الصفحة 344

أحاديث عن فضائل يوم عاشوراء وما فيه من بركات ورحمات.. إنّه أمر عجيب!

زرنا بعد ذلك ضريح العبّاس أخي الحسين، ولم أكن أعرف من هو، وقد روى لي صديقي قصة بطولته وشجاعته، كما التقينا بالعديد من العلماء الأفاضل الذين لا أتذكر أسماءهم بالتفصيل سوى بعض الألقاب، كبحر العلوم، والسيد الحكيم، وكاشف الغطاء، وآل ياسين، والطباطبائي، والفيروزآبادي، وأسد حيدر، وغيرهم ممن تشرّفت بمقابلتهم.

والحقّ يقال إنّهم علماء أتقياء، تعلوهم هيبة ووقار، والشيعة يحترمونهم كثيراً، ويؤدّون إليهم خمس أموالهم، والتي بها يديرون شؤون الحوزات العلمية، ويؤسّسون المدارس والمطابع، وينفقون على طلاّب العلم الوافدين من كُلّ البلاد الإسلامية.

إنّهم مستقلّون ولا يرتبطون بالحكّام من قريب أو من بعيد، كما هو شأن علمائنا الذين لا يفتون ولا يتكلمون إلاّ برأي السلطة التي تضمن معاشهم، وتعزل من تشاء منهم وتنصب من تشاء(1).

____________

1- فقهاء المذهب السنيّ في عصرنا الحاضر يتبعون الحكام ولا يخرجون عن ارادتهم إلاّ في الأمور المرتبطة بالطهارة والنجاسة، بل حتّى هذه لو أراد الحاكم التدخل فيها لرضخ له حكام علماء السنّة، الاّ القليل النادر الذي لا يسير برأي الحاكم ولا يوافق هواه، وهذه تجده إما سجيناً أو طريداً أو معلقاً على خشبة بتهمة الخيانة والاتباع لدولة أُخرى.

وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أو شرح حال فكُلّ شخص يستطيع أنّ ينظر إلى فقهاء دولته لير ذلك واضحاً أمام عينيه.

وهذه التبعية جاءت نتيجة التطويع الذي عاشوه في الازمان الغابرة، ففي الماضي كان الفقيه لا ينصّب إلاّ بمرسوم من الوالي ويكون فقيهاً للأمة، وإن كان هو في الحقيقة فقيه للسلطة وحتّى في زمننا الحاضر فإنّ المشيخة بيد الدولة، وهي أمر موروث من الزمن الغابر.

ولنأخذ صفحات التاريخ ونتركها تكلمنا عن حال الفقهاء في الزمن الماضي:

فهذا مالك بن أنس فقد بعث إليه المنصور قائلاً: "إنّ الناس قد اختلفوا بالعراق، فضع كتاباً نجمعهم عليه، فوضع الموطأ" سير أعلام النبلاء 8: 111، تاريخ الاسلام 11: 322.

وفي تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 209: "حدثنا أبو مصعب: سمعت مالكاً يقول: دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين، وهو على فراشه، وإذا صبي يخرج ثُمّ يرجع، فقال لي: أتدري من هذا؟

فقلت: لا.

قال: ابني، وإنّما يفزع من هيبتك.

قال: ثُمّ سألني عن أشياء منها حلال ومنها حرام، ثُمّ قال لي:

أنت والله يا أمير المؤمنين.

قال: بلى، ولكنك تكتم، لئن بقيت لأكتبنّ قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثنّ به إلى الآفاق، فاحملهم عليه".

وفي تاريخ بغداد 3: 100: "كان ولي عبد الصمد على المدينة. قال: فعاقب بعض القرشيين وحبسه حبساً ضيقاً.

قال: وكتب بعض قرابته إلى أبي جعفر، فشكى ذلك إليه وأخبره، فكتب أبو جعفر إلى المدينة وأرسل رسولاً وقال: اذهب فانظر قوماً من العلماء فأدخلهم عليه حتّى يروا حاله، وتكتبوا إليّ بها، فأدخلوا عليه في حبسه مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وابن أبي سبرة، وغيرهم من العلماء.

فقال: اكتبوا بما ترون إلى أمير المؤمنين.

قال: وكان عبد الصمّد لمّابلغه الخبر حلّ عنه الوثاق والبسه ثياباً، وكسى البيت الذي كان فيه ورشه، ثُمّ أدخلهم عليه، فقال لهم الرسول: اكتبوا بما رأيتم، فأخذوا يكتبون: يشهد فلان، وفلان، فقال ابن أبي ذئب: لا تكتب شهادتي، أنا اكتب شهادتي بيدي، إذا فرغت فارم إلي بالقرطاس.

