أخبار مُعاويَة بن أبي سُفْيان :
قال ابن كثيرفي البداية والنهاية(ج 6ص189):ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي حمزة عن ابن عبّاس قال:كنت ألعب مع الغلمان فجاء النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم فاختبأت منه،فجاءني فحطاني حطوة أوحطوتين وأرسلني إلى مُعاويَة في حاجة،فأتيته وهويأكل،فقلت:أتيته وهو يأكل،فأرسلني الثانية فأتيته وهو يأكل،فقلت:أتيته وهويأكل،فقال:لاأشبع الله بطنه*وقد روى البيْهقيّ [..]عن أبي حمزة،سمعت ابن عبّاس قال:كنت ألعب مع الغلمان فإذا النّبيّ قد جاء فقلت:ما جاء إلاّ إليّ،فذهبت فاختبأْتُ على باب،فجاء فحطاني حطْوة وقال:اذهبْ فادْعُ لي مُعاويَة ـ وكان يكتب الوحي ـ قال:فذهبْت فدعوْتُه له فقيل:إنّه يأْكل،فأتيْتُ النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم فقلت:إنّه يأكل،فقال:اذهبْ فادْعُه لي،فأتيتُه الثّانية،فقيل إنّه يأكل،فأتيْتُ النّبيّ فأخبرتُه فقال في الثانية:لا أشبعَ الله بطنَه،قال:فما شبعَ بعدها،قلتُ[ ابنُ كثير]:وقدْ كانَ مُعاويَةُ رضي الله عنه لا يشبعُ بعدَها،ووافقتْه هذه الدّعوة في أيّام إمارته،فيقال إنّه كان يأكلُ في اليوم سبْعَ مرّات طعاماً بلحْم!وكان يقول:والله لا أشبع وإنما أعيى (انتهى).
نعم،انتهى كلام ابن كثيرولا بدّ من التّعليق عليه مرة أخرى،فإنّ الرجل يقول عن معاوية"وافقته الدّعوة في أيّام إمارته "أي أنّه انتَفع بدعاء النّبيّ صلى الله عليه وآله!والرّجلُ لم يكنْ يشْبع!وهل ينتفع ابْن أنْثى بعدم الشبع؟!ماذا كان يريد معاوية بالأكل سبع مرّات في اليوم؟ ألم يكن يطلب الشّبع؟ ومن الشّقاء أن يكون الإنسان مبسوط اليد متمكّناً من شرق الأرض وغربها ومع ذلك لا ينال شبعة واحدة !
على أنّ هذا الموقف من ابن كثيرلم ينفع معاوية لدى العرب،فإنّه صار مضرب المثل عندهم لمن يأكل ولا يشبع.قال بعض الظرفاء:
وصاحب لي بطْنُه كالهَاويَه ** كأنّ في أمعائه معاويه
قال ابن أبي الحديد[1]:لما بُويع عليّ عليه السلام كتب إلى مُعاويَة:أما بعد فإنّ النّاس قتلوا عثمان عن غيرمشورة منّي،وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع،فإذا أتاك
كتابي فبايع لي،وأوفدْ إليّ أشراف أهل الشّام قبلك.فلمّا قدم رسوله على مُعاويَة،وقرأ كتابه،بعث رجلا من بني عميس،وكتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام،وفيه:بسم الله الرحمن الرحيم،لعبدالله الزبيرأميرالمؤمنين من مُعاويَة بن أبى سُفْيان:سلام عليك،أما بعد،فإنّي قدبايعت لك أهل الشّام،فأجابوا واسْتوْسقوا كما يسْتوْسق الجلب،فدونك الكوفةوالبصْرة،لايسْبقك إليها ابن أبي طالب،فإنّه لاشيء بعد هذين المصْرين،وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك،فأظْهرَا الطّلبَ بدم عثمان وادعُوَا النّاس إلى ذلك،وليكنْ منكما الجدّ والتّشمير،أظفركماالله،وخذل مُناوئكما!فلماوصل هذاالكتاب إلى الزّبيرسُرّبه،وأعْلمَ به طلحة وأقرأَه إيّاه،فلم يشكّا في النّصْح لهُما من قبَل مُعاوية،وأجْمعا عنْد ذلك على خلاف عليّ عليه السلام(اهـ).
ويؤكّد وقوعَ ذلك ما جاء في خطبة من خطب الإمام عليّ عليه السلام حيث يقول بشأن طلحة والزّبير[2]:ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكروعُمروبغْيهما عليّ!هُما يعلمان
أنّي لست دُون أحدهما،ولوْ شئْت أنْ أقولَ لقلْتُ،ولقد كان مُعاويَة كتب إليهما من الشّام كتاباً يخْدعُهما فيه،فكتماه عنّي،وخرجا يُوهمان الطّغام أنّهما يطلبان بدم عثمان،والله ما أنْكَرا عليّ مُنْكراً،ولاجَعلا بين وبيْنهم نَصَفاً،وإنّ دم عثْمان لمعصوبٌ بهما،ومطلوبٌ منهما.ياخيبةَ الدّاعي!إلام دعا!وبما ذا أُجيب؟والله إنّهما لعلى ضلالة صمّاء،وجهالة عمياء،وإنّ الشّيطان قد ذمرلهما حزْبه،واستجْلب منْهما خيْله ورجلَه،ليعيد الجوْرإلى أوْطانه،ويرد الباطل إلى نصابه.ثمّ رفع يديه،فقال:اللهمّ إنّ طلحة والزّبيرقطعاني،وظلماني وألّباعليّ،ونكثا بيْعتي،فاحلُلْ ماعقدا،وانكثْ ماأبْرَما،ولاتغْفرْلهُماأبداً،وأرهما المساءةَ فيما عَملا وأَملا !
و في تاريخ الخلفاء للسّيوطيّ ج1ص202 :أخرج ابن أبي الدّنْيا وابن عساكر عن جبلة بن سحيم قال دخلتُ على مُعاويَة بن أبي سُفْيان وهو في خلافته وفي عنقه حبْلٌ وصبيّ يقودُه فقلت له يا أمير المؤمنين أتفْعل هذا قال يالكَع أسْكتْ فإنّي سمعْتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ مَنْ كان له صبيّ فليتصابَ له قال ابن عساكر:غريبٌ جدّاً.وأخرجَ ابنُ أبي شيبة في المُصنّف عن الشعبي قال دخل شابّ من قُريْش على مُعاويَة فأغلظ عليْه فقال له يا ابْن أخي أنْهاك عن السّلطان إنّ السلطان يغْضب غضب الصّبيّ ويأْخذ أخْذ الأسد.وأخْرج عن الشعبيّ قال قال زياد استعْملت رجلاً فكثُر خراجه فخشي أن أعاقبَه ففرّ إلى مُعاويَة فكتبت إليه إنّ هذا أدب سوء لمن قبَلي فكتب إليّ إنّه ليْس يبْقى لي ولا لك أنْ نسُوس النّاس بسياسة واحدَة أنْ نَلين جميعاً فتمْرحَ النّاس في المعْصية أو نشْتدَّ جميعاً فنحملَ النّاس على المهالك ولكنْ تكونُ للشّدّة والفظاظة وأكُون للّين والرّأفة.وأخرج عن الشّعبي قال سمعتُ مُعاويَة يقولُ ماتفرّقتْ أمّةٌ قطّ إلاّ ظهَرأهلُ الباطل على أهْل الحقّ إلاّ هذه الأمة [!].وفي الطّيوريات عن سليمان المخزوميّ قال أَذنَ مُعاويَة للنّاس إذناً عامّاً فلمّا احتفلَ المجْلس قال أنْشدوني ثلاثةَ أبْيات لرجل من العرب كلّ بيْت قائمٌ بمعْناه فسكتُوا ثمّ طلع عبد الله بن الزبير فقال هذا مقْوَال العرب وعلاّمتُها أبو خُبيْب قال مَهْيم قال أنشدْني ثلاثةَ أبيات لرجل من العرب كلُّ بيْت قائم بمعْناه قال بثلاث مائة ألف قال وتساوي قال أنْت بالخيار وأنت واف كاف قال هات فأنشده للأفْوَه الأوديّ قال: بلوت الناس قرنا بعد قرن** فلم أَرَغيْر ختّال وقال.قال صدق هيه قال:ولم أر في الخُطوب أشدّ وقْعاً**وأصْعبَ من مُعاداة الرّجال.قال صدق هيه قال:وذقتُ مرارة الأشْياء طُرّاً **فما طعمٌ أمَرّ من السّؤال.قال صدق؛ثم أمرَ له بثلثمائة ألف.وأخرج البخاريّ والنسائيّ وابنُ أبي حاتم في تفْسيره واللّفظ له من طرق أنّ مَرْوان خطب بالمدينة وهو على الحجاز من قبَل مُعاويَة فقال إنّ الله قد أرى أميرالمؤمنين في ولده يزيد رأياً حسناً وإنْ يستخلفْه فقد استخلفَ أبو بكْروعُمر.وفي لفظ سنّة أبي بكروعُمرفقال عبد الرحمن بن أبي بكر سنّة هرقْل وقيْصرإنّ أبا بكْروالله ما جعلَها في أحَد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها مُعاويَة إلا رحْمةً وكرامةً لولَده فقال مَرْوانُ ألستَ الذي قال لوالدَيْه أفّ لكما فقال عبد الرحمن ألستَ ابنَ اللّعين الذي لعنَ أباك النّبيُّّ صلّى اللّه عليْه وسلّم فقالتْ عائشة رضي الله عنها كذبَ مَرْوانُ ما فيه نزلتْ ولكنْ نزلتْ في فلان بن فلان[3] ولكنّ النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم لعنَ
أبا مَرْوان ومَرْوانُ في صلبه فمَرْوانُ بعضُ مَن لعنه الله.وأخرج ابن ابي شيبة في المُصنّف عن عُرْوة قال قال مُعاويَة لا حلْم إلا التّجارب.وأخرج ابن عساكر عن الشعبي قال دُهاة العرب أربعة مُعاويَة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد فأما مُعاويَة فللحلْم والأناة وأمّا عمرو فللمعْضلات وأما المُغيرة فللمُبادَهة وأمّا زياد فللكبير والصغير.وأخرج أيضاً عنه قال كان القضاةُ أربعةً والدهاةُ أربعة فأمّا القضاة فعمر وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت وأمّا الدّهاة فمُعاويَة وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد .وأخرج عن قبيصة بن جابر قال صحبْتُ عمر بن الخطاب فما رأيت رجلاً أقرأ لكتاب الله ولا أفقهَ في دين الله منه وصحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلاً أعطى لجزيل مال من غير مسألة منه وصحبت مُعاويَة فما رأيت رجلاً أثقل حلما ولا أبطأ جهلاً ولا أبعد أناةً منه وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أنصع طرفا ولا أحْلم جليسا منْه وصحبت المغيرة بن شعبة فلوْ أنّ مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلّها.وأخرج ابن عساكر عن حميد بن هلال أنّ عقيل بن أبي طالب سأل عليّاً فقال إني محتاج وإني فقير فأعطني فقال اصبر حتى يخرج عطائي مع المسلمين فأعطيَك معهم فألحّ عليه فقال لرجُل خذ بيده وانطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل دقّ هذه الأقْفال وخذْ ما في هذه الحوانيت قال تريد أنْ تتّخذني سارقاً قال وأنْت تريد أنْ تتّخذني سارقاً أنْ آخذَ أموال المسلمين فأعطيَكَها دُونهم قال لآتينّ مُعاويَة قال أنت وذاك فأتى مُعاويَة فسأله فأعطاه مائة ألف ثمّ قال اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك به عليّ وما أوليتُك فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيّها الناس إنّي أخبركم أني أردت عليّاً على دينه فاختار دينَه وأنّي أردتُ مُعاويَةعلى دينه فاختارني على دينه. وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّ عقيلا دخل على مُعاويَة فقال مُعاويَة هذا عقيل وعمّه أبو لهب فقال عقيل هذا مُعاويَة وعمته حمالة الحطب.وأخرج ابن عساكرعن الأوزاعي قال دخل خريم بن فاتك على معاوية ومئزره مشمّر وكان حسن الساقين فقال مُعاويَة لو كانتْ هاتان السّاقان لامرأة!فقال خريم في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين.ودخل عقيل على مُعاويَة وقد كفّ بصره فأجلسه معه على سريره ثمّ قال له أنتم معشر بني هاشم تُصابون في أبْصاركم فقال له عقيل وأنْتم معشر بني أُميّة تصابون في بصائركم[4].وقيل اجتمعت بنو هاشم يوما عند مُعاويَة فأقبل عليهم وقال يا بني هاشم إنّ خيري لكم لممنوح وإنّ بابي لكم لمفتوح فلا يقطع
خيري عنكم ولا يرد بأبي دونكم ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمراً مختلفا إنكم ترون أنّكم أحقّ بما في يدي منّي وإذا أعطيتكم عطيّة فيها قضاء حقوقكم قلتم أعطانا دون حقّنا وقصّر بنا عن قدرنا فصرت كالمسلوب والمسلوب لا حمد له هذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم قال فاقبل عليه ابن عبّاس رضي الله عنهما فقال والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه ولئن قطعت عنّا خيرك فخيرالله أوسع منك ولئن أغلقت دوننا بابا لنكففن أنفسنا عنك وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما للرجل من المسلمين ولولا حقّنا في هذا المال لم يأتك منّا زائر يحمله خفّ ولا حافر أكفاك أم أزيدك قال كفاني يا ابن عبّاس؛ وقال مُعاويَة يومها أيّها النّاس إنّ الله حبا قُريْش بثلاث فقال لنبيّه وأنذرعشيرتك الأقربين ونحن عشيرته الأقربون وقال تعالى وإنه لذكرلك ولقومك ونحن قومه وقال لإ يلاف قُريْش إيلافهم ونحن قُريْش فأجابه رجل من الأنصارفقال على رسلك يا مُعاويَة فإن الله تعالى يقول وكذّب به قومك وهوالحقّ وأنتم قومه وقال تعالى ولمّا ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدّون وأنتم قومه وقال تعالى وقال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجورا وأنتم قومه ثلاثة بثلاثة ولوزدتنا لزدناك.وقال مُعاويَة أيضا لرجل من اليمن ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة فقال أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم النّبيّ اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطرعلينا حجارة من السماء أوائتنا بعذاب أليم ولم يقولوا اللهمّ إن كان هذا هوالحقّ من عندك فاهدنا إليه.
وفي أنساب البلاذريّ[5]:حدثني عبّاس بن هشام عن أبيه عن عدّة من أهل الحجاز،قالوا:قدم مُعاويَة المدينة،فأمرحاجبه أن يأذن للناس،فخرج[الآذن] فلم يرأحدا
فأعلَمَه قال:فأين الناس؟ قيل:عند عبد الله بن جعفر في مأدبة له،فأتاه مُعاويَة،فلما جلس قال بعض المدنيين للسائب خاثر:لك مطرفي إن غنّيت ومشيْت بيْن السّماطين،ففعل وغنّى بشعرحسّان بن ثابت:لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى*وأسيافُنا يقطرْنَ من نجْدة دما.فأعجب مُعاويَةَ ذلك واستحسنه وأخذ السّائب المطرف.
وقال محمّد بن سعد[6]:أخبرنا محمّد بن عمر[..] عن عبد الله بن نيار الأسلمي قال لما حجّ مُعاويَة نظر إلى بيوت أسلم شوارع في السّوق فقال أظلموا عليهم
بيوتهم أظلم الله عليهم قبورهم قتلة عثمان قال نيار بن مكرم فخرجت إليه فقلت له إن بيتي يظلم عليّ وأنا رابع أربعة حملنا أميرالمؤمنين وقبرناه وصلّينا عليه فعرفه مُعاويَة فقال اقطعوا البناء لا تبنوا على وجه داره قال ثمّ دعاني خاليا فقال متى حملتموه ومتى قبرتموه ومن صلّى عليه فقلت حملناه رحمه الله ليلة السبت بين المغرب والعشاء فكنت أنا وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام وأبو جهم بن حذيفة العدويّ وتقدّم جبيربن مطعم فصلّى عليه فصدّقه مُعاويَة وكانوا هم الذين نزلوا في حفرته(اهـ).
قال ابن سعد[7]:أخبرنا محمّد بن عمر قال حدثني محمّد بن عبد الله بن عبيد بن عميرقال سمعت رجلا من أهل الشام يحدّث في مجلس عمروبن دينارفسألت
عنه بعدُ فقيل هو يزيد بن يزيد بن جابر يقول إنّ مُعاويَة دعا عبيد الله بن عمرفقال إنّ عليّاً كما ترى في بكر بن وائل قد حامت عليه فهل لك أن تسيرَ في الشّهباء قال نعم فرجع عبيد الله إلى خبائه فلبس سلاحه ثم إنّه فكّر وخاف أنْ يُقتل مع مُعاويَة على حاله فقال له مولىً له فداك أبي إنّ مُعاويَة إنّما يقدّمك للموت إن كان لك الظّفر فهو يَلي وإنْ قُتلت استراح منْك ومنْ ذكْرك فأطعْني واعتلّ.
وقال ابن أبي عاصم [8]: حدّثنا عمرو[..]عن عبادة بن نسي قال خطبنا مُعاويَة رضي الله تعالى عنه على منبرالصّنبرة فنظر في وجوه القوم ثُمّ استغفر وبكى!وقال
كثرت الوجوه وقلّت المعارف وإنّما النّاس قرون ومن فَناء المرْء فَناء قرْنه.لقد شهدَ معي صفّين عدّة من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليْه وسلّم ما أصبح على وجه الأرض مثْل عدّتهم ثمّ نزل فتوجّه إلى دمشْق فلم يلْبث أنْ مات رحمه الله(اهـ).
أقول:شهد معه صفّينَ مَن شهد مع جدّه بدراً ومع أبيه أُحُداً،وللقارئ أن يتحقّق من ذلك بنفسه في كتاب صفّين لنصربن مزاحم المنقريّ.وفي كلام الرجل من المغالطة مالا يخفى؛والذي يبدولي أنّه تيقّن قرب الرّحيل،وهو يعلم أنّه قد أحدث في الدّين مالا سبيل إلى جُبرانه،وقتل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله بالسّمّ وغيره مَن قتل،فحقّ له أن يبكيَ وهو مقبل على دار ليس للحيلة فيها مكان.وليس هو أوّل حاكم جائر بكى عند اقتراب نهايته.
وقال أيضا[9]:حدّثنا إبراهيم [..]عن عبد الله بن عوف قال بلغ مُعاويَة أنّ يزيد يقولُ لئن وليتُ من أمْرالنّاس شيئاً لأسيرنّ بهم سيرةَ عمربن الخطّاب رضي الله تعالى
عنه! فقال مُعاويَة ويستطيع ذلك؟ ما استطعتُ أنا ذلك إلاّ سنتين قال رجاء عن عبد الله بن عوف وكان الناس أخذوا عليه حين بايعوه أن يسير بهم سيرة عمر.اهـ [!!]
