما الذي يعظم شأنه من عمل الطاعة والمعصية هو ما يستحق عليه الجزاء. فأما ما وجوده كعدمه، فلا اعتبار به. والتقديم ترتيب الشئ قبل غيره. وضده التأخير وهو ترتيب الشئ بعد غيره، ويكون التقديم والتأخير في الزمان، وفى المكان، وفى المرتبة، كتقديم المخبر عنه في المرتبة، وهو مؤخر في الذكر، كقولك: في الدار زيد، وكذلك الضمير في (غلامه ضرب زيد) وهو مقدم في اللفظ ومؤخر في المرتبة. وقال ابن عباس: ينبأ بما قدم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 2 / 277 والقرطبى 19 / 96 (*)
===============
(195)
من المعصية وأخر من الطاعة. وقال مجاهد: يعني بأول عمله وآخره. وقال ابن زيد: ما أخذ وترك. وفي رواية عن ابن عباس، وهو قول ابن مسعود: بما قدم قبل موته، وما اخر من سنة يعمل بها بعد موته، وقيل ما قدم وأخر جميع أعماله التي يستحق بها الجزاء.
وقوله (بل الانسان على نفسه بصيرة) أي شاهد على نفسه بما تقوم به الحجة - ذكره ابن عباس - كما يقال: فلان حجة على نفسه. وقد قال تعالى (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) (1) وقال الزجاج: معناه بل الانسان تشهد عليه جوارحه كما قال (يوم تشهد عليهم) (2) والهاء في (بصيرة) مثل الهاء في (علامة) للمبالغة. وقيل شهادة نفسه عليه اولى من اعتذاره. وقيل تقديره بل الانسان على نفسه من نفسه بصيرة: جوارحه شاهدة عليه يوم القيامة ولو اعتذر كان شاهدا عليه من يكذب عذره. وقوله (ولو القى معاذيره) معناه ولو اقام الاعتذار عند الناس، وفى دار التكليف واستسر بالمعاصي بارخاء الستر. وقال ابن عباس: معناه ولو اعتذر. وقال السدي: معناه ولو ارخى الستور وأغلق الابواب. وقال الزجاج:
معناه لو أتى بكل حجة عنده. والمعاذير التنصل من الذنوب بذكر العذر، واحدها معذرة من قوله (لا ينفع الظالمين معذرتهم) (3) وقيل: المعاذير ذكر مواقع تقطع عن الفعل المطلوب. والعذر منع يقطع عن الفعل بالامر الذي يشق. والاعتذار الاجتهاد في تثبيت العذر.
وقوله (لا تحرك به لسانك لتعجل به) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك: كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 17 الاسرى آية 14 (2) سورة 24 النور آية 24 (3) سورة 40 المؤمن آية 52 (*)
===============
(196)
فنهاه الله عن ذلك. والتحريك تغيير الشئ من مكان إلى مكان او من جهة إلى جهة بفعل الحركة فيه والحركة ما به يتحرك المتحرك. والمتحرك هوالمنتقل من جهة إلى غيرها. واللسان آلة الكلام. والعجلة طلب عمل الشئ قبل وقته الذي ينبغي أن يعمل فيه. ونقيضه الابطاء، والسرعة عمل الشئ في أول وقته الذي هو له، وضده الاناة.
وقوله (إن علينا جمعه وقرآنه) قال ابن عباس والضحاك: معناه ان علينا جمعه في صدرك، وقراءته عليك حتى يمكنك تلاوته. وقال قتادة: معناه إن علينا جمعه في صدرك وتأليفه على ما نزل عليك. وقال ابن عباس - في رواية اخرى - إن معناه إن علينا بيانه من حلاله وحرامه بذكره لك. وقال قتادة: معناه نذكر احكامه ونبين لك معناه إذا حفظته. وقال البلخي: الذي أختاره انه لم يرد القرآن وإنما اراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة، لان ما قبله وبعده يدل على ذلك، وليس فيه شئ يدل على انه القرآن، ولا على شئ من أحكام الدنيا، وفي ذلك تقريع للعبد وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة. والقرآن من الضم والتأليف، قال عمرو بن كلثوم:
ذراعي عيطل أدماء بكر * هجان اللون لم تقرأ جنينا (1)
أي لم تضم رحما على ولد. وقوله (فاذا قرأناه فاتبع قرآنه) قال ابن عباس:
معناه إذا قرأناه أي تلوناه فاتبع قراءته بقرائتك، وقال قتادة والضحاك: معناه بأن يعمل بما فيه من الاحكام والحلال والحرام. وقيل: معناه فاذا قرأه جبرائيل عليك فاتبع قراءته. والاتباع مراجعة الثاني للاول في ما يقتضيه، ومثله الاقتداء والاحتذاء والائتمام، ونقيضه الخلاف. والبيان إظهار المعنى للنفس بما يتمير به من غيره بان الشئ يبين إذا ظهر وأبانه غيره أي اظهره بيانا وإبانة، ونقيض البيان
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر تخريجه في 2 / 238 (*)
===============
(197)
الاخفاء والاغماض. وقال قتادة (ثم إن علينا بيانه) معناه إنا نبين لك معناه إذا حفظته.