فكتبوا: رأيت محبساً ليناً، ورأينا هيئة حسنة، وذكروا ما يشبه هذا الكلام قال: ثُمّ دفع القرطاس إلى ابن أبي ذئب، فلمّا نظر في الكتاب فرأى هذا الموضع قال: يا مالك، داهنت وفعلت وفعلت وملت إلى الهوى! لكن اكتب: رأيت محبساً ضيقاً، وأمراً شديداً..".

فهذا الإمام مالك صاحب الموطأ يكتبه لأبي جعفر المنصور ويعممه على كافة الناس ومن ثُمّ يداهنه في أمر المساجين والمحبوسين ظلماً في سجنه.

ولنأخذ فقيهاً آخر وهو أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، حيث تقرب من حكام بني العبّاس من أيّام المهدى العبّاسي إلى الهادي، ولمّا ولي الرشيد تقرب إليه أكثر وذلك بتحليل الحرام له، يحدثنا ابن خلكان في وفيات الأعيان 6: 381: "كان سبب اتصال أبي يوسف بالرشيد أنّه كان قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى، فحنث بعض القواد في يمين، فطلب فقيهاً يستفتيه، فجيء بأبي يوسف، فأفتاه أنّه لم يحنث، فوهب له دنانير، وأخذ له داراً بالقرب منه.

ودخل القائد يوماً على الرشيد فوجده مغمّوماً، فسأله عن سبب غمه، فقال: شيء من أمر الدين قد حزنني فاطلب فقيهاً كي استفتيه، فجاءه بأبي يوسف.

قال أبو يوسف: فلمّا دخلت إلى ممّر بين الدور رأيت فتىً حسناً، عليه أثر الملك، وهو في حجرة محبوس، فأوما إليّ بأصبعه مستغيثاً، فلم أفهم منه إرادته، وأُدخلت إلى الرشيد، فلمّا مثلت بين يديه سلمت ووقفت، فقال لي: ما اسمك؟

فقلت: يعقوب أصلح اللّه أمير المؤمنين.

قال: ما تقول في امام شاهد رجلاً يزني هل يحدّه؟

قلت: لا.

فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنّه قد رأى بعض أهله على ذلك، وأنّ الذي أشار إليّ بالاستغاثة هو الزاني.

ثُمّ قال الرشيد: من أين قلت هذا؟

قلت: لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: "ادروا الحدود بالشبهات"، وهذه شبهة يسقط الحدّ معها.

قال: وأي شبهة مع المعاينة؟

قلت: ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحدود لا تكون بالعلم، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه فسجد مرّة أخرى، وأمر لي بمال جزيل، وأنّ الزم الدار، فما خرجت حتّى جاءتني هدية الفتى وهدية أمه وجماعته، وصار ذلك أصلاً للنعّمة، ولزمت الدار، فكان هذاالخادم يستفتيني، وهذا يشاورني، ولم يزل حالي يقوى عند الرشيد حتّى قلّدني القضاء".

فأبو يوسف عطل العلم عن العمل، فالعلم لا قيّمة له، لأجل أنّ الحاكم رغب في ذلك؟!!

فانظر إلى تحريفه لشرع الله سبحانه وتعالى لأجل نزوة، ويطبق الحديث النبوي الشريف على أمر باطل يعلم في نفسه أنّه باطل، لكنه يمضي في ذلك لأجل حطام الدنيا والأموال الزائلة.

ونستمر مع حكايات أبي يوسف مع خليفته في تحليله للحرام في القصّة التالية التي يذكرها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 14: 253 وابن خلكان في وفيات الأعيان 6: 385 واللفظ للأوّل فيقول: "حدّثني بشر بن الوليد وسألته من أين جاء؟

قال: كنت عند أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي، وكنّا في حديث ظريف، قال: فقلت له: حدّثني به!

فقال: قال لي يعقوب: بينا أنا البارحة قد أويت إلى فراشي، وإذا داق يدق الباب دقاً شديداً، فأخذت علي ازاري وخرجت، فإذا هو هرثمة بن أعين، فسلمت عليه فقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت: يا أبا حاتم، لي بك حرمة، وهذا وقت كما ترى، ولست آمن أنّ يكون أمير المؤمنين دعاني لأمر من هذه الأمور، فإن أمكنك أنّ تدفع بذلك إلي غد، فلعله أنّ يحدث له رأي؟!

فقال: ما إلى ذلك سبيل!

