* العراق - الموصل
* مواليد عام (1953م)
* اعتنق التشيع عام (1993م)
مؤلف كتاب (لا تخونوا الله والرسول)
لا تخونوا الله والرسول: دراسة نقدية لآراء الشيخ محمد بن عبد الوهاب في
كتابه (رسالة في الرد على الرافضة).
* ولد في مدينة الموصل بالعراق عام 1953م في أسرة تعتنق المذهب الشافعي.
* حصل على شهادة البكالوريوس في قسم اللغة العربية من كلية التربية في
جامعة صلاح الدين عام 1989م.
* اعتنق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) عام 1993.
* له من الكتب:
(تاريخ التشيع في الموصل) مخطوط.
(الصحوة- رحلتي إلى الثقلين) دراسة تحليلية موضوعية ومناقشة للقاضي أبي
بكر بن العربي في كتابه العواصم من القواصم ولعدد آخر من العلماء والمؤرخين،
سيصدر ضمن هذه السلسلة عن مركز الأبحاث العقائدية.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين
محمد وآله الطيبين الطاهرين.
إن من الأمور المزعجة حقاً أن يجد المرء نفسه مضطراً إلى ترديد مقالة
سبق له ولغيره أن رددها من قبل، ولكن لا حيلة في ترديدها وهو يجد نفسه مضطراً
لتفنيد المزاعم التي لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وإبطال بعض الادعاءات التي
تصدر بين آونة وأخرى عن ناعق هنا وآخر هناك، فإن البعض قد دأب على ترديد هذه
المقالات خلفاً عن سلف دون كلل وعلى امتداد عدة قرون، فيجد المرء نفسه مضطراً
للرد على هذه المقولات السقيمة مرة بعد مرة.
في فترة انشغالي بتأليف كتابي الأول (الصحوة) الذي شرعت فيه بطلب من
مركز الأبحاث العقائدية، لفت هذا المركز نظري إلى رسالة للشيخ محمد بن عبد
الوهاب عنوانها (رسالة في الرد على الرافضة) يتهجم فيها بشدة على اتباع مذهب
أهل البيت (عليهم السلام) ، والتي قام بتحقيقها الدكتور ناصر سعيد الرشيد.
جاء في أول الكتاب:
فهذا مختصر مفيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب تغمده الله بالرحمة والرضوان
في بعض قبائح الرافضة الذين رفضوا سنة حبيب الرحمن واتبعوا في غالب أمورهم
خطوات الشيطان، فضلوا وأضلوا عن كثير من موجبات الإيمان بالله وسعوا في
البلاد بالفساد والطغيان يتولون أهل النيران ويعادون أصحاب الجنان نسأل الله
العفو عن الافتتان من قبائحهم.
والرسالة تسير على نفس النسق ويزيد عليه ما فيها من السباب المقذع الذي
يترفع عنه العوام فكيف بمن يدعي مشيخة الإسلام. والرسالة لم تكن غريبة علي،
فقد كنت مطلعاً عليها قبل أكثر من عشر سنوات، وهي فضلاً عن أسلوبها البذيء
تضم مجموعة لا تحصى من الافتراءات التي يتقولها الشيخ محمد بن عبد الوهاب على
طائفة كبيرة ربما تنيف على ربع عدد المسلمين في العالم هذا اليوم، فضلاً على
أن الرسالة تكشف عن جهل فاضح لمؤلفها بمعتقدات هذه الطائفة، وكذلك بمصادرها،
حيث ينسب الشيخ أقوالاً وكتباً إلى بعض مؤلفي الشيعة وزعماء الطائفة لا تصح
نسبتها إليهم، ويخلط الأوراق -كما يفعل كل حاطب ليلٍ- ويكشف الشيخ عن جهله
حتى بمصادر أهل السنة أيضاً، إذ ينسب إلى الشيعة بعض الأقوال التي كثيراً ما
تكون موجودة في مصادر أهل السنة أيضاً، والتي قد يستشهد بها علماء الشيعة
ومتكلموهم إلزاماً للخصم بما عنده في باب المحاججة.
وقد استنكفت في بداية الأمر عن الرد على هذه الرسالة المتهافتة التي لا
تستحق أن يوليها المرء أي اهتمام، لولا أن المركز نبهني إلى أن هذه الرسالة
ما تزال متداولة ويعاد طبعها ضمن مؤلفات محمد بن عبد الوهاب، وأن هناك الكثير
من المسلمين من ينخدع ويصدقها، وتذكرت أنني كنت أيضاً ممن يصدقون بما جاء في
هذه الرسالة عندما كنت منخرطاً في سلك إحدى الجماعات السلفية التي تحمل هذه
الأفكار وتتبناها، وعندها قررت الشروع بالرد على ما جاء فيها حتى قبل الفراغ
من كتاب (الصحوة) الذي هو الآن في طريقه إلى الطبع.
ورسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تتألف من اثنين وثلاثين مطلباً وخاتمة،
ويغلب على بعض مطالبها التكرار الممل في بعض الموارد، لذا ارتأيت أن أجمع بعض
المطالب أو بعض فقراتها في مطلب واحد متصدياً لأدلته، ناقضاً ما فيها من
افتراءات ومزاعم بحول الله وقوته، ولسوف يلاحظ القارئ الكريم مدى تهافت هذه
الرسالة وضعف أدلة الشيخ لقصر باعه في العلم، مما يدفعه إلى تغطية عجزه بسيل
من الشتائم التي يطلقها كما هي عادة الضعفاء، ومن الله نستمد العون والرشاد
ونعوذ به من زيغ القلوب وزلات اللسان.
الفصل الأول
الخلافة:
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ضمن (مطلب الوصية بالخلافة):
إن مفيدهم ابن المعلم قال في كتابه (روضة الواعظين): إن الله أنزل جبريل
على النبي (صلى الله عليه وآله) بعد توجهه إلى المدينة في الطريق في حجة
الوداع فقال: يا محمد، إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: انصب علياً
للإمامة، ونبه أمتك على خلافته، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : (يا أخي
جبريل إن الله بغض أصحابي لعلي، إني أخاف منهم أن يجتمعوا على إضراري، فاستعف
لي ربي) فصعد جبريل وعرض جوابه على الله تعالى فأنزل الله تعالى مرة أخرى
وقال للنبي (صلى الله عليه وآله) مثلما قال أولاً فاستعفى النبي (صلى الله
عليه وآله) كما في المرة الأولى، ثم صعد جبريل فكرر جواب النبي (صلى الله
عليه وآله) فأمره الله بتكرير نزوله معاتباً له مشدداً عليه بقوله: (يا أيها
الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)، فجمع أصحابه
وقال: (يا أيها الناس، إن علياً أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، ليس لأحد
أن يكون خليفة بعدي سواه، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد
من عاداه) انتهى.
فانظر أيها المؤمن إلى حديث هؤلاء الكذبة الذي يدل على اختلاقه ركاكة
ألفاظه وبطلانٍ أغراضه ولا يصح منه إلا: (من كنت مولاه) ومن اعتقد منهم صحة
هذا فقد هلك، إذ فيه اتهام المعصوم قطعاً من المخالفة بعدم امتثال أمر ربه
ابتداءاً وهو نقص، ونقص الأنبياء (عليهم السلام) الكفر.
هناك أمران ينبغي ذكرهما رداً على مقالة الشيخ:
أولهما: إننا تحققنا من مؤلفات الشيخ الملقب بابن المعلم، فلم نجد له
كتاباً يحمل عنوان روضة الواعظين! إذ أن هناك أربعة كتب للشيعة تحمل هذا
العنوان وهي كالآتي:
1- روضة الواعظين في أحاديث الأئمة الطاهرين، للسيد هاشم بن إسماعيل
الكتكاني البحراني.
2- روضة الواعظين في شرح الأحاديث الأربعين عن سيد المرسلين، للمولى
مسكين الفراهي.
3- روضة الواعظين وبصيرة المتعظين، للشيخ السعيد الشهيد أبي علي محمد بن
علي بن أحمد الحافظ الواعظ الفارسي أبو محمد بن احمد بن علي الفتّال
النيسابوري المعروف بابن الفارسي.
4- روضة الواعظين بالحق اليقين، فارسي في المواعظ وأحوال الأئمة مختصراً
في سبع وعشرين فصلاً وخاتمة.
فمن هذا يتبين بجلاء أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يجهل كل شيء عن الشيخ
المفيد وعن مؤلفاته، وإنه إنما يرجم بالغيب عن غير بصيرة.
أما الأمر الثاني: فلو أننا افترضنا أن هذه الرواية موجودة في كتب
الشيعة، فهل انفرد الشيعة بروايتها، أم أن أهل السنة يروون ما في معناها في
كتبهم وتفاسيرهم أيضاً؟.
ولكي يعرف القارئ الكريم أن جهل الشيخ ابن عبد الوهاب لا يقتصر على عدم
معرفته بمصنفات الشيعة بل يتعداه إلى الجهل بمصنفات أهل السنة أيضاً، نورد
طائفة مما أخرجه أئمة أهل السنة فيما يتعلق بهذا الأمر:
1- عن الحسن، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (بعثني الله تعالى
برسالةٍ ضقت بها ذرعاً، وعرفت أن من الناس من يكذبني، وكان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) يهاب قريشاً واليهود والنصارى، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
2- عن مجاهد قال: لما نزلت (بلغ ما أنزل إليك من ربك) قال: يا رب إنما
أنا واحد كيف أصنع يجتمع علي الناس؟ فنزلت (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته).
3- عن ابن عباس في قوله: (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) يعني إن كتمت
آية مما أنزل إليك لم تبلغ رسالته.
وقال القرطبي: قيل معناه: أظهر التبليغ، لأنه كان في أول الإسلام يخفيه
خوفاً من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من
الناس.
وقال ابن قتيبة: والذي عندي في هذا أن فيه مضمراً يبينه ما بعده، وهو أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يتوقى بعض التوقي ويستخفي ببعض ما يؤمر
به على نحو ما كان عليه قبل الهجرة، فلما فتح الله مكة، وأفشى الإسلام، أمره
أن يبلغ ما أرسل إليه مجاهراً به غير متوق ولا هائب ولا متألف. وقيل له: إن
أنت لم تفعل ذلك على هذا الوجه لم تكن مبلغاً لرسالات ربك، ويشهد لهذا قوله
بعد: (والله يعصمك من الناس)أي يمنعك منهم.
وقال الفخر الرازي: وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان أيام إقامته
بمكة يجاهر ببعض القرآن ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من تسرع المشركين إليه
وإلى أصحابه، فلما أعز الله الإسلام وأيده بالمؤمنين قال له: ( يا أيها
الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) أي لا تراقبنَّ أحداً ولا تترك شيئاً مما
أنزل إليك خوفاً من أن ينالك مكروه.
يتبين مما سبق أن روايات أهل السنة تحمل اتهام النبي (صلى الله عليه
وآله) بالمخالفة وعدم امتثال أمر ربه ابتداءً.
سبب نزول الآية:
أما بشأن النزول في ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
فنورد بعض الروايات التي أخرجها أئمة أهل السنة بهذا الشأن ونعرض عن الباقي
لكثرته.
1- أخرج الواحدي والسيوطي وابن عساكر والعيني والشوكاني وابن الصباغ
المالكي عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت هذه الآية (يا أيها الرسول بلغ ما
أنزل إليك) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم في علي بن أبي
طالب.
2- وقال الفخر الرازي: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب، ولما نزلت
هذه الآية أخذ بيده وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد
من عاداه) فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل
مؤمن ومؤمنة، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي.