وقوله (كلا بل تحبون العاجلة) معناه الاخبار من الله تعالى أن الكفار يريدون المنافع العاجلة ويركنون اليها ويريدونها (وتذرون الاخرة) أي وتتركون عمل الاخرة الذي يستحق به الثواب، وتفعلون ما يستحق به العقاب من المعاصي والمحارم.
ثم قسم تعالى اهل الاخرة فقال (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)
أي مشرقة مضيئة، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملا القلب سرورا عند الرؤية نضر وجهه ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر. والنضرة مثل البهجة والطلاقة، وضده العبوس والبسور، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله عليها من النور علامة للخلق، والملائكة على انهم مؤمنون مستحقون الثواب. وقوله (إلى ربها ناظرة) معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه ان يصل اليهم. وقيل (ناضرة)
أي مشرفة (إلى) ثواب ربها (ناظرة) وليس في ذلك تنغيص لان الانتظار إنما يكون فيه تنغيص إذا كان لا يوثق بوصوله إلى المنتظر أو هو محتاج اليه في الحال.
والمؤمنون بخلاف ذلك، لانهم في الحال مستغنون منعمون، وهم ايضا واثقون انهم يصلون إلى الثواب المنتظر. والنظر هو تقليب الحدقة الصحية نحو المرئي طلبا للرؤية ويكون النظر بمعنى الانتظار، كما قال تعالى (واني مرسلة اليهم بهدية فناظرة) (1)
أى منتظرة وقال الشاعر:
وجوه يوم بدر ناظرات * إلى الرحمن تأتي بالفلاح (2)
أى منتظرة للرحمة التي تنزل عليهم، وقد يقول القائل: انما عيني ممدودة
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 27 النمل آية 35 (2) مر في 1 / 229 (*)
===============
(198)
إلى الله، والى فلان، وانظر اليه أى انتظر خيره ونفعه وأؤمل ذلك من جهته، وقوله (ولا ينظر اليهم يوم القيامة) (1) معناه لا ينيلهم رحمته. ويكون النظر بمعنى المقابلة، ومنه المناظرة في الجدل، ومنه نظر الرحمة أى قابله بالرحمة، ويقال: دور بني فلان تتناظر أى تتقابل، وهو وينظر إلى فلان أى يؤمله وينتظر خيره، وليس النظر بمعنى الرؤية اصلا، بدلالة انهم يقولون: نظرت إلى الهلال فلم أره فلو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضا، ولانهم يجعلون الرؤية غاية للنظر يقولون: مازلت أنظر إليه حتى رأيته، ولا يجعل الشئ غاية لنفسه لا يقال: بمازلت أراه حتى رأيته، ويعلم الناظر ناظرا ضرورة، ولا يعلم كونه رائيا بل يسأل بعد ذلك هل رأيت أم لا؟ ودخل (إلى) في الاية لا يدل على ان المراد بالنظر الرؤية، ولا تعليقه بالوجوه يدل على ذلك، لانا أنشدنا البيت، وفيه تعليق النظر بالوجه وتعديه بحرف (إلى)
والمراد به الانتظار، وقال جميل بن معمر:
وإذا نظرت اليك من ملك * والبحر دونك جدتني نعماء (2)
والمراد به الانتظار والتأميل، وايضا، فانه في مقابلة قوله في صفة اهل النار (تظن أن يفعل بها فاقرة) فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب، والكفار يظنون الفاقرة، وكله راجع إلى فعل القلب، ولو سلمنا أن النظر يعد الرؤية لجاز أن يكون المراد أنها رؤية ثواب ربها، لان الثواب الذي هو انواع اللذات من المأكول والمشروب والمنكوح تصح رؤيته. ويجوز ايضا أن يكون إلى واحد إلا لاء وفى واحدها لغات (ألا) مثل قفا، و (ألى) مثل معى و (إلى) مثل حدى و (ألى)
مثل حسى، فاذا اضيف إلى غيره سقط التنوين، ولا يكون (إلى) حرفا في الاية وكل ذلك يبطل قول من أجاز الرؤية على الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 3 آل عمران آية 77 (2) مر في 1 / 229 (*)
===============
(199)
وليس لاحد ان يقول: إن الوجه الاخير يخالف الاجماع، أعني اجماع المفسرين، وذلك لانا لا نسلم لهم ذلك، بل قد قال مجاهد وابوصالح والحسن وسعيد بن جبير والضحاك: إن المراد نظر الثواب. وروي مثله عن علي (عليه السلام)، وقد فرق اهل اللغة بين نظر الغضبان ونظر الراضي، يقولون: نظر غضبان، ونظر راض، ونظر عداوة ونظر مودة، قال الشاعر:
تخبرني العينان ما الصدر كاتم * ولا حن بالبعضاء والنظر الشزر
والرؤية ليست كذلك فانهم لا يضيفونها، فدل على أن النظر غير الرؤية، والمرئي هوالمدرك، والرؤية هي الادراك بالبصر، والرائي هوالمدرك، ولا تصح الرؤية وهي الادراك إلا على الاجسام او الجوهر او الالوان. ومن شرط المرئي أن يكون هو او محله مقابلا او في حكم المقابل، وذلك يستحيل عليه تعالى، فكيف تجيز الرؤية عليه تعالى؟ ! ! ! ثم ذكر القسم الاخر فقال (وجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة)
يعني وجوه اهل الكفر. والبسور ظهور حال الغم في الوجه معجلا قبل الاخبار عنه ومثله العبوس إلا انه ليس فيه معنى التعجيل. والفاقرة الكاسرة لفقار الظهر بشدة ومثل الفاقرة الداهية والابدة. وقال الحسن: ناظرة بهجة حسنة. وقال مجاهد:
مسرورة. وقال ابن زيد: ناعمة. وقال مجاهد وقتادة: معنى باسرة كاشرة كالحة.
