الصفحة 261

الدّخول إليها، غير أنّني ـ مراعاة لعواطف صديقي ـ اتّبعته من غير اختيار.

دخلنا من الباب الأوّل، وبدأت ألاحظ تمسّح الشيوخ بالأبواب وتقبيلها، وسلّيت نفسي بقراءة لوحة كبيرة كتب عليها: "ممنوع دخول النساء السافرات" مع حديث للإمام علي يقول فيه: "يأتي على الناس زمان يخرج فيه النساء كاسيات عاريات..."(1) إلى آخره.

وصلنا إلى المقام، وبينما كان صديقي يقرأ إذن الدخول كنت أنظر إلى الباب وأعجب من هذا الذهب والنقوش التي تملأ صفحاته وكلّها آيات قرآنية.

دخل صديقي ودخلت خلفه وأنا على حذر، تجول بخاطري عدّة أساطير قرأتها في بعض الكتب التي تكفّر الشيعة، ورأيت داخل المقام نقوشاً وزخرفة لم تخطر على بالي، ودهشت لما رأيت وتصوّرت نفسي في عالم غير مألوف ولا معروف، ومن حين إلى آخر أنظر باشمئزاز إلى هؤلاء الذين يطوفون حول الضريح باكين مقبّلين أركانه وقضبانه، بينما يصلّي البعض الآخر قرب الضريح، واستحضرت في خاطري حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد"(2).

____________

1- يوجد بلفظ: "سيكون في آخر أُمتي رجال يركبون على السروج كأشباه الرجال، ينزلون على أبواب المسجد، نساؤهم كاسيات عاريات.." في مسند أحمد 2: 223، المستدرك للحاكم النيسابوري 4: 436، السنن الكبرى للبيهقي 2: 234، شرح مسلم للنووي 14: 110، مجمع الزوائد 5: 137، صحيح ابن حبان 13: 64 وغيرها من المصادر.

2- صحيح البخاري 1: 110، كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية.

وهذا الحديث ليس على ظاهره الذي فهمه التيجاني وغيره من أهل السنة، لأنّ علماء السنة أوضحوا المراد من الحديث فقال في تحفة الأحوذي 2: 226: "تنبيه: قال في مجمع البخاري: وحديث لعن اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد كانوا يجعلونها قبلة يسجدون إليها في الصلاة، قالوا واما اتخاذ مسجداً في جوار صالح أو صلى في حضيرة قاصداً بها الاستظهار بروحه أو وصول أثر من آثار عبادته إليه، لا التوجه نحوه والتعظيم له، فلا حرج فيه، الا يرى مرقد إسماعيل في الحجر في المسجد الحرام والصلاة فيه أفضل.

وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات في شرح هذا الحديث: لما أعلمه الله بقرب أجله فخشي أن يفعل بعض أُمته بقبره الشريف ما فعلته اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم، فنهى عن ذلك.

قال التوريشتي: هو مخرج على الوجهين:

أحدهما: كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم، تعظيماً لهم، وقصد العبادة في ذلك.

وثانيهما: إنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة لله، نظراً منهم أن ذلك الصنيع أعظم موقعاً عند الله لاشتماله على الأمرين: عبادة ومبالغة في تعظيم الأنبياء، وكلا الطريقتين غير مرضية..".

وقال البكري في إعانة الطالبين: 2:151: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

أي: بصلاتهم إليها.

قال البجيرمي: ودلالة هذا على المدعى إنّما هي بطريق القياس، لأنّ اليهود والنصارى كانوا يصلون المكتوبة لقبور الأنبياء..".

وفي تنوير الحوالك للسيوطي: 189: "قال ابن عبد البّر قيل معناه: النهي عن السجود على قبور الأنبياء.

وقيل: النهي عن اتخاذها قبلة يصلّى إليها".

وفي سبل السلام 1:153: "قال البيضاوي: لمّاكانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم، تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها، اتخذوها أوثاناً، لعنهم، ومنع المسلمين من ذلك.

قال: وأمّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه، لا لتعظيم له، ولا لتوجه نحوه; فلا يدخل في ذلك الوعيد..".

ومن الواضح أنّ الشيعة لا تصلي إلى قبور الأنبياء والصالحين ولا تتوجه إليهم في الصلاة، وإنّما تصلي قرب مراقدهم كصلاة الحاج في المسجد الحرام مع أنّه فيه مرقد إسماعيل (عليه السلام).


الصفحة 262

وابتعدت عن صديقي الذي ما أن دخل حتّى أجهش بالبكاء، ثُمّ تركته يصلّي واقتربت من اللّوحة المكتوبة للزيارة، وهي معلقة على الضريح، وقرأتها ولم أفهم الكثير منها بما حوته من أسماء غريبة عنّي أجهلها، ابتعدت في زاوية وقرأت الفاتحة ترحّماً على صاحب الضريح قائلا: اللّهم إن كان هذا الميت من


الصفحة 263

المسلمين فأرحمه فأنت أعلم به منّي.

واقترب منّي صديقي وهمس في أذني قائلا: إن كانت لديك حاجة فاسأل الله في هذا المكان، لأنّنا نسمّيه باب الحوائج، وما أعطيت أهميّة لقوله سامحني الله، بل كنت أنظر للشيوخ الطاعنين في السنّ وعلى رؤوسهم عمائم بيض وسود وفي جباههم آثار السّجود، وزاد في هيبتهم تلك اللّحى التي أعفوها، وتنطلق منها روائح طيبة، ولهم نظرات حادة مهيبة. وما أن يدخل الواحد منهم حتّى يجهش بالبكاء، وتساءلت في داخلي: أيمكن أن تكون هذه الدموع كاذبة؟!

أيمكن أن يكون هؤلاء الطاعنون في السن مخطئين؟

خرجت متحيّراً مندهشاً ممّا شاهدته، بينما كان صديقي يرجع أدراجه احتراماً لئلاّ يعطي المقام ظهره.

سألته: من هو صاحب هذا المقام؟

قال: الإمام موسى الكاظم.

قلت: ومن هو الإمام موسى الكاظم؟

قال: سبحان الله ! أنتم إخواننا أهل السنة والجماعة تركتم اللبّ وتمسّكتم بالقشور.

قلت غاضباً منقبضاً: كيف تمسّكنا بالقشور وتركنا اللب؟

فهدّأني وقال: يا أخي، أنت منذ دخلت العراق لا تفتأ تذكر عبد القادر الجيلاني، فمن هو عبد القادر الجيلاني الذي استوجب كُلّ اهتمامك؟!

أجبت على الفور وبكُلّ فخر: هو من ذرية الرسول، ولو كان نبيّ بعد محمّد لكان عبد القادر الجيلاني رضي الله تعالى عنه.

قال: يا أخ السّماوي، هل تعرف التاريخ الإسلامي؟


الصفحة 264

وأجبت في غير تردد بنعم، وفي الحقيقة ما عرفت من التاريخ الإسلامي قليلا ولا كثيراً، لأنّ أساتذتنا ومعلمينا كانوا يمنعوننا من ذلك، مدّعين بأنّه تاريخ أسود مظلم لا فائدة من قراءته(1).

____________

1- لا شكّ في أن الدين الإسلامي دين متكامل من جميع الجوانب والجهات، يحمل في جوانبه جميع حاجات البشرية من خير، وجاء مخرجاً لها من الظلمات إلى النور وآخذاً بيدها إلى أسمى درجات الكمال التي تدركه وما لم تدركه إلى غير ذلك ممّا هو معروف ومسطور في كتابات المسلمين.