قال ابن أبي عاصم:[10]حدّثنا أبوبكر بن أبي شيبة [..]عن عطاء أنّ عائشة بعث إليها مُعاويَة رضي الله تعالى عنهما بقلادة قوّمت مائة ألف درهم فقسمتها بين أمّهات
المؤمنين لا أدري دنانيرأو دراهم.(انتهى)
وهنا يُطرح سؤال:لماذا خصّ مُعاويَة عائشة من بين أمّهات المؤمنين بهذا العطاء؟وقد كانت عائشة حين استولى مُعاويَة على الحكم في حدود الخمسين، فما شأن امرأة في هذه السنّ والقلائد؟
وقال ابن قيم الجوزية[11]:قال سعيد بن منصور حدّثنا سُفْيان عن أيّوب عن عكرمة أنّ صفية بنت حيي باعت حجرتها من مُعاويَة بمائة ألف وكان لها أخ
يهوديّ فعرضت عليه أن يسلم فأبى فأوصت له بثلث المائة.اهـ
وهنا يعود السؤال حول ميراث فاطمة بنت النّبيّ صلى الله عليه وآله،فقد قيل لها إنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله قال نحن معاشرالأنبياء لا نورث،فكيف باعت صفيّة زوج النّبيّ صلى الله عليه وآله الغرفة؟ إمّا أن تكون الحجرة لها ميراثاً وإمّا أن تكونَ لها نحْلة!وقد طالبتْ فاطمة بالميراث والنّحلة ولم تُعْط شيئاً.وهذه قضيّة عويصة يصعبُ الخروجُ منها بقوْل مُقْنع.
وقال[12]:وقد كان على النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم برد نجرانيّ وقد كان خلع على كعب بن زهير بردَه عند إسلامه فباعه من مُعاويَة وهوالذي لم يزل الخلفاء
يتوارثونه ويتبركون به.وأماالخزّ فإنّه لباس الأشراف،ومن له عزّ فمن لا عزّ له في الإسْلام يُمنع من الثّياب المرتفعة اقتداءً بالخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز(اهـ).
ولا يتورع مُعاويَة أن يشتري ما يشاء و يبيع ما يشاء .قال محمد بن الحسن الشيباني[13]:"ولو وجدوا في الغنائم صليباً من ذهب أوفضّة أو
تماثيل،أودراهم،أودنانيرفيها التماثيل،فإنّه ينبغي للإمام أن يكسرذلك كلّه فيجعله تبراً.لأنّه لو قسمه أوباعَه كذلك،ربّما يبيعه من يقعُ في سهْمه من بعض المشركين بأن يزيدوا له من ثمنه رغبةً منهم في لباسه،أوفي أنْ يعيدوه.فليتحرزعن ذلك بكسرالصّليب والتماثيل.والذى يُروى أنّ مُعاويَة بعث بها لتباع بأرض الهند،فقد استعظم ذلك مسروق على ما ذكره محمّد في كتاب الإكراه ثم قد بيّنا تأويل ذلك الحديث في شرح المختصر"(اهـ).
مادام قد فَعَلُه مُعاويَة فلابدّ من تأويله،لأنّه لابدّ من المحافظة على درع الصّحابة مهما كان الثّمن،وإذاً فعلى الشّريعة أن تكون قابلة للمدّ والجزر والطّيّ والنشرحين يتعلّق الأمر بالصّحابة ولو على حساب القرآن.
قال الذهبيّ في تذكرة الحفّاظ في ترجمة أم الدرداء[14]:أمّ الدّرداء هجيمة الوصابيّة[الحميريّة] زوجة أبي الدرداء،كانت فقيهةً عالمةً عابدةً مليحةً جميلةً واسعةَ
العلم وافرةَ العقل،روَت الكثيرعن أبي الدرداء وعن سلمان وعائشة رضي الله عنهم،وعنها مكحولُ وسالمُ بن أبي الجعد وزيدُ بن أسلم وإسماعيلُ بن عبيد الله وأبو حازم المدينيّ وعطاء الكيخاراني وعدّة،حجّت في سنة إحدى وثمانين وقد خطبها مُعاويَة رضي الله عنه فأبت رحمها الله تعالى(اهـ).
أقول:لم تكن أمّ الدّرداء بعد وفاة أبي الدّرداء بالمرأة التي يُرغب فيها لجمال وشَباب.فما الذي يدعو مُعاويَة إلى خطبتها؟!
لعلّه أراد بذلك أنْ يرويَ فيما بعد عنْها إذا هُوصارزوْجاً لها،ولا بُمكن ردُّ قوله ساعتها باعتبارالمعاشرة والمشافهة.ولعلّها تفطّنت لذلك فأبت عليها نفْسُها أنْ تكونَ شريكةً في الإثم،وإلا فقلّما تُخطَب امرأة من طرف خليفة وترفض ذلك .
وقال ابن النّديم في ترجمة هشام بن الحكم[15]:من متكلّمي الشّيعة ممّن فتق الكلام في الإمامة وهذّب المذهب والنّظر وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر
الجواب.سُئل هشام عن مُعاويَة أشهدَ بدراً فقال نعمْ من ذاك الجانب(اهـ).
وفي معجم ما استعجم ج1ص445 :قال عمرو بن العاص لمُعاويَة رأيت في منامي أبا بكر حزيناً فسألته عن شأنه فقال وكّل بي هذان لمحاسبتي وإذا صحف يسيرة ورأيت عُمرَ كذلك وإذا صحف مثل الحزورة[16] ورأيت عثمان كذلك وإذاصُحُفٌ مثل الخندمة ورأيتك يا مُعاويَة وصحفك مثلُ أُحد وثبير فقال له مُعاويَة
أرأيت ثَمّ دنانير مصْر؟(اهـ).
وهذا الكلام من عمرو بن العاص وإنْ كان يتعلّق برؤيا – والله أعلمُ إنْ كان قد رآها حقّاً – يكْشف عن اعتقاد عمرو بن العاص في الخلفاء،ولم يذكرْ عليّا معهم مع أنّه من الخلفاء بإجماع المسلمين.فهولا يقول عن أبي بكرإنّ صحيفته خالية ممّا يؤاخَذُ به،بل يذكرأنّه كان حزيناً؛ويقول عن عُمَر"مثل ذلك"أي"حزيناً"،ويشبّه صحائفَه بالحزورة وهي موضع بمكّة يلي البيت،وحينما ذكرعُثمان شبّه صُحُفَه بالحندمة وهي جبل بمكّة كما ذكره الزبيدي في تاج العروس (ج 8 ص284) وابن منظورفي لسان العرب في الجزء12 ص 192 والفيروز آبادي في القاموس المحيط (ج4ص109) وابن الأثيرفي النهاية في غريب الحديث(ج2ص82 )والبكري في معجم ما استعجم(ح2ص512) وأهمله الجوهريّ.وإذاً فصحف عثمان في نظرعمروبن العاص في حجم جبل[!] وصحف مُعاويَة في حجم جبلين هما أحد وثبير.هذا مع أنّ موقف عمروبن العاص من علي بن أبي طالب عليه السلام وشيعته معلوم.
وفي سيرالذهبي[17]:ابن أبي أويس [..] عبادة بن الوليد،قال:كان عبادة بن الصامت مع مُعاويَة،فأذن يوماً،فقام خطيب يمدح مُعاويَة،ويثني عليه فقام عبادة
بتراب في يده،فحشاه في فم الخطيب،فغضب مُعاويَة،فقال له عبادة:إنك لم تكنْ معَنا حين بايعْنا النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم بالعقبة على السّمع والطّاعة في منشطنا ومكرهنا ومكسلنا،وأثره علينا،وألاّننازعَ الأمرأهله،وأن نقوم بالحقّ حيث كنّا،لانخاف في الله لومة لائم.وقال النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم :إذا رأيتم المداحين،فاحثوا في أفواههم التراب"(اهـ).
وهُنا في كلام عبادة أمريستحقّ أن يُتوقّف عنده،فإنّه يقول أنّ من بين ما بايعوا عليه ألاّ ينازعوا الأمرأهله،وهذا معناه أن يكون للأمرأهلٌ،وأن يكونوا معيّنين بما يدفع الالتباس وإلاّ انتفى التكليف إذ لايصحّ تحقيق ذلك مع وجود الالتباس وتدافع المدّعين للأهلية!
وفي سيرأعلام النبلاء(ج2ص411):ابن عون:حدّثنا محمّد،وحدّثنا عمر بن كثير بن أفلح،وهذا حديثه،قال:قدم أبو أيّوب على مُعاويَة فأجلسه معه على السّرير،وحادثه وقال:يا أبا أيّوب،من قتل صاحب الفرس البلقاء التي جعلت تجول يوم كذا وكذا؟قال:أنا إذ أنت وأبوك على الجمل الأحمر معكُما لواء الكفر.فنكس مُعاويَة،وتنمّرأهل الشام،وتكلّموا.فقال مُعاويَة:مه!وقال:ما نحن[عن] هذا سألناك.اهـ
وفيه أيضاً[18]:ابن عون:عن الحسن قال:ذكروا عند معاوية شيئا فتكلّموا والأحنف ساكت،فقال:يا أبا بحر،مالك لاتتكلّم؟قال:أخشى الله إن كذبتُ وأخشاكم إن
صدقت !
وفي البيان والتّبيين للجاحظ (ج1ص43): دخل الأحنف بن قيس على مُعاويَة بن أبى سُفْيان فأشار له إلى الوساد فقال له اجلس فجلس على الأرض فقال مُعاويَة ما منعك يا أحنف من الجلوس على الوساد فقال يا أمير المؤمنين إنّ فيما أوصى به قيس بن عاصم المنقريّ ولدَه أن قال لا تغش السّلطان حتى يملّك ولا تقطعه حتى ينساك ولا تجلس له على فراش ولا وساد واجعل بينك وبينه مجلس رجل أو رجلين فإنّه عسى أن يأتي من هو أولى بذلك المجلس منك فتُقام له فيكون قيامُك زيادةً له ونقصاً عليك حسبي بهذا المجلس يا أمير المؤمنين لعلّه أن يأتي من هو أولى بذلك المجلس منّي فقال مُعاويَة لقد أوتيتْ تميمُ الحكمةَ مع رقّة حواشي الكلام وأنشأ يقول :يا أيّها السّائل عمّا مضى وعلم هذا الزّمن العائب** إن كنتَ تبغي العلم أو أهله **أو شاهداً يخبر عن غائب**فاعتبر الأرض بسكانها** واعتبر الصّاحب بالصّاحب.
لا يصحّ اختصارالحديث عن إيمان معاوية بن أبي سفيان في ذكر ما كان عليه من الشرك قبل فتح مكة،وما شارك فيه غيره من الطلقاء والمؤللفة قلوبهم؛بل لا بدّ من تتبّع ما صدرمنه في الأمورالاعتقادية التي أجمع عليها أهل القبلة،وعلى رأسها وجوب الاعتقاد بكل ما في القرآن الكريم وما ثبت صدوره عن النّبيّ صلى الله عليه وآله.وقد كان معاوية في هذين مضطربا غيرواضح الموقف ويتجلّى ذلك في قضية استلحاق زياد التي أنكرفيها معلوما من الدين بالضرورة.فقد نزل قرآن يُتلى يحرّم التبنّي،وتتابعت الأحاديث في لعن مَن ادّعى إلى غيرأبيه،ومع ذلك ادّعى معاوية أنّ زياد بن عبيد لم يكن ابنَ عبيد الذي وُلد على فراشه وإنّما كان لأبي سفيان الأموي وقد أحدث ذلك في حياة زياد نفسه اضطرابا وبلبلة،لأنّه باعتباركوْنه لأبي سفيان ـ من باب الفرض ـ لا يحلّ له أن يقطع رحم أخته ـ المزعومة ـ أمّ حبيبة،وهذا ما لم تتحمّس له أمّ حبيبة للتنافس الذي كان بين أزواج النّبيّ صلى الله عليه وآله؛ولم أعثرعلى نصّ يفيد أنّ زياداً زارالمدينة ورآها من دون حجاب،وإنْ يكن حدث ذلك فهُوَلا يعْني أكثرَ من سُقوط آخِِرما يتحصّن به آل حرب من علقة بالنّبيّ صلى الله عليه وآله عن طريق الزواج الذي تمّ يوم لم يكن لأبي سفيان على ابنته ولاية لما بين إسلامها وكُفره،والذي أراه أسدّ وأصوبَ لتبيّن الموقف من معاوية بخصوص عقائد المسلمين هو تتبّع مواقفه من النّبيّ صلى الله عليه وآله في أياّم حكمه في دمشق في مالا يقبل النّقاش من أمور تسالموا عليها،إضافة إلى أقوال من تعتبرأقوالهم من المتكلّمين والمحدّثين ممّن لا يُخرجهم الرضا عن الصّدق ولا يدفعهم البُغض إلى الجَورفي إصدارالحكم.وأنا ذاكرٌههنا بعون الله تعالى ما أتوقّع أن يتمعّن القارئ فيه ويحاول استشفاف ما وراء الأقوال والأفعال التي صدرت من معاوية وحملت غيره على توجيه سهام النّقْد إليه.
قال القاضي عبد الجبارفي(المغني في أبواب العدل والتوحيد):أظهر مُعاويَة أنّ ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه،ليجعله عذراً في ما يأتيه ويوهم أنّه مصيب فيه،وأنّ الله جعله إماماً وولاّه الأمر،وفشا ذلك في ملوك بني أُميّة.[19]
وهذا أمرٌ تجاهله المتكلّمون من أبناء الجمهورلكوْنه يقدح في حكم معاوية والقدحُ فيه مستلزم إبطال نظريّة عدالة جميع الصّحابة.وعبارات معاوية في هذا المعنى مبثوثة في كتب التاريخ والأدب،يكفينا منها قوله كما في مصنف ابن أبي شيبة[20]:[..] عن سعيد بن سويد قال: صلّى بنا معاوية الجمعة بالنخيلة في الضحى ثم
خطبنا فقال:ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكوا،وقد أعرف أنّكم تفعلون ذلك،ولكن إنّما قاتلتكم لأتأمّرعليكم،وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون(اهـ).
يقول معاوية:قد أعطاني الله ذلك!إذاً فالله تعالى هوالذي حارب[21]علي بن أبي طالب حبيبَه وحبيبَ رسوله صلى الله عليه وآله،وهوسبحانه وتعالى الذي قتل آلاف
الأبرياء ودفن بعضهم أحياء!
والذي يستوقف الباحثَ عن الحقّ ههنا،هوالتّناقض الصريح بين ما كان يهتف به معاوية أيّام رفع المصاحف،وما يصرّح به هنا،وهوأنّه قاتلهم ليتأمّرعليهم.فلماذا كان يتحدّث عن دم عثمان المظلوم؟ لم يكن التباكي على عثمان إذاً سوى وسيلة للوصول إلى الحكم،وهذا عند أفضل القرون!!
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج[22]:ومُعاويَة مَطعُونٌ في دينه عند شيوخنا رحمهم الله،يُرمى بالزّنْدقة.وقد ذكرنا في نقض"السُفْيانية "على شيخنا أبي عثمان
الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلاميّة عنه من الإلحاد والتعرض للنّبيّ صلى الله عليه وآله،وما تظاهربه من الجبر والإرجاء،ولولم يكن شيء من ذلك،لكان في محاربته الإمام ما يكفي في فساد حاله،لا سيما على قواعد أصحابنا،وكونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النّار والخلود فيها،إن لم تكفّرها التوبة(اهـ).
ولم تثبت لمعاوية توبة،بل ثبت قوله "لا والله إلاّ دفناً دفناً "كما أخرجه الزّبير بن بكارفي الموفّقيّات عن المطرف بن المغيرة بن شعبة.قال محمّد بن عقيل الشافعي[23]:ومما يدلّ على استخفاف مُعاويَة بمقام النّبوّة ما نقله أبو جعفر الطّبريّ بسنده قال:حدّثني عبد الله بن أحمد قال حدّثني أبي قال:حدّثني سليمان قال:قرأت
على عبد الله عن فليح قال أخبرت أنّ عمروبن العاص وفد إلى مُعاويَة ومعه أهل مصر فقال لهم عمرو انظروا إذا دخلتم على ابن هنْد فلا تسلّموا عليه بالخلافة فإنّه أعظم لكم في عينه وصغّروه ما استطعتم فلمّا قدموا عليه قال مُعاويَة لحُجّابه:كأنّي أعرف ابن النّابغة وقد صغّر أمري عند القوم فانظروا إذا أُدْخل الوفد فتعْتعوهم أشدّ تعتعة تقدرون عليها فلا يبلغني رجل منهم إلاّ وقد همّت نفسُه بالتّلف فكان أوّلَ من دخل عليه رجلٌ من أهل مصر يُقال له ابن الخيّاط وقد تُعْتع فقال السّلام عليك يارسول الله !وتتابع القوم على ذلك فلمّا خرجوا قال لهم عمرو:لعنكم الله نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة فسلّمتم عليه بالنّبوة(انتهى).
أقول:ليس في وسع أحد أن يدافع عن معاوية في مثل هذا المقام،فإنّ النبوّة منصب إلهيّ لا يمكن أن يدخل في نزاعات النّاس وقضاياهم الشخصية لا جدّاً ولا هزلاً.ولو كان لدى معاوية احترام للمقام لاستغفرالله تعالى وقال للمصريين:ما أنا إلاّ رجل من قريش؛لكنّه لم يفعل،بل تمادى وتعامل مع المسألة وكأنّ الكلام في محلّه.وهل يرضى موحّد قرأ سورة الأحزاب(*)[24]أن يخاطبَه النّاس بقولهم" السّلام عليك يا رسول الله " ؟!!
هذا مع أنّ مُعاويَة يروي حديث"من أحبّ أن يتمثل له النّاس قياماً"؛قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد[25]:عن عبد الله بن بريدة قال سمعت مُعاويَة يقول
قال رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم مَنْ سَرَّهُ أنْ يستجم له بنو آدم قياماً وجبتْ له النّار(اهـ).
وفي معجم الصحابة[26]:[..] عن أبي مجلزعن مُعاويَة قال قال رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم: من أحبّ أن يتمثّل له الرّجال قياماً فليتبوّأ مقعده من النار(اهـ).
ومُعاويَة في القصّة السابقة لم يقنع بأن يتمثّلوا له قياماً بل زاد على ذلك أن تعْتعَهم حتى خاطبوه بالرّسالة وقالُوا بما لا يحتمل التأويل " السّلام عليك يا رسول الله " ولم يُنكر عليهم مُعاويَة،ولم يُذكرأنّ أحداً في مجلسه أنكرذلك.
قال محمّد بن عقيل الشّافعيّ[27]:(وأخرج) الزّبيربن بكّارفي الموفّقيّات عن المطرف بن المغيرة بن شُعبة قال:دخلت مع أبي على مُعاويَة فكان أبي يأتيه
فيتحدّث معه ثمّ ينصرف إليّ ويذكر مُعاويَة وعقله ويعجب بما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيتُه مُغتمّاً! فانتظرتُه ساعةً وظننتُ أنّه لأمْرٍحَدث فينا فقلت مالي أراك مغتمّاً منذ اللّيلة؟ فقال يا بنيّ جئت من عند أكْفرالنّاس وأخْبثهم[!] قلتُ وما ذاك قال:قلت له وقد خلوت به إنّك قد بلغت سنّاً ياأميرالمؤمنين فلوأظهرت عدلاً وبسطت خيراً فقد كبرْتَ ولو نظرتَ إلى إخوتك من بني هاشم فوصلتَ أرحامَهم فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكْرُه وثوابُه فقال هيهات هيهات أيّ ذكرأرجو بقاءه ؟ مَلَكَ أخو تيْم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أنْ هلكَ حتّى هلك ذكْرُه إلاّ أن يقولَ قائلٌ أبو بكر.ثُمّ ملك أخو عديّ فأجتهد وشمّرعشرسنين فما عدا أنْ هلك حتّى هلك ذكرُه إلاّ أنْ يقول قائل عُمَروإنّ ابن أبي كبْشة لَيُصاح به كلّ يوم خمْس مرات أشهد أنّ محمّدا رسول الله فأيّ عمل يبقى وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا والله إلا دفناً دفناً(انتهى) .