وقال السيوطي والشوكاني: وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ
على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك
من ربك) أن علياً مولى المؤمنين، ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك
من الناس) .
تواتر حديث الغدير:
أما ادعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه لا يصح من حديث الغدير إلا قوله
(صلى الله عليه وآله) : (من كنت مولاه) فهذا مما يدعوا إلى العجب من قلة
اطلاع الشيخ وقصر باعه في علوم الحديث، لأن أئمة الحديث وحفاظه قد صححوا من
الحديث أكثر مما يدعيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد نقل الحافظ ابن كثير
الدمشقي عن الحافظ شمس الدين الذهبي قوله: وصدر الحديث متواتر أتيقن أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قاله، وأما (اللهم وال من ولاه) فزيادة قوية
الإسناد.
كما اعترف بتواتره الحافظ ابن الجزري بروايته عن أبي ليلى، قال سمعت
علياً L بالرحبة ينشد الناس: من سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: (من
كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) فقام اثنا عشر
بدرياً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول ذلك، هذا حديث
حسن من هذا الوجه، صحيح من وجوه كثيرة، متواتر عن أمير المؤمنين علي، وهو
متواتر أيضاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، رواه الجم الغفير، ولا عبرة
بمن حاول تضعيفه مما لا اطلاع له في هذا العلم.
وقال الحافظ ابن حجر الهيتمي المكي: وقول بعضهم إن زيادة (اللهم وال من
والاه) إلى آخره موضوعة، مردود، فقد ورد ذلك عن طرق صحح الذهبي كثيراً منها.
ثم قال: قال (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم: (من كنت مولاه فعلي
مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) الحديث وقد مر في حادي عشر الشبه،
وأنه رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثون صحابياً، وأن كثيراً من طرقه
صحيح أو حسن.
كما أثبت تواتر حديث الغدير وصحة تكملته عدد كبير من الحفاظ الثقات.
ومن أراد المزيد من التفصيل فعليه بكتاب (الغدير) للعلامة الأميني (رض)
وكتاب (نفحات الأزهار) للسيد علي الميلاني (دام ظله) إذ يجد فيهما أسماء
الحفاظ والعلماء الذين أخرجوا الحديث بمختلف طرقه.
النص على الخلافة:
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
وليس في قوله: (من كنت مولاه) أن النص على خلافته متصلة، ولو كان نصاً
لادعاها علي L ، لأنه أعلم بالمراد، ودعوى ادعائها بطل ضرورة، ودعوى علمه
يكون نصاً على خلافتك وترك ادعائها تقية أبطل من أن يبطل.
ما أقبح ملة قوم يرمون إمامهم بالجبن والخور والضعف في الدين مع أنه من
أشجع الناس وأقواهم.
لا شك أن ادعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يستند على الواقع، فالمطلع
على السنة النبوية في كتب أهل السنة نفسها، يجد من الشواهد الصحيحة ما يدعم
قول الإمامية بأن حديث الغدير هو استخلاف مباشر من النبي (صلى الله عليه
وآله) لأمير المؤمنين بلا فصل.
وقد وردت في مصادر الشيعة روايات صحيحة تثبت الخلافة لأمير المؤمنين
(عليه السلام) ولأولاده المعصومين بأسمائهم، لكنني سأعرض عن تلك الروايات
مكتفياً بالشواهد التي وردت في كتب أهل السنة التي أخرجها حفاظهم ومحدثوهم
واعترفوا بصحتها لأن فيها الكفاية:
1- أخرج أبو داود الطيالسي بسند صحيح قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بلج،
عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي:
(أنت ولي كل مؤمن من بعدي).
2- أخرج هذا الحديث ابن عبد البر بنفس السند وقال: هذا إسناد لا مطعن
فيه لأحد لصحته وثقة نقلته.
3- أخرج ابن أبي شيبة الحديث من طريق آخر قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا
جعفر بن سليمان، قال: حدثني يزيد الرشك، عن مطرف، عن عمران بن حصين قال: بعث
رسول الله (صلى الله عليه وآله) سرية واستعمل عليهم علياً، فصنع علي شيئاً
أنكروه، فتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يعلموه،
وكانوا إذ قدموا من سفر بدؤوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) فسلموا عليه
ونظروا إليه ثم ينصرفون إلى رحالهم، قال: فلما قدمت السرية سلموا على رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم تر أن
علياً صنع كذا وكذا؟ فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) -يعرف في وجهه
الغضب - فقال: (ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ علي مني وأنا من علي،
وعلي ولي كل مؤمن بعدي).
4- أخرجه أحمد بن حنبل بنفس السند وفيه: (دعوا علياً، دعوا علياً، إن
علياً مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي).
5- أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن
سليمان.
6- وأخرجه النسائي بنفس السند.
7- الحافظ أبو يعلى الموصلي.
8- الطبري، كما في كنز العمال.
9- ابن حبان، كما عن الرياض النضرة.
10- الطبراني.
11- الحاكم.
12- اخرج الخطيب البغدادي الحديث بطريق آخر قال: أخبرنا أبو محمد عبد
الله بن علي بن عياض بن أبي عقيل القاضي -بصور- أخبرنا محمد بن أحمد بن جميع
الغساني، أخبرنا أبو عبد الله محمد العطاء -ببغداد- حدثنا أحمد بن غالب بن
الأحلج بن عبد السلام -أبو العباس- حدثنا محمد بن يحيى بن الضريس، حدثنا عيسى
بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله) : (سألت الله فيك خمساً فأعطاني أربعاً ومنعني واحدة:
سألته فأعطاني فيك: أنك أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة، وأنت معي
معك لواء الحمد، وأنت تحمله، وأعطاني انك ولي المؤمنين من بعدي).
13- الحافظ ابن عساكر.
14- الحافظ ابن الأثير.
15- المتقي الهندي، وفيه (علي مني وأنا من علي، وعلي ولي كل مؤمن من
بعدي) وقال: (ش عن عمران بن حصين، صحيح).
فهذه النصوص الصحيحة وغيرها -مما لم أذكره- تقطع بولاية أمير المؤمنين
(عليه السلام) على المسلمين كافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهذا
يقتضي عدم الفصل، لأنه لم يرد استثناء أحد من الدخول في الولاية قطعاً، رغم
أن البعض حاول أن يدعي أن لفظة بعدي تعني البعدية المطلقة ولا يراد البعدية
المباشرة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) .
ولكن- وكما يقول الأستاذ مروان خليفات- ماذا نفعل بلفظ (كل) في قول
النبي (صلى الله عليه وآله) : (وهو ولي كل مؤمن بعدي)؟ أليست هي من ألفاظ
العموم؟ إذاً فعلي ولي كل مؤمن بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وإن كان فيهم
أبو بكر وعمر وعثمان.
قعود أمير المؤمنين (عليه السلام) :
أما لماذا قعد أمير المؤمنين (عليه السلام) عن حقه ولم يطالب القوم به؟
فالواقع يثبت أنه لم يقعد عنه في بداية الأمر، لأن في امتناعه عن مبايعة أبي
بكر مدة ستة أشهر دليلاً على ذلك، وقد اثبت ذلك معظم المؤرخين والمحدثين،
ويكفينا في هذا المقام الاستشهاد برواية الصحيحين -باعتبارهما أقوى مصادر أهل
السنة- لإثبات ذلك مما اتفق الشيخان على إخراجه، واللفظ للبخاري:
عن عائشة، أن فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر
تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس
خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لا نورث ما
تركنا صدقة)، إنما يأكل آل محمد (عليهم السلام) في هذا المال وإني والله لا
أغير شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كان في عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ، فأبى أبو بكر لأن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على
أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه
وآله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر،
وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه
الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل الى
أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن أئتنا ولا
يأتنا أحد معك، كراهية لمحضر عمر، فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك،
فقال أبو بكر: وما عيستهم أن يفعلوا بي، والله لآتيناهم، فدخل عليهم أبو بكر،
فتشهد علي، فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً
ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله
(صلى الله عليه وآله) نصيباً، حتى فاضت عينا أبي بكر، فلما تكلم أبو بكر قال:
والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحب إلي أن أصل من
قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير، ولم
أترك أمراً رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنعه فيها إلا صنعته، فقال
علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر
فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر
وتشهد علي فعظم حق أبي بكر وحدث أنه لم يحمل على الذي صنع نفاسة على أبي بكر
ولا إنكاراً للذي فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبد
علينا، فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت، وكان المسلمون إلى
علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف.
الملاحظ على هذه الرواية، أن فيها اعترافاً صريحاً بأن أمير المؤمنين
(عليه السلام) لم يبايع أبا بكر طيلة ستة أشهر، وليست قضية ميراث الزهراء
(عليها السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله) هي السبب في تأخير بيعة أمير
المؤمنين لأبي بكر -كما يوحي كلام أبي بكر بذلك وكما ادعى البعض- إذ أن كلام
أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكد أن السبب هو استبداد أبي بكر بالأمر من
مستحقيه الحقيقيين.
أما لماذا بايع أمير المؤمنين في نهاية الأمر، فلأنه نظر إلى مصلحة
الإسلام العليا فقدمها على حقه خوفاً من ذهاب الإسلام كله بحدوث فتنة لا تبقي
ولا تذر، ففضل التضحية بشطر الأمر بدلاً من التضحية بكله، وقد بين سيدنا
الإمام شرف الدين الأمر بشكل جلي حيث قال:
(السلف الصالح لم يتسن له أن يقهرهم يومئذٍ على التعبد بالنص فرقاً من
انقلابهم إذ قاومهم وخشية من سوء عواقب الاختلاف في تلك الحال، وقد ظهر
النفاق بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقويت بفقده شوكة المنافقين وعتت
نفوس الكافرين وتضعضعت أركان الدين، وانخلعت قلوب المسلمين وأصبحوا بعده
كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية بين ذئاب عادية ووحوش ضارية، وارتدت طوائف
من العرب، وهمت بالردة أخرى، فأشفق علي (عليه السلام) في ذلك الظرف أن يظهر
إرادة القيام بأمر الناس مخافة البائقة وفساد العاجلة، والقلوب على ما وصفنا،
والمنافقون على ما ذكرنا، يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وأهل الردة على ما
بينا، والأمم الكافرة على ما قدمنا، والأنصار قد خالفو المهاجرين وانحازوا
عنهم يقولون منا أمير ومنكم أمير، فدعاه النظر للدين إلى الكف عن طلب الخلافة
والتجافي في الأمور، علماً منه أن طلبها والحال هذه يستوجب الخطر بالأمة
والتغرير في الدين، فاختار الكف إيثاراً للإسلام وتقديماً للصالح العام
وتفضيلاً للآجلة على العاجلة، غير أنه قعد في بيته -ولم يبايع حتى أخرجوه
كرهاً- احتفاظاً بحقه واحتجاجاً على من عدل عنه، ولو أسرع إلى البيعة ما تمت
له حجة ولا سطع له برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين، والاحتفاظ بحقه
من إمرة المؤمنين، فدل هذا على أصالة رأيه ورجاحة حلمة وسعة صدره وإيثاره
المصلحة العامة، ومتى سخت نفس امرئ عن هذا الخطب الجليل والأمر الجزيل، ينزل
من الله تعالى بغاية منازل الدين، وإنما كانت غايته من فعل أربح الحالين له
وأعود المقصودين عليه، بالقرب من الله عز وجل).