قلت: كيف كان السبب؟

قال: خرج إليّ مسرور الخادم فأمرني أنّ آتي بك أمير المؤمنين، فقلت: تأذن لي أنّ أصبّ الماء وأتحنط، فإن كان أمر من هذه الأمور كنت قد أحكمت شأني، وإنّ رزق الله العافيّة فلن يضرّ؟

فأذن لي.

فدخلت فلبست ثياباً جدداً، وتطيبت بما أمكن من الطيب، ثُمّ خرجنا، فمضينا حتّى أتينا دار أمير المؤمنين الرشيد، فإذا مسرور واقف، فقال له هرثمة: قد جئت به.

فقلت لمسرور: يا أبا هاشم، خدمتي وحرمتي وميلي، وهذا وقت ضيّق، فتدرى لم طلبني أمير المؤمنين؟

قال: لا.

قلت: فمن عنده؟

قال: عيسى بن جعفر.

قلت: ومن؟

قال: ما عنده ثالث.

قال: مر وإذا صرت إلى الصحن فإنّه في الرواق، وهو ذاك جالس، فحرك رجلك بالأرض، فإنّه سيسألك، فقل أنا، فجئت ففعلت، فقال: من هذا؟

قلت: يعقوب، قال: ادخل، فدخلت، فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جعفر، فسلمت فرد عليّ السلام وقال: أظننا روعناك؟

قلت: إي والله وكذلك مَن خلفي.

قال: اجلس، فجلست حتّى سكن روعي، ثُمّ التفت إلي فقال: يا يعقوب، تدري لِمَ دعوتك؟

قلت: لا.

قال: دعوتك لأشهد على هذا أنّ عنده جارية سألته أنّ يهبها لي فامتنع، وسألته أنّ يبيعها فأبى; والله لأن لم يفعل لأ قتلنّه.

قال: فالتفت إلى عيسى وقلت: وما بلغ الله بجارية تمنعها أمير المؤمنين، وتنزل نفسك هذه المنزلة؟

قال: فقال لي: عجلت عليّ في القول قبل أنّ نعرف ما عندي!

قلت: وما في هذا من جواب؟

قال: إنّ عليّ يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أنّ لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها.

فالتفت إليّ الرشيد فقال: هل له في ذلك مخرج؟

قلت: نعم.

قال: وما هو؟

قلت: يهب لك نصفها ويبيعك نصفها، فتكون لم تبع ولم تهب.

قال عيسى: ويجوز ذلك؟

قلت: نعم!

قال: فاشهد أنّي قد وهبت له نصفها وبعته النصف الباقي بمائة الف دينار.

فقال: الجارية!

فأتي بالجارية وبالمال، فقال: خذها يا أمير المؤمنين، بارك الله لك فيها.

قال: يا يعقوب، بقيت واحدة.

قلت: وما هي؟ قال: هي مملوكة، ولا بدّ أنّ تستبرأ، ووالله إنّ لم أبت معها ليلتي إنّي أظن أنّ نفسي ستخرج.

قلت: يا أمير المؤمنين، تعتقها وتتزوجها فإنّ الحرّة لا تستبرأ.

قال: فاني قد اعتقتها فمن يزوجنيها؟

قلت: أنا، فدعا بمسرور وحسين، فخطبت وحمدت الله ثُمّ زوجته على عشرين ألف دينار، ودعا بالمال فدفعه إليها، ثم قال لي: يا يعقوب، انصرف، ورفع رأسه إلى مسرور فقال: يا مسرور! قال: لبيك أمير المؤمنين.

قال: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وعشرين تختاً ثياباً، فحمل ذلك معي"

والرواية واضحة لا نحتاج إلى تعليق، لمّا فيهامن استخفاف بالدين والشريعة الإسلامية حيث أصبحت العوبه بيد أبي يوسف يحلل المحرّم ويجوز الأشياء المحرمة.

وفي تاريخ بغداد 14: 254: "إنّ أم جعفر كتبت إلى أبي يوسف ما ترى في كذا، وأحب الأشياء الىّ أنّ يكون الحقّ فيه كذا؟

فأفتاها بما أحبت، فبعثت إليه بحق فضة، فيه حقائق فضة مطبقات في كُلّ واحدة لون من الطيب، وفي جام دراهم وسطها جام فيه دنانير".