وأما التاريخ الإسلامي أو بعبارة أدق التمثيل العملي لهذا الدين العظيم على المسرح الخارجي ففيه هنات كبيرة، وصفحات سوداء غير قليلة، فباستثناء فترة وجود النبي (صلى الله عليه وآله) الذي أشرقت الأرض بنوره، والعدل والمساواة تحت سلطانه، وظهرت الإنسانية باجلى معناها ببركة تعاليمه وحضوره، وضرب أروع مثال في قيادة الأُمة قيادة حكيمة ومتقنة أحكمت الكيان الفردي والاجتماعي للناس.. فباستثناء هذه الفترة الزمنية المشرقة من التاريخ الإسلامي، وبمجرد رحيله منها (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ الامر تغيّر تماماً، وأخذ هذا النمو والنضوج والصفحات المشرقة في التاريخ الإسلامي بالانحسار، وبدأت الظلمة ترد عليه شيئاً فشيئاً، بعد أن نحّي أهل البيت (عليهم السلام) عن قيادة الأُمة والأخذ بيدها في تكميل المشروع النبوي الشريف، فأخذ الإنسان الحرّ يقتل من دون ذنب، وأخذت المسلمة تسبى بعدما كانت معززة مكرمة، وأخذت الأموال تنتهب والحقوق تبتز بعدما كانت مصونة، وما سبب ذلك إلاّ لأن صاحبها محّباً لاهل البيت (عليهم السلام)، بل وتعدى الأمر إلى أبعد من ذلك فعومل أهل البيت معاملة المعارض الذي يجب القضاء عليه وعلى كلّ من يحنو عليه، ووقعت على أثر ذلك واقعة كربلاء وقتل الحسين صلوات الله عليه، ثمّ وقعة الحرة... وهكذا استمر القتل والتشريد وهتك الأعراض وغير ذلك في ربوع دولة المسلمين وعلى رأسها حكام بني أُمية الطلقاء، والذي أوريه النبي (صلى الله عليه وآله) في المنام، وأنّهم نزوا على منبره الشريف نزو القردة كما ذكره الحاكم في مستدركه 4: 480 مصححاً له وتعقبه الذهبي وحكم بصحته، مسند أبي يعلى 11: 348 وصححه محققه الشيخ سليم أسد.

ثمّ جاء بعدهم بنو العباس فاسرفوا في القتل وابتزاز حقوق الآخرين واقصاء أهل البيت عن مكانتهم، بل واولعوا فيهم سجناً وقتلاً وتشريداً.. وهكذا استمر تاريخ المسلمين إلى يومنا هذا الذي لم يبق فيه من الإسلام إلاّ اسمه، ومن معالمه إلاّ الرسوم، واما تعاليمه فاصبحت في خبر كان بالنسبة للحاكم وأغلب المحكومين.

وهذا الكلام يقرّ به كلّ إنسان مسلم يقرأ بتبصر وتمعن تاريخ المسلمين وما جرت فيه من أحداث، وان حاول الوهابية اخفاء ذلك واظهار التاريخ الإسلامي بمظهر الجوهرة المضيئة التي كلّ من لمسها ازدادت توهجاً، ولكن الحقيقة غير ذلك فهم يقولون ذلك خوفاً من أن يراجع الإنسان تاريخه، ويكتشف وهن القواعد التي بنوا عليها دينهم، واسسوا عليها بنيانهم، فينهدم البنيان بعد انهدام الاساس; وسبب ذلك أن أوّل مأساة، وأوّل نقطة سودت صفحات التاريخ هي افعال بعض الصحابة الشنيعة كعمر بن الخطاب، وأبو بكر، وعثمان بن عفان، وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف، وخالد بن الوليد، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاوية بن حديج، وغيرهم الكثير، فإذا عرف المسلم ذلك انهدمت قاعدتهم التي أسسوها من عدالة عموم الصحابة، بل وسيعرف قبله حديث الثقلين الذي بيّنه النبي (صلى الله عليه وآله) للأمة، ورسم فيه معالم طريقها حينما جعل هداية الأمة مرتبطة بالرجوع إلى القرآن وأهل البيت (عليهم السلام)

فاذا عرفه عرف بعد ذلك أنّ الطريق من غير أهل البيت (عليهم السلام) غير صحيح وغير موصل إلى الله سبحانه وتعالى، وبالتالي تبطل المذاهب والقواعد والصروح التي بنوها واتبعوها; فلاجل ذلك وغيره لا يقبلون مطالعة التاريخ أو الكلام حوله أو ذكر صفحاته السوداء.

ويتضح ذلك جلياً للقارئ اذا رجع إلى كتاب كشف الجاني: 52 حيث سعى فيه جاهداً إلى ابراز أنّ صفحات التاريخ مشرقة، وأنّ الشيعة هم الذين يسعون إلى تشويهها!! لأنّهم دائماً يتآمرون ضد المسلمين ـ حسب زعمه ـ ، وذكر تأييداً لكلامه حادثة قتل الخليفة العبّاسي على يد التتار وكيف أنّ بعض الشيعة كنصير الدين الطوسي وابن العلقمي كان لهما اليد الطولى في التآمر على المسلمين وخليفتهم وبالتالي معاونة المشركين على المسلمين!!

ونحن نعذر عثمان الخميس في فريته هذه، اذ لاحظنا كثرة تخبطه في علم الحديث مع ادعائه التخصص به فكيف لا يكون متخبطاً في غيره في مسألة تاريخية كهذه!!

وهذه التهمة الشنيعة ضد الشيعة أوّل من قال بها ابن تيمية الحراني الذي ولد بعد الحادثة بخمس سنين، إذ كانت الحادثة سنة 656، وابن تيمية ولد سنة 661 في حران، فلم يشهد الواقعة، ولم يكن من أهل بغداد، والذين عاصروا الواقعة في بغداد من علماء السنة لم يذكروا لنصير الدين الطوسي أي دور له في احتلال التتر لبغداد، فهذا ابن الفوطي الحنبلي صاحب كتاب (الحوادث الجامعة)، وهو ممّن أُسر في واقعة بغداد، وقد ترجمه الذهبي وابن كثير واطروا عليه كثيراً، فهذا العالم المعاصر للواقعة والمعاصر لنصير الدين الطوسي لم يذكر شيئاً عن تواطىء نصير الدين مع التتر في غزو بغداد.

وكذلك مؤرخ آخر وهو ابن الطقطقي المولود سنة 660 يروي حوادث الواقعة ولا يذكر نصير الدين الطوسي فيها، وكذلك أبو الفداء في تاريخه يذكر الحادثة ولا يذكر لنصير الدين الطوسي دوراً فيها، وكذلك الذهبي في كتابه العبر 3: 277 لم يذكر لنصير الدين أيّ دور في الواقعة.

فهذه التهمة لنصير الدين لفقها ابن تيمية من عنده بدون أي مستند ولا دليل، وما ذنبه إلاّ لأنّه شيعي أقام أدلة عقليه على ثبوت النصّ لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، وقد نقلها عنه العلامة الحلي في كتابه منهاج الكرامة والذي رد عليه ابن تيمية في كتاب سمّاه منهاج السنة، فلذلك نقم عليه ابن تيمية ولفق عليه هذه التهمة.

والذي يدل على أن التاريخ الإسلامي فيه صفحات سوداء كثيرة خلافة هذا الخليفة العباسي الذي يدافع عنه عثمان الخميس، فقد كانت الشيعة تذبح في زمنه على يد ابنه ووزيره الدوادار بلا ذنب سوى أنّهم شيعة لعلي بن ابي طالب (عليه السلام)، قال ابي الفداء في تاريخه 2: 302: "في أوّل هذه السنة (سنة 656) قصد هولاكو ملك التتر بغداد وملكها في العشرين من المحرّم، وقتل الخليفة المستعصم بالله، وسبب ذلك أنّ وزير الخليفة مؤيد الدين كان رافضياً، وكان أهل الكرخ أيضاً روافض، فجرت فتنة بين السنة والشيعة ببغداد على جاري عادتهم فامر أبو بكر بن الخليفة، وركن الدين الدوادار العسكر، فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء، وركبوا منهن الفواحش..".

فهذه نساء شيعيات يقتل رجالهن ثُمّ تُهتك اعراضهن بامر ابن الخليفة المسمى (المعتصم بالله)، فهل هذه صفحة مشرقة من صفحات تاريخ الإسلام؟!!