وقال مجاهد: الفاقرة الداهية. وقال ابن زيد الابدة بدخول النار.
قوله تعالى:
(كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ
===============
(200)
المساق (30) فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32)
ثم ذهب إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فاولى (34) ثم أولى لك فاولى (35) أيحسب الانسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والانثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) (40) خمس عشرة آية.
قرأ ابن عامر وحفص ورويس (من مني يمنى) بالياء على التذكير ردوه إلى المني. الباقون بالتاء حملا على النطفة.
يقول الله تعالى (كلا إذا بلغت) يعني النفس أو الروح، ولم يذكر لدلالة الكلام عليه كما قال (ماترك على ظهرها) (1) يعني على ظهر الارض. وإنما لم يذكر لعلم المخاطب به، و (التراقي) جمع ترقوة وهي مقدم الحلق من أعلى الصدر، تترقى اليه النفس عند الموت، واليها يترقى البخار من الجوف، وهناك تقع الحشرجة، وقوله (وقيل من راق) فالراق طالب الشفاء يقال: رقاه يرقيه رقية إذا طلب له شفاء باسماء الله الجليلة وآيات كتابه العظيمة. وأما العوذة فهي رفع البلية بكلمات الله تعالى. وقال ابوقلابة والضحاك وابن زيد وقتادة: معنى (راق) طبيب شاف.
أي اهله يطلبون له من يطببه ويشفيه ويداويه فلا يجدونه. وقال ابن عباس وابو الجوزاء: معناه قالت الملائكة: من يرقا بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العقاب.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 35 فاطر آية 45 (*)
===============
(201)
وقال الضحاك: أهل الدنيا يجهزون البدن، وأهل الاخرة يجهزون الروح.
وقوله (وظن أنه الفراق) معناه علم عند ذلك انه فراق الدنيا والاهل والمال والولد. والفراق بعاد الالاف وهو ضد الوصال يقال: فارقه يفارقه فراقا.
وقد صار علما على تفرق الاحباب وتشتت الالاف.
وقوله (والتفت الساق بالساق) قال ابن عباس ومجاهد: معناه التفت شدة أمر الاخرة بأمر الدنيا. وقال الحسن: التفت حال الموت بحال الحياة. وقال الشعبي وابومالك: التفت ساقا الانسان عند الموت - وفي رواية أخرى عن الحسن - انه قال: إلتفات الساقين في الكفن. وقيل: ساق الدنيا بساق الاخرة. وهو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع. وقال الحسن: معناه التفت شدة أمر الدنيا بشدة أمر الاخرة. وقيل: معناه اشتداد الامر عند نزع النفس حتى التفت ساق على ساق عند تلك الحال، يقولون: قامت الحرب على ساق عند شدة الامر قال الشاعر:
فاذا شمرت لك عن ساقها * فويها ربيع ولا تسأم (1)
وقوله (إلى ربك يومئذ المساق) معناه إن الخلائق يساقون إلى المحشر الذي لا يملك فيه الامر. النهي غير الله. والمساق مصدر مثل السوق.
وقوله (فلا صدق ولا صلى) قال الحسن: معناه لم يتصدق ولم يصل (ولكن كذب) بالله (وتولى) عن طاعته. وقال قوم (فلا صدق) بربه (ولا صلى)
وقال قتادة: معناه فلا صدق بكتاب الله ولا صلى لله (ولكن كذب) به (وتولى)
عن طاعته. وقال قوم: معناه (فلا صدق) بتوحيد الله، ولا نبيه بل كذب به.