قال ابن عقيل بعد ذكرالخبر:الزّبيربن بكار هذا هو قاضي مكّة وهو مشهورفي المحدّثين ومن رواة الصّحيح،وهوغيرمتّهم على مُعاويَة لعدالته وفضله مع أنّ في الزّبير كما علمت بعض انحراف عن عليّ كرم الله وجهه لما عرف من الأسباب ألا ترى أنّ عبد الله بن الزبير على نسكه وعبادته كان منحرفاً عن عليّ وأهل بيته فقد روى عمر بن شبّة وابن الكلبيّ والواقدي وغيرهم من رواة السّير أنه مكث أيّام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلّي فيها على النّبيّ صلى الله عليه وآله وقال لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها (انتهى).
وأقول:إنّ هذه الواقعة تستحقّ أن يُتوقّف عندها لأنّها تضمّنتْ أموراً تُوقظ النّائم وتنبّه الغافل،ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حييَ عن بيّنة.فأوّل ما فيها شهادة المُغيرة بن شُعبة على مُعاويَة أنّه أخبثُ النّاس وأكفرُهم؛هذا مع أنّه شريكه في كثير من الجرائم،وعلى وجه الخصوص في سبّ وشتْم ولعْن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.ولا يختلف اثنان مُنصفان في أنّ المغيرة بن شعبة من أعدى أعداء أهل البيت عليهم السّلام.فهذه شهادة لا سبيل إلى إنكارها.ومادام محمّد بن الحسن الشّيباني صاحب أبي حنيفة يعتبرُ المغيرة إماماً من أئمة المسلمين،فلا مناص له من قَبول شهادته.
ثُمّ إنّ المغيرة يقول لمُعاويَة:لوبسطت عدلاً،ومثل هذا الكلام لا يقال إلاّ لظالم،إذ لوكان هناك عدل لكان كلام المغيرة فاقداً لمعناه مُستحقّاً لذمّ صاحبه وليس مُعاويَة ممن يفوّت ذلك.فشهادة المغيرة على مُعاويَة أنّه ظالم تنضمّ إلى شهادته عليه أنّه أكفرالنّاسِ وأخبثُهم.والكافرون هم الظّالمون.
قال المغيرة لمُعاويَة:"ولونظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلتَ أرحامَهم" ومثلُ هذا الكلام لا يُقال إلاّ لقاطع رَحِم،وإلاّ لكان في ذلك تُهمة لمُعاويَة بقطيعة الرّحم وهي من الكبائر،وقد توعّد الله تعالى من يتعمّد قطيعة رحمٍه ويشهد لذلك قوله تعالى:" فهل عَسيتم إن تولّيتُم أنْ تفسدوا في الأرض تقطّعوا أرحامكم.أولئك الذين لعنَهم الله فأصمّهم وأعْمى أبْصارهم".وكان من جواب مُعاويَة للمغيرة بن شعبة أيضاًأنْ قال له:"وإنّ ابْن أبي كبشة ليُصاح به كلّ يوْم خمْس مرّات أشهدُ أنّ محمّدا رسول الله!" وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم:"لا تجْعلوا دُعاء الرّسول بيْنكم كدُعاء بعْضكم بعْضاً ".فمُعاويَة لا يكْتفي بمُخالفة القرآن الكريم وإنّما يذكر النّبيّ صلى الله عليه وآله بما كانت تذكره به قُريْش أيام مُحاربتها له صلى الله عليه وآله تَرومُ بذلك انْتقاصَه والحَطّ منْ شأْنه.فمُعاويَة لا يُخفي اسْتخْفافَه بالنّبيّ صلى الله عليه وآله أمام المغيرة لأنّه يعرفه تمام المعرفة،ولولا معرفتُه بسوابقه لما ولاّه الكوفة فبقي والياً عليها إلى أن مات.ومثلُ هذا الكلام لايقُولُه مُعاويَةُ إلاّ أمامَ من يعلمُ أنّهم على شاكلَته.ويُفهم من سياق الرّواية أنّ المطرف بن المغيرة بن شعبة حدّث بهذا في زمن متأخّرعن أيّام مُعاويَة والمغيرة،وبعيد جدّاً أنْ يُحدّثَ به في حياة مُعاويَة فيعرّض نفسه للتّلف.وباختصار فإنّ هذه الرّواية قد تضّمنت شهادةً على مُعاويَة أنّه:أكفرالنّاس وأخبثهم وقاطع رحم ومستخفّ بمقام النّبيّ صلى الله عليه وآله والشّاهد أحد المقرّبين.
قال ابن أبي الحديد[28]:قلت:قال شيخُنا أبو القاسم البلْخيُّ رحمهُ الله تعالى: قولُ عمْرولَه:"دعْني عنْك" كنايَةٌ عن الإلْحاد،بلْ تصْريحٌ به،أيْ دعْ هذا الكلامَ لا
أصل له،فإنّ إعتقادَ الآخرة أنّها لا تُباع بعَرَض الدّنْيا من الخُرافات!وقال رحمَه الله تعالى:وما زال عمْرو بْن العاص ملْحداً،ما تردّد قطّ في الإلْحاد والزّنْدقة وكانَ مُعاويَة مثله،ويكْفي من تلاعُبهما بالإسْلام حديثُ السّرار المرويّ،وأنّ مُعاويَة عضّ أُذن عمْرو،أيْن هذا من سيرة عُمر؟وأين هذا من أخْلاق عليّ عليه السلام،وشدّته في ذات الله،وهُما مع ذلك يَعيبانه بالدّعابَة!
وفي مسند أبي داود (ص 116):[..]عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال وفدْنا إلى مُعاويَة معَ زياد ومعَنا أبُو بكْرة[29]فدخلنا عليه فقال له مُعاويَة حدّثنا حديثا
سمعتَه من رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم عسى الله أن ينفعنا به قال نعم كان نبيّ الله صلّى اللّه عليْه وسلّم يعجبه الرؤيا الصالحة ويسأل عنها فقال النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم ذات يوم أيكم رأى رؤيا فقال رجل أنا يارسول الله إني رأيت رؤيا رأيت كأن ميزانا دلي من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر بعمر فرجح أبو بكر بعمر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمربعثمان ثم رفع الميزان فاستاء لها رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم ثم قال خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء فغضب مُعاويَة فزخ في إقفائنا:وأُخْرجْنا فقال زياد لأبي بكرة أما وجدت من حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم حديثا تحدثه غيرهذا قال والله لا أحدثه إلا به حتى أفارقه قال فلم يزل زياد يطلب يأمر حتى أذن لنا فأدخلنا فقال مُعاويَة يا أبا بكرة حدّثنا بحديث عن رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم لعل الله أن ينفعنا به قال فحدّثه أيضا بمثل حديثه الأول فقال له مُعاويَة لا أبا لك تخبرنا أنّا ملوك فقد رضينا أن نكون ملوكا(اهـ).
مادام أبو بكرة يحدّث عن النّبيّ صلى الله عليه و آله فليس لمعاوية أن يعلّق بتلك الطريقة،وما ذنب أبي بكرة إن كان الكلام لرسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم ؟! فإنّما هو مجرّد ناقل.
جاء في صحيح البخاري[30]ما يلي:حدثني إبراهيم بن موسى [..] عن سالم عن ابن عمرقال وأخبرني بن طاوس عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر قال ثم
دخلت على حفصة ونسواتها تنطف قلت قد كان من أمرالناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء فقالت الحقْ فإنّهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة فلم تدعه حتى ذهب فلما تفرّق الناس خطب معاوية قال من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه فلنحن أحق به منه ومن أبيه[!] قال حبيب بن مسلمة فهلاّ أجبته قال عبد الله فحللت حبوتي وهممت أن أقول أحقّ بهذا الأمرمنك مَن قاتلك وأباك على الإسلام فخشيت أن أقول كلمة تفرّق بين الجمع وتسفك الدّم ويحمل ذلك فذكرت ما أعدّ الله في الجنان قال حبيب حُفظت وُعصمت. قال محمود عن عبد الرّزاق ونوساتها(اهـ).
كلام معاوية صريح في أنّه يعتبرنفسه أحقّ بالخلافة من أبي بكروعمر،ولم يعترض عليه عبد الله بن عمرلأنّه خشيَ أن يقولَ كلمةً تفرّق بين الجمع وتسفك الدّم، لكنّه لم يخْشَ يوم راح يخذّل النّاس عن بيعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعد قتل عثمان!وشاهدُنا من الحديث قول معاوية الذي لا يقبله أهل السّنّة والجماعة،فإنّهم لايختلفون في أنّ أحقّهم بالأمرالخلفاء الأربعة على الترتيب المعلوم(اهـ).
***
في موطإ مالك[31]: تحت رقم (18) [..] عن سعيد بن المسيب،أنّ رجلاً من أهل الشام،يقال له ابن خيبرى،وجد مع امرأته رجلا فقتله،أوقتلهما معاً.فأشكل على
مُعاويَة ابن أبى سُفْيان القضاء فيه.فكتب إلى أبى موسى الاشعري يسأل له على بن أبى طالب عن ذلك.فسأل أبو موسى عن ذلك على بن أبى طالب.فقال له عليّ:إنّ هذا الشئ ما هو بأرضى.عزمت عليك لتخبرني.فقال له أبو موسى: كتب إليّ مُعاويَة بن أبي سُفْيان أن أسألك عن ذلك.فقال على:أنا أبو حسن:إن لم يأت بأربعة شهداء،فليعط برمته.اهـ
قلتُ:ليس لمُعاويَة علْم بالفتوى،وهو يعلم أنّه إن أفتى في المسألة بغيرعلم لا يلبث الأمْرأن يشيع وتكون الفضيحة،والحرب النفسيّة جزء من حربه ضدّ الإمام عليّ عليه السلام فما العمل؟ وكيف يصنع وقد سارت الرّكبان بقوْل عمربن الخطاب"لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن "؟ وعلى فرض أن يستفتي أبا هُرَيْرَة أو أبا الدّرداء أو غيرهما فهولا يضمن الجواب الصّحيح الذي لا يجد به الإمام عليّ عليه السلام مطعناً،لذلك تراه تخلّى عن كبريائه وغطرسته وتستّر وراء أبي موسى للحصول على الفتوى الصّحيحة.ولم يعب عليه الإمام عليه السلام ذلك،فهو عليه السلام لم يسبق له أن تطاولَ بعلْمه على الآخرين ولا هو ممّن يمنّ على الناس بما يعلّمهم مما علّمه الله.لكن مُعاويَة بعد أن صفا له الجوّ بقتل الإمام عليه السلام تنطّع في الاستخفاف بالشّرع المقدّس.قال الغزاليّ في المستصفى (ص119):ومنها أيضا ما روي عن أبي الدّرداء أنه لمّا باع مُعاويَة شيئا من آنية الذهب والورق بأكثرمن وزنه،فقال له أبوالدرداء:سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك فقال له مُعاويَة:إني لا أرى بذلك بأسا،فقال أبوالدرداء:من يعذرني من مُعاويَة أُخبرُه عن النّبيّ صلى الله عليه وآله ويُخبرني عن رأيه:لا أساكنك بأرض أبدا .اهـ
وفي الإصابة لابن حجرج 1ص188:في الموطأ عن زيد بن أسلم عن سليمان بن يسارأنّ الأحوص هلك بالشّام حين دخلت امرأته في الدّم من الحيضة الثالثة فكتب مُعاويَة إلى زيد بن ثابت فقال لا ميراث لامرأته رواه بن عيينة عن الزُّهْريّ عن سليمان بن يسار أن الأحوص بن فلان أو فلان بن الأحوص فذكر نحوه قال ابن الحذّاء الأقوى أنّ القصة في الأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن تكون لولده عبد الله بن الأحوص ولم يسمّ في رواية بن عيينة عن الزُّهْريّ. اهـ
وفي مناهل العرفان ج1ص72 : التاسع أن آخر ما نزل هو آخر سورة الكهف فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صلحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.أخرجه ابن جرير عن مُعاويَة بن أبي سُفْيان قال ابن كثير " هذا أثر مشكل ولعلّه أراد أنّه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغيّر حكمها بل هي مثبتة محكمة "وهو يفيد أنها آخرمقيّد لا مطلق.اهـ
قلت:لايتحمّل ابن كثيرأنْ يقرّ لمُعاويَة الخطأ،لذلك تراه يقول"هذا أثرٌمُشْكل " وفي الحقيقة لا إشكال،فإن مُعاويَة بن أبي سُفْيان من مسلمة الفتح من الطلقاء،وقد نزل معظم القرآن قبل فتح مكّة،وحينما يخالف مُعاويَة الصحابة الذين أسلموا في بداية الدّعوة وتابعوا نزول الوحي سورةً سورةً وآيةً آيةً فإنّ العاقل لايتحرّج أن يضرب بقول مُعاويَة عرض الحائط وهوأمرلا يقبله ابن كثيرلأنّ ذلك يعني فتح جبهة على مُعاويَة.فلا بأس أن يضيف ابن كثيرإلى إشْكالات المسلمين إشكالا آخربحيث تبقى صورة معاوية قابلةً للتّلميع.ولأنّ ماذكره مُعاويَة لا يستسيغُه أهل العلم فقد قال السيوطي[32]: ومن غريب ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن جريرعن
مُعاويَة بن أبي سُفْيان أنه تلا هذه الآية فمن كان يرجو لقاء ربه الآية وقال إنّهاآخرآية نزلت من القرآن.ثم أورد قول ابن كثير.وقولُه"من غريب ماورد "صريح في استغْرابه وهومن أهل الفنّ.
وفي أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ج1ص69 :قال الوليد بن مسلم [..] عن مُعاويَة بن أبي سُفْيان أنهم ذكروا المسائل عنده فقال أتعلمون أن النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم نهى عن عضل المسائل(اهـ).
وفيه أيضاً[33]:قال البخاري حدّثنا أبو اليمان حدّثنا شعيب عن الزُّهْريّ قال كان محمّد بن جبير بن مطعم يحدث أنّه كان عند مُعاويَة في وفد من قُريْش فقام
مُعاويَة فحمد الله وأثنى عليه بما هوأهله ثم قال أما بعد فإنه قد بلغني أنّ رجالاً فيكم يتحدّثون بأحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم فأولئكم جهالكم.اهـ
أقول:فمَن الذي كتب إلى ولاته في الأمصارأن يجمعوا أحاديث الوضّاعين في مناقب عثمان والشيخين و ينشروها في البلاد الإسْلاميّة؟ ومن ذا الذي كتب إلى ولاته في الأمصارأن يجمعوا الأحاديث الموضوعة افتراء عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ويعلّموها الصبيان في الكتاتيب والمخدرات في البيوت ؟هل كانت تلك
الأحاديث تؤثرعن رسول الله صلى الله عليه وآله؟[34]
وفي تفْسير القُرْطبيّ ج3ص250: فبلغ ذلك مُعاويَة فقام خطيبا فقال ألا مابال رجال يتحدثون عن رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم أحاديث وقد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم وإن كره مُعاويَة أو قال وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده في ليلة سوداء قال حماد هذا أو نحوه...اهـ
وقد حاول القُرْطبيّ أن يبرّرعمل مُعاويَة فذكركلاماً لابن عبد البرّ وشرّق وغرّب.وقال الرّازيّ بخصوص هذه الواقعة[35]:فهذا يدلّ إمّا على كذب عبادة أوكذب
مُعاويَة.ولو كذّبنا مُعاويَة لكذّبنا أصحاب صفّين كالمغيرة وغيره على أنّ مُعاويَة لو كان كذّاباً لما ولاّه عمروعثمان على النّاس!وإنّ أبا موسى قام على منبر الكوفة لمّا بلغه أنّ عليّا رضي الله عنه أقبل يريد البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة والله ما أعلم واليا أحرص على صلاح الرّعيّة مني والله لقد منعتكم حقّاً كان لكم بيمين كاذبة فأستغفر الله منها.وهذا إقرارٌمنه على نفسه باليمين الكاذبة!(اهـ).
ولعلّ مُعاويَة قال هذاالكلام بعد خلافه مع عبادة بن الصامت حول الفضة والذهب فقد ذكرابن حزم في الإحكام أنّ مُعاويَة باع سقاية من ذهب بأكثر من وزنها،حتى أنكر ذلك عليه عبادة بن الصامت،وبلغه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك [36].والعجب من مُعاويَة حين يقول"وقد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه
"،فكَمْ هي نسبةُ صحبة مُعاويَة للنّبيّ صلى الله عليه وآله قياساً بصُحْبة المهاجرين والأنصاروقد كان يخالفهم ولا يلتفت الى ما يعترضون به عليه.
ومع ذلك لا يتحرّج مُعاويَة أن يحذّرالناس من الكذب على النّبيّ صلى الله عليه وآله قال الخطيب البغدادي[37]:[..] شعبة عن أبي الفيض عن مُعاويَة بن أبي
سُفْيان قال قال رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعدَه من النّار(اهـ).
وثبت أنّ مُعاويَة أنه قضى في دار بشهادة أم سلمة أم المؤمنين ولم يشهد بذلك غيرها.
أقول:رضي الله عن أم سلمة وأسكنها علّيّين، لكنّها على جلالة قدرها ليست سيّدة نساء العالمين،فكيف تقبل شهادتها منفردة وتردّ شهادة سيدة نساء العالمين ؟! إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
وفي البداية والنهاية [38]: قال الإمام أحمد حدّثنا عفان حدّثنا همام،عن قتادة عن أبي سيح الهنائي قال:كنت في ملإ من أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم عند
مُعاويَة فقال مُعاويَة:أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم نهى عن جلود النُّمُورأن يُركب عليها قالوا:اللّهم نعم!قال:وتعلمون أنّه نهى عن لباس الذّهب إلاّ مقطعا قالوا:اللهمّ نعم!قال:وتعلمون أنّه نهى عن الشّرب في آنية الذهب والفضة قالوا: اللهمّ نعم!قال:وتعلمون أنّه نهى عن المتعة - يعني متعة الحجّ - قالوا:اللهمّ لا!وقال أحمد: حدثنا محمّد بن جعفر ثنا سعيد،عن قتادة،عن أبي سيح الهنائي أنه شهد مُعاويَة وعنده جمع من أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم فقال لهم مُعاويَة:أتعلمون أنّ النّبيّ نهى عن ركوب جلود النّمورقالوا:نعم!قال: تعلمون أنّ النّبيّ نهى عن لبس الحرير؟قالوا:اللهم نعم!قال:أتعلمون أنّ رسول الله نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة ؟ قالوا:اللهم نعم ! قال أتعلمون أنّ رسول الله نهى عن جمع بين حجّ وعمرة؟ قالوا:اللهم لا!قال فوالله إنّها لمعهن.اهـ
وفي البداية والنهاية أيضاً[39]:...وكان مُعاويَة يستلم الأركان فقال له ابن عبّاس إنّه لا يُستلم هذان الرّكنان فقال له ليس من البيت شئ مهجورا وكان ابن
الزّبير يستلمهنّ كلّهنّ.انفرد بروايته البخاريّ رحمه الله تعالى(اهـ).