ولنلاحظ صورة مقتضبة للتاريخ الاسلامي بعد رحيل الرسول محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلم، وما جرى فيها:

أوّل ما فوجىء به المسلمون إبّان مرض النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلم الذي ارتحل فيه إلى الرفيق الأعلى أنّ وجه بالافتراء عليه والقول بأنّه يهجر، أو غلبه الوجع، والقائل بذلك هو عمر بن الخطاب كما في مسند أحمد 1: 325، صحيح البخاري 5: 138، فبدأت حركة التغيير في المسيرة النبوية والتاريخ الاسلامي يومئذ، لأنّ هذه الكلمة أوجدت الاختلاف بين المسلمين وكادوا أن يتقاتلوا، واختلاف المهاجرون والأنصار، ثُمّ اختلاف الأنصار فيما بينهم، وبرزت الاحن والنزعات القومية حتّى كاد أن ينسى الاسلام بتاتاً، وقد وقف من السقيفة موقف المعارض بنو هاشم عموماً وعلى رأسهم وعميدهم علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وجماعة كبيرة من الأنصار ومن المهاجرين، متمسكين بوصيّة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما أخرج ذلك الطبري 3: 443، وابن الاثير في الكامل في التاريخ 2: 325.

ثُمّ قام أصحاب السقيفة بالانقضاض على معارضيهم، فقاموا بالهجوم عليهم وضربهم، وكان لبيت علي بن أبى طالب (عليه السلام) الحصة الكبرى من ذلك حينما جاؤوا إليه وهددوا فاطمة سلام اللّه عليها بانزال أقصى العقوبات إن لم يتفرق المعارضون عن بيتها كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة في المصنف 8: 573 وأبو الفداء 1: 85 وغيرها من المصادر، وقاموا بقتل سعد بن عبادة المعارض الأوّل للسقيفة زاعمين أن الجن قتلته كما في مصنف الصنعاني 3: 597 وغيرها.

وما إن قام أبو بكر حتّى أطلق قولته المدوية ليومنا ذا فقال: "وليتكم ولست بخيركم...

وإنّ لي شيطاناً يعتريني، فاذا غضبت فاجتنبوني" المصنف للصنعاني 11: 336، تخريج الأحاديث والآثار 1: 481، فقاد الأمة بضعفه وشيطانه قيادة ضعيفة هزيلة وبعيدة عن تعاليم الرسالة الاسلامية، أما الضعف فقد كان عمر ابن الخطاب هو المدير للأمور في زمنه كما نصّ على ذلك ابن حجر العسقلاني في المقطع الذي نقله، اذ جاء فيه: "جاء الأقرع بن حابس وعيينة ابن حصين إلى أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، فقال: يا خليفة رسول اللّه، إنّ عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلا ولا منفعة، فإنَّ رأيت أن تقطعناها! فأجابهما وكتب لهما، وأشهد القوم، وعمر ليس فيهم، فانطلقا إلى عمر ليشهداه فيه فتناول الكتاب وتفل فيه ومحاه، فتذمرا له وقالا له مقالة سيئة، فقال: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، إنّ اللّه قد أعز الاسلام اذهبا فاجهدا علي جهدكما لا رعى اللّه عليكما إن رعيتما، فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران، فقالا: ما ندري واللّه أنت الخليفة أو عمر؟!

فقال: لا بل هو لو شاء كان، فجاء عمر وهو مغضب حتّى وقف على أبي بكر فقال: أخبرني عن هذا الذي أقطعتهما أرض هي لك خاصّة او للمسلمين عامة؟

قال: بل للمسلمين عامّة؟

قال: فما حملك على أن تخص بهاهذين؟

قال: استشرت الذين حولي فأشاروا عليّ بذلك، وقد قلت لك إنّك أقوى عليها منّي فغلبتني" الاصابة 4: 640.

فأبو بكر كان ضعيف الجانب باقراره وكلامه، وكان المسيّس للدولة هو عمر بن الخطاب، بحيث حتّى إقطاع قطعة أرض لم يكن أبو بكر يستطيع بتها إلاّ بموافقة عمر، فضلاً عن المسائل الأكبر من ذلك.

ثُمّ ولي الخلافة عمر بن الخطاب وكان كما يصفه ابن أبي الحديد بقوله: "كان عمر شديد الغلظة، وعر الجانب، خشن الملمس، دائم العبوس.." شرح نهج البلاغة 6: 327، وقال في موطن آخر: "وكان سريعاً إلى المساءة، كثير الجبة والشتم والسب لكُلّ أحد، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من معرّة لسانه أو يده، ولذلك أبغضوه وملّوا أيّامه.." شرح نهج البلاغة 20: 21 فاستخدم العنف في حياته مع الصحابة فضلاً عن غيرهم، وقام بمنع تدوين الحديث النبوي الشريف، ايذاناً منه بالحرب على اللّه ورسوله، وحرماناً للأمة من المفسرّ العظيم للقرآن وهو البيان النبوي الشريف..

فعاش المسلمون تحت وطئته وأحداثه المميزة التي أدخلها على الدين الاسلامي من صلاة التراويح، ومنع متعة الحج، ومتعة النساء...إلخ ممّا يطول الكلام حوله.

وقد أعرب عنه الامام علي (عليه السلام) وأوجز لنا رأيه فيه فقال في وصفه له على لسان عمر بن الخطاب: "فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً" صحيح مسلم 5: 152 وفي مكان آخر يصفه بقوله: "اتينا ولايأتنا معك أحد كراهية محضر عمر ابن الخطاب" صحيح مسلم 5: 154.

وبينما كان عمر بن الخطاب بقول: "إنّ كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت.. ولكن وقى اللّه شرّها.. من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا" صحيح البخاري 8: 26، وإذا به يدلها إلى ستة أنفار، ورجح كفة عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن يميل إلى عثمان، فكانت النتيجة خلافة عثمان التي أوقعت الأمة في متاهات وطامات مازلنا ندفع ثمنها حتّى الآن.

فعقد عبد الرحمن بن عوف الخلافة العثمانية، فقام عثمان بمخالفة السنن والقوانين، فاصدر مرسوماً بمنع الحديث، وضرب الصحابة كعمار بن ياسر وعبد اللّه بن مسعود وغيرهم، وحمل آل معيط على رقاب الناس، وارجع الحكم بن أبي العاص طريد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة بعد ما طرده النبيّ الأكرم ولعنه ومن في صلبه وسماه وزغاً، وأغدق عليه بالأموال قال الذهبي في تاريخ الاسلام 3: 365 في معرض كلامه عنه: "أسلم يوم الفتح وقدم المدينة، فكان يفشي سرّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فطرده وسبه وأرسله إلى بطن وج، فلم يزل طريداً إلى أن ولي عثمان، فأدخله المدينة ووصل رحمه وأعطاه مائة الف درهم".

واعطى مروان خُمس أفريقيا، وأعطى عبد اللّه بن خالد زوج ابنته ثلاثمائة قنطار ذهب.

وولى الامصار الفساق الفجار، فولّى عبد اللّه بن أبي سرح أخاه لامه من الرضاعة وأعطاه ولاية مصر، وعبد اللّه بن أبي سرح أسلم ثُمّ ارتد وأباح النبيّ (صلى الله عليه وآله) دمه، لكن عثمان استأمنه، ولمّااستخلف ولاه مصر. سير أعلام النبلاء 3: 34.

واستعمل الوليد بن عقبة على الكوفة قال الذهبي في ترجمته في السير 3: 413: "وولي الكوفة لعثمان.. وكان سخياً ممدوحاً شاعراً، وكان يشرب الخمر.."، وهو الذي نزل قرآن بفسقه قال ابن عبد البر في الاستيعاب 4: 1553: "ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ} نزلت في الوليد بن عقبة وحمى الحمى وفعل الأفاعيل، ومن ثُمّ أولى بأموره إلى مروان بن الحكم حتّى أوقعه في الهاوية قال ابن كثير في البداية والنهاية 8: 282: "ومن تحت رأسه جرت قضية الدار، وبسببه حصر عثمان بن عفان فيها".

ثُمّ ثار الصحابة ثورتهم المعروفة بقيادة عبد الرحمن بن عديس البلوي الصحابي الرضواني، والجهجا الغفاري الصحابي الرضواني، وطلحة بن عبيد من العشرة المبشرين بالجنّة، وجبلة بن عمرو الساعدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي.. وغيرهم من الصحابة الأجلاء قادوا الثورة ضده إلى أن قتلوه في داره.