والصدقة العطية للفقراء والزكاة الصدقة الواجبة على المال المعلق بنصاب مخصوص.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسر الطبري 29 / 107 وقد مر في 10 / 87 (ج 10 م 26 من التبيان) (*)
===============
(202)
والصلاة عبادة أولها التكبير وآخرها التسليم، وفيها قراءة وأركان مخصوصة. والتولي هو الاعراض عن الشئ، فلما كان هذا الجاهل معرضا عن الحق بتركه إلى خلافه من الباطل لزمه الذم بهذا الوصف.
وقوله (ثم ذهب إلى أهله يتمطى) فالتمطي تمدد البدن من الكسل إما كسل مرض او كسل تثاقل عن الامر. والذم بكسل التثاقل عن الداعي إلى الحق. وقال مجاهد وقتادة: معنى يتمطى بتختر. وقيل: الاصل في يتمطى يلوي مطاه، والمطاء الظهر، ونهي عن مشية المطيطيا، وذلك ان يلقي الرجل بدنه مع التكفي في مشيه.
وقيل: نزلت الاية في أبي جهل بن هشام بن المغيرة المخزومي.
وقوله (أولى لك فاولى ثم اولى لك فاولى) قال قتادة: هو وعيد على وعيد. وقيل معنى (أولى لك) وليك الشر يا أبا جهل، وقيل: معناه الذم اولى لك من تركه إلا انه حذف، وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك. وصار من المتروك المحذوف الذي لا يجوز اظهاره. وقيل أولى لك، فاولى لك على الاول والذم لك على الثاني والثالث. والاولى في العقل هو الاحق بالقرب من داعي العقل، كأنه أحق بوليه.
ثم قال على وجه الوعيد والتهديد للكفار (ايحسب الانسان) ومعناه أيظن الانسان الكافر بالبعث والنشور الجاحد لنعم الله (أن يترك سدى) ومعناه أن يترك مهملا عن الامر والنهي، فالسدى همل من غير أمر يؤخذ به، ويكون فيه تقويم له، واصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره واجمل به في دنياه وآخرته.
وقال ابن عباس ومجاهد: معنى (أن يترك سدى) أي هملا لا يؤمر ولا ينهى.
وقيل: أيحسب الانسان أن يترك مهملا فلا يؤمر ولا ينهى مع كمال عقله وقدرته.
ثم قال على وجه التنبيه على أن الله خلقه للتكليف والعبادة، وعلى انه قادر
===============
(203)
على اعادته واحيائه بعد موته (ألم يك نطفة من مني يمني) فالمني نطفة الذكر التي يجيئ منها الولد (ثم كان علقة) أي قطعة من الدم المنعقد جامدة لا تجري فخلق الله منها هذا الانسان الذي هو في احسن تقويم، فسبحان من قدر على ذلك. وقوله (فخلق فسوى) أي خلق من العلقة خلق سويا شق له السمع والبصر. وقال الفراء:
معنى (فسوى) فسواه (فجعل منه) من ذلك المني (الزوجين الذكر والانثى)
فمن قدر على ذلك لا يقدر على ان يحيي الموتى بعد ان كانوا أحياء؟ ! بلى والله قادر على ذلك، لان جعل النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظما وكسو العظم لحما ثم إنشاؤه خلقا آخر حيا سليما مركبا فيه الحواس الخمس كل واحدة منها يصلح لما لا يصلح له الاخرى، وخلق الذكر والانثى اللذين يصح منهما التناسل على ما قدره الله أعجب وابدع من اعادة الميت إلى ما كان من كونه حيا، فمن قد ر على الاول أولى بأن يكون قادرا على الثاني، فالاحياء ايجاد الحياة، والاماتة ايجاد الموت عند من قال أن الموت معنى، ومن قال: ليس بمعنى، قال: هو نقض بنية الحي على وجه الاختراع.
وقوله (فجعل منه) قيل يعني من الانسان (الزوجين الذكر والانثى) وقيل من المني (أليس ذلك بقادر على ان يحيي الموتى) وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وا له إذا ختم السورة، يقول: سبحانك الله بلى، وهو المروي عن أبي جعفر وابي عبدالله (عليهما السلام) وفي الاية دلالة على صحة القياس العقلي، وهو أن من قدر على احياء الانسان قادر على احيائه بعد الاماتة، وقال الفراء: يجوز في العربية يحيي الموتى بالادغام بأن ينقل الحركة إلى الحاء وتدغم احدى اليائين في الاخرى وانشد:
وكأنها بين النساء سبيكة * تمشي بسدة بيتها بتعي (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مر في 5 / 147 (*)
===============
76 - سورة الدهر:
وتسمى سورة الانسان، وتسمى سورة الابرار، وهي مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما. وقال قوم: هي مدنية وهي احدى وثلاثون آية بلا خلاف بسم الله الرحمن الرحيم (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1) إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3)
إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا (4) إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (5) عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا (7) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا (9) إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) (10)
عشر آيات.