أما قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن في ذلك اتهاماً من الشيعة لإمامهم
بالجبن -والعياذ بالله- فنقول: لقد كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) في
هارون (عليه السلام) أسوة حسنة حين قال كما في قوله تعالى: ( قال يا ابن أم
إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) .
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل
بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى وشربت على الشجا وصبرت على أخذ
الكظم وعلي أمرّ من طعم العلقم).
الفصل الثاني
خلافة الخلفاء:
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
ومنها إنكارهم صحة خلافة الصديق ، وإنكارها يستلزم تفسيق من بايعه
واعتقد خلافته حقاً، وقد بايعه الصحابة (رضي الله عنهم) حتى أهل البيت كعلي ،
وقد اعتقدها حقاً جمهور الأمة.
ثم ساق الشيخ عدداً كبيراً من الروايات للتدليل على صحة خلافة أبي بكر
وهي:
1- عن علي قال: دخلنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلنا: يا
رسول الله، استخلف علينا، قال: (إن يعلم الله فيكم خيراً يول عليكم خيركم)،
فقال علي: فعلم الله فينا خيراً فولى علينا خيرنا أبا بكر.
رواه الدار قطني، وهذا أقوى حجة على من يدعي موالاة علي .
2- وعن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
فأمرها أن ترجع إليه فقالت: إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت، قال: (إن لم
تجديني فأتي أبا بكر).
رواه البخاري ومسلم.
3- عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
تسأله شيئاً، فقال: (تعودين)، فقالت: يا رسول الله إن عدت فلم أجدك -تعرض
بالموت- فقال: (إن جئت فلم تجديني فأتي أبا بكر فإنه الخليفة من بعدي).
رواه ابن عساكر.
4- وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: (يكون خلفي اثنا عشر خليفة
أبو بكر لا يلبث الا قليلاً).
رواه البغوي بسند حسن.
5- وعن حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (اقتدوا
باللذين بعدي أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما).
رواه أحمد والترمذي وحسنه ابن ماجة والاكم وصححه ورواه الطبراني عن أبي
الدرداء والحاكم عن ابن مسعود.
6- وعن حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (إني لا أدري
ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)،
وتمسكوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه).
رواه احمد وغيره.
7- وعن انس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (اقتدوا باللذين
من بعدي أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، واهتدوا بهدي عمار،وتمسكوا بعهد ابن
مسعود).
رواه ابن عدي.
8- وعنه: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن
أسأله: إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ فقال: (إلى أبي بكر).
رواه الحاكم وصححه.
9- وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في مرضه الذي مات فيه: (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن
يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر).
رواه مسلم وأحمد،وهذا الحديث يخرج من يأبى خلافة الصديق عن المؤمنين.
10- عن علي قال: قال رسولا لله (صلى الله عليه وآله) : (سألت الله ان
يقدمك ثلاثاً فأبى الله إلا تقديم أبي بكر)، وفي رواية زيادة: (ولكني خاتم
الأنبياء وأنت خاتم الخلفاء).
رواه الدارقطني والخطيب وابن عساكر.
11- وعن سفينة قال: لما بنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسجد وضع
في البناء حجراً وقال لأبي بكر: (ضع حجرك إلى جنب حجري)، ثم قال لعمر: (ضع
حجرك الى جنب حجر أبي بكر) ثم قال: (هؤلاء الخلفاء بعدي).
رواه ابن حبان، وقال أبو زرعة: إسناده قوي لا بأس به والحاكم وصححه
والبيهقي.
12- روي في تفسير قوله تعالى: ( وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه) ،
الأخبار بخلافة أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، قيل يشير إلى خلافة الصديق،
قوله تعالى: ( ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في
الدنيا والآخرة واولئك هم أصحاب النار هم فيها خالدون) ، لأنه هو الذي جاهد
أهل الردة.
13- قوله تعالى: ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون الى قوم أولي بأس شديد
تقاتلونهم او يسلمون) الآية، لأنه هو الذي باشر قتال بني حنيفة الذين كانوا
من أشد الناس حين ارتدوا.
وقوله تعالى: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم
في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن دينهم الذي ارتضى لهم) الآية،
وقد مكن الاسلام بأبي بكر وعمر فكانا خليفتين، لوجود صدق وعد الله تعالى.
وما صح من قوله (صلى الله عليه وآله) : (الخلافة بعدي ثلاثون)، وفي بعض
الروايات: (خلافة رحمة)، وفي بعضها: (خلافة النبوة).
14- وما صح من أمره (صلى الله عليه وآله) أبا بكر في مرضٍ موته بإمامة
الناس، وهذا التقديم من أقوى إمارات حقيقة خلافة الصديق، وبه استدلال إجلاء
الصحابة كعمر وأبي عبيدة وعلي (رضي الله عنهم جميعاً).
فهذه وما شاكلها تسوّد وجوه الرافضة والفسقة المنكرين خلافة الصديقL
.
تناقض النصوص:
إن القارئ إذا أمعن النظر في هذه النصوص التي نسبت إلى النبي (صلى الله
عليه وآله) زوراً وبهتاناً، على أنها النصوص الدامغة -على خلافة الخلفاء
الثلاثة الأولين - يستطيع ان يلاحظ بكل جلاء أنها تناقض بعضها البعض، ويكذبها
الواقع وسير الحوادث التاريخية في عصر صدر الاسلام، وآثار الواضع واضحة
عليها.
إن من الامور المتسالم عليها عند جمهور أهل السنة أن النبي (صلى الله
عليه وآله) لم يوصِ بالخلافة الى أحد من بعده، بل وهم يستندون في ذلك الى
مقولات صدرت من خلفائهم وبخاصة الشيخين أبي بكر وعمر للاستدلال على عدم
استخلاف النبي (صلى الله عليه وآله) أحداً من بعده، فهم ينقلون عن أبي بكر
انه تمنى عند موته لو كان سأل النبي عن ثلاثاً، إحداهما قوله: ليتني كنت
سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب.
وتمنى عمر بن الخطاب ذلك أيضاً بقوله: ثلاث لن يكون رسول الله (صلى الله
عليه وآله) بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها: الخلافة والكلالة والربا.
كما روى الشيخان -واللفظ للبخاري- عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما)
قال: قيل لعمر: ألا تستخلف؟ قال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني -أبو
بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني -رسول الله (صلى الله عليه وآله) -
فأثنوا عليه، فقال: راغب راهب وددت أني نجوت منها كفافاً لا لي ولا علي، لا
أتحملها حياً وميتاً.
فهذه التمنيات وغيرها تدل على ان أياً من أبي بكر أو عمر لم يدع النص
عليه بتاتاً، فضلاً عن أن الحجج التي احتج بها الشيخان على الأنصار في
السقيفة كانت خالية من ادعاء النص.
أو الروايات التي استشهد بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب -ومن سبقه في
ذلك- فهي تناقض نفسها.
وقد أثبت الكثير من علماء أهل السنة وحفاظهم بطلان معظمها!.
1- أن الرواية المتفق عليها -والتي ذكرناها في الفصل السابق- أثبتت أن
أمير المؤمنين (عليه السلام) قد تأخر عن بيعة أبي بكر ستة أشهر لأنه اعتبره
مستبداً عليه، ومعلوم قطعاً أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لو كان قد سمع من
النبي شيئاً مما ادعى عليه في فضل أبي بكر لم تخلف عن بيعته.
2-إن المصادر التي نقلت في خطبة أبي بكر -بعد الاستخلاف- قد اتفقت على
أن ابا بكر قال فيها: إني قد وليت عليكم ولست بخيركم.
وهذا يدل على ان ابا بكر لم يكن يرى لنفسه هذه الأفضلية المزعومة.
3- ذكرت مصادر أهل السنة وصحاحهم أن عمر بن الخطاب قد اعلن على المنبر
بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها.
ويقيناً لو أن عمر كان قد سمع نصاً أو إشارة من النبي (صلى الله عليه
وآله) على أبي بكر لادعاه، لأنه صاحبه ورفيقه الذي وقف معه بكل حزم، كما أكدت
ذلك المصادر التاريخية.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: وعمر هو الذي شد بيعة أبي بكر ووقع
المخالفين فيها، فكسر سيف الزبير لما جرده ودفع في صدر المقداد ووطئ في
السقيفة سعد بن عبادة وقال: اقتلوا سعداً قتل الله سعداً، وحطّم أنف الحباب
بن المنذر الذي قال يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، وتوعد من
لجأ إلى دار فاطمة (عليها السلام) من الهاشميين وأخرجهم منها، ولولاه لم يثبت
لأبي بكر أمر ولا قامت له قائمة.
أما الروايات التي في مقابل الرواية الصحيحة عن ذؤيب: أن النبي (صلى
الله عليه وآله) لما حضر قالت صفية: يا رسول الله، لكل امرأة من نسائك أهل
تلجأ إليهم، وإنك أجليت أهلي، فإن حدث حدثٌ فإلى من؟ قال: (الى علي بن أبي
طالب).
فهذه الرواية الصحيحة تثبت حجتنا بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد
وكّل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) رعاية مصالح المسلمين كافة من بعده
-ومنهم أهل بيت النبي وأزواجه- بعد أن نصبه ولياً على الأمة كافة من بعده كما
أثبتنا فيما سبق.
أما الرواية التي وردت على لسان ابن عمر والتي يحدد النبي فيها خلفاءه
باثني عشر، ورد فيها اسم أبي بكر، فإن ذيل الرواية موضوع، إذ وردت الروايات
الصحيحة عن الخلفاء الإثني عشر بدون ذكر اسم أحد في أهم كتب الحديث المعتمدة
عند أهل السنة.
والإمامية يستدلون بهذا الحديث على أن الإثني عشر المذكورين هم الأئمة
المعصومون من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وليسوا غيرهم كما سوف نثبت
ذلك.
وقد حيَّر هذا الحديث حفاظ أهل السنة وشرّاحهم، لأنهم جهدوا في تأويل
هذا الحديث لكي ينطبق على الخلفاء الأربعة وبعض خلفاء بني أمية وحتى بني
العباس، لكنهم عجزوا عن إثبات ذلك.
وسوف أذكر بعض آراء علماء أهل السنة في هذا الحديث، ثم أحاول استخلاص
النتيجة بما يوافق استدلال الشيعة بهذا الحديث على صحة منهجهم.
الخلفاء الإثنا عشر:
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في: (مطلب انحصار الخلافة في اثني عشر):
ومنها دعواهم انحصار الخلافة في اثني عشر، فإنهم كلهم بالنص والإبصار
عمن قلبه، وهذه دعوى بلا دليل مشتملة على كذب،فبطلانها أظهر من أن يبين،
ويتوسلون بها إلى بطلان خلافة من سواهم، في ذلك تكذيب لنصوص وإرادة في خلافة
الخلفاء الراشدين وخلافة قريش.
أما ادعاء الشيخ أن دعوى الشيعة بلا دليل، فسوف نثبت أن دعواهم بدليل،
ولا أدري لماذا لا يكلف الشيخ نفسه بعض الأدلة القوية لإثبات صحة ادعاءاته
ويكتفي بالقول أن بطلان ادعاءات الشيعة أظهر من أن يبين؟!!.
أما قولنا ببطلان خلافة الخلفاء الثلاثة، فسوف نثبت ذلك بالأدلة
الدامغة، و أما النصوص التي يدعيها الشيخ على صحة خلافة الخلفاء الثلاثة،
فنحن بصدد بطلانها في هذا الفصل.