ومن بعد مقتله قام باغية آل بني سفيان، رافعاً قميص عثمان ومطالباً بالخلافة، وقام معه أهل الشام، فخرج على إمام زمانه الشرعي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وحاربه وأثبت بغيه الذي أخبر عنه النبيّ الأكرم بقوله: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى اللّه ويدعونه إلى النار" صحيح البخاري 3: 207 فأثبت بغيه ودعوته إلى النار بحربه التي طحنت الأخضر واليابس.

ولمّا استولى على الحكم بعد مقتل الإمام علي (عليه السلام) أخذ بقتل الأبرياء العزل وسبي النساء المسلمات، يقول المزي في تهذيب الكمال 4: 64: "أنّ معاوية ابن أبي سفيان أرسل بسر بن أبي ارطاة القرشي ثُمّ العامري في جيش من الشام حتّى قدم المدينة، وعليها يومئذ أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري صاحب النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فهرب منه أبو أيوب إلى علي بالكوفة، فصعد بسر منبر المدينة، ولم يقاتله بها أحد، فجعل ينادي: يا زريق، يا نجار، شيخ سمح عهدته هاهنا بالأمس ـ يعني عثمان..ـ وجعل يقول: يا أهل المدينة، واللّه لو لا ما عهد إلي أمير المؤمنين ـ يقصد معاوية ـ ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته.. وهدم بسر دوراً بالمدينة.. ثُمّ مضى إلى اليمن وعليها يومئذ عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطلب، عاملاً لعلي بن أبي طالب.. وكانت عائشة بنت عبد اللّه بن عبد المدان قد ولدت من عبيد اللّه غلامين من أحسن صبيان الناس أوضئه وأنظفة، فذبحهما ذبحاً..".

وجاء في الاستيعاب 1: 161: "أغار بسر بن ارطاة على همدان وسبى نساءهم، فكان أوّل مسلمات سبين في الاسلام، وقتل أحياء من بني سعد.

حدّث أبو سلامة عن أبي الرباب وصاحب لهما أنّهما سمعا ابا ذر يدعو ويتعوذ في الصلاة صلاّها أطال قيامها وركوعها وسجودها.

قال: فسألنا، ممّ تعوذت، وفيم دعوت؟

فقال: تعوذت باللّه من يوم العورة.

فقلنا: وما ذاك؟

قال: أما يوم البلاء فتلتقي فتيان من المسلمين فيقتل بعضهم بعضاً.

وأما يوم العورة فإنّ نساء من المسلمات ليسبين فيكشف عن سوقهن، فأيتهن كانت أعظم ساقاً اشتريت على عظم ساقها، فدعوت اللّه ألاّ يدركني هذا الزمان، ولعلكما تدركانه.

قالا: فقتل عثمان، ثُمّ ارسل معاوية بسر بن أحمد بن ارطأة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات فأقمن في السوق".

هذا فضلاً عما فعله بالمسلمين من الصحابة وغيرهم، فقام بقتل عبد الرحمن ابن عديس البلوي الرضواني الذي تزعّم الحملة العسكرية ضد عثمان، وبعدما استولى معاوية على الأمور هرب إلى فلسطين، فقتلوه هناك. راجع الاصابة 4: 282.

وقتل عمرو بن الحمق الخزاعي الذي شارك في الهجوم على عثمان وهو صحابي معروف مشهور، وقطع رأسه وحمل ليكون أوّل رأس يحمل في الاسلام. راجع الاصابة 4: 514.

وقام بحصار الانصار، وهم الصحابة الاجلاء، اقتصادياً وسياسياً، وقطع عنهم جميع الأشياء. راجع الاصابة 1: 394 وإليك صورة مختصرة أخرى ينقلها ابن حجر في الاصابة 2: 297 فيقول: "كان حميداً بليغاً اجتمعت عليه ربيعة بعد موت علي لمّا حلف معاوية أن يسبي ربيعة، ويبيع ذراريهم لمسارعتهم إلى علي.

فقال خالد:


تمنى ابن حرب حلفة في نسائنا ودون الذي ينوي سيوف قواضب

سيوف نطاق والقناة فنستقي سوء بعلها بعلاً وتبكي القرائب

فهذا معاوية وهذه سيرته الموجزة في الدولة الاسلامية، فأيّ صفحة بيضاء فيها؟ وأي صورة ناصعة تحكيها؟!

ولمّا دق الموت اسفينه في معاوية بن أبي سفيان أدلى بالأمر إلى ابنه يزيد، شارب الخمر، اللاعب بالقرود، المنتزي على الملك من غير حق شرعي، ويحدثنا الذهبي بصورة موجزة عن يزيد فيقول: "كان ناصبياً، فظاً غليظاً، جلفاً، يتناول المسكر، ويفعل المنكر.

افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يبارك في عمره.." سير أعلام النبلاء 4: 37.

ويقول البلاذري في أنساب الاشراف 4: 2: "كان ليزيد بن معاوية قرد يجعله بين يديه ويكنيه أبا قيس ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصاب خطيئة فمسخ.

وكان ليسقيه النبيذ ويضحك مما يصنع، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسلها مع الخيل..".

هذا يزيد وهذا حاله فما هي الصفحة البيضاء في تاريخه؟

ثُمّ ولي الخلافة مروان بن الحكم بن ابي العاص الذي طُرد أبيه من المدينة بأمر من النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وسماه الوزغ بن الوزغ، وقال في حقه وبنيه: "إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين اللّه دغلاً، ومال اللّه دولاً، وعباد اللّه خولاً". المعجم الصغير 2: 135، وجاء في الاستيعاب 3: 1387 أن علياً نظر إلى مروان يوماً فقال: "ويلك وويل أمة محمّد منك ومن بنيك".

ولمّا ولي الخلافة أخذ بسب علي بن أبي طالب في كُلّ خطبة يخطبها. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 2: 376: "في زمن مروان يتعمدون ترك سماع الخطبة لمّافيها من سبّ من لا يستحق السب ـ وهو علي ـ، والافراط في مدح بعض الناس ـ يعني معاوية..".

وقد حرّض الناس في معركة الجمل، ثُمّ قام بقتل طلحة بن عبيد قال ابن عبد البر في الاستيعاب 2: 768: "رمى مروان طلحة بسهم، ثُمّ التفت إلى أبان بن عثمان فقال: قد كفيتك بعض قتلة أبيك".

علق الذهبي على ذلك في السير 1: 36 بقوله: "قاتل طلحة في الوزر بمنزلة قاتل علي"، أي مروان بمنزلة عبد الرحمن بن ملجم.

فهذا مروان وهذا تاريخه فأي صفحة بيّض بها وجه التاريخ؟!

ثُمّ ولي الخلافة ابنه عبد الملك بن مروان، وكان من ولاته الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ضرب الكعبة بالمنجنيق، وقتل الأبرياء، واستأصل شأفة الناس العزل، حتّى قال في حقه عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كُلّ أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. تهذيب التهذيب 2: 185.

هذا الحجاج أوصى به عبد الملك ابنه فقال: "وانظر الحجاج فاكرمه، فإنّه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناواك" تاريخ الاسلام6: 143.

فأين الصفحة البيضاء في تاريخ شخص يولي الحجاج بن يوسف؟! ثُمّ ولي الخلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان الذي وصفه الذهبي بقوله في تاريخ الاسلام 6: 500: "وكان الوليد جباراً ظالماً".

وقال العبسي: "كان مولده سنة خمسين، وكان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب، وكان لا يحسن العربية، وكان إذ مشى يتوكف في المشية ـ أي يتبختر..." البداية والنهاية 9: 182.

وتولى الخلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان، ويكفي في تاريخه أن حريز بن عثمان الحربي الناصبي الموثق لدى علماء السنة قال: "هذا الذي يروية الناس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لعلي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى حق، ولكن أخطأ السامع! قلت: فما هو؟

فقال: إنّما هو أنت منّي بمنزلة قارون من موسى.

قلت: عمّن ترويه؟

قال: سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله وهو على المنبر" تهذيب التهذيب 2: 209.

وفي سير أعلام النبلاء 2: 160 عن الزهري قال: "قال: كنت عند الوليد فقال: الذي تولى كبره علي.