قرأ (سلاسلا) منونا نافع والكسائي وابوبكر عن عاصم اتباعا للمصحف
===============
(205)
ولتشاكل ما جاوره من رأس الاية. الباقون بغير تنوين، لان مثل هذا الجمع لا ينصرف في معرفة ولا في نكرة، لانه على (فعائل) بعد الفه حرفان.
يقول الله تعالى (هل أتي على الانسان) قال الزجاج: معناه ألم يأت على الانسان (حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) يعني قد كان شيئا إلا انه لم يكن مذكورا، لانه كان ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح. وقال قوم (هل) يحتمل معناه أمرين: احدهما - أن يكون بمعنى (قد أتى) والثاني أن يكون معناها اتى على الانسان، والاغلب عليها الاستفهام والاصل فيها معنى (قد) لتجرى على نظائرها بمعنى ضمن معنى الالف واصله من ذلك قول الشاعر:
أم هل كبير بكى لم تقض عبرته * أثر الاحبة يوم البين مشكوم
والمعنى بالانسان - ههنا - آدم - في قول الحسن - والمعنى قد أنى على آدم (حين من الدهر) وبه قال قتادة وسفيان. وقيل: ان آدم لما خلق الله جثته بقي أربعين سنة لم تلج فيه الروح كان شيئا، ولم يكن مذكورا، فلما نفخ فيه الروح وبلغ إلى ساقه كاد ينهض للقيام، فلما بلغ عينيه ورأى ثمار الجنة بادر اليها ليأخذها فلذلك قال الله تعالى (خلق الانسان من عجل) (1) وقال غيره: هو واقع على كل إنسان، والانسان في اللغة حيوان على صورة الانسانية، وقد تكون الصورة الانسانية، ولا إنسان، وقد يكون حيوان ولا إنسان، فاذا حصل المعنيان صح إنسان لا محالة. والانسان حيوان منتصب القامة على صورة تنفصل من كل بهيمة.
و (الحين) مدة من الزمان، وقد يقع على القليل والكثير. قال الله سبحانه (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) (2) أي وقت تمسون ووقت تصبحون. وقال (تؤتي أكلها كل حين) يعني كل ستة أشهر، وقال قوم: كل سنة. وقال - ههنا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 21 الانبياء آية 37 (2) سورة 30 الروم آية 17 (*)
===============
(206)
(هل أتى على الانسان حين) أي مدة طويلة. والدهر مرور الليل والنهار وجمعه أدهر ودهور، والفرق بين الدهر والوقت أن الوقت مضمن بجعل جاعل، لان الله
جعل لكل صلاة مفروضة وقتا، وجعل للصيام وقتا معينا، وقد يجعل الانسان لنفسه وقتا يدرس فيه مايحتاج إلى درسه ووقتا مخصوصا لغذائه.
وقوله (لم يكن شيئا مذكورا) أي لم يكن ممن ذكره ذاكر، لانه كان معدوما غير موجود، وفي الاية دلالة على أن المعدوم لا يسمى شيئا، وإنما سمى زلزلة الساعة شيئا مجازا. والمعنى إنها إذا وجدت كانت شيئا عظيما.
وقوله (إنا خلقنا الانسان من نطفة) اخبار من الله تعالى أنه خلق الانسان سوى آدم وحواء من نطفة، وهو ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منهما الولد، فالنطفة الماء القليل في أناء كان او غير إناء قال الشاعر:
وما النفس إلا نطفة بقراره * إذا لم تكدر صار صفوا غديرها
وقوله (امشاج) قال ابن عباس أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة. وقال الحسن والربيع بن أنس ومجاهد مثل ذلك. وقال قتادة: معنى أمشاج أطوار طورا نطفة وطورا مضغة وطورا عظما إلى أن صار إنسانا ليختبره بهذه الصفات. وقال مجاهد: معناه ألوان النطفة. وقال عبدالله: عروق النطفة وواحد الامشاج مشيج، وهو الخلط، وسمى النطفة بذلك، لانه جعل فيها اخلاطا من الطبائع التي تكون في الانسان من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. ثم عداها له، ثم بناه البنية الحيوانية المعدلة الاخلاط. ثم جعل فيها الحياة ثم شق له السمع والبصر فتبارك الله رب العالمين، وذلك قوله (فجعلناه سميعا بصيرا).