لقد ورد حديث الاثني عشر خليفة من قريش في معظم مصادر أهل السنة وصحاحهم
باختلاف يسير في بعض الألفاظ، حيث وردت عبارات (خليفة، أميراً، رجلاً،
قيّماً) في هذه الروايات، وسوف استشهد ببعض هذه الروايات، ثم أسجل آراء
العلماء والحفاظ في شرح متن هذا الحديث الصحيح:
1- أخرج البخاري عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله)
يقول: (يكون اثنا عشر أميراً) فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنه قال: (كلهم
من قريش).
2- اخرج مسلم عدة روايات، أورد منها هاتين الروايتين:
عن جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه وآله)
فسمعته يقول: (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة)، قال: ثم
تلكم بكلام خفي علي، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: (كلهم من قريش).
وعن جابر بن سمرة أيضاً قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: (لا
يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً)، ثم تكلم النبي (صلى الله
عليه وآله) بكلمة خفيت علي، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله) ؟ فقال: (كلهم من قريش).
3- في سنن الترمذي (يكون من بعدي اثنا عشر أميراً).
4- في سنن أبي داود قريب من ذلك أيضاً.
5- وأخرج الطبراني عن جابر بن سمرة قال: كنت مع أبي عند النبي (صلى الله
عليه وآله) فقال: (يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيّماً لا يضرهم من خذلهم).
وقد تحيّر علماء أهل السنة في تفسير هذا الحديث، فقال ابن كثير: وليسوا
بالاثني عشر الذين يدّعون إمامتهم الرافضة.
وبعد أن يورد الروايات التي في هذا الشأن، يبدأ بالتخبط، فيذكر رأي
البيهقي الذي مفاده أن هذا العدد قد وجد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن
يزيد بن عبد الملك، لكنه يعترف بان الخلفاء الى زمن الوليد بن يزيد اكثر من
اثني عشر على كل تقدير، ثم يقوم بمحاولات أخرى بإسقاط البعض منهم أو إضافة
آخرين، ولكن العدد عنده لا يستقيم مطلقاً، فتارة يبلغون خمسة عشر، وأخرى أكثر
من ذلك.
أما ابن بطال فيروي عن المهلب أنه لم يلق أحداً يقطع في هذا الحديث بشيء
معين.
أما القاضي عياض فيحاول الجمع بين هذا الحديث وحديث (الخلافة ثلاثون
سنة) ثم يقول: وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة ولا بد من تمام العدة قبل قيام
الساعة.
وأما ابن الجوزي فيقول في كشف المشكل: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث
وتطلبت مضانه وسألت عنه فلم أقع على المقصود به، لأن ألفاظه مختلفة، ولا أشك
أن التخليط من الرواة.
وقال ابن المنادي: يحتمل في معنى حديث (يكون اثنا عشر خليفة) أن يكون
هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان.
وأما ابن حجر العسقلاني فيورد الآراء المتقدمة دون أن يعطي نتيجة حاسمة
في الأمر.
أما السيوطي فيقول: وقد وجد من الاثني عشر: الخلفاء الأربعة، والحسن
ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل ان يضم إليهم
المهدي العباسي، لأنه في العباسيين كعمر بن عبد العزيز في الأمويين،و الظاهر
العباسي، أيضاً لما أوتيه من العدل، ويبقى الاثنان المنتظران، أحدهما المهدي
من أهل البيت.
لكن الخلافة الإسلامية سقطت وألغيت ولما يظهر الخليفة الحادي عشر، فمتى
يظهر إذاً؟!.
إن هذا الاضطراب والتخبط كله ناجم عن إعراض أولئك العلماء عن الحقيقة
المتمثلة برأي الإمامية الذين فهموا النص ووضحه لهم أئمتهم الهداة، وهو ان
المقصودين بالأمر ليسوا إلا أئمة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) .
ولقد فهم الكثير من أهل الكتاب ذلك بعد أن وجدوا في التوراة الصفة التي
تنطبق عليهم فاعتنقوا الإسلام على مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، كما يعترف
ابن كثير الدمشقي حيث يقول: وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه: (إن
الله تعالى بشر إبراهيم بإسماعيل وأنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر
عظيماً).
ثم ينقل ابن كثير رأي ابن تيمية بقوله: قال شيخنا العلامة أبو العباس بن
تيمية، وهؤلاء المبشر بهم في حديث جابر بن سمرة -وقرر أنهم يكونون مفرقين في
الأمة- ولا تقوم الساعة حتى يوجدوا، وغلط كثير ممن تشرف بالإسلام من اليهود
فظنوا أنهم الذين تدعوا إليهم فرقة الرافضة فاتبعوهم.
ونحن نقول لابن تيمية: كيف عرفت أنهم يكونون مفرقين في الأمة وليس في
الحديث بمختلف رواياته ما يدل على ذلك؟ وإن أولئك اليهود لم يغلطوا، ولكن أنت
المخطئ، لأنك أسدلت غشاوة التعصب على بصيرتك، وإلا فلماذا لم تبين لنا من هم
أولئك الاثنا عشر إن كنت تدري؟!!.
إن المشكلة التي حيرت العلماء هي لفظة (خليفة) التي وردت في بعض
الروايات، فحاولوا ان يطبقوها على الخلفاء الذين جلسوا على منصة الخلافة بغير
حق، وحاشا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبشر أمته بأئمة الجور
والضلالة من بني أمية وبني العباس.
نحن نعتقد ان لفظة خليفة -وإن كانت لا تعني بالضرورة من يستلم الحكم بعد
النبي كما تدل عليه الآيات القرآنية في استخلاف آدم مثلاً- هي السبب فيعدم
فهم القوم لمعنى الحديث، إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يترك شيئاً لم
يبينه لأمته، فقال في إحدى ألفاظ حديث الثقلين المتواتر: (إني تارك فيكم
الخليفتين من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يتفرقا حتى يردا
علي الحوض).
فالنبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبر أمته بأن الخلفاء من بعده هما:
القرآن الكريم، والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) ، وليس الخلفاء الجبابرة
أو بالأحرى الملوك العتاة من بني أمية وغيرهم، وبهذا فقط ينتهي الأشكال ولا
سبيل إلى غيره.
روايات الاقتداء بالشيخين:
أما الروايات التي أوردها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي فيها الحث
على الاقتداء باللذين من بعده أبي بكر و عمر، وهي كثيرة أخرجها غير واحد من
المحدثين، واستند المتكلمون من أهل السنة في كثير من الأحيان إليها في بيان
حجية الشيخين.
لكن متابعة دقيقة لمتون هذه الروايات وأسانيدها، وطعن كبار العلماء ثم
أهل السنة أنفسهم فيها كافية لإثبات بطلان هذه الروايات.
لقد وردت روايات الاقتداء في بعض السنن والمسانيد، ولم يخرجها الشيخان،
وحيث أن أصحاب السنن والمسانيد لم يخرجوا هذه الأحاديث إلا من رواية حذيفة
وابن مسعود (رضي الله عنهما)، لذا فسوف أكتفي بمناقشة هذه الروايات، واعرض
عما تبقى اختصاراً للوقت.
أما حديث حذيفة فقد أخرجه:
1- الترمذي، قال: حدثنا الحسن بن الصباح البزار، أخبرنا سفيان بن عيينة،
عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله) : (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر).
حدثنا أحمد بن منيع وغير واحد، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد
الملك بن عمير نحوه، وكان سفيان بن عيينة يدلس في هذا الحديث، فربما ذكره عن
زائدة عن عبد الملك بن عمير، وربما لم يذكر فيه زائدة.
وروى سفيان الثوري هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير، عن مولى لربعي، عن
ربعي، عن حذيفة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) .
2- احمد بن حنبل، رواه بنفس الإسناد.
3- ابن ماجة، بنفس الإسناد.
4- الحاكم النيسابوري، بنفس الإسناد.
هذه هي عمدة هذه الروايات عن الاقتداء بالشيخين، وفي جميع أسانيدها، عبد
الملك بن عمير:
قال أحمد: عبد الملك مضطرب الحديث جداً مع قلة روايته، ما أرى له
خمسمائة حديث، وقد غلط في كثير منها.
وقال إسحاق بن منصور: ضعفه أحمد جداً.
وقال إسحاق بن منصور: عن ابن معين: مخلّط.
وقال ابن خراش كان شعبة لا يرضاه، وذكر الكوسج عن احمد انه ضعفه جداً.
وأما ابن الجوزي فذكره، فحكى الجرح وما ذكر التوثيق.
وفي بعض طرق هذا الحديث: حفص بن عمر الإيلي:
قال العقيلي: قال الشيخ: هذا الحديث عن مسعر ليس يرويه غير أبي اسماعيل،
وإنما هذا الحديث عن مسعر بهذا الإسناد: (اقتدوا باالذين من بعدي أبو بكر و
عمر)، ولحفص بن عمر هذا غير ما ذكرت من الحديث، وأحاديثه كلها إما منكر المتن
او منكر الاسناد وهو الى الضعف أقرب.
وإضافة الى ذلك فإن في بعض أسانيد الحاكم (يحيى الحماني):
قال الحافظ الهيثمي: وهو ضعيف.
وأخرج الحاكم النيسابوري الحديث من طريق لآخر، قال:
وقد وجدنا له شاهداً بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود، حدثنا أبو بكر
بن اسحاق، انبأ عبد الله بن احمد بن حنبل، ثنا ابراهيم بن اسماعيل بن يحيى بن
سلمة بن كهيل، ثنا أبي، عن أبيه عن جده، عن أبي الزهراء عن عبد الله بن مسعود
L قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (اقتدوا باللذين من بعدي أبي
بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود).
قال الذهبي في التلخيص: سنده واهٍ.
ونكتفي بشهادة الذهبي.
وأخرجه بنفس الإسناد الترمذي، وقال: يحيى بن سلمة يضعف في الحديث.
كما أخرج الترمذي الحديث عن حذيفة بطريق آخر، قال حدثنا سعيد بن يحيى بن
سعيد الأموي، حدثنا وكيع، عن سالم بن العلاء المرادي، عن عمرو بن هرم، عن
ربعي بن خراش، عن حذيفة L ، قال: كنا جلوساً عند النبي (صلى الله عليه وآله)
فقال: (إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي) وأشار إلى أبي
بكر وعمر.
وفي إسناده سالم بن العلاء المرادي:
قال الذهبي: ضعفه ابن معين والنسائي.
هذه هو حال أقوى الروايات، فناهيك بالأخريات، وتكفينا شهادة ابن حزم إذ
قال: ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصوصاً طاروا به فرحاً
أو أبلسوا أسفاً، لاحتججنا بما روي، اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر،
ولكنه لم يصح، ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح!!!.
قصة الكتاب:
أما الرواية التي استشهد بها شيخ الوهابية عن عائشة حول الكتاب الذي
أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكتبه لأبي بكر، ففيه أمران: الأول: إذا
كان يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، وإن هذا الحديث يخرج من يأبى خلافة أبي
بكر عن المؤمنين، فهذا يعني إخراج جملة من خيرة الصحابة السابقين الأولين
وخيار الأنصار من دائرة الإيمان، وفي طليعتهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ،
وهو رابع الخلفاء الراشدين وأفضل الأمة بعد الخلفاء الثلاثة عند أهل السنة
كما هو معلوم، وقد ثبت ذلك من رواية عائشة المتفق عليها والتي مرت فيما سبق.
كما ويخرج جميع بني هاشم أيضاً من دائرة الإيمان، لأن الزهري أكد أن
أحداً من بني هاشم لم يبايع أبا بكر إلا بعد ستة أشهر.