فقلت: لا، حدّثني سعيد وعروة وعلقمة وعبيد اللّه كُلّهم سمع عائشة تقول: إنّ الذي تولى كبره عبد اللّه بن أبي..".

وفي سير أعلام النبلاء 4: 9 عن الزهري قال: "كنت عند الوليد بن عبد الملك، فكان يتناول عائشة رضي اللّه عنها".

وبعد هذا وذاك يرجعون ويقولون بأنّ الشيعة هم الذين يطعنون بعائشة ويرمونها بالافك، وهذه الروايات تشهد بأنّ الصحابة هم الذين رموا عائشة بالأفك، وأنّ هذا الخليفة يطعن بأُمه عائشة.

وولي الخلافة هشام بن عبد الملك وقام في دولته بذبح زيد بن علي عليه السلام وشيعته، وأخذ بتتبع المسلمين الشيعة تحت كُلّ حجر ومدر.

ثُمّ ولي الخلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، قال عنه العيني في عمدة القارئ: "كان مشهوراً بالالحاد مبارزاً بالعناد" عمدة القارئ 22: 212.

وقد أخبر عنه النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال: "سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكونن في هذه الأُمة رجل يقال له الوليد، لهو شرّ على هذه الأمة من فرعون لقومه" مسند أحمد 1: 18.

قال الأوزاعي: "فكانوا يرونه الوليد بن عبد الملك، ثُمّ رأينا إنّه الوليد بن يزيد لفتنة الناس به حين خرجوا عليه فقتلوه، وانفتحت الفتن على الأمة بسبب ذلك، وكثر فيهم القتل" فتح الباري 10: 478.

وولي بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك بعد أن ثار على الوليد وقتله، قال اليعقوبي: "وكانت ولايته خمسة أشهر، والفتنة في جميع الدنيا عامة، حتّى قتل أهل مصر أميرهم حفص بن الوليد الحضرمي، وقتل أهل حمص عاملهم عبد الله بن شجرة الكندي، وأخرج أهل المدينة عاملهم عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز.

وغلب على أمره يزيد بن خالد القسري، وكان على شرطة يزيد بن الشماخ اللخمي.. وكان قدرياً.." تاريخ اليعقوبي 2: 335.

ثُمّ ملك إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، قال الزركلي في الاعلام 1: 78: "وكان ضعيفاً مغلوباً على أمره، تارة يسلم عليه بالامارة، وتارة بالخلافة، فمكث سبعين يوماً، فثار عليه مروان بن محمّد بن مروان، وكان والي اذربيجان، ودعا لنفسه بالخلافة، وقدم الشام، فاختفى إبراهيم واستولى مروان، فأمن إبراهيم فظهر وقد ضاعت خلافته، وقتل مع من قتل من بني امية حين زالت دولتهم".

ثُمّ ملك مروان بن محمّد بن مروان، قال ابن حبان في الثقات 2: 322: "وكان يقال له بالحمار، وإنّما عرف بالحمار لقلة عقله".

وقال الزركلي في الأعلام 7: 208: "فافتتح فتوحات وخاض حروباً كثيرة، ولمّاقتل الوليد بن يزيد وظهر ضعف الدولة في الشام دعا الناس وهو بأرمنيية إلى البيعة فبايعوه فيها..".

إلى هنا تنتهي الدولة الأموية، ورأيتا فيها بشكل مقتضب المحن والفتن والاضطرابات، فأين الصفحة المشرقة في الدولة الاموية؟!

نترك الجواب لأموي العصر، لعلهم يجدون حلاً لهذه الصفحات السوداء.

ثُمّ شرعت دولة بني العبّاس وكان أوّل حاكم فيها أبي العبّاس السفاح قال الزركلي في الاعلام 4: 116: "أوّل خلفاء الدولة العباسية، وأحد الجبارين الدهاة من ملوك العرب.. وكان شديد العقوبة، عظيم الانتقام، تتبع بقايا الأمويين بالقتل والصلب والاحراق حتّى لم يبق منهم غير الاطفال والجالين إلى الاندلس. ولقب بالسفاح لكثرة ما سفح من دمائهم..".

ثُمّ ولي الخلافة من بعده أبو جعفر المنصور قال الذهبي في سير اعلام النبلاء 7: 83: "أباد جماعة كباراً حتّى توطد له الملك، ودانت له الأمم على ظلم فيه، وقوة نفس".


الصفحة 265

الصفحة 266

الصفحة 267

الصفحة 268

الصفحة 269

الصفحة 270

الصفحة 271

الصفحة 272

الصفحة 273

الصفحة 274

وأذكر على سبيل المثال أنّ الأستاذ المختص في تدريسنا مادة البلاغة كان يدرّسنا الخطبة الشقشقية من كتاب نهج البلاغة للإمام عليّ، واحترت كما احتار عدد من التلاميذ عند قراءتها، وتجرأت وسألته: إن كان هذا من كلام الإمام علي حقّاً؟!

فأجاب: قطعاً ومن لمثل هذه البلاغة سواه؟! ولو لم يكن كلامه كرّم الله وجهه لم يكن علماء المسلمين أمثال الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصرية ليهتّم بشرحه.

عند ذلك قلت: إنّ الإمام علي يتّهم أبا بكر وعمر بأنّهم اغتصبوا حقّه في الخلافة.


الصفحة 275

فثارت ثائرة الأستاذ وانتهرني بشدّة، وهدّدني بالطرد إن عدت لمثل هذا السؤال، وأضاف قائلا: نحن ندرّس بلاغة ولا ندرّس التاريخ، وما يهمنا شيء من أمر التاريخ الذي سوّدت صفحاته الفتن والحروب الدّامية بين المسلمين، وكما طهّر الله سيوفنا من دمائهم فلنطهّر ألسنتنا من شتمهم.

ولم أقنع بهذا التعليل، وبقيت ناقماً على ذلك الأستاذ الذي يدرسنا بلاغة بدون معان ، وحاولت مراراً عديدة دراسة التاريخ الإسلامي، ولكن لم تتوفّر عندي المصادر والإمكانات لتوفير الكتب ، وما وجدت أحداً من شيوخنا وعلمائنا يهتمّ بها، وكأنّهم تصافقوا على طيّها وعدم النظر فيها، فلا تجد أحداً يملك كتاباً تاريخياً كاملا.

فلمّا سألني صديقي عن معرفة التاريخ أحببت معاندته فأجبته بـ (نعم) ولسان حالي يقول: أعرف أنّه تاريخ مظلم مسود لا فائدة فيه إلاّ الفتن والأحقاد والتناقضات.

قال: هل تعرف متى ولد عبد القادر الجيلاني، في أي عصر؟

قلت: حسب التقريب في القرن السادس أو القرن السابع.

قال: فكم بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

قلت: ستة قرون.

قال: فإذا كان القرن فيه جيلان على أقل تقدير، فيكون نسبة عبد القادر الجيلاني للرسول بعد اثني عشر جداً.

قلت: نعم

قال: فهذا موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن فاطمة الزهراء يصل نسبه إلى جدّه رسول الله بعد أربعة أجداد فقط. أو بالأحرى فهو من مواليد القرن الثاني للهجرة، فأيّهما أقرب إلى رسول الله موسى أم عبد


الصفحة 276

القادر؟(1)

____________

1- إنَّ المطالع لكتب الوهابية أدنى مطالعة يلحظ فيها عقدة (القبور)، (التوسل) بالانبياء والصالحين، وكأن أمهاتهم ولدنهم في مقبرة بحيث أصبح الكلام عن القبر (العقدة المستعصية) ديدنهم، وتصوروا أنّ التوحيد كاملاً ينحصر في القبور والابتعاد عنها، وأنّ الرسالة الإسلامية التي جاءت للبشرية جمعاء، ولتظهر دقائق العقول وتنير للانسان طريقه.. هذه الرسالة العظيمة منحصرة بقبر، وأن من ابتعد عن القبر فهمها ودخل في زمرة المؤمنين ومن دنا من قبر فهو خارج عن الدين جاهل بتعاليم الإسلام العظيم!!