وفي تفْسير الطّبريّ ج2ص443:[..]عن نافع عن سليمان بن يسار أن الأحوص رجل من أشراف أهل الشّام طلّق امرأته تطليقة أو إثنتين فمات وهي في الحيضة الثالثة فرفعت إلى مُعاويَة فلم يوجد عنده فيها علم فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من أصحاب رسول الله فلم يوجد عندهم فيها علم فبعث مُعاويَة راكبا إلى زيد بن ثابت فقال لا ترثه ولو ماتت لم يرثها فكان ابن عمر يرى ذلك.اهـ
وفي تفْسير الطّبريّ ج 16ص11:[..] عن عثمان بن حاضر قال سمعت عبد الله بن عبّاس يقول قرأ مُعاويَة هذه الآية فقال عين حاميّة فقال ابن عبّاس إنها عين حمئة قال فجعلا كعبا بينهما .. فسألاه فقال كعب أمّا الشّمس فإنّها تغيب في ثأط فكانت على ما قال ابن عبّاس والثأط الطين.اهـ
أقول:من حقّ المسلم أن يعجب من حال صحابيّيْن أحدُهما حبْرالأمّة والآخر كاتب الوحي يجْعلان كعب الأحباربينهما والقولُ ما قال كعب! فمتى كان كعب الأحبارعالماً بالتفْسيروهوالذي لم يرَالنّبيّ صلى الله عليه وآله ولم يُجالسْه؟ولِمَ لَمْ يسأل مُعاويَة النّبيّ صلى الله عليه وآله أيّام كان كاتباً للوحْي؟ والمسألةلا تخلوأن تكون إما لُغويّةً وإمّا شرعيّةً،وكعبُ الأحبارمن يهُود اليَمَن فلا يُمكن أن يكون افصح من قُريْش التي نزل بلسانها القرآن الكريم،كماأنّه لم يرَالنّبيّ صلى الله عليه وآله ولم يسمع منه فلا يكون حظّه من الشّرع الإسْلامي ما ادّعاه له المدّعون.
وقال ابن كثير في تفسيره[40]:روى الإمام أبو عبد الله الشافعي والحاكم في مُستَدركه عن أنس أن مُعاويَة صلى بالمدينة فترك البسملة فأنكر عليه من حضره
من المهاجرين ذلك فلما صلّى المرّة الثّانية بسمل...اهـ
وقال السّيوطيّ[41]:قال سعيد بن منصورفي سُنَنه حدّثنا هشيم حدّثنا حجاج حدثني شيخ من فزارة سمعت عليّاً يقول الحمد لله الذي جعل عدوّنا يسألُنا عمّا نزل
به من أمردينه إن مُعاويَة كتب إلي يسألني عن الخنثى المشكل فكتبت إليه أن يورثه من قبَل مَبَاله.وقال هشيم عن مغيرة عن الشعبي عن علي مثله(اهـ). وهذه قصة أخرى يسأل فيها معاوية، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يتضمّن حمد الله تعالى وبيان حكم شرعي.
وفي صحيح مسلم[42]:[..] عن طاوس قال قال ابن عباس قال لي معاوية أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص فقلت
له لا أعلم هذا إلا حُجّةً عليك.
** أكذوبة " كاتب الوحي "
قال ابن أبي الحديد[43]:وكان أحد كتاب النّبيّ صلى الله عليه و آله. واخْتُلِفَ في كتابته له كيف كانت،فالذي عليه المحقّقون من أهل السيرة أنّ الوحي كان يكتبه عليّ
عليه السلام وزيد بن ثابت،وزيد بن أرقم،وأنّ حنظلة بن الربيع التيمي ومُعاويَة بن أبى سُفْيان كانا يكتبان له إلى الملوك وإلى رؤساء القبائل ويكتبان حوائجه بين يديه،ويكتبان ما يجبى من أموال الصدقات وما يقسم في أربابها(اهـ).ولسائل أن يتساءل عمّن كان يكتب الوحي للنّبيّ صلى الله عليه وآله قبل إسلام معاوية،على أنّ معاوية من الطّلقاء،وقد فرض له النبيّ صلى الله عليه وآله مع المؤلّفة قلوبهم،وهو ما ينسف دعوى من قال إنّه أسلم قبل الفتح بسنين
وكتم إيمانه،وهذه دعوى بإمكان كلّ أحد أن يدّعيها،وقد قال الله تعالى:" والذين آمنوا ولم يُهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتّى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصرإلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير"[الأنفال72].وكيف يكون معاوية مسلماً قبل الفتح وهو صاحب الأبيات التي ينهى فيها أباه عن الدخول في الإسلام[44].
***
4- مُعاويَة و التحريف والمغالطات:
قال ابن أبي الحديد[45]: وروى أبو الحسن المدائنيّأ نه كان لهم مع مُعاويَة بالشّام مجالس طالت فيها المحاورات والمخاطبات بينهم،وأن مُعاويَة قال لهم في
جملة ما قاله:إن قُريْشا قد عرفت أنّ أبا سُفْيان كان أكرمَها وابنَ أكرمها،إلاّ ما جعل الله لنبيّه صلى الله عليه،فإنّه انتجبَه وأكرمَه،ولوأنّ أبا سُفْيان ولَدَ النّاسَ كلّهم لكانوا حُلماء. فقال له صعصعة بن صوحان:كذبت!قد ولَدَهم خيرٌ من أبي سُفْيان!من خَلَقَه الله بيده،ونفخَ فيه من روحه،وأمرالملائكة فسجدوا له فكان فيهم البَرّ والفاجر،والكيّس والأحمَق(اهـ).
قال ابْن أبي الحديد: روى أبو الحسن علي بن محمّد ابن أبي السيْف المدائنيّ في كتاب الأحداث قال: كَتَبَ مُعاويَةُ نسخةً واحدةً إلى عُمّاله بعد عام الجماعة أنْ برئَت الذّمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته . . فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّاً ويبرّأون منْه ويقعُون فيه وفي أهل بيته.وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهلَ الكوفة لكثرة من بها من شيعة عليّ عليه السلام.فاستعمل عليهم مُعاويَة زيادَ بن سُميّة وضمّ إليه البصرة،فكان يتّبع الشّيعة وهو بهم عارف لأنّه كان منهم أيّام عليّ عليه السلام فقتلهم تحت كلّ حجرومدروأخافهم وقطع الأيديَ والأرجلَ وسملَ العُيون وصلبهم على جذوع النّخْل وطردهم وشرّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم(اهـ).
أقول:أخطأ ابن أبي الحديد في قوله عن زياد إنّه كان من الشّيعة،بل الصّواب أنّه كان معهم كما كان إبليس مع الملائكة،فإنّ الشيعيّ لايُحدّث نفسه بأذى المُوالينَ لأهل البيت عليهم السّلام وإن كان يختلف معهم ويخاصمهم كما يقتضيه شأن دارالتّزاحم في ما يخصّ القضايا الشّخصيّة والعائليّة والعشائريّة.والذي مارسه زياد مع شيعة عليّ عليه السلام يضعُه في مصافّ كبارالإرهابيّين من صهاينة ونازيّين وفاشيّة.ولا أعتقد أنّ قلباً لامسه الإيمان يُقدم على ما أقدم عليه زياد،ولكنني لا أتعجّب من فعله وهوالذي شهد على أمّه بالزّنا وعلى أبيه بالدياثة،فإنّه بذلك قد أقدم على العُقوق الذي ليس بعهده عقوق.
قال ابن أبي الحديد[46]:وقال بُسْرُ:احمد الله يا أميرالمؤمنين إنّي سرت في هذا الجيش أقتل عدوّك ذاهباً جائياً لم يُنكب رجل منهم نَكبة،فقال مُعاويَة:الله قد
فعل ذلك لا أنت!وكان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفا،وحرّق قوما بالنّار..(اهـ).
هذه عقيدة مُعاويَة.يُرسل بسرَبنَ أرطاة في جيش كثيف ليُغيرعلى الحَرَميْن واليَمَن فيقْتل الأبرياء وينْتَهك الأعراض والحُرُمات،ثمّ ينسب ذلك إلى الله تعالى الذي جعل لمكّة حُرمة في الجاهليّة والإسْلام ولم يحلّها إلاّ لنبيّه ساعة من نهار!!وإذاً،فالله تعالى هوالذي قتل الأبرياء وانتهك حُرمة البيت الحرام! سبحانك هذا بهتان عظيم.
قال أبن أبي الحديد:[47]قال مُعاويَة لقيس بن سعد:رحم الله أبا حسن فلقد كان هشّاً بشّاً،ذا فُكاهة،قال قيس: نعم،كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى
أصحابه،وأراك تُسرُّ حَسْواً في ارْتغاء[48] وتعيبه بذلك!أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطّلاقة أهْيبَ من ذي لبدتيْن[49]قد مسّه الطوى،تلك هيبة
التّقوى،وليس كما يهابك طغام أهل الشّام!قال ابن أبي الحديد:وقد بقي هذا الخُلُق مُتَوَارَثاً مُتناقلا في مُحبّيه وأوْليائه إلى الآن،كما بقيَ الجفاء والخُشونة والوُعورة في الجانب الآخر،ومَن له أدْنى معْرفة بأخْلاق النّاس وعوَائدهم يعرفُ ذلك(اهـ).
وفي المستطرف[50]:خطب مُعاويَة يوما فقال إنّ الله تعالى يقول وإن منْ شيْء إلاّ عندنا خزائنُه وما ننزّله إلاّ بقدرمعلوم فعلامَ تلومونني إذا قصرت في
عطاياكم؟ فقال له الأحنف: إنّا والله لا نلومُك على ما في خزائن الله ولكن على ما أنزله الله لنا من خزائنه فجعلْتَه في خزائنك وحُلْتَ بيْننا وبينَه(اهـ).
ويتفنّن معاوية في المغالطة بخصوص دم عثمان فيقول[51]:أيّها النّاس،قد علمتم أنّي خليفة أميرالمؤمنين عمر بن الخطّاب وأميرالمؤمنين عثمان بن عفّان عليكم
وأنّي لم أُقمْ رجُلاً منْكمْ على خزاية قطّ،وإنّي وليّ عثمان وقد قُتل مظلُوماً والله تعالى يقول ومن قُتل مظلُوما فقد جعلْنا لوليّه سُلطاناً فلا يسرفْ في القتل إنّه كان منصُورا؛وأنا أُحبّ أن تُعلموني ذات أنفُسكم في قتْل عُثمان فقام أهل الشّام بأجْمعهم فأجابوا إلى الطّلب بدم عثمان وبايعوه على ذلك وأوثقوا له على أن يبذلوا بين يديْه أموالَهم وأنفسَهم حتّى يُدركوا بثأره أو تلحقَ أرواحُهم بالله(اهـ).
ولما نزل [أي عليّ عليه السلام] على النّخيلة متوجّهاً إلى الشّام وبلغ مُعاويَة خبرُه وهو يومئذ بدمشق قد ألبس منبردمشق قميص عثمان مخضّبا بالدّم وحول المنبرسبعون ألف شيْخ يبْكون حولَه لا تجفّ دموعُهم على عُثمان خطبَهم وقال:ياأهل الشام قد كنتم تُكذبونني في عليّ وقد استبان لكم أمرُه،والله ما قتل خليفتَكم غيرُه وهوأمَرَ بقتْله وألّبَ النّاسَ عليه وآوى قتَلَتَه وهُم جندُه وأنصارُه وأعوانُه،وقدخرج بهم قاصداً بلادَكم وديارَكم لإبادتكم يا أهل الشام!الله الله في دم عُثمان فأنا وليّه وأحقّ مَن طلبَ بدمه وقد جعل الله لوليّ المقتول ظلماً سلطاناً فانصُروا خليفتَكم المظلُوم،فقد صنعَ القومُ ما تعلمون قتلُوه ظلماً وبغياً وقد أمرالله تعالى بقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمرالله. ثمّ نزل،فأعطوه الطّاعة، وانقادُوا له وجمع إليه أطرافَه واستعدّ للقاء عليّ(اهـ).[52]
وهذا أحد معاصريه وهو شبث بن ربعيّ يخاطبه فيقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه[53]:يامُعاويَة؛إنّي قد فهمتُ ما رددتَ على ابْن محْصن.إنّه والله لا يخْفى
علينا ما تغْزو وما تطلُب.إنّك لم تجدْ شيئاً تستغْوي به النّاس وتستميلُ به أهواءَهم وتستخلصُ به طاعتَهم إلاّ قولَك قُتل إمامُكم مظلوماً فنحْنُ نطلبُ بدمه، فاستجاب لك سفهاءُ طغامٌ.وقد علمْنا أنْ قدْ أبطأتَ عنْه بالنّصْروأحببْتَ له القتلَ لهذه المنزلة التي أصبحتَ تطلبُ.ورُبّ مُتمنّي أمْر وَطالبُه الله عزّ وجلّ يحولُ دونَه بقُدرته وربما أوتي المُتمنّي أمنيتَه وفوق أمنيته ووالله ما لك في واحدة منها خيرٌ.لئن أخطأتَ ما ترجو إنّك لشرّ العرَب حالاً في ذلك ولئن أصبتَ ما تمنّى لا تصيبُه حتى تستحقّ من ربّك صليَ النّار فاتّق الله يا مُعاويَة ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمرَ أهلَه.
ومن خطبة لعلي عليه السلام[54]:من العجائب أنّ مُعاويَة بن أبي سُفْيان الأمويّ وعمرو بن العاص السّهميّ أصبحَا يحرّضان النّاس على طلب الدّين بزعمهما ولقد
علمتم أنّي لم أخالف رسول الله صلى الله عليه وآله قطّ ولم أعْصه في أمر أقيه بنفْسي في المواطن التي ينْكص فيها الأبطال وترعدُ فيها الفرائصُ بنجْدة أكرمَني الله سبحانه بها وله الحمدُ؛ولقد قُبض النّبيّ صلى الله عليه وآله وإنّ رأسَه لفي حجري ولقد وليت غسلَه بيدي وحْدي تُقلبه الملائكة المقرّبون معي،وأيْمُ الله ما اختلفتْ أمّة قطّ بعد نبيّها إلاّ ظهرَ أهلُ باطلها على أهل حقّها إلاّ ما شاء الله(اهـ).
وهذه قصّة تدع اللّيب حيران.قال مُعاويَة لضرار بن حمزة الكنانيّ[55]: صف لي عليّاً فاسْتعْفَي فألحّ عليه فقال أما إذن فلا بدّ إنّه والله كان بعيدَ المدى شديدَ
القُوى يتفجّر العلمُ من جوانبه وتنطقُ الحكمةُ من نواحيه يستوحش من الدّنْيا وزهرتها ويستأنس باللّيل وظُلمته. كان والله غزيرَ العَبْرة طويلَ الفكْرة يُقلّب كفَّه ويُعاتب نفسَه؛ يُعجبه من اللّباس ما قصُرومن الطّعام ما خشن،وكان والله يجيبُنا إذا سألْناه ويأتينا إذا دعوْناه ونحن والله مع تقريبه لنا وقُربه منّا لا نكلّمه هيبةً له. يُعظّم أهل الدّين ويحبّ المساكين.لا يطمع القويّ في باطله ولا ييأس الضعيف من عدْله، فأُشهد اللهَ لقد رأيتُه في بعض مواقفه وقد أرْخى الليل سُدوله وغارت نجومُه وقد مثُلَ في محْرابه قابضاً على لحْيته يتململُ تملمُلَ الخائف ويبْكي بكاءَ الحزين،فكأنّي الآن أسمعُه يقولُ يا دُنيا إليّ تعرّضْت أمْ إليّ تشوّقْت!هيهاتَ غُرّي غيْري لقد أبنْتُك ثلاثاً لا رجعةَ لي فيك،فعُمْرك قَصيروعيْشك حَقيروخطرُك كبير.آه من قلّة الزّاد ووحْشة الطّريق؛قال فوكفتْ دموعُ مُعاويَة حتى ما يَملكُها على لحْيَته وهو يمْسحُها وقد اختنق القومُ بالبُكاء وقال رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك(اهـ).
وهذه من مُعاويَة دموعُ الحسَد لا دموعُ الرّحمة،وإلاّ فكيفَ يَبْكي لذكْره ثُمّ يلْعنُه ويأمُر النّاسَ بلعْنه على المَنابر؟!وقد بقى ذلك اللعنُ مستمرّاً إلى سقوط دولة بني أُميّة.ولا يبعدُ أيضاً أن تكونَ دموعُ معاوية لاستشعار الموْقف الرّهيب عند عبارة " آه من قلّة الزّاد ووحْشة الطّريق ".فإنّ الناس مؤمنهم وكافرهم لا يشكّون في حتميّة الخروج من هذه الدنيا.
والعجيب أنّ مُعاويَة يروي حديثاً في النّهي عن الأُغْلُوطات؛ففي معجم الطّبرانيّ[56]:[..] عن رجاء بن حيوة عن معاوية بن أبي سفيان قال نهى النّبيّ صلى الله عليه
وسلّم عن الأُغلُوطات.
وفي حوَار بين عبيد الله بن عبّاس ومعاوية [57]: فقال له ابن عبّاس[58]،أنت أمرتَ اللّعين السيّئَ الفدم أن يقتلَ ابْنيَّ ؟ فقال:ما أمرتُه بذلك،ولوددْتُ أنّه لم
يكن قتلَهما،فغضب بُسْرونزع سيفَه،فألْقاهُ،وقال لمُعاويَة:اقبضْ سيفَك،قلّدْتنيه وأمرْتني أنْ أخْبطَ به النّاسَ ففعلتُ،حتّى إذا بلغتَ ما أردتَ قلتَ لم أهْوَ ولم آمُرْ.فقال:خذ سيفَك إليْك،فلعمْري إنّك ضعيف مائقٌ حينَ تُلقي السّيفَ بيْن يدي رجُل من بني عبد مناف،قد قتلْتَ أمْس ابْنيْه.فقال له عبيدُ الله:أتحْسبُني يا معاوية قاتلاً بسْراً بأحد ابنيّ!هُوأحْقروألأمُ من ذلك،ولكنّي والله لا أرى لى مقْنعاً ولا أدْرَك ثاراً إلاّ أن أصيبَ بهما يزيد وعبد الله.فتبسّم مُعاويَة وقال : وما ذنبُ مُعاويَة وابني مُعاويَة!والله ما علمْتُ ولاأمرْتُ،ولا رضيتُ ولا هَويتُ.واحتملَها منه لشَرَفه وسُؤْدده(اهـ).
يقسم مُعاويَة أنّه ما علمَ ولا أمرَولا رضيَ ولا هوي،إذاً فمن الذي أرْسل بُسْراً إلى اليمن وقال له اقْتُلْ شيعةَ عليّ حيث كانوا ؟وهل قُتل الطّفلان لشيء سوى كوْن أبيهما من شيعَة عليّ عليه السلام؟
وقال مُعاويَة لابن عبّاس[59]: مالكم يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم فقال كما تصابون في بصائركم.
قال ابن منظور[60]:وفي حديث مُعاويَة أنّه قال للأنصار:ما فعلتْ نواضحُكُم قالوا حرثناها يوم بدْر أي أهْزلْناها يقال حرثت الدّابّة وأحرثتها أي أهزلْتُها. قال ابن
الأثير وهذا يُخالف قول الخطّابيّ وأراد مُعاويَة بذكر النّواضح تقريعاً لهم وتعريضاً لأنّهم كانوا أهل زرْع وسقْي فأجابوه بما أسْكَتَهُ تعريضاً بقتْل أشْياخه يوم بدر.
وقال ابن حَجرالعسقلانيّ في ترجمة أحمد الحضرمي[61]:وذكرأبوحاتم السّجستانيّ في كتاب المعمّرين عن أبي عامرعن رجل من أهل البصرة قال وحدّث به
أبو الجُنيد الضّرير عن أشياخه قالوا قال مُعاويَة إنّي لأُحبُّ أن ألْقى رجلاً قد أتى عليه سنّ يُخبرنا عمّا رأى فذكر القصّة وليس فيها تلك الزّيادة المنْكرة بل فيها أنّه رأى هاشم بن عبد مناف وأُميّة بن عبد شمس وأنّه قال له ما كان صنعتُك قال كنتُ تاجراً قال فما بلغت تجارتُك قال كنتُ لا أشتري غبناً ولا أردّ ربحاً وإنّ مُعاويَة قال له سلْني قال أسألك أن تردّ عليّ شبابي قال ليس ذاك بيدي قال فأسألك أن تدخلني الجنّة قال ليس ذاك بيدي قال لا أرى بيدك شيئا من الدّنْيا والآخرة فردّني من حيث جئت بي قال أمّا هذه فنَعَمْ(اهـ).