وإذا أخذنا فقيهاً آخر وهو الإمام الأوزاعي فنراه يقول: "ما أخذنا العطاء حتّى شهدنا على علي بالنفاق، وتبرّأنا منه، وأخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وأيمان البيعة"، سير أعلام النبلاء 7: 130، تاريخ الاسلام 9: 497 فمّن يشهد على من حبه إيمان وبغضه نفاق، وهو علي بن أبي طالب بالنفاق كيف لا يفتي بما يوافق السلطان ويساير هواه؟

وإذا أخذنا فقيهاً آخر وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى نجده من وعاظ السلاطين، فقد تولى المسجنة في زمن الحجاج وعمل في قضائه، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ 1: 58: "وعن ابن حصين أنّ الحجاج استعمل عبد الرحمن ابن أبي ليلى على القضاء، ثُمّ عزله، ثُمّ ضربه ليسب عليّاً ـ رضي الله عنه ـ، وكان يوري ولا يصرّح"

وقال في سير أعلام النبلاء 4: 264: "وكان له وفادة على معاوية، ذكرها ولده القاضي محمّد بن عبد الرحمن..".

إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره في هذه الوريقات.

وعلى كُلّ حال فمشيخة علماء السنة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالدولة الحاكمة، وهي التي تنصب العالم وتعزل بطوع ارادتها، من دون أنّ تسير في ذلك على ميزان أومنهج. نعم المنهج الوحيد هو أنّ يكون العالم والمفتي مطيعاً مطواعاً يحرك متى ما أرادوا ويسكت متى ما شاؤوا، ويحلل لهم المحّرمات ويحرم المحللات اذا كان ذلك في مصلحة الحاكم، والأنكى من ذلك كُلّه فائدة العالم السلطوي أنّه يحلل دماء الأبرياء والمساكين والأحرار بلسان الشرع للحاكم إذا ما اعترضوا أو أنكروا أو أرادوا إبدال منكر أو إقامة معرفة، وهذا ما يهمّ الحكّام كثيراً.


الصفحة 345

الصفحة 346

الصفحة 347

الصفحة 348

الصفحة 349

إنه عالم جديد بالنسبة إلي اكتشفته أو كشفه الله لي، وقد أنست به بعد ما


الصفحة 350

كنت أنفر منه، وانسجمت معه بعد ما كنت أعاديه، وقد أفادني هذا العالم أفكاراً جديدة، وبعث فيّ حُبَّ الاطلاع والبحث والدراسة، حتّى أدرك الحقيقة المنشودة التي طالما راودتني عندما قرأت الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): "افترقت بنو إسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النّصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمّتي إلى ثلاثة وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ فرقة واحدة"(1).

____________

1- حديث الفرقة الناجية ورد بأسانيد وألفاظ مختلفة، انظر: سنن الترمذي 5: 26 ح2641 كتاب الايمان، سنن ابن ماجة 2: 1322، سنن أبي داود 4: 198 كتاب السنة، مسند أحمد 3: 120، المستدرك للحاكم 1: 128، المصنف لابن أبي شيبة 8: 731، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 34، الدر المنثور 2: 61، 275، 3: 136، 149، الخصال للصدوق 2: 584 أبواب السبعين وما فوق، البحار 28: 3602.

والأحاديث كثيرة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حول الفرقة الناجية من يطلع عليها يطمئن بصدور هذا الخبر عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيه بيان لا بدية افتراق الأُمة واختلافها هذا الاختلاف الواسع جداً كما اختلفت الاممّ التي قبل هذه الأُمة، وبيان أنّ هذا الافتراق والاختلاف مذموم متوعد عليه بالنار إلاّ فرقة واحدة هي الفرقة الناجية.

وقد وقع الخلاف بين المسلمين في تحديد الفرقة الناجية، تبعاً لاختلافهم في المذاهب والعقائد، وكُلّ منهم يدعي أنّه الفرقة الناجية، وغيره من فرق المسلمين باطل وهالك وداخل في الفرق المتوعد دخولها في النار.

ويعتقد أهل السنة أنّ أهل الحديث همّ الفرقة الناجّية، قال رضا معطي: "إنّها العقيدة السلفية تبرك المسلم بالسلف العظيم فتزيده عزة وافتخاراً كيف لا؟ وهي تجعله يسير على خطى الصحابة ومن جاء بعدهم من السلف الذين هم سادة الأُولياء وأئمة الاتقياء، وما كانوا عليه هو الدين الذي لا جدال فيه.

كُلّ ذلك يزيد المسلم بصيرة في دينه، فهو متأكد أنّه يسير في ظلال الفرقة الناجية التي وصفها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث "افتراق الأُمة"

ولا يستطيع أحد أن ينفي هذا الوصف عن سلف هذه الأُمة...