وقوله (نبتليه) أي نختبره بما نكلفه من الافعال الشاقة لننظر ما طاعته وما عصيانه فنجازيه بحسب ذلك، ويقال مشجت هذا بهذا إذ اخلطته به، وهو ممشوج به
===============
(207)
ومشيج أي مخلوط به قال رؤبة:
يطرحن كل معجل نشاج * لم تكس جلدا في دم أمشاج (1)
وقال ابو ذؤيب:
كأن الريش والفوقين منه * خلاف النصل سيط به مشيج (2)
وقوله (إنا هديناه السبيل) معناه انا أرشدناه إلى سبيل الحق وبيناه له ودللناه عليه. وقال الفراء: معناه هديناه إلى السبيل أو للسبيل. والمعنى واحد.
وقوله (اما شاكرا واما كفورا) قال الفراء: معناه إن شكر وإن كفر على الجزاء ويجوز أن يكون مثل قوله (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) (3) والمعنى اما يختار يحسن اختياره الشكر لله تعالى والاعتراف بنعمه فيصيب الحق، واما أن يكفر نعمه ويجحد إحسانه فيكون ضالا عن الصواب، وليس المعنى انه مخير في ذلك، وإنما خرج ذلك مخرج التهديد، كما قال (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (4) بدلالة قوله (انا اعتدنا للظالمين نارا) وإنما المراد البيان عن انه قادر عليهما فابهما اختار جوزي بحسبه.
وفي الاية دلالة على انه تعالى قد هدى جميع خلقه المكلفين، لان قوله (انا هديناه السبيل) عام في جملتهم وذلك يبطل قول المجبرة: إن الله لم يهد الكافر بنصب الدلالة له على طريق الحق واجتناب الباطل، وليس كل من ترك الشكر كان كافرا، لانه قد يترك في بعض الاحوال على سبيل التطوع، لان الشكر قد يكون تطوعا كما يكون واجبا، وإنما لم يذكر الله الفاسق، لانه اقتصر على اعظم الحالين
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجاز القرآن 2 / 279 والطبرى 29 / 109 (2) مجاز القرآن 2 / 279 والقرطبي 19 / 119 (3) سورة 9 التوبة آية 107 (4) سورة 18 الكهف آية 29 (*)
===============
(208)
وألحق الادون على التبع، ويجوز أن يدخل في الجملة، ولا يفرد، فليس للخوارج أن يتعلقوا بذلك في انه ليس بين الكفر والايمان واسطة. ثم بين انه تعالى إنما ذكره على وجه التهديد بقوله (انا اعتدنا للكافرين) أي ادخرنا لهم جزاء على كفرهم ومعاصيهم وعقوبة لهم (سلاسل وأغلالا وسعيرا) يعذبهم بها يعاقبهم فيها، والسلاسل جمع سلسلة والاغلال جمع غل، والسعير هي النار المسعرة الملهبة.
ولما اخبر بما للكافرين من العقوبات على كفرهم، ذكر ايضا ما للمؤمنين على إيمانهم فقال (إن الابرار) وهو جمع البر، وهو المطيع لله المحسن في أفعاله (يشربون من كأس) والكاس اناء الشراب إذا كان فيه، ولايسمى كأسا إذا لم يكن فيه شراب - ذكره الزجاج - قال الشاعر:
صددت الكأس عنا أم عمرو * وكان الكأس مجراها اليمينا (1)
وقوله (كان مزاجها كافورا) قيل مايشم من ريحها لا من جهة طعمها وقوله (عينا يشرب بها عباد الله) قوله (عينا) نصب على البدل من (كافورا) ويجوز أن يكون على تقدير ويشربون عينا، ويجوز أن يكون نصبا على الحال من (مزاجها)
وقال الزجاج: معناه من عين. وقال الفراء: شربها وشرب منها سواء في المعنى كما يقولون: تكلمت بكلام حسن وكلاما حسنا. وقيل: يمزج بالكافور، ويختم بالمسك وقيل: تقديره يشربون بها وأنشد الفراء:
شربن بماء البحر ثم ترفعت * متى لجج خضر لهن نئيج (2)
متى لجج. أي من لجج. وعين الماء حفيرة في الارض ينبع منها، وهذه العين المذكورة في أرض الجنة في كونها فوارة بالماء متعة، لا هلها. ثم يفجر فيجري لهم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) القرطبي 19 / 123 والشوكاني 5 / 336 (2) الطبرى 29 / 112 والقرطبي 19 / 125 (*)
===============
(209)
إلى حيث شاؤا منها. قال مجاهد: معناه إنهم يقودونها حيث شاؤا والتفجير تشقيق الارض بجري الماء ومنه انفجار الصبح، وهو انشقاقه من الضوء، ومنه الفجور، وهو الخروج من شق الالتئام إلى الفساد. وعباد الله المراد به المؤمنون المستحقون للثواب ثم وصف هؤلاء المؤمنين فقال (يوفون بالنذر ويخافون) ويجوز أن يكون ذلك في موضع الحال، فكأنه قال يشرب بها عباد الله الموفون بالنذر الخائفون (يوما كان شره مستطيرا) فالمستطير الظاهر. والتقدير القائلون إنما نطعمكم القائلون إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا فمطريرا، ويجوز ان يكون على الاستئناف، وتقديره هم الذين يوفون بالنذر وكذلك في ما بعد، فالوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه فالوفاء إمضاء العقد على الامر الذي يدعو اليه العقل، ومنه قوله (ياايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (1) أي الصحيحة، لانه لا يلزم أحدا أن يفي بعقد فاسد، وكل عقد صحيح يجب الوفاء به، يقال أوفي بالعقد، ووفى به، فأوفى لغة أهل الحجاز وهي لغة القرآن، و (وفى) لغة أهل تميم واهل نجد، وقد بينا فيما مضى شواهده.