كما امتنع الزبير بن العوام عن مبايعة أبي بكر، وامتنع عمار بن ياسر
وغيره من السابقين الأولين.
وإذا كان هؤلاء قد بايعوا فيما بعد، فإن الصحابي العظيم سعد بن عبادة لم
يبايع حتى توفي واعترف ابن تيمية نفسه بذلك حيث قال: ولم يتخلف عن بيعته
-يعني أبا بكر- إلا سعد بن عبادة.
الثاني: إن هذه الرواية ليست صحيحة دون شك مهما كان مصدرها، وضعت في
مقابل الرواية الصحيحة التي أخرجها عدد من المحدثين، ففي صحيح البخاري عن
سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس؟! اشتد برسول
الله (صلى الله عليه وآله) وجعه، فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده
أبداً، فتنازعوا -ولا ينبغي عند نبي تنازع- فقالوا: ما شانه يهجر استفهموه،
فذهبوا يردون عليه، فقال: (دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه)،
وأوصاهم بثلاث، قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما
كنت أجيزهم) وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها.
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي (صلى الله عليه وآله) : (هلم
أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده) فقال عمر: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد
غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا،
منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي (صلى الله عليه وآله) كتاباً لن تضلوا
بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (صلى
الله عليه وآله) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (قوموا)، قال عبيد
الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى
الله عليه وآله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
وأخرج البخاري ومسلم عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، قال: لما حضر
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله) : (هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده) فقال
بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف
أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا من بعده،
ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) : (قوموا)، قال عبيد الله: قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما
حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب
لاختلافهم ولغطهم.
قال ابن كثير تعليقاً على الرواية: وهذا الحديث مما قد توهم بعض
الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم كل مدع إنه كان يريد ان يكتب في ذلك
الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم.
لكننا نقول لابن كثير: إن الشيعة يقولون: إن هذا الكتاب لم يكن إلا وصية
النبي (صلى الله عليه وآله) الخطية لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة،
ولذا امتنع بعض من في البيت -وعلى رأسهم عمر بن الخطاب- عن الامتثال لأمر
النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن علموا مقصد النبي (صلى الله عليه وآله)
حتى اتهموه بأنه يهجر.
ولو أننا نظرنا إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله) : (هلم اكتب لكم
كتاباً لا تضلوا بعده) والى قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث الثقلين
الصحيح:
عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (إني تارك
فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الأخر، كتاب الله حبل
ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض،
فانظروا كيف تخلفوني فيهما).
وفي رواية أحمد بن حنبل، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله) : (إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود
من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض).
يتبين لنا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد وضع شرطاً ينجي أمته من
الضلالة إلى الأبد، وهو التمسك بعترته أهل بيته بعد كتاب الله عز وجل، وقد
فهم عمر بن الخطاب ذلك، ففصل بين الكتاب والعترة، وقال: حسبنا كتاب الله.
ومهما كانت التأويلات التي حاول البعض الاعتذار فيها لعمر بن الخطاب عن
موقفه هذا، فإن ذلك لا يغير من الحقيقة شيئاً، ويستطيع المنصف أن يكتشف أن
الشيعة مصيبون في دعواهم بأن مراد النبي (صلى الله عليه وآله) كان أن يكتب
كتاباً يوصي فيه بالخلافة لأهل بيته المتمثلين بعميدهم أمير المؤمنين (عليه
السلام) ، لكن المسلمين ضيعوا تلك الفرصة الذهبية، فكان مصيرهم هذا الاختلاف
الذي نراه اليوم والذي تعود جذوره إلى مئات السنين، وكان أولها اختلافهم في
السقيفة.
فالكتاب المدعى لأبي بكر لا حقيقة له، وإنما وضعته البكرية في مقابل هذا
الكتاب الذي أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يعصم به أمته من الضلالة.
أما الادعاء أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد سأل الله أن يقدم علياً
(عليه السلام) فأبى الله إلا تقديم أبي بكر، فهو في غاية التهافت ويكذبه
الواقع، فلماذا امتنع أمير المؤمنين (عليه السلام) عن بيعته إذاً، وإذا كان
تقديم أبي بكر أمراً إلهياً فهذا ينافي عدم النص على أحد وهو ما لا يقول به
أهل السنة.
تعاقب الخلفاء:
أما رواية الحجارة عند بناء المسجد، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) :
(هؤلاء الخلفاء من بعدي)، فيرده ما ذكرنا سابقاً من احتجاج أهل السنة بعدم
وجود نص، وكلام النبي (صلى الله عليه وآله) هذا نص صريح العبارة، ولعمري لو
وجد هذا النص لاحتج به أبو بكر وعمر في السقيفة، فأين تلك الحجة، وفي أي مصدر
نجدها، فضلاً عن أن في سند الرواية حشرج بن نباتة، وسوف يأتي ترجمته فيما
بعد.
ونذكر بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أغفل ذكر علي بن أبي طالب
(عليه السلام) وعثمان أيضاً في بعض الروايات، فهل يعني ذلك عدم شرعية
خلافتهما؟!.
أما الاحتجاج بالآية الكريمة من سورة التحريم، والادعاء بأنها تعني
الأخبار بخلافة أبي بكر وعمر -فهو من أسقط الاحتجاجات، ويتصادم مع كل النصوص
السابقة التي تظهر النبي وهو يعلن على الملأ أسماء خلفاءه، بينما نجد الآيات
الكريمة من سورة التحريم مشحونة بالتهديد والوعيد لعائشة وحفصة اللتان أفشتا
سر الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فكيف يتفق ذلك مع الادعاء بالنص عن أبي بكر
أو غيره؟ ولماذا يسر النبي بذلك إلى نسائه فقط؟ وأي محذور من الجهر به؟ أحقاً
يستدعي ذلك كل هذا التهديد في قوله تعالى: ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت
قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة
بعد ذلك ظهير) .
وفضلاً عن ذلك فإن التفاسير قد وردت بشأن هذه الآية في قصة المغافير
المشهورة وليس في هذا مجال ذكرها.
أما ادعاء الشيخ أن قوله تعالى: ( ومن يرتد منكم عن دينه) الآية، إشارة
إلى خلافة أبي بكر، لأنه هو الذي جاهد أهل الردة.
فليس صحيحاً، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد تصدى للمرتدين في
حياته، كما أن الآيات عامة، وهي تخاطب الجميع من بينهم الصحابة أنفسهم،
والحكم فيها باق إلى يوم القيامة.
أما استشهاد الشيخ بقوله تعالى: ( قل للمخلفين) الآية، على أنها إشارة
إلى أبي بكر.
فغير صحيح أيضاً، قال الآلوسي: والإنصاف أن الآية لا تكاد تصح دليلاً
على إمامة الصديق ، إلا إن صح غير مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة
ونحوهم، ودون ذلك خرط القتاد.
أما قوله تعالى: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
ليستخلفنهم) الآية، وأن تفسيرها بخلافة أبي بكر وعمر.
فإن ذلك من استنتاجات بعض المفسرين دون الاستناد إلى حديث أو أثر صحيح،
لكن أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) يفسرونها بالاستناد إلى روايات
أئمتهم (عليهم السلام) أنها في المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله) .
روى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين (عليه السلام) انه قرأ الآية
وقال: (هم والله شيعتنا أهل البيت، يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا هو مهدي هذه
الأمة، وهو الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لو لم يبق من الدنيا
إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض
عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً). وروي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد
الله .
سنوات الخلافة:
قول الشيخ: وما صح من قوله (صلى الله عليه وآله) : (الخلافة من بعدي
ثلاثون سنة).
نقول: إن هذا الحديث غير صحيح لأن في سنده:
1- سعيد بن جهمان:
قال أبو حاتم: لا يحتج به.
وقال ابن معين: روى عن سفينة أحاديث لا يرويها غيره، وقال البخاري: في
حديثه عجائب.
2- حشرج بن نباته:
قال النسائي: ليس بالقوي.
قال البخاري: لا يتابع في حديثه -يعني وضعهم الحجارة في أساس مسجده-
وقال: هؤلاء الخلفاء من بعدي، قال البخاري في كتاب الضعفاء له: وهذا لم يتابع
عليه، لأنه عمرو علياً قالا: لم يستخلف النبي (صلى الله عليه وآله) .
3- سويد بن سعيد:
قال ابن حبان في الثقات: يخطئ ويقرب، وذكره الخطيب في المتفق فقال: روى
عن علي بن عاصم حديثاً منكراً.
وقال الذهبي: لا يكاد يعرف، روى عن علي بن عاصم خبراً منكراً، قاله ابن
الجوزي.
صلاة أبي بكر:
لم يبق من أدلة الشيخ إلا الاحتجاج بصلاة أبي بكر…
أما ادعاؤه أن الاحتجاج بصلاة أبي بكر قد ورد على لسان الصحابة ومن
بينهم أمير المؤمنين (عليه السلام) .
فلا صحة له، والأخبار في ذلك موضوعة على لسانه من قبل المتعصبين
المذهبيين، وإلا فلماذا امتنع أمير المؤمنين (عليه السلام) عن البيعة ستة
أشهر كما ورد في صحاح الأخبار مما تقدم.
أما الربط بين إمامة الأمة فلا يصح، وقد اعترف علماء السنة بذلك، فقد
قال ابن حزم: أما من ادعى أنه قدم قياساً على تقديمه إلى الصلاة فباطل بيقين،
لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصلاة يستحق الإمامة في الخلافة، إذ يستحق
الإمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً، ولا يستحق الخلافة
إلى قرشي، فكيف والقياس كله باطل!!.
ورفض هذا المبدأ أيضاً الشيخ محمد أبو زهرة أيضاً حيث قال: وقال قائلهم:
(لقد رضيه (صلى الله عليه وآله) لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا)؟ ولكنه لزوم ما
لا يلزم، لأن سياسة الدنيا غير شؤون العبادة، فلا تكون الإشارة واضحة، وفوق
ذلك فإنه لم يحدث في اجتماع السقيفة الذي تنافس فيه المهاجرون والأنصار في
شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة أن احتج أحد المحتجين بهذه الحجة، ويظهر
أنهم لم يعتقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين.
كما أن فقه أهل السنة لا يقيم اعتباراً للتفاضل في إمامة الصلاة، إذ تصح
عندهم إمامة الفاسق والفاجر لأهل التقوى والصلاح، ويستدلون في ذلك بحديث
ينسبونه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) : (صلوا خلف كل بر وفاجر)، ويستدلون
على صحة ذلك بصلاة بعض فضلاء الصحابة خلف الوليد بن عقبة وهو سكران، والذي
سماه القرآن فاسقاً بإجماع المفسرين.
ولو كانت إمامة الصلاة تعني إمامة الأمة، لكان سالم بن مولى أبي حذيفة
وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف أكثر استحقاقاً لها، لأنهم أموا المسلمين
وفيهم أبو بكر، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر، قال: كان سالم مولى أبي
حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) في مسجد قباء
فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة.
وكان عمرو بن العاص أميراً على جيش ذات السلاسل، وكان يؤمهم في الصلاة
حتى صلى بهم بعض صلواته وهو جنب، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح.