قال ابن سعد[62]: أخبرنا محمّد [..]عن عكرمة قال سمعت مُعاويَة بن أبي سُفْيان يقول مولاكَ والله أفقهُ من مات وعاش(اهـ).
وقد كان مُعاويَة على علم بفسْق ابنه يزيد وفجوره لأنّه أمرٌسارتْ به الرّكبان،ولكنّه مع ذلك يؤهّله للخلافة ويدّعي له زوراً وبُهتانا مالم يدّعه أحدٌ من الصّحابة لولده،قال الهيثمي[63]:وعن محمّد بن سيرين قال لمّا بايع حجّ فمرّ بالمدينة فخطب النّاس فقال: إنّا قد بايعنا يزيد فبايعوه فقام الحسينُ بن علىّ فقال أنا والله أحقّ بها
منْه فإنّ أبى خير منْ أبيه وجدّي خير من جدّه وأمّي خير من أمّه وأنا خير منه فقال أما ما ذكرتَ أنّ جدّك خيْر من جدّه فصدقْت رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم خير من أبى سُفْيان.وأمّا ما ذكرت أنّ أمّك خيرٌ من أمّه فصدقتَ،فاطمةُ بنت رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم خيرٌ منْ بنْت بجدل.وأمّا ما ذكرت أنّ أباك خيرمن أبيه فقد قارع أبوك أباه،فقضى الله لأبيه على أبيك[64]وأمّا ما ذكرت أنّك خير منه فلهوأربّ منْك وأعْقل ما يسرّني به مثلك ألف!رواه الطّبرانيّ وفيه الهيثم بن الرّبيع قال أبوحاتم
شيخ ليس بالمعروف وبقيّة رجاله ثقات(اهـ).
أقول:لابدّ من الاحتكام إلى الله ورّسوله في كلّ ما يختلف فيه المسلمون، فهل يرضى النّبيّ صلى الله عليه وآله أن يقال له:إنّ مئة الف من الحسين لايساوون يزيد بن مُعاويَة؟!وماهي المزايا والسّجايا التي تجعل يزيد في هذا المستوى الذي لم يخطرببال أحد؟!ولقد نوّه النّبيّ صلى الله عليه وآله في مواطن عديدة بمقام الحسن والحسين وقال عنهما إنّهما إمامان قاما أوقعدا فكيف يتجاهل مُعاويَة كل هذا التّنويه من طرف النبيّ صلى الله عليه و آله ويتفوّه بمثل ذاك الكلام؟! أوليس في ذلك تكذيبٌ للنّبيّ صلى الله عليه وآله؟! وحتّى لو فرضنا أنّ الحسين عليه السلام لم يكن إماماً فإنّ المسلمين لا يتفاوتون في الفضل إلاّ بالأعمال الصالحة ويزيدُ خَالٍ منْها لم يدّعها له أحد ممّن يُعتبَرُ قولُه؛وقد شهد عليه أهل زمانه بالفسق واستحلّوا الخروج عن طاعته وأخرجوا عامله من المدينة وكان الذي كان،فكيف يبقى للدّين حرمة إذا كان الفاجر أفضل من مئة ألف من سيد شباب أهل الجنّة؟!
ثمّ إنّ معاوية يقول " قضى الله لأبيه على أبيك "ومعناه أنّ الله تعالى كان إلى جنب معاوية في حربه ضدّ علي عليه السلام.والنّبيُّ صلى الله عليه وآله قد سمّى فئة معاوية الفئةَ الباغيَة؛ فكيف يكون الله تعالى إلى صفّ الفئة الباغية وهوالذي حرّم البغْي وقَرَنَه بالشّرك؟وإذا كان الأمرُ كما يدّعي معاويةُ يكون اللهُ تعالى قد قضى لقَتلةَ الأنبياء على الأنبياء!
وفي صحيح مسلم[65]: [..]عن أبي سعيد الخدريّ قال:خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال ما أجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله قال آلله ما أجلسكم إلاّ ذاك قالوا
والله ما أجلسنا إلاّ ذاك قال أما إنّي لم أستحلفكم تهمةً لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ عنه حديثاً مني وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال ما أجلسكم قالوا جلسْنا نذكر الله ونحمدُه على ما هدانا للإسلام ومنَّ به عليْنا قال آلله ما أجلسكم إلاّ ذاك قالوا والله ما أجلسنا إلاّ ذاك قال أما إنّي لم أستحلفكم تُهمةً لكم ولكنّه أتاني جبريل فأخبرني أنّ الله عزّ وجلّ يُباهي بكم الملائكة(اهـ).
من حقّ المسلم المطّلع على سيرة النّبيّ صلى الله عليه وآله أن يتساءل عن المنزلة التي يدّعيها معاوية من النّبيّ صلى الله عليه وآله؛أوليس النّبيّ صلى الله عليه وآله هوالذي قال عن معاوية "صعلوك لا مال له " ؟!
وجاء في الإمامة والسّياسة ما يلي[66]:قال مُعاويَة[للحسين بن عليّ عليه السلام ]:أمّا ما ذكرت من أنّك خير من يزيد نفسا فيزيد والله خير لأمّة محمّد منك.فقال
الحسين:هذا هوالإفْك والزّور،يزيد شارب الخمر،ومشتري اللّهو خيرٌ منّي؟ فقال مُعاويَة:مهْلاً عن شتْم ابن عمّك،فإنّك لو ذُكرت عنْده بسوء لم يشتُمْك. ثمّ التفت مُعاويَة إلى النّاس وقال : أيّها الناس .. (اهـ).
لا أظنّ مُنصفاً يُجيزلمُعاويَة أن يُساوي بين سيّد شباب أهل الجنّة وبيْن مَنْ شَهد عليْه أهْل الحجازوغيرُهم بالفسوق والفجوروأعلنوا الثورة عليه.وفي قول مُعاويَة "فيزيد والله خيرلأمّة محمّد منك" افتراءٌ على الله ورسوله وبهتانٌ عظيم،وكيف يقول هذا مُسلم بعد ما قال النّبيّ صلى الله عليه و آله عن الحسن والحسين "ولداي هذان إمامان قاما أوقعدا "؟وفي أيّ شيء يمكن أن يكون يزيد بن مُعاويَة أفضلَ من الحسين بن عليّ عليهما السّلام؟!اللهمّ إلاّ أن يكون ذلك متعلّقا بأمْنية مُعاويَة " دفْناً دفناً " فإنّ يزيد هُوالمؤهّل لدفْن سنّة النّبيّ صلى الله عليه وآله وإحياء سنّة أشياخه.ولقد حَكمَ يزيد بن معاوية ثلاث سنين فكانت شرّ سنين عرفها تاريخ المسلمين،فيها رُميَت الكعبة واستُبيحت المدينة وقُتل آل النّبيّ صلى الله عليه وآله وسُبيَتْ بناتُه وذراريه.
إنّه لمن المُؤسف حقّاً أن يكون استخفافُ مُعاويَة بأحاديث النّبيّ صلى الله عليه وآله قد بلغ ما بلغ ومع ذلك يجدُ من يُدافع عنه بعد القُرون المتطاولة وينْسبه إلى السّنّة والتّمسّك بالسّنّة !!
***
ومن المغالطات الكبيرة التي قام بها مُعاويَة،ونَشرها بين الناس،واتّخذها مبرّراً لسبّ عليّ عليه السلام ولعْنه على المنابر،أن اتّهمه بالمشاركة في قتل عثمان،مع أنّه عليه السلام لم يكن بين الحاضرين في الدّار يومَها،وقد رَووا أنّه أرسل ولديْه الحسنين عليهما السّلام إلى بيت عثمان يدفعان عنه،ولكنّ الغيظ كان قد ملأ قلوب المسلمين من كثرة ما تلاعب بنوأُميّة بالدّين خصوصا ما كان يُظهره مَرْوانُ من الاستخْفاف بهم،ومجابَهتهم بما لا يليق من القوْل.قال ابن منظور[67]:ومنه حديث عليّ كرّم الله
وجهه لَوَددْتُ أنّ بني أُميّة رضوا ونفلناهم خمسين رجلاً من بني هاشم يحلفُون ما قتلْنا عُثمان ولا نعلمُ له قاتلاً يُريد نفلنا لهم(اهـ).
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء[68]:أخرج ابن عساكرعن أبي خلدة الحنفيّ قال سمعت عليّاً يقول إنّ بني أميّة يزعُمون أنّي قتلتُ عُثمان ولا والله الذي لا إله
إلاّ هو ما قتلتُ ولا مالأْتُ ولقد نهيتُ فعَصَوْني(اهـ).
وفي تفْسير الطّبريّ[69]:[..] عن عمروبن قيس السّكونيّ أنّه سمع مُعاويَة بن أبي سُفْيان على المنبر ينتزع بهذه الآية اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ حتّى ختمها فقال
نزلت في يوم عرفة في يوم جُمعة(اهـ).
ولم ينفرد مُعاويَة بهذا القول،فإنّ له فيه شركاء يجمعهم القفزعلى منصب الخلافة بغيرحقّ.ومقصودهم جميعاً التّعتيم على يوم الغدير،وصرْفُ الأذهان والأفكارعن قضيّة تنْصيب عليّ عليه السلام يومها، فلا عجب أنْ يجُرّكلّ واحد منْهم النّارإلى قُرصه.لكن الذي عليه التّحقيق هو أنّ الآية نزلتْ يوْم غدير خمّ،وقد احتفل النّبيّ صلى الله عليه وآله بذلك اليوم وبقي شيعة أهل البيت عليهم السّلام يهتدُون بهدْيه فحافَظوا على الاحتفال بهذا اليوم الذي تجاهله غيرُهم إلى يومنا هذا.وقد وردتْ رواياتٌ في نُزول آية " اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُم "في كتُب الجُمهورمن طريق أبي سعيد وأبي هُرَيْرَة وجابر بن عبد الله ومجاهد والإمامين الباقر والصادق عليهما السّلام.وأحبّذ للقارئ أن يطّلع على فصل خاصّ بهذه الآية عَقَدَهُ الأمينيّ ـ رحمه الله تعالى ـ في موسوعة الغدير تناول فيه ما دار حولها بتحقيق في غاية الدّقّة.
وفي تفْسيرالطّبريّ ج10 ص122:[..]عن أبي بشرقال:قال أبوذرّ خرجتُ إلى الشّام فقرأت هذه الآية والذين يَكْنزُونَ الذَّهَبَ وَالفضَّةَ ولا يُنْفقُونَهَا في سَبيل الله فقال مُعاويَة إنّما هي في أهل الكتاب قال فقلتُ إنّها لَفينا وفيهم.حدّثني يعقوب بن إبراهيم قال حدّثنا هشيم قال أخبرنا حصين عن زيد بن وهب قال مررتُ بالرّبذة فإذا أنا بأبي ذرّ قال قلت له ما أنزلكَ منزلَك هذا قال كنتُ بالشّام فاختلفتُ أنا ومُعاويَة في هذه الآية والذينَ يَكْنزُون الذَّهَبَ والفضَّةَ وَلاَ يُنْفقُونَهَا في سبيل الله قال فقال نزلتْ في أَهْل الكتَاب َفُقلْتُ نزلتْ فينا وفيهم ثُمّ ذكرَ نحوَ حديث هشيم عن حصين(اهـ).
وفيه ردّ على مازعمه ابنُ العربيّ منْ أنّ أبا ذرّ اختارالرّبذة على جوار النّبيّ صلى الله عليه وآله،فإنّ الحديث يصرّح أنّ الخروجَ كان بسبب اختلافه مع مُعاويَة حول مضمون الآية.وقد أرادَ مُعاويَة حذْف الوَاو كيْما تنطبقَ الآيةُ على أهل الكتاب دونَ المُسلمين،لكنّ أبا ذرّ لم يوافق على هذه المُحاولة التّحْريفيّة،وردّ عليه الرّدَّ المُناسب.ولا ريْب أنّ أبا ذرّ رضي الله تعالى عنه وهُو من السّابقين الأوّلين إلى الإسْلام أدْرى بأسْباب النّزول من مُعاويَة الذي أسلم عام الفتْح بعد نزول أكثر القرآن.
ومن مغالطات مُعاويَة روايتُه لحديث الطّّائفة الظّاهرة على الحقّ،قال ابن حزم[70]:" وذكروا ما حدّثناه عبد الله بن يوسف [..] عن ثوبان قال: قال النّبيّ صلى الله
عليه وسلم :لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرُّهم مَن خذلَهم حتى يأتي أمرُ الله ـ زاد العتكيّ وسعيد في روايتهما ـ وهُم كذلك.وبه إلى مُسلم حدّثنا منصور [..] عمير بن هانىء،قال:سمعتُ مُعاويَة على المنبر يقول:سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:لا تزال طائفة من أمّتي قائمةً بأمرالله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالَفهم حتى يأتي أمرالله وهم ظاهرون على الناس" (انتهى) كلام ابن حزم.
ووجْه المُغالطة أنّ مُعاويَة حين يذكرهذا الحديث إنّما يريد حزْبه وجماعتَه
وإلاّ فإنّ ظاهرالحديث يجعل مُعاويَة محلّ التّهمة، فإنه هوالذي يصدق عليه
" من خذلهم" و"من خالفهم"،وقد خالف هو عليّاً عليه السلام الذي لا يفارقُه الحقّ وخالف أيضاً أبا ذرّ صادقَ اللّهجة،وخالفَ خُزيمة بن ثابت ذا الشّهادتين،فكيف تكون طائفته هي القائمة بأمرالله؟!وقد وقع في شباك مغالطته الذّهبيُّ وابنُ تَيْميَة وابنُ كثيروابنُ قيّم الجوزيّة،وقبلهم الجوزجانيّ،إذ جعلوا ولاءَ عليّ دونَ غيْره موجباً لإسقاط اعْتبارالرّاوي وقادحاً في عدالته.
ومن مغالطات مُعاويَة ما ذكره ابنُ حزْم في كتاب الإحكام[71]،قال:أنبأنا محمّد بن سعيد [..] عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال: قال مُعاويَة لابن عبّاس أنت
على ملّة عليّ ؟ قال:ولا على ملّة عثمان،أنا على ملّة رسول الله صلى الله عليه وسلم(اهـ). فإنّ مُعاويَة يُريد أن يقول هُنا إنّ لعليّ ملّة مُخالفةً لما عليْه المُسلمون،وقد ثبت أنّ عليّاً عليه السلام أخبرأتباعه أيّام حرب صفين أنّه يظهرعليهم بعده رجلٌ رحب البلْعُوم يأمرُهم بسبّه والبراءة منْه وقال لهم أمّا السّبّ فسبّوني فإنّه زكاة لي ونجاةٌ لكم،وأمّا البراءةُ فلا تتبرّأوا منّي فإني وُلدت على الفطرة وسبقت إلى الإسلام.
وقال ياقوت الحموي[72]:الجوسق الخرب أيضاً بظاهرالكوفة عند النّخيلة وكانت الخوارج قد اختلفتْ يوْم النّهْروان فاعْتزلتْ طائفة في خمسمائة فارس مع فرْوة بن
نوْفل الأشْجعيّ وقالوا لا نرى قتالَ عليّ بل نقاتل مُعاويَة وانفصلت حتّى نزلتْ بناحية شهرزور؛فلما قدم مُعاويَة من الكوفة بعد قتْل عليّ رضي الله عنه تجمّعوا وقالوا لم يبْق عُذْرفي قتال مُعاويَة وساروا حتّى نزلوا النّخيلة بظاهرالكوفة،فأنفذ إليهم مُعاويَة طائفةً من جنْده فهزمتْهم الخوارج؛ فقال مُعاويَة لأهل الكوفة هذا فعْلُكم ولا أعْطيكم الأمانَ حتى تكْفوني أمرَهؤلاء.فخرج إليهم أهْل الكُوفة فقاتَلوهم فقتَلوهم وكان عنْد المعركة جوسَقٌ خَرب..(اهـ).
وفي هذا التّصرّف من المُغالطة ما لايخْفَى،فإنّ مُعاويَة يحمّل أهلََ الكُوفة تصرّفات الخوارج،ويعلّق أمانَهم على قتال الخوارج ويقول بكل بساطة "هذا فعلكم ولا أُعطيكم الأمان حتّى تكْفُوني أمْرَ هؤلاء " وهو يعلم أنّ أهلَ الكوفة ليس لهُم سلطانٌ على الخوارج؛وقد قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام في بعض ما قال لأتباعه:" لا تُقاتلوا الخوارجَ بعْدي..."ومعلومٌ أنّ الشّيعة يتعبّدون بكلام عليّ عليه السلام لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله أَمَرَبذلك وحثّ عليه،ويكفي لبيان ذلك قولُه صلى الله عليه وآله :"عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدورُمعَه حيثُ دار" وقولُه صلى الله عليه وآله "عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ولن يفترقا حتّى يردَا عليّ الحوْض".وهكذا جعل مُعاويَةُ أهلَ الكوفة بين أمْرين مُحرجَيْن بعد أنْ أعطاهُم الأمانَ.والتّراجُع في الأمان غدرٌ لأنّ الأمانَ عهدٌ وقدْ قال الله تعالى "وأوْفُوا بالعهْد" فمَن لمْ يَف فقدْ غَدر.فما الذي يختاره أهلُ الكوفة بين أن تُهدَردماؤهم أو يقاتلوا مَن نهاهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن قتالهم.إنّهم لا يملكون إلا أن يُخالفوا إمامَهم إبقاءً على أنفسهم.
ومن مغالطات مُعاويَة ما ذكره الذّهبيّ في سيَره[73]:عن ابن طاووس،عن أبي بكر بن حزم،عن أبيه قال:لمّا قُتل عمّار دخلَ عمروبن حزْم على عمروبن العاص
فقال:قُتل عمّار،وقد قال النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم:"تقتُله الفئَةُ الباغيَةُ "فدخل عمرو على مُعاويَة فقال قُتل عمارفقال:قُتل عمّارفماذا؟قال:سمعتُ رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم يقول تقتُله الفئةُُالباغيةُ".قال دحضْتَ في بوْلك أَوَ نحْن قتلْناه؟إنّما قتَله عليّ وأصحابُه الذين ألقَوْهُ بيْن رمَاحنا،أوقال بيْنَ سيُوفنا(اهـ).
قال المحقّق[74]بهامش الصّفحة معلّقاً على كلام معاوية:وهذه مغالطة من مُعاويَة،غفرالله له.وقد ردّ عليه عليّ رضي الله عنه بأنّ محمّداً صلّى اللّه عليْه وسلّم إذاً قتَلَ حمزةَ حينَ
أَخْرجَه.قال ابنُ دحية:هذا من عليّ إلزامٌ مُفْحمٌ لاجوابَ عنه،وحُجّةٌ لا اعتراضَ عليْها(اهـ).