والنذر عقد على فعل على وجه البر بوقوع أمر يخاف ألا يقع، نذر ينذر نذرا فهو ناذر، وقال عنترة:
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما * والناذرين إذا لم ألقهمادمي (2)
أي يقولان: لئن لقينا عنترة لنقتلنه، ومنه الانذار وهو الاعلام بموضع المخافة ليعقد على التحرز منها. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال (لانذر في معصية)
وعند الفقهاء إن كفارة النذر مثل كفارة اليمين. والذي رواه أصحابنا إن كفارة النذر مثل كفارة الظهار، فان لم يقدر عليه كان عليه كفارة اليمين. والمعنى انه إذا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 5 المائدة آية (1) مر في 4 / 526 (ج 10 م 27 من التبيان) (*)
===============
(210)
فات الوقت الذي نذر فيه صار بمنزلة الحنث. وقوله (ويخافون يوما) من صفة المؤمنين (كان شره مستطيرا) أي منتشرا فاشيا ذاهبا في الجهات بلغ أقصى المبالغ، قال الاعشى:
فبانت وقد أورثت في الفؤا * د صدعا على نأيها مستطيرا (1)
والمراد بالشر - ههنا - أهوال القيامة وشدائدها.
وقوله (ويطعمون الطعام على حبه) قال مجاهد: معناه على شهوتهم له، ويحتمل أن يكون المراد على محبتهم لله (مسكينا) أي يطعمونه فقيرا (ويتيما)
وهوالذي لا والد له من الاطفال (واسيرا) والاسير هو المأخوذ من أهل دار الحرب - في قول قتادة - وقال مجاهد: وهو المحبوس. وقوله (إنما نطعمكم لوجه الله) اخبار عما يقوله المؤمنون بأنا إنما نطعمكم معاشر الفقراء واليتامى والاسرى لوجه الله، ومعناه لله، وذكر الوجه الذكره بأشرف الذكر تعظيما له، ومنه قوله (فاينما تولوا فثم وجه الله) وقيل: معناه فثم جهة الله التي ولاكم اليها ومنه قوله (ويبقى وجه ربك) (2)
أي ويبقي الله. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: علم الله مافي قلوبهم فأثنى عليهم من غير أن يتكلموا به (لا نريد منكم جزاء) أي لا نطلب بهذا الاطعام مكافأة عاجلة (ولا شكورا) أي لا نطلب أن تشكرونا عليه عند الخلائق بل فعلناه لله (إنا نخاف من ربنا) أي من عقابه (يوما عبوسا) أي مكفهرا عابسا (قمطريرا) أي شديدا، والقمطرير الشديد في الشر. وقد اقمطر اليوم اقمطرارا، وذلك أشد الايام وأطوله في البلاء والشر، ويوم قمطرير وقماطير كأنه قد التف شر بعضه على بعض، قال الشاعر:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ديوانه 85 (دار بيروت)
(2) سورة 55 الرحمن آية 27 (*)
===============
(211)
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا * عليكم إذاما كان يوم قماطر (1)
وقد روت الخاصة والعامة أن هذه الايات نزلت في علي (عليه السلام) وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فانهم آثروا المسكين واليتيم والاسير ثلاث ليال على إفطارهم وطووا (عليهم السلام)، ولم يفطروا على شئ من الطعام فأثنى الله عليهم هذا الثناء الحسن، وأنزل فيهم هذه السورة وكفاك بذلك فضيلة جزيلة تتلى إلى يوم القيامة، وهذا يدل على أن السورة مدنية.
قوله تعالى:
(فوقيهم الله شر ذلك اليوم ولقيهم نضرة وسرورا (11)
وجزيهم بما صبروا جنة وحريرا (12) متكئين فيها على الارائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13) ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا (14) ويطاف عليهم بآثية من فضة وأكواب كانت قواريرا (15) قوارير من فضة قدروها تقديرا (16) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا (17) عينا فيها تسمى سلسبيلا (18)
ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا (19)
وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) (20) عشر آيات.