ولا شكّ أنّ من كان على طريقتهم ممّن جاء بعدهم هم أهل الحقّ وهم الفرقة الناجّية وهذا ما قرّره المحققون من أهل العلم" علاقة الاثبات والتفويض بصفات الربِّ : 19 ـ 20.

وقال مرجع السلفية الشيخ محمّد جميل زينو: "الفرقة الناجية: يحيون سنن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في عباداتهم وسلوكهم وحياتهم، فأصبحوا غرباء بين قومهم، كما أخبر عنهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" مجموع رسائل التوجيهات الإسلامية منهاج الفرقة الناجية: 158 ـ 162.

وقال الشيخ مقبل الوادعي بعد ذكره لحديث الافتراق: "فهذان الحديثان وما في معناهما من الأحاديث تدل على أنّه لا ينجو إلاّ فرقة من ثلاثة وسبعين فرقة، والفرق الأُخرى في النار تحتم على المسلم أن يبحث عن هذه الفرقة الناجية حتّى ينتظم في سلكها ويأخذ دينه عنها.

وممّا يجب التنبه عليه أن كُلّ فرقة تدعي أنّها الفرقة الناجية، وقد جاء الكتاب والسنة ببيان الفرقة الناجية...

إلى أن يقول: فمن توفرت فيه هذه الصفات في سورة العصر والمؤمنون والحديد فهو من الفرقة الناجّية، سواء كان حجازياً أم يمنّياً أم شامياً ام من أي بلدة كان.

وأقرب الناس ممّن تنطبق عليه هذه الصفات هّم أهل الحديث، وقد قال غير واحد من أهل العلم: إنّ المراد بما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاوية والمغيرة بن شعبة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) "لا تزال طائفة من هذه الأُمة قائمة على أمر الله لا يضرّهم من خالفهم حتّى يأتي أمر الله" قال غير واحد من أهل العلم أن المراد بهم أهل الحديث; لأنّهم لا يتعصبون لايّ مذهب، وإنّما يتعصبّون للحق" رياض الجنّة في الرد على أعداء السنة: 8 ـ 9.

وقال ابن تيمية في جوابه عن الفرقة الناجية: "... وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أنّ أحق الناس بذلك هم أعلمهم بآثار المرسلين واتبعهم لذلك، فالعالمون باقوالهم وأفعالهم، المتبعون لها، هم أهل السعادة في كُلّ زمان ومكان، وهم الطائفة الناجّية من أهل كُلّ ملّة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأُمة، فإنّهم يشاركون سائر الأُمة فيما عندهم من أمور الرسالة، ويمتازون عنهم بما اختصوه من العلم الموروث عن الرسول ممّا يجهله غيرهم او يكذب به".

وقال ـ ايضاً ـ: "ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول واتباعه، فلهم من فضل الله وتخصيصه إيّاهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم، كما قال بعض السلف: أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل..!!

والمقصود التنبيه على أنّ كُلّ من زعم بلسان حاله أو مقاله أنّ طائفة غير أهل الحديث ادركوا من حقائق الامور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد، وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة والعلوم والأخلاق التي تزكوا بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث، فهو وإن كان من المؤمنين بالرسل فهو جاهل، فيه شعبة قوية من النفاق، وإلاّ فهو منافق خالص من الذين (اذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء إلاّ انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون).." مجموعة الفتاوى الكبرى 4: 140.

وقال الشيخ حافظ حكمي علامة السلفية في كتابه معارج القبول 1: 36 تحت عنوان (الفرقة الناجية) قال: "وقد أخبر الصادق المصدق(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الفرقة الناجّية هّم من كان على مثل ما كان عليه أصحابه، ولس أحدٌ من هؤلاء كذلك، بل إنّهم قد ضلّوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل، وذلك لأنّه لا يعرف ما كان عليه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه إلاّ من طريق سنته المروية وآثاره المصطفوية التي هي الشريعة الغراء والمحجّة البيضاء، وهؤلاء من أبعد الناس عنها وأنفرهم منها، وإنّما تصلح هذه الصفة لحملتها وحفاظها والمنقادين لها... أعني بذلك أئمة الحديث وجهابذة السنة وجيش دولتها، المرابطين على ثغورها الحافظين حدودها الحامين حوزتها... فآمنوا بما أخبر الله به في كتابه وأخبر به عبده ورسوله محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في سنته، وتلقوه بالقبول والتسليم اثباتاً بلا تكيف ولا تمثيل، وتنزيها بلا تحريف ولا تعطيل، فهم الوسط في فرق هذه الأُمة، كما أنّ هذه الأُمة هي الوسط في الأُمم... فهم والله (أهل السنة والجماعة) وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة الذين لم تزل قلوبهم على الحقّ متفقة مؤتلفة..".