قال السّيوطيّ [75]:وأخرج[76]عن أبي الطّفيل عامر بن وائلة الصّحابيّ أنّه دخل على مُعاويَة فقال له مُعاويَة ألستَ من قَتَلَة عثْمان؟ قال لا ولكنّي ممّن
حضرَه فلمْ ينصُرْه قال وما منَعك من نصْره؟ قال لم تنْصرْه المهاجرون والأنْصار فقال مُعاويَة أما لقدْ كانَ حقُّه واجباً عليْهم أنْ ينصُروه قال فما منَعَك ياأميرالمؤمنين من نصْره ومَعَكَ أهْلُ الشّام؟ فقال مُعاويَة أمَا طلبي بدَمه نُصْرة له فضحكَ أبو الطّفيل ثمّ قال أنتَ وعثمان كما قال الشّاعر لاألفينّك بعد الموْت تنْدبُني** وفي حياتي ما زوّدتني زادا
ومن مُغالطات مُعاوية ما ذكره ابن أبي الحديد في شرح النّهج،قال[77]:قال نصر:وحدّثنا عطية بن غنى،عن زياد بن رستم ،قال:كتب معاوية إلى عبد الله بن
عُمرخاصّة،وإلى سعد بن أبي وقاص،وإلى محمّد بن مسلمة،دون كتابه إلى أهل المدينة،فكان كتابه إلى عبد الله بن عمر:أمّا بعد،فإنّه لم يكن أحدٌ من قريْش أحبّ إليّ أن يجتمع عليه النّاس بعْد قتْل عثْمان منْك،ثمّ ذكرْت خذْلَك إيّاه،وطعْنَك على أنصاره،فتغيّرْتُ لك،وقد هوّنَ ذلك عليَّ خلافُك على علىّ،ومحا عنك بعضَ ما كان منْك،فأعنّاـ رحمك الله ـ على حقّ هذا الخليفة المظلوم،فإنّي لستُ أريد الإمارةَ عليك،ولكنّي أريدُها لك،فإن أبيْت كانتْ شُورى بيْن المُسلمين. فأجابه عبد الله بن عمر:أمّا بعد،فإنّ الرّأى الذى أطمعك فيّ،هوالذى صيّرَك إلى ما صيّرك إليه.أَتركُ عليّاً في المهاجرين والأنصار،وطلحةَ والزّبيرَ وعائشةَ أمّ االمؤمنين،وأتّبعُك!وأمّا زعمُك أنّي طعنْتُ على عليّ،فلعمري ما أنا كعليّ في الإيمان والهجْرة،ومكانه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم،ونكايَته في المُشركين،ولكنّي عُهد إليّ في هذا الأمرعهْد ففزعْتُ فيه إلى الوُقوف وقلت:إنْ كان هذا هدىً ففضْلٌ تركْتُه،وإنْ كانَ ضلالاً فَشَرٌّ نجوْتُ منْه،فأغْن عنّا نفْسَك،والسّلام.
ومن مغالطات معاوية ما أوْرده السّيوطيّ في تاريخ الخلفاء[78] قال:وأخرج ابن أبي شيبة عن الشَّعْبيّ قال سمعتُ معاويةَ يقول ماتفرّقت أمّة قطّ إلا ظهرَ أهلُ
الباطل على أهل الحقّ إلاّ هذه الأمّة!!
وفي المستطرف[79]:قال مُعاويَة رضي الله تعالى عنه ما رأيت أبلغَ من عائشة رضي الله تعالى عنها ما أغلقتُ باباً فأرادتْ فتحَه إلاّ فتحتْه ولا فتحتُ باباً فأرادتْ إغلاقَه إلا
أغلقتْه (اهـ).
***
قال ابن أبي الحديد[80]:وحملَ وحملَ النّاسُ كلّهم حملةً واحدة،فلم يبْق لأهْل الشّام صفّ إلاّ أزالوه،حتى أفضوا إلى مُعاويَة،فدعا مُعاويَة بفرسه ليفرّعليه . وكان
مُعاويَة بعد ذلك يحدّث فيقول:لمّا وضعتُ رجْلي في الرّكاب،ذكرتُ قولَ عمْرو بن الاطْنابّة:
أبَتْ لي عفّتي وأَبَى بَلائي * * وأخْذي الحمْدَ بالثّمَن الرّبيح
وإقْدَامي على المَكْرُوه نَفْسي * *وضَرْبي هامةَ البَطَل المشيح
وقوْلي كلّما جَشَأتْ وجَاشَتْ * * مكانَك تُحْمَدي أوْ تَسْتَريحي "
فأخرجْتُ رجْلي من الرّكاب وأقمْتُ،ونظرْتُ إلى عمرو فقلْتُ له:اليوْم صبْرٌوغداً فخْرٌ،فقال:صدقْتَ.قال إبراهيم بن ديزيل:روى عبد الله بن أبي بكرعن عبد الرحمن بن حاطب عن مُعاويَة،قال:أخذتُ بمعرفَة فرسي ووضعْت رجْلي في الرّكاب للهَرَب،حتّى ذكرْتُ شعْرابن الاطنَابَة،فعدْت إلى مقْعَدي،فأصبْتُ خيْر الدّنْيا،وإني لَرَاجٍ أنْ أصيب خيْرالآخرة!
وأيضاً في شرح النهج[81] قال إبراهيم:وروى أبو عبد الله المكي،قال حدّثنا سُفْيان بن عاصم بن كليب الحارثي عن أبيه،قال أخبرني ابن عبّاس قال:لقد حدثني
مُعاويَة أنّه كان يومئذ قد قرب إليه فرساً له أنْثى،بعيدة البطن من الأرض،ليهرب عليها،حتى أتاه آت من أهل العراق،فقال له:إنّي تركت أصحاب عليّ في مثل ليلة الصّدرمن منى، فأقمت،قال:فقلنا له:فأخبرنا من هو ذلك الرّجل؟ فأبى وقال:لا أخبركم من هو .
وفي أنساب الأشراف[82]:بعث علي إلى مُعاويَة:أن اخرجْ إلى أُبارزْك . فلمْ يفعلْ.
وفي العقد الفريد[83]: ـ كتاب العسجدة الثّانية في الخُلفاء وتواريخهم ـ قال أبو الحسن:كان عليّ بن أبي طالب يخرج كل غداة بصفّين في سرعان الخيل
فيقف بين الصّفين ثمّ ينادي:يا مُعاويَة عَلامَ يقتتل الناس،ابرُزْإليّ وأبُرُزُ إليك فيكون الأمر لمَن غلب!فقال له عمرو بن العاص :أنصفَكَ الرّجلُ! فقال له مُعاويَة أردتَها ياعمرو،وَالله لارضيتُ عنك حتّى تُبارزَعليّاً.فبرزإليه متنكّراً فلمّا غشيَه عليّ بالسّيف رمى بنفْسه على الأرض وأبْدى له سوأَته فضرب عليّ وجْه فَرسه وانْصرف عنه ! فجلس مُعاويَة يوماً (بعد ما استقرّ له الأمْر وحضَرَه عمْرو) فنظرإليه فضحك فقال عمرو:أضحكَ الله سنّك ما الذي أضْحكَك؟قال:من حُضورذهْنك يوم بارزْتَ عليّاً إذ اتّقيْته بعوْرتك!أما والله لقدْ صادفْتَ منّاناً كريماً،ولوْلا ذلك لخرمَ رفغيك بالرّمْح.فقال عمرو:أما والله إنّي(كنتُ) عنْ يمينك إذْ دعاك إلى البرازفأحولّتْ عيْناك ورَبَا سَحْرُك وبدَا منْك ما أكْرهُ ذكْره لك(اهـ).
وقال البلاذريّ في[84]:وانهزمتْ ميْمَنة عليّ ثمّ ثابوا فأهمّت أهلَ الشّام أنفُسُهم وكثُر القتْلُ والجراحُ فيهم وركب مُعاويَة فرسه وجعل ينشد شعرابْن الاطنابَة
الأنصاريّ – وهُو عمرو بنُ عامر الخزْرجيّ،وأمّه الاطنابة بنْت شهاب من بلقين - : وقَوْلي كلّما جَشَأتْ وجَاشَتْ * مَكَانَك تُحْمَدي أوْ تَسْتَريحي
فكان مُعاويَة يقول بعد ذلك:ركبتُ فَرسي ومن شأني الهرَب حتى ذكرتُ شعرَ ابن الاطنابة :
أبَتْ لي عفّتي وأبَى حَيَائي * وإقْدَامي على البَطَل المشيح
وقَوْلي كُلّما جشأتْ وجَاشَتْ * مَكَانَك تُحْمَدي أوْ تَسْتَريحي
[ قال:] فأمْسكَني عن الهَرب .
وفي حلية الأولياء[85]:حدّثنا أبي [..] حدّثنا محمّد بن إدريس الشافعيّ قال دخل رجلٌ من بني كنانة على مُعاويَة بن أبي سُفْيان فقال له هلْ شهدت بدْراً قال نعم
قال مثْلَ مَن كنْت قال غلام قمْدُود مثل عطْباء الجلْمُود قال فحدّثني ما رأيتَ وحضرْتَ قال ما كنّا إلاّ شهودا كأغْياب وما رأينا ظفراً كان أوْشكَ منه قال فصفْ لي ما رأيتَ قال رأيتُ في سرعان النّاس عليّ بن أبي طالب غلاماً شابّاً ليْثاً عبْقريّاً يفْرى الفرْيَ[86] لا يثبتُ له أحد إلاّ قتله ولا يضرب شيئاً إلاّ هتكَه لَمْ أرَمنَ
النّاس أحداً قطّ أنفقَ منه يحْمل حمْلةً ويلتفتُ التفاتةً كأنّه ثعلب روّاغ وكأنّ له عينين في قفاه وكأنّ وُثُوبَه وثُوبُ وحْش يتبعُه رجلٌ معلمٌ بريش نعامَة كأنّه جمَلٌ يحْطم يبساً لا يستقبل شيئاً إلاّ هدّهُ ولا يثبتُ له شيءٌ إلاّ ثكلتْه أمُّه شجاعٌ أبلهُ يحْمل بين يديه ولا يلْتَفتُ وراءَه قيل هذا حمزة بن عبدالمطلب عمّ محمّد صلّى اللّه عليْه وسلّم قال فرأيتَ ماذا قال رأيتُ ما وصفتُ لكَ ورأيتُ جدّكَ عُتبةَ وخالكَ الوليدَ حين قُتلا ورأيتُ ما وصفتُ لمَن حضرَ من أهْلك لم يعفوا عنّه قال فكنتَ في المُنهزمين قال نعم ما انهزمت عشيرتُك فأنّي كنتُ منهم قال لمّا انهزمتَ كنتَ في سرعانهم قال فأيْنَ رُحتَ قال ما رحتُ حتّى نظرتُ إلى الهضاب قال لقد أحسنتَ الهربَ قال فعْلي ما احتسبَه أبوك وبعده ما اتّعظتُ بمصْرع كمصْرع جدّك وخَالك وأخيك قال إنّك لغليظُ الكلام قال إنّي ممّن يفرّ قال إنّكم تبغَضون قُريْشا قال أمّا مَن كانَ منهم أهْلَه فنبغضُه قال ومَن الذين هُم أهلُه قال من قطعَ القَرابة واستأْثر بالفَيء وطلبَ الحقّ فلمّا أُعْطيَه منَعَه قال ما فيكُم خيْر من أنْ يُسْكَت عنك قال ذاك إليك قال قد فعلتُ قال قد سكتُّ. اهـ
ولا يقنَع مُعاويَة بتحيّة كانت تُقال لأبي بكروعمر،قال البخاريّ في الأدب[87]:
حدّثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزّهريّ قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال قدم مُعاويَة حاجّاً حجّته الأولى وهو خليفَة فدخلَ عليْه عُثمان بن حنيف الأنصاري فقال السّلام عليك أيّها الأميرورحمة الله فأنكرها أهلُ الشّام وقالوا من هذا المُنافق الذي يقصربتحيّة أميرالمؤمنين؟ فبَرَكَ عُثمان على رُكبته ثمّ قال يا أميرالمؤمنين إنّ هؤلاء أنكرُوا عليّ أمراً أنتَ أعلمُ به منهم فوالله لقد حيّيتُ بها أبا بكروعُمروعُثمان فما أنْكرَه منهم أحدٌ فقال مُعاويَة لمنْ تكلّم من أهل الشّام على رسْلكم فإنّه قد كان بعضُ ما يقول ولكنّ أهلَ الشّام لمّا حدثتْ هذه الفتَن قالوا لا تقصرعندنا تحيّة خليفتنا فإنّي أخالكم يا أهل المدينة تقولون لعامل الصّدقة أيّها الأمير.اهـ
ومُعاويَة أعلمهم بشجاعة عليّ عليه السلام ولكنّه لايحبّها لكونها فعلت في أسلافه مافعلت يوم بدْروَأُحُد قال ابن أبي الحديد[88]:وانتبهَ يوْماً مُعاويَة فرأى عبدَ
الله بن الزّبيرجالساً تحت رجليْه على سريره،فقعدَ، فقال له عبد الله يُداعبُه:ياأمير المؤمنين،لوشئتُ أنْ أفتكَ بك لفعلْتُ،فقال:لقد شجعْتَ بعدَنا يا أبا بكْر،قال:وما الذي تُنكرُه من شجاعتي وقد وقفْتُ في الصّفّ إزاءَ عليّ بن أبى طالب!قال:لاجرمَ أنّه قتلَك وأباك بيسرى يديْه وبقيَت اليُمنى فارغة يطلبُ مَن يقتُله بها .
***
كان مُعاويَة في بداية عمره صعلوكاً كما تقول عبارة النّبيّ صلى الله عليه وآله ، وبعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سُفْيان صارت إليه ولاية الشام،فلم يتزحزح عنها إلا إلى قبره.وكان يقول عن نفسه إنه لا يأتي من بعده إلا من هو شرّ منْه كما أن من كان قبله خير منه.وقد كانت سنيّ حكمه استبدادبة لا تعرف الرحمة، يحاسب فيها الناس على معتقداتهم وميولهم ومشاعرهم،وهوأمرٌلم يسبقْه إليه أحد.وقد سبق قوله"لا والله إلا دفنا دفنا" وهو ما يؤكّدُ أنّ أعماله كانت متعمَّدة مقصودة ولم تكن اجتهادات كما يزعم الذّهبيّ وابن تَيْميَة ومن سارعلى نهجهما.والباحثون المنصفون لايجدون أحدا من الصحابة الأخيار يثني على مُعاويَة،بل إنه يصعب عليهم أن يجدوا من حلفائه من يثني عليه وتلك أبيات عمرو بن العاص في قصيدته الجلجلية منها قوله:
وحيث تركنا أعالي الرؤوس *** نزلنا إلى أسفل الأرجل
فإن كان بينكما نسبة *** فأين الحُسام من المنجل
وأين الثّريّا وأين الثرى *** وأين معاويةٌ من علي
ولوأنه أتيح لغيربني أُميّة أن يحكموا بعد هلاك مُعاويَة مباشرة لكان تراثنا اليوم غيرما هوعليه.لكنّ الذين حكموابعده هم بنو عشيرته بدايةً بابنه يزيد إلى مَرْوان بن محمد الذي ُقتل سنة132.فلا يتوقّع أن تصلنا كلّ أخباره وهوالحاكم المطلق اليد الذي كان يوزّع مال الله تعالى بين الشعراء المتزلفين والمتملّقين ويُشرف بنفسه على وضع الأحاديث في ذمّ علي بن أبي طالب عليه السلام ومدح أعدائه.ومع ذلك فقد وصلَنا ما يكفي لاستشفاف حقيقة ماكان يجري في دولته،وما كان يُريدُ فعلَه لوامتدّ به العمرأكثر ممّا عاش.
قال ابن العماد في الشذرات[89]:توفّي مُعاويَة بن أبي سُفْيان بدمشق في رجب وله ثمان وسبعون سنة.وَليَ الشّام لعُمروعُثمان عشرين سنة وتملّكها بعدَ عليّ
عشرين إلاّ شهراً وساربالرّعيّة سيرةً جميلة[!][90] وكان من دُهاة العرب وحلمائها يُضرَب به المَثل وهو أحد كَتَبة الوحْي وهو الميزان في حبّ الصّحابة
ومفتاح الصّحابة ؛سئل الإمام أحمد بن حنْبل رضي الله عنه أيّما أفضل مُعاويَة أوعُمر بن عبد العزيز فقال لغُبارٌ لَحقَ بأنْف جوَاد مُعاويَة بين يديْ رسول الله خيْر من عُمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنْه وأماتَنا على محبته.اهـ
وهذا كلام لابدّ من التّعليق عليه، فإنّه لا يخلُو من تقْليد ساذج لا يليق بأهل العلم.إذْ كيف يكون مضربَ المثَل في الحلْم وهوالذي دفنَ شيعةَ عليّ عليه السلام أحياء؟!وقد تقدّم سلوكُه مع أهل الحرمين وتسليطُه بسرَ بنَ أرْطاة وزياداً على رقاب المُسلمين يُمعنان في القتل والصّلب،وقد كان أوْلَى بصاحب الشّذرات أن يقول عنْه إنّه كان رمزاً من ُرمُوزالإرهاب في أبْشع صُوَره،ولكنّه الانتماءُ المذهبيّ وتقديسُ الصّحابة بَرّهم وفاجرهم.ولو اتّبع الحقّ أهواءَهم لفسدت السّماوات والأرْض. ثمّ إنّ للشافعيّ كلاماً يردّ كلام أحمد بن حنبل بخصوص فضل معاوية على عمر بن عبد العزيز،فقد قال الذهبي في معرض دفع تهمة التشيّع عن الشافعي:لوكان شيعيّاً وحاشاه من ذلك لما قال الخلفاء الراشدون خمسة؛بدأ بأبي بكروختم بعمر بن عبد العزيز.
قال ابن عساكرفي تاريخ دمشق[91]: وكان(معاوية) يقول رحم الله عبداً دعا لي بالعافية وقد رُميتُ في أحْسني وما يبدُو منّي ولولا هواي في يزيد لأبصرْتُ
رشدي ولمّا اعتلّ قال وددتُ أنّي لا أعمّر فوقَ ثلاث فقيل إلى رحمة الله ومغفرته فقال إلى ما شاء وقضى قد علم أنّي لم آلُ وما كرهَ الله غيّر. وكان عندهُ قميص رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم وإزاره ورداؤه وشَعْره[92] فأوصاهم عند موْته فقال كفّنوني في قميصه وأدْرجوني في ردائه وآزروني بإزاره واحْشُوا منْخَري وشدْقي
بشَعْره وخلّوا بيني وبيْن رحْمة أرْحم الرّاحمين.كان حليماً وقُوراً وَليَ العَمالةَ من قبَل الخُلفاء عشرينَ سنةً واستوْلى على الإمارة بعد قتل عليّ عشرين سنةً فكانت الجماعةُ عليه عشرين سنةً من سنة أربعين إلى سنة ستّين فلما نزل به الموت قال ليتني كنتُ رجلاً من قُريْش بذي طوى وأنّي لم آل من هذا الأمر شيئا [93].اهـ
ولايعجب القارئ من كلامه هذا الذي يُشتمّ منه رائحةُ الضّراعة، فإنّه لم ينْفردْ بذلك،بل إنّ الزّعيم الصّينيّ ماوتسي تونغ أيضاً قالَ عنْد الموْت كلاماً يَهْدمُ نظريّاته الشّيوعيّة، فكتبتْ صحيفةُ البرَافْدَا الرّوسيّة تَذْكُرأنّه كان"يهْذي " عنْد موْته.