وأخرج جمع من المحدثين أن عبد الرحمن بن عوف قد صلى إماماً بالمسلمين
وكان فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
بينما نجد أبا بكر يتأخر عن إمامة الصلاة عند حضور رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ، فقد أخرج البخاري عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء
المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فأقيم؟ قال نعم، فصلى أبو بكر، فجاء
رسول الله (صلى الله عليه وآله) والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف،
فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت
فرأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأشار إليه رسول الله (صلى الله عليه
وآله) أن أمكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمر به رسول الله
(صلى الله عليه وآله) من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلى، فلما انصرف قال: (يا أبا بكر ما منعك
أن تثبت إذ أمرتك)؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي
رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وقد ثبت من جميع طرق حديث إمامة أبي بكر للصلاة، أنه بعد أن افتتح أبو
بكر الصلاة، خرج النبي (صلى الله عليه وآله) يتهادى بين رجلين -علي والعباس
أو الفضل العباس- فصلى بهم إماماً وأزاح أبا بكر عن إمامة الصلاة.
ولا شك أن خروج النبي (صلى الله عليه وآله) -ورجلان تخطان في الأرض من
شدة الوجع- كما ذكرت الروايات، يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد
أدرك غرض عائشة -إذ أرسلت إلى أبيها ليؤم المسلمين- فجابهها النبي (صلى الله
عليه وآله) بتلك الجملة الخشنة: (إنكن لصويحبات يوسف)، ثم خرج وهو على هذه
الحالة المؤلمة ليزيل عن أذهان الناس ما قد يعلق بها من تصور أن النبي هو
الذي أمره بالصلاة بالمسلمين.
وقد أثبت ابن الجوزي أن أبا بكر لم يكن إماماً في تلك الصلاة في كتاب
صنفه خصيصاً لهذا الغرض، حين قسمه إلى ثلاثة أبواب: الباب الأول في إثبات
خروج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن الإمامة،
والباب الثاني: بين فيه إجماع الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد على
ذلك، كما أثبت في الباب الثالث ضعف الروايات التي ذكرت تقدم أبي بكر في تلك
الصلاة، ووصف القائلين بها بالعناد واتباع الهوى.
وقال ابن حجر العسقلاني: تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل على
أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان هو الإمام في تلك الصلاة.
ولو كانت إمامة أبي بكر للصلاة بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) لتركه
على إمامته وصلى خلفه، كما صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، كما أن هذا الخبر لم
يصح إلا من طريق عائشة،لذا لم تقم حجته.
وفوق هذا وذاك، فإن أصحاب التاريخ والسير قد أثبتوا أن أبا بكر كان أيام
مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) مأموراً بالخروج في جيش أسامة بن زيد،
فلا ينسجم ذلك مع الأمر بتقديمه في الصلاة، ناهيك عن الاستخلاف .
يتبين بعد كل هذا، أن جميع الأدلة التي ساقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب
لإثبات صحة خلافة أبي بكر أدلة واهية لا تقوم بها حجة.
الفصل الرابع
أم المؤمنين عائشة:
قال الشيخ في (مطلب سبهم عائشة (رضي الله عنها المبرأة)):
ومنها: نسبتهم الصديقة الطيبة المبرأة عما يقولون فيها إلى الفاحشة، وقد
شاع في هذه الأزمنة بينهم ذلك كما نقل عنهم. قال تعالى: ( إن الذين جاءوا
بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خيراً لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب
من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم..) .
وقد روى عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم وابن مردوية والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة (رضي الله عنها)
أنها المبرأة من هذه الآيات.
وروى سعيد بن منصور وأحمد والبخاري وابن المنذر وابن مردوية عن أم رومان
(رضي الله عنها) ما يدل أن عائشة (رضي الله عنها) هي المبرأة المقصودة بهذه
الآيات….
وفي مطلب (مشابهتهم اليهود) قال الشيخ:
ومن قبائحهم تشابههم باليهود، ولهم بهم مشابهات، منها: أنهم يضاهون
اليهود الذين رموا مريم الطاهرة بالفاحشة بقذف زوجة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) عائشة المبرأة بالبهتان وسلبوا بسبب ذلك الإيمان….
حديث الإفك:
إن قضية الإفك تحتاج إلى شيء من التفصيل، لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ـ كعادته ـ يخلط الأوراق بهدف إثارة الضجيج للتعمية على الحقائق وصرف الأمور
إلى غير وجهها لينفذ بذلك إلى غرضه الحقيقي ألا وهو إلصاق التهم بالشيعة
جزافاً.
فقوله: (وقد شاع في هذه الأزمنة بينهم ذلك كما نقل عنهم) يحمل مغالطة
كبيرة، فهل أن الشيعة يتهمون أم المؤمنين عائشة حقاً بهذه التهم الشنيعة؟ ومن
الذي نقل عنهم؟ أما كان ينبغي أن يذكر لنا مصدر هذا الخبر حتى يتحقق القارئ
الكريم من صحة دعواه هذه؟ وكيف يسيغ الشيخ لنفسه أن يتهم أمة مسلمة بقول
مفترى عليهم من حاقد قد أعمى التعصب بصيرته؟ أوليس قد أمر الله تعالى
المسلمين أن يتثبتوا من صحة ما ينقل إليهم قبل أن يتهموا قوماً مؤمنين في
قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إذا جائكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا
قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) ؟.
بعد هذه المقدمة نقول:
1- إن اتهام الشيعة بنسبة الفاحشة إلى زوج النبي الكريم (صلى الله عليه
وآله) هي محض إفتراء لم يقل به أحد من الشيعة لا من السابقين ولا من
اللاحقين، بل إن الشيعة أكثر تنزيهاً وتقديساً للنبي (صلى الله عليه وآله)
ولكل الأنبياء (عليهم السلام) من جميع الطوائف المنضوية تحت اسم الإسلام،
فعلماء الشيعة قد صنفوا كتباً لاثبات قدسية ساحة الأنبياء وبراءة عرضهم من كل
ما يشين، وردوا على كل من ادعى بجواز مثل هذه الأمور المشينة على الأنبياء،
والتي نجد البعض منها في روايات أهل السنة وبكل أسف.
وقد عبر السيد المرتضى (رض) عن هذه الحقيقة فقال في معرض رده على
المفسرين الذين نسبوا الخيانة الزوجية إلى زوج نوح (عليه السلام) مدعين أن
ابنه كان من سفاح، فقال:
والوجه الثالث: أنه لم يكن ابنه على الحقيقة وإنما ولد على فراشه فقال
(عليه السلام) : (إن إبني، على ظاهر الأمر، فأعلمه الله تعالى أن الأمر بخلاف
الظاهر ونبهه على خيانة امرأته، وليس في ذلك تكذيب خبره، لأنه إنما أخبر عن
ظنه وعما يقتضيه.. وقد روي هذا الوجه عن الحسن ومجاهد وابن جريح.
قال المرتضى: ولأن الأنبياء (عليهم السلام) يجب أن ينزهوا عن هذه الحال،
لأنهم تعيير وتشيين ونقص في القدر، وقد جنبهم الله تعالى ما دون ذلك تعظيماً
لهم وتوقيراً ونفياً لكل ما ينفر عن القبول منهم.
فهذا الكلام اكبر رد على من ينسب إلى الشيعة الكلام بما يخل بالأدب تجاه
الأنبياء (عليهم السلام) ، وذلك على العكس مما نجد في كتب وصحاح أهل السنة
التي تنتسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وغيره من الأنبياء أموراً مشينة
كالتبول من وقوف، وخروج النبي إلى المسجد وعلى ثوبه آثار المني، أو انه كان
يطوف على نسائه في الساعة من الليل أو النهار في غسل واحد، وأنه كان يسابق
نساءه في الصحراء على مرأى من الجيش، أو انه كان يحضر حفلات العرس ويتناول
النبيذ من أيدي النساء وهو جالس على فراشهن، ويسمح لجواري الحبشة بالرقص في
مسجده، وما إلى ذلك من الترهات التي يطير لها أعداء الإسلام فرحاً لما فيها
من مطاعن شنيعة على شخص النبي الكريم.
2- أما قول الشيخ بأن أم المؤمنين عائشة هي المرادة من الآيات، وان هذا
مشهور متواتر بين الشيعة، فإن هذا ما تدعيه مصادر أهل السنة قاطبة، وهي تكاد
تكون مجمعة على ذلك فعلاً، لكن لنا في كل ذلك نظر، ونحن لا نلقي الكلام
جزافاً بدون الاستناد إلى الدليل، ولأجل أن تبين الحقيقة بشكل واضح، فسوف
نستعرض أهم روايتين وردتا في أقوى مصادر أهل السنة فيما يتعلق بحديث الإفك ثم
نناقشها مناقشة علمية على ضوء الأدلة والشواهد، مع الإشارة إلى أقوال بعض
العلماء والشراح الذين وقعوا في حيرة وارتباك واضحين وهم يحاولون تصحيح حديث
الإفك لمجرد وروده في صحيحي البخاري ومسلم، وسوف يتبين لنا مدى الاشكالات
التي يطرحها هذا الحديث، ولنبدأ بذكر الرواية الرئيسية المتفق عليها، واللفظ
فيها للبخاري:
قالت عائشة: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد سفراً أقرع
بين أزواجه فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) معه،
قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيه سهمي، فخرجت مع رسول الله
(صلى الله عليه وآله) بعد ما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه،
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من غزوته تلك وقفل دنونا
من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى
جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع
ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسي ابتغاؤه.
قالت: وأبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري
الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه.
وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة
من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة
السن، فبعثوا الجمل فساروا.
ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجثت منازلهم وليس بها منهم داع ولا
مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل
السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم
فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت
وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة واحدة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه،
وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي
الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك،
وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي سلول.
قال عروة: أخبرت انه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه.
قال عروة أيضاً: لم يسم من أهل الإفك أيضاً إلا حسان بن ثابت ومسطح بن
أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة كما قال الله
تعالى، وإن كبر ذلك يقال عبد الله بن أبي سلول.
قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي قال:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في
قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يربيني في وجعي أني لا أعرف من
رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل
علي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيسلم ثم يقول: (كيف تيكم) ثم ينصرف،
فذلك يريني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مسطح قبل
المناصع، وكان متبرزاً وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ
الكنف قريباً من بيوتنا.
قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف
وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عبد
المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في
مرطها فقالت: تعس مسطح، له: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ فالت: أي
هنتاه ولم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت؟ ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت:
فازددت مرضاً على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله (صلى الله عليه
وآله) فسلم ثم قال: (كيف تيكم) فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبواي؟ قالت: وأريد
أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فإذن لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ،
فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فو الله
لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن عليها، قالت:
فقلت: سبحان الله أو قد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت
لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
قالت: ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه
السلام) وأسامة بن زيد -حين استلبث الوحي- يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله.
قالت: فأما أسامة فأشار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالذي يعلم
من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك، ولا نعلم إلا
خيراً، وأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير،
وسل الجارية تصدقك.
قالت: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بريرة فقال: (أي بريرة هل
رأيت شيء يريبك)؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط
أغمصه، غير أنها جارية حديثة السن تنام على عجين أهلا فتاتي الداجن فتأكله.
قالت: فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يومه فاستعذر من عبد الله
بن أبي وهو على المنبر فقال: (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني
أذاه من أهلي، والله ما علمت على أهل إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت
عليه إلا خيراً وما يدخل على أهلي إلا معي).
قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك،
فإن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا
أمرك.
قالت: فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن
عبادة وهو سيد الخزرج.
قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت
لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.
فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله
لنقلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت: فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله (صلى
الله عليه وآله) قائم على المنبر.
قالت: فلم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فبكيت يومي ذلك كله لايرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم.
قالت: وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً ولا يرقأ لي دمع ولا
أكتحل بنوم حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي.