وقال الإسماعيلي في اعتقاد أئمة الحديث 1: 79 "وجوب لزوم مذهب أهل الحديث الفرقة الناجية: هذا أصل الدين والمذهب اعتقاد أئمة أهل الحديث الذين لم تشنعهم بدعة، ولم تلبسهم فتنة، ولم يخفوا إلى مكروه في دين، فتمّسكوا معتصمين بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا عنه، واعلموا أنّ الله تعالى أوجب محبته ومغفرته لمتبعي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه وجعلهم الفرقة الناجّية والجماعة المتبعة..".

فتلحظ ابن تيميه يجعل أهل الحديث من غيرهم كاهل الإسلام في الملل الأُخرى، فهم ملّة وبقيّة الناس ملّة أُخرى؟!

وهذا من مجازفات الخط المنحرف الذي يؤدي بصاحبه إلى سلوك الهاوية ورمي الأُمة الإسلامية بالخروج عن الدين والعيش في جهالات الكفر والضلال، ويحصر الإسلام على فئة خاصّه معينه يسميها بـ أهل الحديث.

وفي قوله الثاني ما فيه من الكيل الثقيل والتهجم الكبير حيث جعل غير أهل الحديث من المنافقين الذين يستحقون الدرك الاسفل من النار، لاجل عدم عملهم بعلم الحديث ومدارسته!!

وسيوافيك في الصفات اللاحقة كلمات علماء الحديث في حق أنفسهم، وفي العلم الذي يدرسونه واي قيمة له في نفوسهم.

ويتابع الشيخ الحراني كلامه فيقول: "وبهذا يتبين أنّ أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصّبون له إلاّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)" المصدر السابق 3: 346

ومن شاء المزيد عليه مراجعة كتاب (أهل الحديث هم الطائفة المنصورة) لمؤلفه الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، حيث نقل أقوال العلماء هناك وبين ما فيه كفاية لمن يريد.

قد لاحظنا في الكلمات السابقة أنّهم يعدون أهل الحديث (الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة، الغرباء); لأنّهم يتبعون آثار الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويتبعون أقواله وأفعاله ويدونوها ويبينوها للناس، ويقتفون آثار السلف الصالح والعلماء السابقين، ويسيرون على نهجهم ويقفون أثرهم، ويطلبون الحقّ في مظانه، حتّى لو كلفهم أغلى شيء عندهم، فهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، او اعتراض معترض أو نبز نابز... بل هدفهم الحقّ دائماً يتبعونه أينما كان وينشدونه أينما حل... هؤلاء هم أهل الحديث، وهذه صفاتهم وميزاتهم، وعلى ذلك ينطبق عليهم وصف الغرباء، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة.

هذا ما يذكرونه في وصفهم ومدحهم لعلماء الحديث.

وهذا ما يجعلونه الشعار المنطبق عليهم...

ولكن هل هذا الكلام صحيح؟ وهل يصح ما ذكروه من الصفات لأصحاب الحديث؟

عندما نرجع إلى كلمات المحدثين أنفسهم نجدهم يطعن بعضهم في بعض، ويجانبون الصواب، ويميلون عن الحقّ، ويتبعون رغباتهم واهواءهم، ولا يزنون بالقسطاس المستقيم واليك كلمات علماء الحديث انفسهم:

1 ـ قال الامام الذهبي واصفاً أهل الحديث ـ وهو أحدهم ـ: "أما المحدثون فغالبهم لا يفهمون، ولا هّمة لهم في معرفة الحديث، ولا في التدين به، معذور سفيان الثوري فيما يقول: لو كان الحديث خيراً لذهب كما ذهب الخير! صدق والله، وأي خير في حديث مخلوط صحيحه بواهيه، أنت لا تقليه ولا تبحث عن ناقلية، ولا تدين الله تعالى به.

إنما همتهم السماع على جهلة الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواة لا يتأدبون بآداب الحديث، ولا يستفيقون من سكرة السماع، الآن يسمع الجزء ونفسه تحدثه متى يرويه؟ أبعد الخمسين سنة؟! ويحك ما أطول أملك، وأسوأ عملك.

أما اليوم في زماننا فما يفيد المحدّث الطلب والسماع، مقصود الحديث من التدين به، بل فائدة السماع ليروي، فهذا والله لغير الله.