قرأ الشعبي وعبيد بن عمير (قدروها) بضم القاف. الباقون بفتحها. من فتح القاف قال معناه قدروها في أنفسهم، فجاءت كما قدروا، ومن ضم أراد ان
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الشوكاني 5 / 338 والقرطبي 19 / 133 (*)
===============
(212)
ذلك قدر لهم أي قدره الله لهم كذلك. قرأ نافع والكسائي وابوبكر عن عاصم (قواريرا قواريرا) بالتنوين فيهما. وقرأ بغير تنوين ولا الف في الوقف حمزة وابن عامر، وقرأ الاولى بالتنوين والثانية بغير تنوين ابن كثير. وقرأ ابوعمرو فيهما بغير تنوين إلا انه يقف عليه بالالف. من نون الاولى اتبع المصحف، ولانه رأس آية، ثم كرهوا أن يخالفوا بينهما فنونوا الثانية، وكذلك قرأ الكسائي (ألا ان ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) (1) صرفهما لئلا بخالف بينهما مع قربهما، ومن لم يصرفهما فعلى موجب العربية، لانه جمع على (فواعيل) بعد ألفه حرفان. ومن صرف الاولى فلانها رأس آية ولم يصرف الثانية على أصل العربية.
لما اخبر الله تعالى عن المؤمنين الذين وصفهم في الايات الاولى وما اوفوا به من النذر في إطعامهم لوجه الله مااطعموه وإيثارهم على نفوسهم المسكين واليتيم والاسير وإنهم فعلوا ذلك لوجه الله خالصا، ومخافة من عذاب يوم القيامة، اخبر بما أعد لهم من الجزاء على ذلك، فقال (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) أي كفاهم الله ومنع عنهم أهوال يوم القيامة وشدائده، فالوقاء المنع من الاذى يقال: وقاه يقيه وقاء، فهو واق، ووقاه توقية قال رؤبة.
إن الموقي مثل ما وقيت (2)
ومنه اتقاه اتقاء وتوقاه توقيا، والشر ظهور الضر، وأصله الظهور من قولهم:
وحتى أشرت بالاكف المصاحف (3)
أي اظهرت، ومنه شررت الثوب إذا اظهرته للشمس او الريح، ومنه شرار
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة 11 هود آية 68 (2) اللسان (وقى)
(3) قائله كعب بن جعيل، مقاييس اللغة 3 / 181 وصده:
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم (*)
===============
(213)
النار لظهوره بتطايره وانتشاره، وقيل: الشر الضر والقبيح، ويستعار في غيره، وليس ما يوجب هذا. والمراد - ههنا - أهوال يوم القيامة وشدائده فالوقاء المنع من الاذى يقال: وقاه يقيه وقاء فهو واق ووقاه توقية وقوله (ولقاهم نضرة وسرورا)
مغنى لقاهم استقبلهم به، والنضرة حسن الالوان، ومنه نبت نضر وناضر ونضر والنضار الذهب. وقيل: ناضرة ناعمة. وقيل: حسنة الصورة. والسرور اعتقاد وصول المنافع اليه في المستقبل. وقال قوم: هو لذة في القلب بحسب متعلقه بما فيه النفع، سره يسره سرورا وكل سرور فلا بدله من متعلق، كالسرور بالمال والولد والسرور بالا كرام والا جلال، والسرور بالشكر والحمد، والسرور بالثواب.
وقوله (وجزاهم بما صبروا) أي كافاهم واثابهم على صبرهم على محن الدنيا وشدائدها وتحمل مشاق التكليف (جنة) أي بستانا أجنة الشجر (وحريرا)
يلبسونه. وقوله (متكئين) نصب على الحال (فيها) يعني في الجنة (على الارائك) وهي الحجال فيها الاسرة - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - واحدها اريكة وهي الحجلة سرير عليه شبه القبة. وقال الزجاج: الاريكة كل ما يتكأ عليه من مسورة أو غيرها، وقد شوق الله تعالى إلى تلك الحال وهي غاية الرفاهية والامتاع (لايرون فيها) يعني في الجنة (شمسا) يتأذون بحرها (ولازمهريرا)
يتأذون ببرده، فالزمهريرا شد ما يكون من البرد، وقال مجاهد: الزمهرير البرد الشديد وقوله (ودانية عليهم ظلالها) يعني افياء اشجار تلك الجنة قريبة منهم، ونصب (دانية) بالعطف على (متكئين) ويجوز ان يكون عطفا على موضع (لا يرون فيها شمسا) فان موضعها النصب على الحال، ويجوز على المدح كقولهم عند فلان جارية جميلة وشابة طرية. وقوله (وذللت قطوفها تذليلا) معناه إن قام ارتفعت بقدرة الله وإن قعد نزلت حتى ينالها وإن اضطجع نزلت حتى ينالها - ذكره مجاهد - وقيل: معناه لا يرد