فبيننا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار
فأذنت لها فجلست تبكي معي.
قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) علينا فسلم
ثم جلس.
قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه
في شأني بشيء.
قالت: فتشهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين جلس ثم قال: (أما بعد،
يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت
بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه).
قالت: فلما مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مقالته قلص دمعي حتى ما
أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عني فيما قال.
فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت
لأمي: أجيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عني فيما قاله، قالت أمي: ما
أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقلت وأنا جارية حديثة السن
لا أقرأ من القرآن كثيراً: وإني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى
استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم أني بريئة لا تصدقوني ولئن اعترفت
لكم بأمر والله يعلم إني منه بريئة لتصدقني، فو الله لا أجد لي ولكم مثلاً
إلا أبا يوسف حين قال: ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) .
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي والله يعلم أني حينئذٍ بريئة وأن الله مبرئي
برائتي، ولكن الله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى، لشأني في
نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله
(صلى الله عليه وآله) في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
فو الله ما رام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجلسه ولا خرج أحد من
أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه من البرحاء، حتى أنه ليتحدر منه من العرق مثل
الجمان وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه.
قالت: فسري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يضحك، فكانت أول كلمة
تكلم بها أن قال: (يا عائشة، أما الله فقد برأك).
قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد
إلا الله عز وجل.
قالت: وأنزل الله تعالى: ( إن الذين جاءوا بالإفك) العشر الآيات، ثم
أنزل الله هذا في براءتي.
قال أبو بكر الصديق -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره:
والله لا انفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة، ما قال، فأنزل
الله: ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم) إلى قوله: ( غفور رحيم) ، قال أبو بكر
الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان
ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
قالت عائشة: وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) سأل زينب بنت جحش عن
أمري فقال لزينب: (إذا علمت أو رأيت)؟ فقالت: يا رسول الله، احمي سمعي وبصري،
والله ما علمت إلا خيراً.
قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)
فعصمها الله بالورع.
قالت: وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك.
قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط، ثم قال عروة: قالت
عائشة: والله إن الرجل الذي قيل، ليقول: سبحان الله، فو الذي نفسي بيده ما
كشفت من كنف أنثى قط.
قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله.
وأخرج البخاري عن مسروق بن الأجدع قال: حدثتني أم رومان وهي أم عائشة
(رضي الله عنها) قالت: بينا أنا قاعدة وأنا وعائشة إذ لجت امرأة من الأنصار
فقالت: فعل الله بفلان وفعل، فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت: ابني فيمن حدث
الحديث، قالت: وما ذاك؟، قالت: كذا وكذا، قالت عائشة: سمع رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ؟ قالت: نعم، قالت: وأبو بكر؟ قالت: نعم، فخرت مغشياً عليها،
فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها، فجاء النبي (صلى
الله عليه وآله) فقال: (ما شأن هذه)؟ قلت: يا رسول الله أخذتها الحمى بنافض،
قال: (فلعل في حديث تحدث عنه)؟ قالت: نعم، فقعدت عائشة فقالت: لئن حلفت لا
تصدقوني، ولئن قلت لا تعذروني، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على
ما تصفون، قالت: وانصرف ولم يقل شيئاً، فأنزل الله عذرها، قالت: بحمد الله لا
بحمد أحد ولا بحمدك.
وأخرج البخاري عن مسروق أيضاً قال: دخلنا على عائشة (رضي الله عنها)
وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعراً يشبب بأبيات له وقال:
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك، قال مسروق: فقلت لها: لم تأذني له أن
يدخل عليك وقد قال الله تعالى: ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) فقالت:
وأي عذاب أشد من العمى؟ قالت له إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) .
وأخرج البخاري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: والذي تولى كبره، قالت:
عبد الله بن أبي سلول.
هذه هي أهم الروايات التي ذكرت حديث الإفك في الصحيحين، وسنكتفي بها
ونعرض عن باقي الروايات التي في المصادر الأخرى، وسوف يتبين للقارئ الكريم أن
هذه الروايات تطرح إشكالات معضلة ربما تنسف جمهور أهل السنة بنسبة القضية إلى
أم المؤمنين عائشة.
الاشكالات على حديث الإفك:
1- قول عائشة: بعدما أنزل الحجاب.
من المعلوم أن قضية الإفك التي ترويها عائشة قد وقعت في غزوة المريسيع
والتي كانت إما في السنة الخامسة أو السادسة من الهجرة، أما آيات فرض الحجاب-
التي هي في سورة النور- التي نزلت كلها دفعة واحدة ففي السنة الثامنة من
الهجرة، والمؤرخون وأصحاب السير يكادون يجمعون على ذلك.
2- قول عائشة: وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) سأل زينب…
وقد صحت الروايات بأن فرض الحجاب نزل يوم زواج النبي (صلى الله عليه
وآله) من زينب، ونزل في قضيتها، وكان كذلك بعد المريسيع وبعد خيبر التي وقعت
في العام السابع من الهجرة النبوية الشريفة.
فعن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك انه كان ابن عشر سنين مقدم رسول
الله (صلى الله عليه وآله) المدينة فخدمت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عشراً حياته، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وقد كان أبي كعب يسألني
عنه، وكان أول ما نزل في مبتنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بزينب بنت
جحش: أصبح النبي (صلى الله عليه وآله) بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من
الطعام، ثم خرجوا وبقي منهم رهط عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأطالوا
المكث، فقام رسول الله فخرج وخرجت معه كي يخرجوا، فمشى رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة، ثم ظن رسول الله (صلى الله
عليه وآله) أنهم خرجوا فرجع معه، حتى دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يتفرقوا،
فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجعت معه حتى بلغ عتبة حجرة عائشة، فظن
أن قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا، فأنزل الحجاب، فضرب بيني وبينه
ستراً.
3- قول عائشة: وكانت النساء خفافاً لم يهبلن..
لا يعقل أبداً أن لا يشعر حاملو الهودج بعدم وجودها فيه مهماً كانت
خفيفة الوزن، خصوصاً وأنه قد ذكر بأن الذي كان يحمل هودجها رجلان فقط أحدهما
أبو موهبة، وفي بعض الروايات أبو مويهبة وحده.
4- قول عائشة: وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي.
هذا يناقض ما ورد في رواية مسروق من اتهام حسان بن ثابت بأنه هو الذي
تولى كبره، وقول عائشة: وأي عذاب أشد من العمى، يدل على أن الآية قد نزلت في
حسان.
5- قول أم رومان لعائشة: هوني عليك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة
عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن عليها.
يدل على اتهام أم رومان أزواج النبي الأخريات بأنهن قد اشتركن في حديث
الإفك، أو ربما افتعلنه، فيكن المتهمات فيه أولاً وآخراً.
6- قول عائشة: ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب
وأسامة بن زيد -حين استلبث الوحي- يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله…
إذا علمنا أن أسامة بن زيد كان في السابعة عشرة من عمره حين أمره النبي
على الجيش قبل وفاته بأيام قليلة في العام الحادي عشر من الهجرة، فيكون عمر
أسامة في السنة السادسة من الهجرة -عام المريسيع- على أبعد التقديرات، لا
يزيد على اثني عشرة سنة، وهذا السن لا يؤهله لأن يكون مستشاراً في قضية بالغة
الحساسية، وذلك يناقض قول ابن حجر بان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يستشير
في الأمور العامة ذوي الأسنان من أكابر الصحابة.
فكيف يتركهم النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه القضية الخطيرة ويستشير
طفلاً لا خبرة عنده في هذه الأمور؟ ولماذا لم يستشير عمر بن الخطاب صاحب
الموافقات الذي يتنزل القرآن بموافقته دائماً كما يقول؟!!.
7- قول عائشة: فدعا بربرة..
لقد وردت الروايات من مصادر أهل السنة الموثوقة بأن عائشة قد اشترت
بريرة بعد فتح مكة، لأنه لما خبر النبي (صلى الله عليه وآله) بريرة فاختارت
نفسها، كان زوجها يبكي، (صلى الله عليه وآله) لعباس: (يا عباس إلا تعجب من حب
مغيث بريرة).
8- ورد في حديث الإفك قيام النبي (صلى الله عليه وآله) على المنبر.
بينما تدل الروايات الصحيحة أن المنبر لم يكن قد اتخذ بعد غزوة
المريسيع، كما تذكر الروايات أن الذي أشار على النبي (صلى الله عليه وآله)
باتخاذ المنبر هو تميم الداري، وقد أحس الشراح بتلك الغلطة وحاولوا أن يجدوا
لها مخرجاً.
فقد قال ابن حجر العسقلاني، وجزم به ابن سعد: بان ذلك كان في السنة
السابعة، وفيه نظر لذكر العباس وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر
سنة ثمان وقدوم تميم سنة تسع، وجزم ابن النجار بان علمه كان سنة ثمان، وفيه
نظراً أيضاً لما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت: فثار الحيّان
الأوس والخزرج حتى كادوا يقتتلوا ورسول الله (صلى الله عليه وآله) على المنبر
فنزل فخفضهم حتى سكتوا، فإن حمل التجوز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مضى، وحكى
بعض أهل السير أنه (صلى الله عليه وآله) كان يخطب على منبر من طين قبل أن
يتخذ المنبر الذي من خشب، ويعكر عليه أن في الأحاديث الصحيحة انه كان يستند
إلى الجذع إذا خطب…
9- ورد في الرواية ذكر الصحابي سعد بن معاذ:
والمعلوم أن سعد بن معاذ قد قتل في معركة الأحزاب (الخندق)، وهي قبل
المريسيع، إذ ذهب أكثر المؤرخين والمحدثين إلى أن غزوة الخندق كانت سنة أربع،
ومنهم البخاري الذي روى في باب غزوة الخندق قال: قال موسى بن عقبة: كانت في
شوال سنة أربع.
وقال القاضي عياض: في ذكر سعد بن معاذ هذا الحديث إشكال لم يتكلم الناس
عليه، ونبهنا عليه بعض شيوخنا ذلك أن الإفك كان في المريسيع وكانت سنة ست
فيما ذكر ابن اسحاق، وسعد بن معاذ مات في الرمية بالخندق، فدعا الله فأبقاه
حتى حكم في بني قريظة، ثم انفجر جرحه فمات منها، وكان كذلك سنة أربع عند
الجميع، إلا ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس.
10- ومن الأمور الملفتة للنظر في حديث الإفك، المحاورة الكلامية العنيفة
التي دارت بين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وقول عائشة عن سعد بن عبادة وكان
قبل ذلك رجلاً صالحاً..، وقول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة: فإنك منافق تجادل
عن المنافقين.
وهذا يتنافى مع القول بعدالة المطلقة أولاً، وثانياً فإن سعد بن عبادة
صحابي عظيم وهو زعيم الأنصار، وهو الذي كان بادر إلى عقد اجتماع السقيفة على
أمل أن ينال الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ، ولكن مجيء المهاجرين
الثلاثة -أبي بكر وعمر وأبي عبيدة- إلى السقيفة أفشل مخططه، فانصرفت الخلافة
إلى أبي بكر، وأيده عليها من الأنصار أسيد بن حضير الذي حرض قومه على بيعة
أبي بكر، كما هو معروف، بينما خرج سعد بن عبادة مغاضباً ولم يبايع أبا بكر،
ولا كان يجمع معهم في صلاة أو حج حتى خرج إلى الشام وقتل هناك، وقيل أن الجن
قتلته، وهي خرافة لا يصدقها عاقل، فلتراجع.