خطابي معك يا محدّث، لا مع من يسمع ولا يعقل ولا يحافظ على الصلوات، ولا يجتنب الفواحش ولا قرش الحشائش، ولا يحسن أن يصدق فيها، فيا هذا لا تكن محروماً مثلي، فانا نحن أبغض المناحيس.

ثمّ قال: "بالله خلونا فقد بقينا ضحكة لاولي المعقولات، ينظرون بنا هؤلاء هم أهل الحديث... لكنك معذور، فما شممت للإسلام رائحة، ولا رأيت أهل الحديث"

وبعد ان عرض سير الرواية في العصور الأُولى قال: "ثُمّ تناقض هذا الشأن في المائة الرابعة بالنسبة إلى المائة الثالثه، ولم يزل ينقص إلى اليوم، فأفضل من في وقتنا اليوم من المحدثين على قلتهم نظير صغار من كان في ذلك الزمان على كثرتهم، وكم من رجل مشهور بالفقه وبالرأي في الزمن القديم أفضل في الحديث من المتأخرين، وكم من رجل من متكلمي القدماء أعرف بالأثر من مشيخة زماننا" بيان زغل العلم والطلب عن أهل الحديث 6 ـ 12.

2 ـ قال ابن قتيبة الدينوري في تأويل مختلف الحديث 78: "فهل أصحاب الحديث في سقطهم إلاّ كصنف من الناس؟

على أنا لا نخلي أكثرهم من العذل في كتبنا في تركهم الاشتغال بعلم ما كتبوا، والتفقه بما جمعوا، وتهافتهم في طلب الحديث من عشرة أوجه او عشرين وجهاً!

وقد كان في الوجه الواحد الصحيح والوجهين مقنع لمن أراد الله عزّ وجلّ بعلمه، حتّى تنقضي اعمارهم، ولم يحلوا من ذلك إلاّ بالاسفار اتعبت الطالب، ولم تنفع الوارث.

فمن كان من هذه الطبقة فهو عندنا مضيع لحقه مقبل على ما كان غيره أنفع له منه.

وقد لقبوهم بالحشوية، والنابتة، والمجبرة، وربما قالوا الجبرية وسمّوهم: الغثاء والغثر".

3 ـ وقد عقد الإمام ابن عبد البرّ فصلاً كاملاً حول هذا الموضوع، وذكر فيها كلاماً كثيراً حول المحدثين وصفاتهم وما قالوه حول علم الحديث نقتصر على ذكر بعض منه

:"... وعن شعيب بن حرب قال: كنا عند سفيان يوماً نتذاكر الحديث فقال: لو كان في الحديث خير لنقص كما ينقص الخير، ولكنه شر فأراه يزيد كما يزيد الشر.

وكان زكريا بن القطان يقول: رأيت سفيان بن عيينه وقد الجأه أصحاب الحديث إلى الميل الاخضر، فالتفت اليهم فقال: ما أرى الذي تطلبونه من الخير، ولو كان من الخير لنقص كما ينقص الخير.

وقد أخذه بكر بن حماد فقال:

لقد جفت الأقلام بالخلق كُلّهم فمنهم شقي خائب وسعيد

تمر الليالي بالنفوس سريعة ويبدي زي خلقه ويعيد

أرى الخير في الدنيا يقل كثيره وينقص نقصاً والحديث يزيد

فلو كان خيراً قلّ كالخير كُلّه وأحسب أنّ الخير منه بعيد

ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والمليك شهيد

فان يك حقاً قوله فهو غيبة وإن يك زوراً فالقصاص شديد

وكُلّ شياطين العباد ضعيفة وشيطان أصحاب الحديث مريد

جامع بيان العلم وفضله: 430.

وقال في ص 436: "وكان سفيان الثوري يقول: أنا فيه ـ يعني الحديث ـ منذ ستين سنة، وددت أني أخرج منه كفافاً لا لي ولا علي"

وفي ص 437 قال: "وقال يحيى بن سعيد القطان: رواة الشعر أعقل من رواة الحديث; لأنّ رواة الحديث يروون مصنوعاً كثيراً، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع يتفقدونه ويقولون هذا مصنوع".

وقال عمرو بن الحارث: "ما رأيت علماً أشرف ولا أهلاً أسخف من أهل الحديث".

وكان مسعر يقول: "من أبغضني جعله الله محدثاً، ووددت أن هذا العلم كان حمل قوارير حملته على رأسي فوقع فتكسر فاسترحت من طلابه".

وكان مغيره الضبي يقول: "والله لأنا أشدّ خوفاً منهم منّي من الفساق ـ يعني أصحاب الحديث ـ ".