فاصبح القبر عندهم عنواناً عاماً يطلقونه على غيرهم فيسمونهم (القبورية)، والقوا الكتب والمقالات تحت عناوين الرد على القبورية وبيان عقائدهم وما إلى ذلك مما يفهمه القارئ.. وضاعت رسالة السماء العظيمة النيرة والتي تحمل تعاليم جهة من ناحية الفكر وبيان صفات الله سبحانه وتعالى والكون والعوالم التي تحيط به.. وما هنالك من أخلاق وتعاليم لاستخلاص النفس الإنسانية والرقي بها إلى الاعلى، من نظم اقتصادية وسياسية واجتماعية ومدنية يحملها الإسلام وبينها للأمة باوجز بيان وباجلى برهان، وما إلى هنالك الكثير من غيرها الذي لا تسعه بيان عناوينه هذه الاسطر.. كلّ ذلك اغفلوه عن حياة المسلم وشطبوه من قاموسه الذي يعيش فيه وذهبوا به إلى المقبّرة التي تحكم إسلامه من كفره، أو قل كما يقولون (اسلامه) من (قبوريته)!! فصار القبر عنواناً بدل كلمة التوحيد وبدل التصديق بالرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله)، وبتعاليم الإسلام الرصينة، وصارت المقبرة شعاراً بدل التنقيب عن تعاليم الإسلام وبثها بين الشعوب والأُمم.. فالقبر أخذ الجزء الأكبر من تعاليم محمّد بن عبد الوهاب، فتجد القبر أمامك في كُلّ كتبه من كتاب التوحيد إلى كشف الشبهات إلى سيرة الرسول إلى التفسير وإلى بقية كتبه، والقارئ لها يشهد وجود أزمة نفسيه عند هذا الإنسان مع القبر.

جاءوا إلى التوحيد فقسموه إلى توحيد الوهيه وربوبية وعبودية، ثمّ حصروا توحيد العبودية بالقبر والتوسل بالأنبياء والصالحين، فمن فعل ذلك فهو عار عن التوحيد عموماً ومن لم يفعله داخل في زمرة الموحدين الابرار الاتقياء!!

ولاجل كلّ ذلك وغيره تجدهم دائماً يفسقون الطوائف الاخرى ويخرجونها عن الملة والإسلام ولا يرون مسلماً إلاّ من كان على عقيدتهم، واعتقد بما سطروا، مما سموه عقيدة حتّى قال قائل منهم: "إنّ سلفنا من الحنابلة كانوا أشد من غيرهم من المذاهب السنية في التكفير والتبديع والافتاء بقتل الخصوم" قراءة في كتب العقائد: 22.

وهكذا انطلقت الوهابية من القبر ـ وان زعمت أنّها انطلقت من التوحيد وسمته توحيد العبودية لكن في الحقيقية حصرته بالقبر ـ لتبني عليه بنيانها المتلاحق من رسم صورة الإسلام وتعاليمه العظيمة بقبر لا يتجاوز طوله المتر وعرضه نصف المتر، فلذلك لا يستغرب من بُعدِ الناس عن الإسلام وعدم إيمانهم به، بل والاعراض عنه بالكلية إذا كانت الصورة التي يأخذونها عن الإسلام هي صورة التوحيد القبوري، وربط فكر الإسلام بقبر محدود، وعلى أساسه بُنيت التعاليم وأسس الاجتماع وما إلى ذلك..

والخلاصة: إنّ الرسالة السماوية التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) والتي لخصها ذلك الصحابي الجليل عندما سئل عن خلاصة رسالته وما هدفها؟

فقال: "جئنا لنخرج الناس من عبودية العباد إلى عبودية الله سبحانه وتعالى"، هذه المقولة العظيمة التي تلخص أهداف الإسلام والقرآن العظيم، وهو الانطلاق بالإنسان إلى ذروة الكمال والتمام، واستخراج مكنون العقل ودفائنه، ورسم صورة للحياة يفهم الإنسان من خلالها موقعه في هذا الكون، ويفهم موقعه بالقياس إلى ما حوله، وكيف يتعامل مع من سواه على المستوى الفردي والجماعي.. أقول هذه المقولة العظيمة اختزلها محمّد بن عبد الوهاب وانزلها من تلك المنزلة الرفيعة والمقام السامي ليدفنها في قبر واحجار محدودة المكان والزمان، ويوسدها بداخله ويقرأ عليها تراتيل العزاء، ثمّ يقول: إنه هو التوحيد الراسخ والايمان الخالص، من عرفه أصبح من زمرة المسلمين ومن جهله أو جحده فعليه اللعنة إلى يوم الدين!!

فعلى الدين الإسلامي لتذرف الدموع، ولتبكي البواكي، وتندبه النوائح اذا أصبح بيد محمّد بن عبد الوهاب واتباعه، الذين حصروه بحجر ضيق لا يغني ولا يسمن، ولا مدخل له في دين الله سبحانه وتعالى...

وأما كلام المؤلف حول هذا الموضوع، وأنّ الوهابية ينكرون كرامات الأولياء فالكلام فيه واضح من أوله إلى آخره، حيث إنّ الوهابية تعادي القبر وتجعله الشرك الأكبر الذي ليس بعده حيلة، وأنّ من دخل إلى قبر من قبور الاولياء وتوسل به ودعا الله بحضرته فهو مشرك بشرك كبير يخرجه عن الملة. وهذا ما عناه المؤلف بكلامه، واليك شزرٌ من كلمات محمّد بن عبد الوهاب وهو يكفر من يدعو عند الأولياء ويزور قبورهم:

1 ـ قال: "... فنحن نعلم بالضرورة أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يشرع لأمته أن يدعو أحداً من الاموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، بل نعلم أنّه نهى عن هذه الأُمور كُلّها وأن ذلك من الشرك الاكبر.." مجموع مؤلفات الشيخ محمّد بن عبد الوهاب، الرسائل الشخصية: 105.

2 ـ قال: ".. فأخبر سبحانه أنّه لا يرضى من الدين إلاّ ما كان خالصاً لوجهه، وأخبر أنّ المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنّه لا يهدي من هو كاذب كفار...

واما ما صدر من سؤال الانبياء والاولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسراج والصلاة عندها واتخاذها أعياداً، وجعل السدنة والنذور لها، فكُلّ ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي (صلى الله عليه وآله)وحذر منها كما في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "لا تقوم الساعة حتّى يلحق حي من أُمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أُمتي الاوثان".." المصدر السابق: 112 ـ 113.

3 ـ وقال: "وصار ناس من الضالين يدعون أناساً من الصالحين في الشدة والرخاء مثل عبد القادر الجيلاني وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح; صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف.. وبين أهل العلم أنّ هذا هو الشرك الأكيد.." المصدر السابق: 151 ـ 152.

4 ـ قال في كتابه كشف الشبهات: 49: "اعلم ـ رحمك الله ـ أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة.

وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح (عليه السلام) أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين، وداً وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً. وآخر الرسل محمّد (صلى الله عليه وآله)، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أُناس يتعبدون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله ولكنهم يجعلون بعض المخلوقين وسائط بينهم وبين الله عزّ وجلّ يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله تعالى، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة وعيسى، ومريم، واُناس غيرهم من الصالحين.

فبعث الله تعالى محمّداً (صلى الله عليه وآله) يجدد لهم دينهم، دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أنّ هذا التقرب والاعتقاد محض حقّ الله تعالى لا يصلح منه شيء لغيره، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما.

والاّ فهؤلاء المشركون يشهدون أنّ الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنّه لا يرزق إلاّ هو، ولا يحيي ولا يميت إلاّ هو، ولا يدير الأمر إلاّ هو..

إذا تحققت أنّهم مقرون بهذا، وأنّه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودعاهم إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعرفت أنّ التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسمّيه المشركون في زماننا الاعتقاد...".

إلى غير ذلك من الكلمات الكثيرة التي لا تخلو منها رسالة من رسائله الشخصية من تكفير وتبديع من يزور القبور ويصلي فيها ويدعو الله عندها، ويتبرك بآثار الأنبياء والصالحين.