قال أبو نعيم [94]: حدّثنا أبي رحمه الله [..] محمّد بن إدريس الشّافعيّ قال ذكرُوا أنّ مُعاويَة بن أبي سُفْيان اعتمر فلما قضى عمرته وانْصرف بالأبواء فاطّلع
في بئرها العَادية[95]فضربتْه اللّقوَةُ[96] فاعتمّ بعمامَة سوْداء أسْبَلَها على ساقه ثمّ اسْتوى جالساً فأذنَ للنّاس فَدَخلُوا عليْه فحمدَ الله وأثْنى عليْه ثمّ قال أمّا بعد
فإنّ ابنَ آدمَ يعرض للبَلاء ليُؤْجَرَ ويُعاقَب بذنْب أو يعْتب ليعْتب ولست مخلوّاً من واحدة من ثلاث فإن ابتُليتُ فقد ابتُلي الصّالحون قبلي وأرجو أن أكون منهم! وإن ُعوفيت فقد عُوفي الصّالحون قبلي وما آمَنُ أن أكونَ منْهُم وإنْ مرضَ عضوٌ منّي فما أُحصي صحّتي وما عُوفيتُ منه أطْول.أنا اليومَ ابنُ ستّين سنةً[97] فرحم
الله عبدا دعا لي بالعافية فوالله لئن عتب علي بعض خاصّتكم فإنّي لحدث على عامّتكم،ثمّ بكى فارتفع النّاس عنْه فقال له مَرْوان بن الحكم ما يُبكيك يا أمير المؤمنين قال وقفتُ والله عمّا كنتُ عليه عزوفا وكثُر الدّمع في عيْني وابتُليت في أحبّتي وما يبْدُو منّي ولولا هوايَ في يزيد ابْني لانْصرف قصْدي فلمّا اشتدّ وجعُه كتبَ الى ابْنه يزيد أدركْني وسرج له البريد قال فخرج يزيد وهو يقول:جاء البريدُ بقرْطاس يحثّ به(شعر) منه :
أغرّ أملح يُستسقي الغمامُ به..........لو قارعَ النّاس عن أحْلامهم قرعَا
قال فانتهى يزيد الى الباب وبه عثمان بن عنْبسة قال فقال له مالك بجنب عن أمير المؤمنين قال فأخذ بيده فأدخله على مُعاويَة فاذا هو مُغمىً عليه قال فانكبّ عليه يزيد ثم التفت إلى عثمان بن عنبسة فقال إنّا لله وإنّا إليه راجعون يا عثمان لو فات شيء لفات أبوحيان لا عاجز ولا وكل*الحوّل القلّب الأريب فما تنفع وقت المنيّة الحيل*قال صه فرفع مُعاويَة رأسه فقال هو ذاك يا بني والله ما أصبحت أتخوف على شيء فعلته إلا ما فعلته في أمرك فاذا أنا متّ فانظر كيف يكون صحبت رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم في غزوة تبوك وتبعته بإداوة من ماء أصبّه عليه فقال ألا أكسوك قلت بلى يا رسول الله فكساني قميصه الذي بلى جلده وقد أخذ النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم من شعره وأظفاره فأخذت وهوفي موضع كذا فاذا أنا متّ فأشعرني ذلك القميص دون كَفَني واجعل ذلك الشّعروالأظفارفي فمي وفي منخري فان يقع شيء فذاك وإلاّ فانّ الله غفوررحيم. قال ثمّ توفّي مُعاويَة فأقام ثلاثة لا يخرج الى النّاس حتى قال النّاس قد اشتغل يزيد بشرب الخمر. ثمّ خرج إليهم في اليوم الرّابع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال أما بعد فانّ مُعاويَة بن أبي سُفْيان كان حبلا من حبال الله مدَّهُ مادُّهُ ثمّ قطعه دونَ من قبْله وفوقَ من بعده ولست أعتذرولاأتشاغل بطلب العلم على رسلكم اذا كره الله شيئا غيّره؛ثم نزل .اهـ
أقول:إنّ في قول يزيد"أغرّ أملح يُستسقي الغمام به"استخفافاً بشخص النّبيّ صلى الله عليه وآله فإنّ هذا القول إنما قيل في حقّه من طرف عمّه أبي طالب رضي الله عنه حيث يقول:
وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجْهه *** ثمَال اليَتَامى عصمَة للأرَامل
وقد استسقى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسُقي الناس في لحظتهم والقصّة معلومة.وفي كتب المسلمين أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله لعنَ معاوية ودعاعليه،وفي كتبهم أيضاً أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام قَنَتَ بلعْن مُعاوية مدّة من الزّمان، فكيف يَستَسيغُ المسلمُون أن يُستَسْقَى بمَنْ لعنَه النّبيّ صلى الله عليه وآله ولعَنَه علي بن أبي طالب عليه السلام؟!
قال ابن أبي الدنيا [98]:حدّثني عمرو [..]عن داود بن أبي هند قال تمثّل مُعاويَة عند الموت:هو الموت لا مَنْجَا من الموت والذي** نُحاذر بعد الموت أدهى
وأفظع؛ثمّ قال اللّهمّ فأَقل العثْرة وعاف من الزّلّة وجُد بحلْمك على جهل من لم يرْجُ غيْرك ولم يثقْ إلاّ بك فإنّك واسعُ المغْفرة ليس لذي خطيئة مهْرب إلاّ أنت.قال فبلغني أنّ هذا القولَ بلغَ سعيدَ بن المسيّب رحمه الله فقال لقدْ رغبَ إلى مَن لا مَرغوب إليه مثلُه وإنّي لأرجو ألاّ يعذّبه الله عزّوجلّ . حدّثني أبي عن أبي المنذر الكوفيّ أنّ مُعاويَة جعل يقول وهو في الموت :
إنْ تُناقش يكنْ نقاشُك يا ربّ عذاباً لا طوْق لي بالعَذاب
أو تَجاوَز فأنْت ربّ رحيم عنْ مُسيء ذُنوبُه كالتّراب
وفي سير أعلام النبلاء [99]: ....إسماعيل بن أبي خالد عن قيس قال أخرج مُعاويَة يديْه كأنّهما عسيبا نخْل فقال هل الدّنْيا إلاّ ما ذُقْنَا وجرّبْنا والله لوددتُ أنّي لمْ
أغبر فيكُم إلاّ ثلاثاً ثمّ ألحق بالله قالوا إلى مغفرة الله ورضوانه قال إلى ما شاء الله قد علم الله أنّي لم آلُ ولوْ أرادَ الله أنْ يُغيّر غيّر.اهـ
لكن ابن أبي عاصم يرويها كما يلي[100]:"أخرج مُعاويَة ذراعيه كأنّهما عسيبا نخل فقال ما الدّنْيا إلاّ ما رأينا وجرّبنا والله لوددت أنّي لا أغير فيكم إلا ثلاثاً
حتّى ألحَقَ بالله تعالى قالوا يا أمير المؤمنين إلى رحمة الله تعالى ورضوانه وإلى ما شاء قد علم الله تعالى أني لم آل وما أراد الله تعالى أن يغيّر غيّره".ولايخفى ما في الجملة من الرّكاكة إذْ لا فصل بين"إلى ما شاء الله "التي هي من كلامهم وبين" قد علم الله أني لم آل.."التي هي من كلام معاوية؛ولأنّ عصرالذّهبيّ متأخرعن عصرابن أبي عاصم،فإنّه ليس أمامنا إلاّ أن نفترض التّصحيف أوتعمّد الخلط من طرف ابن أبي عاصم المرميّ بالنّصب،ومثل هذا العمل لا يصدرإلا ممّن فيه شيء من النّصب؛[101]وقد اتُّهم ابنُ أبي عاصم بالنّصب.وفي طيّات كلامه ما يُشعر بذلك،وأنا أورد هُنا بعضَ ما أظنّه يُقوّي نسبة النّصب إليه.
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء(ج1ص195) في ترجمة مُعاويَة:أفردَ ابنُ أبي الدّنْيا وأبو بكر بن أبي عاصم تصنيفاً في حلْم مُعاويَة.
وإضاف إلى التصنيف المستقل روى ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني أمورا منها حدّثنا هدبة [..] عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال ما رأيت أحداً بعد النّبيّ أسْوَدَ من مُعاويَة قيل ولا أبو بكر قال ولا أبو بكر قد كان أبو بكر خيراً منه وكان أسوَدَ منه قيل ولا عُمر قال والله لقد كان عُمر خيراً منه ولكنه كان أسْود منه قيل وعُثمان قال والله أن كان عثمان لسَيّداً ولكنّه كان أسْوَد منه.[102] (انتهى) وأسود هُنا من السّيادة.
وقال ابن أبي عاصم [103]:حدّثنا أحمد[..]عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال لا مدينة بعد عثمان ولا رخاء بعد مُعاويَة رضي الله تعالى عنهما.اهـ
وروى ابن أبي عاصم [104]: [..] وامّا القارئ لكتاب الله عزوجل الفقيه في دين الله تعالى القائم على حدود الله تعالى فمَرْوان بن الحكم[!]اهـ
وهذه أعجب من سابقاتها فإنّ لقب مَرْوان عند معاصريه "خيط باطل" وأعماله في الفتنة التي قُتل فيها عُثمان معلُومة،وهوالذي قتل طلْحة يوم الجمل،وله بعد ذلك هَنات وهَنات،وقد ذكرَالحاكم لعْنَه على لسان النّبيّ صلى الله عليه وآله فكيف يكونُ بعد ذلك"القارئ لكتاب الله عزّوجلّ الفقيه في دين الله تعالى القائم على حدود الله تعالى" ؟!
وقال[105]: حدّثنا أبو بكر [..] عن بشير بن عمرقال لنا رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم ذات يوم إنّي رأيت الملائكة عليهم السّلام في المنام أخذوا عمود الكتاب
فعمدوا به إلي الشّام فإذا وقعت الفتن فإن الإيمان بالشام.اهـ
وبما أنّ الشّعراء يتّبعهم الغاوون فليس عجيباً أن يتوجّه أحدهم بكلام على مُعاويَة بن يزيد يجعل موت مُعاويَة فيه رزءاً عظيماً في الإسْلام[!!] قال الحموي في خزانة الأدب[106]:ومما جمع فيه من النّظم بين التّهنئة والتّعزية قولُ بعض الشّعراء ليزيد بن مُعاويَة لمّا دفنَ أباهُ وجلس للتّعزية:
اصبرْ يزيدُ فقد فارقْتَ ذا ثقَة واشكُرْ حباء الذي بالمُلك أصْفاكا
لا رزءَ أصبحَ في الإسْلام نعلمُه كما رُزئت ولا عُقبى كعُقْبَاكا
***
في الأدب المفرد [107]:حدّثنا موسى [..]عن بلال بن سعد الأشعريّ أنّ مُعاويَة كتب إلى أبي الدّرداء اكتب إليّ فسّاق دمشق فقال ما لي وفسّاق دمشق ومن أينَ
أعرفُهم فقال ابنُه بلال أنا أكتبهم فكتبَهم قال من أين علمتَ؟ما عرفتَ أنّهم فُسّاق إلاّ وأنتَ منْهم ابدأ بنفْسك ولم يرسلْ بأسمائهم.
وقال ابن قتيبة [108]:مازح مُعاويَةُ الأحنفَ بن قيْس فما رُؤيَ مازحَان أوقرَ منهُما قال له مُعاويَة يا أحنفُ ما الشيءُ الملفّفُ في البجَاد قال له السّخينةُ يا أميرَ
المؤمنين أراد مُعاويَة قول الشاعر"إذا ما ماتَ ميْتٌ منْ تَميم فسرّكَ أنْ يعيشَ فَجيءْ بزَاد * بخُبْز أوْ بتَمْر أو بسَمْن أو الشّيْء المُلَفّف في البجاد* تراه يُطوّف الآفاقَ حرصاً ليأْكُلَ رأسَ لقْمَان بْن عاد .والملفّف في البجَاد وطبُ اللّبَن وأراد الأحْنَف أنّ قُريْشاً كانتْ تُعَيَّر بأكْل السّخينَة...
أقول:ليس كما ذهب إليه ابن قُتيبة وإنما يريد قول الشّاعر في كفّارقُريْش:
زعمت سخينةُ أنْ ستغْلب ربّها وليغلبنّ مغَالب الغَلاّب
والأحنفُ بنُ قيْس أعقَلُ من أنْ يُدخلَ آباءَ وأبناءَ النّبيّ صلى الله عليه وآله في الذّم.
وقال ياقوت الحموي[109]: وكان مُعاويَة يقول أغْبَطُ النّاس عيشاً عَبْدي أوْ قال موْلايَ سعْد وكانَ يَلي أموالَه بالحجاز ويتربّع[110] جدّة ويتقيّظ الطّائف
ويشتُو بمكّة.اهـ
قلتُ: قد جاء في الحديث الشّريف النّهي عن قوْل الرجل عبْدي وإنّما ينبغي أن يقول"غُلاَمي".والثّانية أنّ معاويةَ يغبطُ كثيراً من النّاس على أنّهم يشبعون في بطونهم وهويحلم بشبْعة فلا يجدُ إليها سبيلاً.وأمّا غُلامه سعْد فهُو في ترْحال دائم،إنْ يكنْ يَصْحَبُهُ أهْلُه وولدُه فقد شقّ عليهم وحَرَمَهُم نعْمةَ الاستقرار،وإنْ يكنْ بمفْرده فما فاتَه أكثرُ ممّا نال.
وقال الأبشيهي[111]: ذكرَ الإمام أبوعليّ القاليّ في كتاب الأمالي أنّ رجلاً جاء إلى مُعاويَة رضي الله تعالى عنه فقال له سألتك بالرّحم التى بيني وبينك إلاّ ما قضيتَ
حاجتي فقال له مُعاويَة أمنْ قُريْش أنتَ قال لا قال فأيّ رحم بيْني وبيْنك قال رحم آدم عليه السلام قال رحمٌ مجْفوّة والله لأكوننّ أوّلَ من وصلَها ثمّ قضى حاجته.اهـ
أقول:إذا كانت هذه هي الرّحم فما معنى قوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله؟والذي لا شكّ فيه أنّ الله تعالى سوف يسألُ كلَّ أهْل القبْلة عن مودّة رَحم النّبيّ صلى الله عليه وآله لا عَنْ رَحم آدم التي يدخُل فيها فرعَوْن وهامَان وجنودهما وأبُو جهْل والوليد بن المغيرة ومن معهما،فإن يكن معاويةُ منْ أهْل القبْلة فحالُه مع آل النّبيّ صلى الله عليه وآله معْلُومة،وليس فيها ما يُستَبشَرُ به،وإن لم يكنْ منْهم كما ذهبَ إليْه الحمانيّ الكوفي[112] في قوله "ماتَ معاوية على غيْر الإسلام"
فالقضيّة غنيّة عن أن تُناقَش.فهلاّ رعى مُعاويَةُ رَحمَ النّبيّ وحُرمَتَه ؟
وفي معجم البلدان ج4ص338 :رُويَ أنّ مُعاويَة بن أبي سُفْيان مرّ بوادي القرى فَتَلاَ قولَه تعالى أتُتركُون فيما ههنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل الآية ثمّ قال هذه الآية نزلت في أهْل هذه البلْدة وهي بلاد ثمود فأين العُيُون فقال له رجل صدق الله في قوله أتحبّ أن أسْتخرجَ العُيُون قال نعم فاستخرج ثمانين عيْناً فقال مُعاويَة الله أصدقُ من مُعاويَة !!
قال الأبشيهي في المستطرف[113]:وحدّث الشّيخ نبيه الجوهريّ أنّه سمع الشّيخ الإمام عزّ الدّين بن عبد السّلام يقول إنّ مُعاويَة ابن أبي سُفْيان كان يأكل في
كل يوم مائة رطل بالدّمشقي ولا يشْبع!
وفي أنساب الأشراف( ص 288):فلما أصبح مُعاويَة دخل عليه عتبةُ بن أبي سُفْيان فقال له:يا مُعاويَة ما تصنعُ ؟أما ترضى أنْ تَشتريَ منْ عمْرو دينَه بمصْر.فأعطاهُ إيّاها وكتبَ لهُ كتاباً:[أن]لا ينقُض شرْطٌ طاعةً.فمحَا عمرُوذلك وقال:اُكتبْ:لاينقض طاعةٌ شرطاً.فقال له عُتبة بن أبي سُفْيان:أيّها المَانع سيفاً لم يهز*إنّما ملتَ إلى خزّ وقزّإنّما أنتَ خروفٌ واقفٌ * بين ضرْعين وصُوف لم يُجَزّ*أعْط عمْراً إنّ عمْراً باذلٌ * دينَه اليومَ لدُنْيا لمْ تحزْ
وفي معجم ما استعجم ج4ص1384 :حدّث سُفْيان بن عمْرو بن دينارعن مولى لعمْرو بن العاص أنّ عمْراً أدخل في تعْريش الوَهط[114] ألفَ ألفَ عود قام كل
عود بدرْهَم فقال مُعاويَة لعمْرو مَنْ يأخُذْ مالَ مصْريْن يجْعلْه في وهطَيْن ويَصْلَى سعيرَ نَاريْن.اهـ
قال ابن خَلْدُون في[115]:وكانتْ غايتُه في الحلْم لا تُدرَك وعصابتُه فيها لا تُنزَع ومرْقَاتُه فيها تزلُّ عنْها الاقدامُ ( ذُكر) أنّه مازح عديّ بن حاتم يوماً يؤنّبه
بصُحْبَة عليّ! فقال له عديّ والله إنّ القلوبَ التي أبغَضنَاك بهَا لَفي صدُورنا وإنّ السّيوفَ التي قاتلنَاك بها لعلى عواتقنا ولئن أدْنيْتَ الينَا من الغدْر شبْراً لنُدْنيَنَّ اليْك من الشّرّ باعاً وإنّ حزَّ الحُلقُوم وحشْرجَةَ الحيْزُوم لأهْوَنُ عليْنا منْ أنْ نَسمعَ المساءةَ في عليّ فَشم السّيفَ يا مُعاويَة يبْعَث السّيف فقال مُعاويَة هذه كلماتُ حقّ فاكْتُبوها وأقبلَ عليْه ولاطَفَه وتحادَثا وأخْبارُه في الحلْم كثيرة.اهـ
أقول:معرفة القائل تيسّر فهم المقول،وسيأتي لاحقاً الحديثُ عن ابْن خَلْدُون وموْقفه من أهْل البيْت عليْهم السّلام واستخْفَافه بحَديث الإمَام المَهْديّ الذي يَمْلأُ الأرْض عدْلاً كمَا مُلئتْ ظُلماً وجوْراً.وليسَ ابنُ خَلْدُون أوّّلَ مَن تخرَّجَ من مدْرسَة الأنْدَلُس الأُمويّة ليسخّر قلمَه ولسانَه في العُدوان على أهل البيت وشيعتهم؛خرج ابن خَلْدُون من الدّنيا وبقيت مدرسة أهل البيت عليهم السلام كما كانت قبل ولادته.والعاقل الذي يحكّم ضميرَه في ما يسمع ويقرأ لا يخفى عليه التّنافي التامّ بين الحلْم وبين سبّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام ولعْنه على المَنَابر،فإنّ الحليم يُعاب عليه أن يسبّ أحداً من العوامّ في الشّارع،فكيف بمَنْ يَسبّ مَنْ هُو من النّبيّ صلى الله عليه وآله بمنزلة هارون من موسى على المنابرويخرجُ من الدّنيا مُصرّاً على ذلك،مُوصياً بإدامته من بعده ،وهو يعلم أنّ الله تعالى يحبّ عليّاً وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله يحبّه،فهل يُقْدم الحَليم على مثل هذا؟!
وقال الأبشيهي[116]:غضب مُعاويَة على يزيد فهجره فقال الأحنف يا أمير المؤمنين أولادُنا ثمارُ قُلوبنا وعمادُ ظهورنا ونحن لهم سماء ظليلة وأرض ذليلة
وبهم نصُول على كل جليلَة فإن غَضبوا فأرْضهم وإن سألوا فأعْطهم وإن لم يسألوا فابتَدئْهم ولا تنظرْ إليهم شزراً فَيَمَلّوا حياتَك ويتمنّوا وفاتَك فقال مُعاويَة ياغلامُ إذا رأيتَ يزيدَ فاقرأهُ السّلام.واحملْ إليْه مائتي ألف درْهَم ومائتَيْ ثوْب فقال يزيد مَنْ عنْد أمير المؤمنين ؟فقيل له:الأحنَف،فقال يزيد بن مُعاويَة:عَلَيّ به فقالَ يا أبا بَحْر كيفَ كانَت القصّة فحَكَاها له فشَكَرَ صنيعََه وشاطرََه الصّلة.