ومن هذا يتبين لنا أن يد السياسة قد تلاعبت في الأمر، وأن حديث الإفك هو
إحدى إفرازات السياسة وانعكاس آثارها، فعائشة تصف سعداً بأنه كان رجلاً
صالحاً قبل ذلك، لكن هذا الصحابي العظيم صار رجلاً غير صالح لأنه امتنع عن
بيعة أبي بكر، فكان لا بد من أن يقحم اسمه في حديث الإفك بما يسيء إلى سمعته.
11- قول عائشة: فتشهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين جلس ثم قال:
(أما بعد يا عائشة، إنه بلغني منك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله…الخ).
نقول أولاً، إن كلام النبي (صلى الله عليه وآله) يحمل في طياته اتهاماً
لعائشة، وهذا عجيب جداً، إذ كيف يتفق موقف النبي (صلى الله عليه وآله) مع
الآيات الكريمة التي تعيب على المؤمنين سوء ظنهم؟!! وذلك في قوله تعالى: (
لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك ميبن)
الآية، فكيف فات النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك ولم يظن خيراً؟!!.
والعجيب أن يذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رواية ابن عساكر عن أشرس
مرفوعاً قوله (صلى الله عليه وآله) : (ما بغت امرأة نبي قط)، وعن مجاهد: (لا
ينبغي لامرأة كانت تحت نبي أن تفجر).
فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يعرف كل ذلك، فما باله يساوره
القلق فيذهب ليستشير الصبيان فيما يجب علمه، ثم يغضب من عائشة ولا تجد منه
ذلك اللطف الذي كانت تعهده منه قبل ذلك حتى قالت له عائشة ولأبويها أيضاً:
لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم بهن فلئن قلت لكم إني بريئة
لا تصدقوني، وفي هذا إشارة صريحة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله) وأبا بكر
وأم رومان كانوا متيقنين من صحة ما يقال عن عائشة!!!.
وفضلاً عن هذا، فإن إدعاء عائشة أنها كانت جارية صغيرة السن فعجبت
أيضاً، إذ أن الحادثة كانت في السنة السادسة من الهجرة وعمر عائشة ينبغي أن
لا يقل عن خمسة عشر عاماً على أقل تقدير، والمرأة المتزوجة منذ سنوات لا يقال
لها جارية صغيرة.
كما أن قولها أنها كانت لا تقرأ من القرآن كثيراً فأعجب وأغرب بعد مضي
أكثر من خمس سنوات لها في بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وهو مهبط الوحي،
وكأن النبي كان مقصراً في تعليم ـ نسائه القرآن!!!
ولا ندري كيف أصبحت عائشة بعد ذلك مرجعاً دينياً مهماً تفتي وترد على
الصحابة وتخطئهم؟! بل كيف يدعى أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمرنا بأن نأخذ
شطر ديننا منها!!!
12ـ قول عائشة: وكان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة... .
لقد وردت الروايات أن مسطح بن أثاثة كان من أصحاب الإفك، وان أبا بكر
كان ينفق عليه قبل الحادثة هذه لقرابته من أبي يكر وفقره، وأن أبا بكر امتنع
عن التصدق عليه حتى أنزل الله: ( ولا يأتل أولو الفضل منكم) الآية، فعاد إلى
النفقة على مسطح.
لكن الشواهد الصحيحة من التاريخ والسيرة والأثر تنافي أن يكون قد انفق
على أحد بعد الهجرة على الأقل، وليس هناك ما يثبت أن أبا بكر كان في سعة من
العيش بحيث يسمح له وضعه بالإنفاق على غيره، لأن عائشة ابنته وزوج النبي (صلى
الله عليه وآله) ذكرت أنها والنبي كانا يتضوران جوعاً ويعانيان من ضيق العيش،
ومع ذلك فإن أبا بكر لم ينفق عليها شيئاً ولا أرسل لها ما يقيم أودها كما كان
يفعل غيره كسعد بن عبادة الذي كانت جفنته تدور مع رسول الله (صلى الله عليه
وآله) في بيوت أزواجه.
إن قضية إنفاق أبي بكر على مسطح ما هي إلا فضيلة أخرى مفتعلة وضعتها
أيدي الكذابين ليقربوا إلى السلطة الحاكمة، كما اختلفت حديث الإفك المعروف
كله.
ومن أراد المزيد من التفصيل فعليه بكتاب الإفك للسيد جعفر مرتضى
العاملي، الذي أوفى على الغاية.
الفصل الثامن
عصمة الأئمة (عليهم السلام)
قال الشيخ في (مطلب العصمة):
ومنها اشتراطهم كون الإمام معصوماً وإيجابهم على الله عدم إخلاء الزمان
من إمام معصوم في اثني عشر، وبطلان هذا وتناقضه واشتماله على سوء الأدب مع
الله أظهر من أن يذكر، وأبطلوا بهذا القول الباطل الجماعة في الصلاة.
لا ادري ما وجه البطلان في وجوب العصمة في الإمام الذي تؤيده الأدلة
العقلية والنقلية.
وإذا كان وجوب العصمة يستلزم مشاركة الأنبياء في وصف العصمة -كما يقول
الشيخ عبد الوهاب في (مطلب العصمة) أيضاً- فنحن نقول بذلك فعلاً، فالأئمة
يشاركون الأنبياء (عليهم السلام) في الرسالة كلها عدا النبوة، قد أثبت النبي
(صلى الله عليه وآله) هذه الحقيقة بقوله لعلي (عليه السلام) في الحديث المتفق
عليه بين الطوائف الإسلامية: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا
أنه لا نبوة بعدي).
فالنبي قد أثبت لأمير المؤمنين (عليه السلام) جميع المراتب التي لهارون
-وهو نبي- ولم يستثن منها إلا النبوة، ومعلوم أن العصمة إحدى هذه المراتب،
فطالما أن هارون نبي معصوم، فعلي بن أبي طالب (عليه السلام) إمام معصوم،
وهكذا الأمر في أولاده المعصومين (عليهم السلام) .
أما اشتراط الإمامية العصمة في الإمام، فإن الأدلة العقلية والنقلية
تثبت ذلك.
يقول المحقق الطوسي (رض): وامتناع التسلسل يوجب عصمته، ولأنه حافظ
للشرع، ولوجوب الإنكار عليه ولو أقدم على المعصية، فيضاد أمر الطاعة ويفوت
الغرض من نصبه، ولانحطاط رتبته عن أقل العوام.
وهذا حق، لأن الناس من الرعية ليسوا بمعصومين، فيحتاجون إلى المعصوم
لتسديدهم، فإذا لم يكن الإمام معصوماً فسوف يحتاج إلى من يسدده، والآخر يحتاج
إلى من يسدده، فيحدث التسلسل الذي لا نهاية له.
ولأن الإمام حافظ للشرع بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ، فلا بد وأن
يكون معصوماً، لن الكتاب والسنة لم يحيطا بكل الدقائق والتفاصيل، والدليل على
ذلك هو هذه الخلافات -ليس بن هذه المذاهب المختلفة فحسب، بل وبين أبناء
المذهب الواحد أيضاً- فالإمام المعصوم هو الذي يستطيع أن يتكفل تبيين أمور
الشريعة لأنه العالم بكتاب الله الحافظ لسنة نبيه الصحيحة.
ولقد اثبت النبي (صلى الله عليه وآله) عصمة أهل البيت (عليهم السلام)
عندما قرنهم بكتاب الله وجعلهم أعداله الذين لا يفترقون عنه حتى يردوا عليه
الحوض جميعاً، كما هو واضح في حديث الثقلين.
وكتاب الله العزيز قد أثبت العصمة للأئمة (عليهم السلام) في قوله تعالى:
( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) .
قال الشيخ المظفر (رض): فإنه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر على الإطلاق
كطاعته وطاعة الرسول، وهو لا يتم إلا بعصمة أولي الأمر، فإن غير المعصوم قد
يأمر بمعصية وتحرم طاعته فيها، فلو وجبت أيضاً اجتمع الضدان: وجوب طاعته
وحرمتها، ولا يصح حمل الآية على إيجاب الطاعة له في خصوص الطاعات، إذ مع
منافاته لاطلاقها لا يجامع ظاهراها من إفادة تعظيم الرسول وأولي الأمر
بمساواتهم في وجوب الطاعة، إذ يصبح تعظيم العاصي ولا سيما المنغمس بأنواع
الفواحش، على أن وجوب الطاعة في الطاعات ليس من خواص الرسول وأولي الأمر، بل
تجب طاعة كل آمر بالمعروف، فلا بد أن يكون المراد بالآية بيان عصمة الرسول
وأولي الأمر، وأنهم لا يأمرون ولا ينهون إلا بحق.
أما كون الإمامة واجبة على الله تعالى، فيثبته قوله تعالى لإبراهيم
(عليه السلام) : ( إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينهال عهدي
الظالمين) .
فالله سبحانه وتعالى قد اختار إبراهيم (عليه السلام) إماماً، وعندما طلب
إبراهيم جعلها في ذريته أخبره الله تعالى أن الإمامة عهد من الله سبحانه
وتعالى متعلق بمشيئته سبحانه في اختيار الأصلح لهذا المنصب، وليس لأحد غيره
سبحانه أن يتولى نصب الإمام.
فبهذا وغيره يبطل ادعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن إيجاب الإمامة على
الله سبحانه والقول بضرورة عصمة الإمام، هو من ادعاءات الشيعة ولم يرد به نص
أو سنة أو دليل عقلي.
فالنص الإلهي والسنة النبوية المطهرة والعقل كلها تثبت صحة نظرية الشيعة
في الإمام وعصمة الإمام.
وسيأتي الحديث عن الجمعة والجماعة في مباحث لاحقة.
ذرية الحسن (عليه السلام) :
قال الشيخ في (مطلب نفي ذرية الحسن):
ومنها قولهم: عن الحسن بن علي لم يعقب وأن عقبه انقرض وأنه لم يبق من
نسله الذكور أحد، وهذا القول شائع فيهم وهم مجمعون عليه ولا يحتاج إلى
إثباته، كذا قيل، ومنهم من يدعي أن الجاج مثلهم كلهم، وتوصلوا بذلك إلى أن
يحصروا الإمامة في أولاد الحسين.
إن هذا المطلب أتفه من أن يحتاج إلى إبطاله، وقول الشيخ: كذا قيل، يدل
على أنه ينقل من مصادر غير موثوقة، إذ ليس بين الشيعة كلهم من يقول بمثل
المقالة التي يدعيها الشيخ، ولا وجدت رواية واحدة في أي كتاب من كتبهم تشير
إلى ذلك.
والسادة الحسنيون يعدون بالألوف، بل إن بعض مراجع الشيعة العظام كالسيد
محسن الحكيم (رض) هو من نسل الإمام الحسن (عليه السلام) ، ولا حاجة للإفاضة
في هذا الموضوع سوى الإشارة إلى أن ديدن الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو
الافتراء والكذب، وقد صرّح بعض من ناظرناه في هذه المسألة بخطأ محمد بن عبد
الوهاب في هذا الادعاء، فقلنا له: عن إنساناً ينسب إلى فرقة قولاً ويدعي عليه
أنه شائع فيهم وهم مجمعون عليه!! مع انه لم يقل به واحد منهم، بل ولم يسمعوا
بهن هكذا شخص كيف يلقب بشيخ الإسلام؟!!.
ومن أراد التوسع في الرد على مسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب فليراجع
كتاب (لا تخونوا الله والرسول) للأستاذ الباحث المتشيع صباح علي البياتي.