فلا داعي للتهويل على المؤلف ومحاولة الاغماض عمّا ذكره سابقاً ولاحقاً على هذه الكلمة من أنّ محمّد بن عبد الوهاب وأنصاره يكفرون من يدعو الله عند الأولياء ويزور قبورهم ويتبرك بهم لما لهم من المقام القربي من الله سبحانه وتعالى.

واما أنّ الزائر لقبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الولي يعتقد فيه أنّه شريك لله سبحانه وتعالى وأنّه واسطته بينه وبين الله تعالى فهذا كلام عار عن الصحة تماماً وخال عن أي مستند إلاّ ما يوجد في ذهن محمّد بن عبد الوهاب وأنصاره، وله بحث في موضعه المخصوص فلا نطيل الكلام حوله.


الصفحة 277

الصفحة 278

الصفحة 279

وبدون تفكير قلت: هذا أقرب طبعاً، ولكن لماذا نحن لا نعرفه ولا نسمع بذكره؟

قال: هذا هو بيت القصيد، ولذلك قلت: بأنّكم ـ واسمح لي أن أعيدها ـ تركتم اللّب وتمسّكتم بالقشور، فلا تؤاخذني وأرجوك المعذرة.

كنّا نتحدّث ونمشي ونتوقّف من حين لآخر حتّى وصلنا إلى منتدى علمي يجلس فيه الطلبة والأساتذة ويتبادلون الآراء والنظريات، هناك جلسنا وكان يبحث بعينيه في الجالسين وكأنّه على موعد مع أحدهم.

جاء أحد الوافدين وسلّم علينا، وفهمت أنّه زميله في الجامعة، وسأله عن شخص علمت من الأجوبة أنّه دكتور وسيأتي عمّا قريب، في الأثناء. قال لي صديقي: أنا جئت بك إلى هذا المكان قاصداً أن أعرّفك بالدكتور المتخصص في الأبحاث التاريخية، وهو أُستاذ التاريخ في جامعة بغداد، وقد حصل على الدكتوراه في أطروحته التي كتبها عن عبد القادر الجيلاني، وسوف ينفعك بحول الله، لأنني لست مختصّاً في التاريخ.


الصفحة 280

شربنا بعض العصير البارد حتّى وصل الدكتور، ونهض إليه صديقي مسلّماً عليه، وقدّمني إليه وطلب منه أن يقدّم إلي لمحة عن تاريخ عبد القادر الجيلاني، واستأذننا في الانصراف لبعض شؤونه.

طلب لي الدكتور مشروباً بارداً، وبدأ يسألني عن اسمي وبلادي ومهنتي، كما طلب منّي أن أحدّثه عن شهرة عبد القادر الجيلاني في تونس.

ورويت له الكثير في هذا المجال حتّى قلت: والناس عندنا يعتقدون بأنّ الشيخ عبد القادر كان يحمل رسول الله على رقبته ليلة المعراج عندما تأخر جبريل خوفاً من الاحتراق، وقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): قدمي على رقبتك، وقدمك على رقاب كلّ الأولياء إلى يوم القيامة.

وضحك الدكتور كثيراً عند سماعه كلامي، وما دريت أكان ضحكه على هذه الروايات أم كان على الأستاذ التونسي الذي بين يديه !

بعد مناقشة قصيرة حول الأولياء والصالحين قال: إنّه بحث طوال سبع سنين سافر خلالها إلى لاهور في الباكستان، وإلى تركيا، وإلى مصر، وبريطانيا، وكُلّ الأماكن التي بها مخطوطات تنسب إلى عبد القادر الجيلاني وأطّلع عليها وصوّرها، وليس فيها أيّ إثبات بأنّ عبد القادر الجيلاني هو من سلالة الرسول، وغاية ما هنالك بيت من الشعر ينسب إلى أحد أحفاده يقول فيه: "وجدّي رسول الله"، وقد يحمل ذلك ـ كما قال بعض العلماء ـ على تأويل حديث النبي (صلى الله عليه وآله): "أنا جدّ كلّ تقي"(1).

وزادني بأنّ التاريخ الصحيح يثبت أنّ عبد القادر أصله فارسي وليس عربياً أصلا، وقد ولد في بلدة بإيران تسمّى (جيلان)، وإليها ينسب عبد القادر، وقد نزح إلى بغداد حيث تعلّم هناك وجلس يدرّس في وقت كان في انحلال خلقي.

وكان الرجل زاهداً فأحبّه الناس، وبعد وفاته أسّسوا الطريقة القادرية

____________

1- كشف الخفاء ومزيل الالتباس 1: 203.


الصفحة 281

نسبة إليه كما يفعل دائماً أتباع كُلّ متصوّف.

وأضاف قائلا: حقاً إنّ حالة العرب مؤسفة من هذه الناحية.

وثارت في رأسي حميّة الوهابية، فقلت للدكتور: "إذاً أنت وهابي الفكر ـ يا حضرة الدكتور ـ فهم يقولون كما تقول ليس هناك أولياء".

فقال: لا أنا لست على رأي الوهابية، والمؤسف عند المسلمين هو إمّا الإفراط وإمّا التفريط، فإمّا أن يؤمنوا ويصدّقوا بكل الخرافات التي لا تستند إلى دليل ولا عقل ولا شرع، وإمّا أن يكذّبوا بكُلّ شيء حتّى بمعجزات نبيّنا محمّد وأحاديثه، لأنّها لا تتماشى وأهواءهم وعقائدهم التي يعتقدونها، وقد شرّقت طائفة وغرّبت أخرى; فالصوفية يقولون بإمكانيّة حضور الشيخ عبد القادر الجيلاني ـ مثلا ـ في بغداد وفي نفس الوقت في تونس، وقد يشفي مريضاً في تونس وينقذ غريقاً في نهر دجلة في نفس اللّحظة ، فهذا إفراط.

والوهابية ـ كرد فعل على الصوفية ـ كذّبوا بكُلّ شيء حتّى قالوا بشرك من توسّل بالنبي! وهذا تفريط، لا يا أخي نحن كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}(1).

أعجبني كلامه كثيراً وشكرته مبدئيّاً، وأبديت قناعتي بما قال. فتح محفظته وأخرج كتابه عن عبد القادر الجيلاني وأهدانيه، كما دعاني للضيافة فاعتذرت، وبقينا نتحدّث عن تونس وعن شمال إفريقيا حتّى جاء صديقي، ورجعنا إلى البيت ليلا بعد أن أمضينا كامل اليوم في الزيارات والمناقشات، وشعرت بالتّعب والإرهاق فاستسلمت للنوم.

استيقظت باكراً وصلّيت وجلست أقرأ الكتاب الذي يبحث في حياة عبد القادر، فما أفاق صديقي حتّى كنت قد أتممت نصفه، وكان يتردّد عليّ من حين لآخر داعياً إيّاي لتناول الفطور، فلم أوافق حتّى أنهيت الكتاب، وقد شدّني إليه

____________

1- سورة البقرة: 143.


الصفحة 282

وأدخل عليّ شكّاً لم يلبث طويلا حتّى زال قبل خروجي من العراق.

الشك والتساؤل

بقيت في بيت صديقي ثلاثة أيّام، استرحت خلالها وفكّرت ملياً فيما سمعته من هؤلاء الذين اكتشفتهم وكأنّهم كانوا يعيشون على سطح القمر، فلماذا لم يحدّثنا أحدٌ عنهم إلاّ بما هو مزر ومشين.

لماذا أنا أكرههم وأحقد عليهم دون أن أعرفهم، لعلّ ذلك ناتج من الإشاعات التي نسمعها عنهم من أنّهم يعبدون عليّاً، وأنّهم ينزلون أئمتهم منزلة الآلهة، وأنّهم يقولون بالحلول، وأنّهم يسجدون للحجر من دون الله، وأنّهم ـ كما حدّثنا أبي بعد رجوعه من الحجّ ـ يأتون إلى قبر الرسول ليلقون فيه القذارات والنجاسات، وقد مسكهم السعوديون وحكموا عليهم بالإعدام وأنهم.. وأنهم.. حدّث ولا حرج.

كيف يسمع المسلمون بهذا ولا يحقدون على هؤلاء الشيعة ولا يبغضونهم، بل كيف لا يقاتلونهم؟!