قلتُ:أين غاب حلم الرّجل وهو يهجرأقرب النّاس إليه وأمسّهم به رَحماً؟
لم يتورّع معاوية عن أسلوب يَجدُ من خلاله طريقاً إلى إضعاف جهة عليّ عليه السلام،وتحريض النّاس عليه،وقد كان من أمره أن خدع طلحة والزّبير الصحابيّيْن البدْريّيْن الذيْن شهدَا يومَ الغَدير،وسمعَا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:" من كنت مولاه فعليّ مولاه".لقد كان طلحة والزّبير يوم بدرتحت راية راية النّبيّ صلى الله عليه وآله ،وكان معاوية تحت راية قريش الكافرة،ثُمّ دارت الأيّام وصار طلْحة والزّبير ومعاوية في خندق واحد،مقابل راية النّبيّ صلى الله عليه وآله ؛قال ابن أبي
الحديد[117]:فلمّا قدم رسوله على مُعاويَة،وقرأ كتابه، بعث رجلاً من بَنى عميس،وكتبَ معه كتاباً إلى الزّبير بن العوام،وفيه بسم الله الرحمن الرحيم،
لعبد الله الزّبيرأميرالمؤمنين[!] من مُعاويَة بن أبى سُفْيان:سلام عليك،أمّا بعد،فإنّى قد بايعتُ لكَ أهلَ الشّام،فأجابوا واستوْسقُوا كما يستوْسق الجلبُ،فدونَك الكُوفة والبصْرة،لا يسبقْك إليها ابنُ أبى طالب فإنّه لا شيءَ بعد هذين المصريْن،وقد بايعتُ لطلحة بن عبيْد الله من بعْدك فأظْهراالطّلب بدَم عُثمان،وادْعُوَا النّاس إلى ذلك،وليكنْ منْكما الجدّ والتّشميرُ أظفَرَكُماالله،وخذلَ مُناوئَكُما!فلمّا وصل هذا الكتاب إلى الزّبيرسُرَّ به،وأعْلَمَ به طلحةَ وأقرأَهُ إيّاه،فلمْ يَشُكّا في النُّصْح لهُما من قبَل مُعاويَة،وأجمَعَا عند ذلك على خلاف عليّ عليه السلام .اهـ
هل كان حقّاً ما ذكره معاوية من أنّه بايع لهما أهلَ الشّام،وأنّه بايعَ لطلْحةَ من بعْد الزّبير؟!إنّ ما وردَ في الكتاب يدلّ على دَهاء مُعاوية من جهَة،وعلى سَذاجَة الصّحابيّين البدريّيْن الذيْن رشّحهما عُمَرُللخلافة منْ جهَة أخْرى.إنّ معاوية يُتقنُ ضربَ أصْحاب النّبيّ صلى الله عليه وآله بعْضهم ببعْض ليَصْفُوَلَهُ الجوُّويتمكّنَ من تنْفيذ مُخطّطه،وليس في مصْلحَته بقاءُ الزّبيروطلحة على قيْد الحيَاة مع اشْتهَار قضيّة السّتّة المُرشّحين للخلافة.لذلك شجّعَهُما وحرّضَهُما على مُحاربَة عليّ عليه السلام وراحَ يَعدُهُما ويُمَنّيهما وما يعدهما إلا غرورا.وانتهت القصّة بخروج الرّجلين من الدنيا على حال لا تُحمَد، فقد قُتلا جميعاً في يوم واحد وهما يحاربان إمام زمانهما؛وبموجب الحديث الذي رواه مسلم وغيره[118]"من خرج من الطّاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة أو يدعوإلى عصبة
أوينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية ومن خرج على أمّتى يضرب برَّها وفاجرَها ولا يتحاش من مؤمنها ولايَفِي لذي عهْد عهْدَه فليْس منّي ولست منه " يكون معاوية قد مات ميتةً جاهليّة لأنّ كلّ الأوصاف السّابقة تنطبق عليه،ولا ينفعه ما يُنسب إليه من الاجتهاد إذ لا اجتهاد مع كلام النّبيّ صلى الله عليه وآله .
قال محمّد بن عقيل في النصائح الكافية ص128:(ومن مخزياته الفاضحة) تفريقُه بالحيلَة بين عبدالله بن سلاّم القرشيّ وزوجته أُرَيْنب بنْت إسحاق حين تعشّقها خمّيرُه يزيد ليزوّجه بها مُعَاوَنَةً له على الإثم والعُدوان وقد روى القصّة كلّها ابنُ قتيبة رحمه الله تعالى في كتاب الإمامة، ورواها عبد الملك بْن بدْرُون الحضرميّ الإشبيليّ في كتابه أطواق الحمامة بشرح البسامة وغيرهما. اهـ
وقد تبيّن ممّا سبق أنّ الخديعة أمْرٌ مألوف لدى معاوية،يمارسه متى أمكنته الفرصة للوصول إلى مآربه ومآرب ذويه،ولايرقب في مؤمن إلاًّ ولاذمّة ولا يراعي عهداً ولاحُرمة.وقد تسامح معه في هذا كثير من المؤرخين أصحاب السّيروالتّراجم لأنّ الرّجُل مَلَكَ وتربّعَ على كرسيّ الحُكم،والذي يطالعُ تعامُلَ الفقهاء والمُحدّثين مع كثيرممّن حكموا لا يرتاب في أنّ الحُكم في تراث المسلمين تحكّم في الشّريعة وسمح للحاكم أن يلغي أحكام السّماء ليثبت أحكامه هو،وأمثلة ذلك لا تخفى على الباحث النّزيه.
[1] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1ص 230
[2] شرح نهج البلاغة ابْن أبي الحديد ج 1ص 310
[3] من هو فلان بن فلان يا أمّ المؤمنين ؟!!
[4] ا في كتاب المنمق لمحمد بن حبيب البغدادي ص 405 :
العوران من القُريْش : أبو سُفْيان بن حرب ثم عمي بعد ، وأُميّة بن عبد شمس ثم عمي بعد [ فمُعاويَة أعمى الأب والجد ولا يلتفت إلى ذلك ].
[5] أنساب الأشراف للبلاذري ص 55
[6] الطبقات الكبرى محمّد بن سعد ج 3ص 78
[7] الطبقات الكبرى محمّد بن سعد ج 5 ص 17
[8] الآحاد والمثاني ـ ابن أبي عاصم ـ ج 1 ص 375
[9] المصدر اليابق ج 1 ص 375
[10] الآحاد والمثاني ابن أبي عاصم ج 1 ص 376
[11] أحكام أهل الذمّة ابن قيم الجوزية ج1ص607
[12] أحكام أهل الذمة ابن قيم الجوزية ج 3ص1308
[13] السير الكبير ـ محمد بن الحسن الشيبانى ـ ج 3 ص 1051
[14] تذكرة الحفّاظ ـ الذهبي ـ ج 1 ص 53
[15] الفهرست ـ ابن النديم ج1ص249
[16] الحزورة والخندمة وثبير مواضع بمكة المكرمة.كما في تاج العروس .
[17] سيرأعلام النبلاء ج 2 ص 7
[18] سير أعلام النبلاء ج 4ص 92
[19] رسائل العدل و التوحيد ج2ص46
[20] المصنف - ابن أبي شيبة الكوفي ج 7 ص 251 الحديث رقم 23
[21] حديث " يحب الله و رسوله ويحبّه الله و رسوله " يوجد في صحيح البخارى ج 4ص 20وصحيح مسلم ج5 ص195
[22] شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ج 1ص 340
[23] النّصائح الكافية ـ محمّد بن عقيل الشافعي ص 124
[24] * المقصود قوله تعالى : " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن النبيّ وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (الأحزاب 40).
[25] تاريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ـ ج 13ص195
[26] معجم الصحابة ـ عبد الباقي بن قانع ـ ج3ص72
[27] النصائح الكافية ـ محمّد بن عقيل الشّافعيّ ـ ص 123
[28] شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ج 2 ص 65
[29] قال الذهبي في في سير أعلام النبلاء ـ ج 3 ص 5: أبو بكرة الثقفي الطائفي رضي الله عنه مولى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم . اسمه نفيع بن الحارث ، وقيل : نفيع بن مسروح . تدلّى في حصار الطائف ببكرة ، وفرّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ، وأسلم على يده ، وأعلمه أنّه عبد ، فأعتقه . روى جملة أحاديث . حدث عنه بنوه الأربعة : عبيد الله ، وعبد الرحمن ، وعبد العزيز ، ومسلم ، وأبو عثمان النّهديّ ، والحسن البصريّ ، ومحمّد بن سيرين .
[30] صحيح البخاري ج4ص1508 الحديث رقم 3882
[31] الموطأ مالك ج 2 ص 737
[32] الإتقان ـ السيوطي ـ ج1ص85
[33] أعلام الموقعين ابن قيم الجوزية ج 1ص60
[34] كلام معاوية هنا صريح في تهمة الصحابة بوضع الأحاديث !
[35] المحصول ـ الرازيّ ـ ج 4ص 320
[36] الإحكام ـ ابن حزم ج 6 ص 815
[37] تاريخ بغداد – الخطيب البغدادي ـ ج 7ص 21
[38] البداية والنهاية ج 5ص 158
[39] نفس المصدر ج 5ص 174
[40] تفْسير ابن كثير ج1ص18 [ دار الفكر 1401 هـ ]
[41] تاريخ الخلفاء السيوطي ج 1 ص177
[42] صحيح مسلم ج2ص913- الحديث رقم 1246 - دار إحياء التراث العربي/بيروت/تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي
[43] شرح نهج البلاغة ج 1 ص 338
[44] ..
الأبيات في شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 6ص 289: ياصخر لا تسلمن يوما فتفضحنا * بعد الذين ببدر أصبحوا فرقا *خالي [وعمى] وعم الأمّ ثالثهم * وحنظل الخير قد أهدى لنا الارقا *لا تركنن إلى أمر تكلفنا * والراقصات به في مكه الخرقا *فالموت أهون من قول العداة : لقد * حاد ابن حرب عن العزى.أقول: والصّواب مكان "عمّي " جدّي فّإن الذين قتلوا يوم بدرجدّه لأمّه عتبة بن ربيعة وخاله الوليد وعمّ أمّه شيبة بن ربيعة.
[45] شرح نهج البلاغة ج 2 ص 131
[46] شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ج 2 ص 17
[47] شرح نهج البلاغة ج 1ص 25
[48] في المثل : " هو يسر حسوا في ارتغاء " ، يضرب لمن يظهر أمرا وهو يريد غيره . ( اللسان ج19ص46)
[49] ذو اللبدتين هو الأسد
[50] المستطرف في كل فن مستظرف ـ الأبشيهيّ ـ ج1ص134
[51] جمهرة خطب العرب ج1ص309
[52] وفي جمهرة خطب العرب ج1ص327
2 جمهرة خطب العرب ج1ص329
3جمهرة خطب العرب ج1ص346
4 المستطرف في كل فن مستظرف ج1ص303
[56] المعجم الكبير– الطبراني ـ ج 19 ص 389 والحديث أيضاً في الجامع الصغير للسيوطي ج2ص682 وتاريخ دمشق ج29 ص46وللألباني فيه كلام بعد أن صرّح بأنّه أخرجه أبوداوود وأحمد وغيرهما.
[57] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2ص 17
[58] أي قال عبيد الله بن عباس لمعاوية
[59] إعجاز القرآن ج1ص 84
[60] لسان العرب ـ ابن منظور ـ ج2ص136
[61] الإصابة ـ ابن حجر ـ ج 1ص 261
[62] الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ـ ج 2ص 369
[63] مجمع الزوائد ـ الهيثمي ـ ج 5ص 198
[64] ناقض معاوية نفسه بهذا الكلام ففي سير أعلام النبلاء – الذهبي ـ ج 3 ص 140 : قال الجعفي : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن أبيه ، قال : جاء أبو مسلم الخولاني وأناس إلى معاوية ، وقالوا : أنت تنازع عليا أم أنت مثله ؟ فقال : لا والله ، إني لاعلم أنه أفضل مني وأحق بالامر مني ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما ، وأنا ابن عمّه ...
[65] صحيح مسلم ج4ص2075 الحديث رقم 2701
[66] الإمامة والسياسة ابن قتيبة الدينوري ج 1ص 211
[67] لسان العرب ـ ابن منظورـ ج11ص673
[68] تاريخ الخلفاء- السيوطي ج1ص163مطبعة السعادة مصر1371هـ - 1952م الطبعة الأولى تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
[69] تفْسير الطّبريّ ج6ص 83
[70] الإحكام في أصول الأحكام ج 4 ص 496
[71] المصدر السابق ج 4 ص 574
[72] معجم البلدان ـ ياقوت الحوي ـ ج2ص185
[73] سير أعلام النبلاء ج 1ص 419
[74] حققه شعيب الأرناؤوط وحسين الأسد- طبع مؤسسة الرسالة –بيروت 1413
[75] تاريخ الخلفاء للسيوطي ج 1ص200
[76] أي ابن عساكر
[77] شرح نهج البلاغة ج 3ص 113
[78] تاريخ الخلفاء-السيوطي- ج1ص 202
[79] المستطرف في كلّ فنّ مستظرف ج1ص99
[80] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 2ص 223
[81] شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ج 2 ص 225
[82] أنساب الأشراف للبلاذريّ ص 303
[83] العقد الفريد ـ ابن عبد ربّه ـ ج 3ص 110 تحت الرقم :( 12 )
[84] أنساب الأشراف ص 305
[85] حلية الأولياء ـ أبو نعيم ـ ج9ص145
[86] . قال ابن منظور في لسان العرب ج 15ص 154 : يفري الفري إذا كان يأتي بالعجب في عمله.
[87] الأدب المفرد ـ البخاري ـ ج1ص354
[88] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ـ ج1ص21
[89] شذرات الذهب ـ ابن العماد ـ ج1ص65
[90] هذا الكلام من ابن العماذ يكذّبه الواقع، فإنّ سيرةمعاوية بن ابي سفيان كانت أبشع سيرة عرفها تاريخ المسلمين لما كان فيها من إرهاب فكري يشهد له قتل عمرو بن الحمق وحجر بن عديّ وغيرهما؛ وقد كان معاوية يصرّح بلعن من يحبّهم النّبيّ (صلى الله عليه وآله ويمنع الناس من الحديث في فضائل أهل البيت عليهم السلام.
[91] تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكرـ ج 59ص 61
[92] طالما ضحك معاوية على العقول، يحتفظ بقميص النّبيّ صلى الله عليه و آله وردائه وشعره ولكنّه لا يتورّع عن محاربة أحبّ الخلق إليه وقتل حبيبه سيد شباب أهل الجنّة بالسّم.وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله لعليّ وفاطمة والحسن والحسين " سلمكم سلمي وحربكم حربي " ، فمعاوية يحارب النّبيّ (صلى الله عليه وآله ويحتفظ بقميصه وشعره !!
[93] أين هذا من قول عليّ عليه السلام " فزت ورب الكعبة " ؟
[94] حلية الأولياء ـ أبو نعيم ـ ج9ص154/155
4 وعلى سبعة أميال من السقيا بئر الطلوب وهي بئر عادية وهي التي اطلع فيها مُعاويَة فأصابته اللقوة فأغذ السير إلى مكة /معجم ما استعجم ج3ص955
[96] قال الخليل : داء يأخذ في الوجه يعوجّ منه الشّدْق . ورجل ملقوّ قد لقي . كتاب العين - الخليل الفراهيدي ج 5 ص 212
[97] إنّ صحّت نسبة هذا الكلام إلى معاوية فهو أيضاً داخل في مغالطاته، لأنّه يعني أنّه وُلد عام الهجرة ولم يقل به أحد ، وإلاّ كان عمره يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله إحدى عشرة سنة!وكيف
يعقل أن تستشير فاطمة بنت قيس النّبيّ(صلى الله عليه وآله في الزّواج من غلام عمره إحدى عشرة سنة؟!
[98] كتاب حسن الظن بالله لابن أبي الدّنْيا ص 106
[99] سير أعلام النبلاء ـ الذهبي ـ ج3 ص160/161
[100] الآحاد والمثاني ـ ابن أبي عاصم ـ ج 1ص 378
[101] يحتمل أيضاً أن يكون التحريف من الناسخ ..
[102] الآحاد والمثاني ج 1ص 379تحت رقم ( 516)
[103] الآحاد والمثاني ابن أبي عاصم ج 1ص 382
[104] الآحاد والمثاني ابن أبي عاصم ـ ج 1ص393
[105] الآحاد والمثاني ج 2 ص 59 تخت رقم 753
[106] خزانة الأدب لتقي الدين الحموي ج1ص139
[107] الأدب المفرد ـ البخاري ـ ج1ص438
[108] أدب الكاتب ـ ابن قتيبة ـ ج1ص11
[109] معجم البلدان ـ ياقوت الحموي ـج4 ص12
[110] يتربّع من الربيع أي يقضي فصل الربيع و يتقيظ من القيظ وهو الحرّ ويقصد به هنا فصل الصيف ويشتو من الشتاء أي يقضي فصل الشتاء.
[111] المستطرف في كل فن مستظرف ج1ص346
[112] الحافظ الإمام الكبير أبو زكريّا ابن المحدّث الثّقة أبي يحيى الحمّاني الكوفيّ صاحب المسند الكبير. قال عن مُعاويَة بن أبي سُفْيان : : إنّه مات على غير ملّة الإسْلام ! ذكر ذلك العقيلي.
[113] المستطرف في كل فن مستظرف ج1ص392
[114] قال ابن منظور في لسان العرب ج 7ص 434 والوهط : المكان المطمئن من الأرض المستوي ينبت فيه العضاه والسمر والطلح والعرفط ، وخص بعضهم به منبت العرفط ، والجمع أوهاط ووهاط . ويقال لما اطمأن من الأرض وهطة ، وهي لغة في وهدة ، والجمع وهط ووهاط ، وبه سمي الوهط . ويقال : وهط من عشر ، كما يقال : عيص من سدر . وفي حديث ذي المشعار الهمداني : على أن لهم وهاطها وعزازها ، الوهاط : المواضع المطمئنة ، واحدتها وهط ، وبه سمي الوهط مال كان لعمرو بن العاص ، وقيل : كان لعبد الله بن عمرو بن العاص بالطائف ، وقيل : الوهط موضع ، وقيل : قرية بالطائف . والوهط : ما كثر من العرفط .
2 المستطرف في كل فن مستظرف ج1ص408
[115] تاريخ ابن خَلْدُون ج3ص4
[116] نفس المصدر ج2ص21
[117] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد- ج 1ص 231
[118] الحديث رواه مسلم (ج6ص20) و البخاري في صحيحه ج8ص88 و105وفي سنن النسائي ج7ص123 وسنن البيهقي ج8ص156و157و وسنن الدارمي ج2ص241 و مجمع الزوائد ج1ص324 وج 5ص218 وما بعدها وهو أيضا في مسند أحمد ج1ص297و310ومسند أحمد ج2ص70و83 و93 و123 و154وج3ص445وج4ص96 ومسند أبي داوود ص259 ومصنف عبد الرزاق ج2ص 379 و مصنف ابن أبي شيبة ج 8ص598و605 ومسند ابن راهويه ج1ص192 تفسير القرطبي ج14 ص56 وتفسير ابن كثير ج1ص518والمعيار و الموازنة لأبي جعفر الإسكافي ص24 ومسند ابن الجعد ص330 .