ولكن كيف أصدّق هذه الاشاعات، وقد رأيت بعينيّ ما رأيت، وسمعت بأذنيّ ما سمعت، وها قد مضى على وجودي بينهم أكثر من أسبوع، ولم أر منهم ولم أسمع إلاّ الكلام المنطقي الذي يدخل العقول بدون استئذان.

بل قد استهوتني عباداتهم وصلاتهم ودعاؤهم وأخلاقهم واحترامهم لعلمائهم حتّى تمنّيت أن أكون مثلهم، وبقيت أتسأل: هل حقّاً أنّهم يكرهون رسول الله! وكلّما ذكرته وكثيراً ما أذكره لاختبارهم فيصيحون بكُلّ جوارحهم "اللّهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد"، وظننت أنّهم ينافقون، ولكن زال هذا الظن بعد ما تصفّحت كتبهم التي قرأت شيئاً منها، فوجدت احتراماً وتقديساً


الصفحة 283

وتنزيهاً لشخص الرسول لم أعهده في كتبنا.

فهم يقولون بعصمته (صلى الله عليه وآله) في كلّ شيء قبل البعثة وبعدها، بينما نقول نحن أهل السنّة والجماعة بأنّه معصوم في تبليغ القرآن فقط، وما عدا ذلك فهو بشر يخطئ كغيره، وكثيراً ما نستدلّ على ذلك بخطئه (صلى الله عليه وآله) وتصويب بعض الصحابة رأيهُ، ولنا في ذلك أمثلة متعدّدة، بينما يرفض الشيعة أن يكون رسول الله يخطئ ويصيب غيره، فكيف أصدق بعد هذا أنّهم يكرهون رسول الله.. كيف؟!

وتحدّثت يوماً مع صديقي ورجوته وأقسمت عليه أن يجيبني بصراحة، وكان الحوار التالي:

أنتم تنزلون علياً رضي الله عنه وكرم الله وجهه منزلة الأنبياء، لأنّي ما سمعت أحداً منكم يذكره إلاّ ويقول: (عليه السلام).

ـ فعلا نحن عندما نذكر أمير المؤمنين أو أحد الأئمة من بنيه نقول: (عليه السلام)، فهذا لا يعني أنّهم أنبياء، ولكنهم ذريّة الرسول وعترته الذين أمرنا الله بالصّلاة عليهم في محكم تنزيله، وعلى هذا يجوز أن نقول: عليهم الصلاة والسّلام أيضاً.

ـ لا يا أخي نحن لا نعترف بالصّلاة والسلام إلاّ على رسول الله والأنبياء الذين سبقوه، ولا دخل لعلي وأولاده في ذلك رضي الله عنهم.

ـ أنا أطلب منك وأرجوك أن تقرأ كثيراً حتّى تعرف الحقيقة.

ـ أيّ الكتب أقرأ يا أخي؟ ألست أنت الذي قلت لي بأنّ كتب أحمد أمين ليست حجّة على الشيعة، كذلك كتب الشيعة ليست حجّة علينا ولا نعتمد عليها، ألا ترى أن كتب النّصارى التي يعتمدونها تذكر أنّ عيسى (عليه السلام) قال: "إنّي ابن الله"! في حين أن القرآن الكريم ـ وهو أصدق القائلين ـ يقول على لسان


الصفحة 284

عيسى بن مريم: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}(1)؟!

ـ حسناً قلت: لقد قلت ذلك، والذي أريده منك هو هذا، أعني استعمال العقل والمنطق والاستدلال بالقرآن الكريم والسنّة الصحيحة ما دمنا مسلمين، ولو كان الحديث مع يهودي أو نصراني لكان الاستدلال بغير هذا.

ـ إذاً، في أيّ كتاب سأعرف الحقيقة، وكُلّ مؤلف وكُلّ فرقة وكُلّ مذهب يدّعي أنّه على الحقّ؟!

ـ سأعطيك الآن دليلا ملموساً، لا يختلف فيه المسلمون بشتّى مذاهبهم وفرقهم ومع ذلك فأنت لا تعرفه !

ـ وقل ربّي زدني علماً.

هل قرأت تفسير الآية الكريمة: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(2).

فقد أجمع المفسّرون سنّة وشيعة على أنّ الصحابة الذين نزلت فيهم هذه الآية، جاؤوا إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله، عرفنا كيف نسلّم عليك ولم نعرف كيف نصلّي عليك؟

فقال: قولوا: "اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنّك حميد مجيد"(3)، ولا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء،

____________

1- سورة المائدة: 117.

2- سورة الأحزاب: 56.

3- هذا الحديث مجمع عليه، ورد بألفاظ وأسانيد مختلفة في كتب الحديث والتفسير، انظر على سبيل المثال، صحيح البخاري: 4: 118، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)، صحيح مسلم: 2: 16، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) بعد التشهد، السنن الكبرى للبيهقي 2: 209، كتاب الصلاة، سنن الدارقطني 1: 354، باب وجوب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)، القول البديع للسخاوي: 34، الباب الأول، أخبار اصفهان لأبي نعيم الاصفهاني 1: 131، الشفا للقاضي عياض 2: 60، مجمع الزوائد 2: 144، 10: 163، الدر المنثور للسيوطي 5: 406، ذيل الآية روح المعاني للآلوسي 11: 254، تفسير القرطبي 14: 150، ذيل الآية.

قال الباحث السلفي حسن فرحان المالكي في كتابه (قراءة لمذهب الشيخ محمّد بن عبد الوهاب في التكفير مع نقد تفصيلي لكتاب كشف الشبهات) في هامش: 38: "قد يلاحظ بعض الأُخوة أنني غالباً اقتصر في الصلاة على النبي والآل دون الصحابة، ليس انكاراً لفضلهم، ولا ملتزماً بذلك، وإنّما محاولاً التذكير بالنصّ الذي نردده في كلّ تشهد (اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد)، فليس في الأحاديث التزام الصلاة على الصحابة كما نفعل اليوم، اتباعاً لمحدثات بعض السلفية الأُولى!!

ولم نكتفِ بالصلاة على الصحب حتّى ادخلنا فيها كلمة (اجمعين) حتّى يدخل معاوية والوليد وقاتل عمار! فالتزام هذا والانكار على من اقتصر على الآل للأسف إنّها من البدع المشتهرة عند غلاتنا، تلك البدع التي ابتدعناها لمعارضة الشيعة، وهي دليل على رغبة الغلاة هنا من قديم إلاّ يختص أهل البيت بشيء من الخصائص!!

ولولا أنّ الصلاة على الآل يردده المسلمون في كُلّ تشهد لنسوها مثلما نسوا المنزلة الهارونية وبغي معاوية".

وهذا الكلام يصدق عليه قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) سورة يوسف: 26، وعلى بطلان ما يفعلونه من الاقتصار على الصلاة على النبي فقط أو ادخال الصحابة أجمعين عند الصلاة على النبي والآل، وهي بدعة أحدثوها بدون دليل وبرهان.

وقال العلامة الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري في كتابه (القول المقنع في الرد على الالباني المبتدع): 9 ـ 10: "وننبه هنا على خطأ وقع من جماهير المسلمين، قلد فيه بعضهم بعضاً، ولم يتفطن له الاّ الشيعة: ذلك أنّ الناس حين يصلون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يذكرون معه أصحابه، مع أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سأله الصحابة فقالوا: كيف نصلي عليك؟ أجابهم بقوله: "قولوا اللّهم صلِ على محمّد وآل محمّد"، وفي رواية: "اللّهم صلِّ على محمّد وأزواجه وذريته"، ولم يأتِ في شيء من طرق الحديث ذكر أصحابه، مع كثرة الطرق وبلوغها حد التواتر، فذكر الصحابة في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زيادة على ما علَّمه الشارع، واستدراك عليه، وهو لا يجوز.

وأيضاً فانّ الصلاة حقّ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولآله، لا دخل للصحابة فيها، لكن يترضى عنهم.

وروى مالك حديث أبي حميد الساعدي أنّهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟

فقال: "قولوا اللّهم صلِّ على محمّد وأزواجه وذريته كما صلّيت على آل إبراهيم".


الصفحة 285