وقال في: 438: "وقال الشعبي: كنت إذا رأيت أحداً من أهل الحديث يجيئ أفرح، فصرت اليوم ليس لشيء أبغض إليّ من أن أرى واحداً منهم".

وقال أبو داود: "الحديث لا يحتمل حسن الظن".

وكان يحيى بن يمان يقول: لا يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر فاذا سئل أحدهم عن مسأله جلس كأنّه مكاتب.

وعن سفيان قال: "قال لي إياس بن معاوية: أراك تطلب الحديث والتفسير فاياك والشناعة فإنّ صاحبها لن يسلم من عيب".

قال أبو عمر (يعني ابن عبد البر) في مثل هذا يقول الشاعر:

زوامل للأسفار لا علم عندهم بجيدها إلاّ كعلم الاباعر

لعمري ما يدري البعير اذا غدا بأحمله اوراح ما في الغرائر

4 ـ وقال ابن تيمية الحراني في رده على معيبي أهل الحديث من تمسكهم بالحديث الضعيف في الاصول أو الفروع أو تأويل الحديث تأويلاً غير صحيحاً: "ولا ريب أنّ هذا موجود في بعضهم، يحتجون باحاديث موضوعة في مسائل الاصول والفروع، وبآثار مفتعله وبحكايات غير صحيحة!! ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وربما تأوّلوه على غير تأويله، ووضعوه على غير موضعه.

ثُمّ إنّهم بهذا المنقول الضعيف السخيف قد يكفرون ويضللون ويدعون اقواماً من أعيان الأمة ويجهلونهم!!!

ففي بعضهم من التفريط في الحقّ والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطئاً مغفوراً!! وقد يكون منكراً من القول وزوراً، وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات فهذا لا ينكره إلاّ جاهل أو ظالم وقد رأيت من هذا عجائب".

فهذا ابن تيميه المتعصب لأهل الحديث والذي مرّ في كلامه آنفاً تكفير من ينتقصهم أو لا يرجع اليهم نراه هنا يصفهم:

يكفرون من لا يستحق التكفير فيحيفون عن الحقّ ويظلمون الآخرين، يرمون أعيان الأُمة بالجهل والجهالة والتقصير من دون مبرر أو مسوغ، يرمون العلماء بالبدع وارتكاب ما يخالف الدين وهم ليس كذلك، وبعض الأحيان رميهم للآخرين بالبدع والضلالة زلل لا يغفر لمرتكبه ولا يخرج من ذنبه.

5 ـ وقال الشيخ المحدث محمّد ناصر الدين الالباني في صحيحته 7: 723 ـ 724 تعليقاً على حديث: "ليدخلنّ عليكم رجل لعين يعني الحكم بن أبي العاص" وكيف أنّ المحدثين طعنوا في صحته، بل لم يتعرض بعضهم لذكره، مع أنّه حديث صحيح وثابت لا جرح في رواته ولا نكارة في متنه فقال: "هذا! وإني لأعجب أشدّ العجب من تواطؤ بعض الحفاظ المترجمين للحكم على عدم سوق بعض هذه الأحاديث وبيان صحتها في ترجمته، أهي رهبة الصحبة وكونه عمّ عثمان بن عفان(رضي الله عنه)، وهم المعروفون بانّهم لا تأخذهم في الله لومة لائم؟!

أم هي ظروف حكومية أو شعبية كانت تحول بينهم وبين ما كانوا يريدون التصريح به من الحقّ؟!

فهذا ـ مثلاً ـ ابن الأثير يقول في أُسد الغابة: "وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها إلاّ أنّ المقطوع به أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع حلمه واغضائه على ما يكره ما فعل به ذلك إلاّ لامر عظيم".

وأعجب من هذا صنيع الحافظ في الاصابة فانّه مع اطالته في ترجمته صدرها بقوله: قال ابن السكين: يقال إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عليه ولم يثبت ذلك! وسكت عليه ولم يتعقبه بشيء، بل إنّه اتبعه بروايات كثيرة فيها ادعية مختلفة عليه، كنت ذكرت بعضها في الضعيفة. وسكت عنها كُلّها، وصرّح بضعف بعضها، وختمها بذكر حديث عائشة المتقدم: إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لعن أباك وأنت في صلبه، ولكنه يريد أنّ يصرّح بصحته المح إلى إعلاله بمخالفته رواية البخاري المتقدمة فقال عقبها: "قلت واصل القضية عند البخاري بدون هذه الزيادة"!

فأقول: ما قيّمة هذا التعقيب، وهو يعلم أنّ هذه الزيادة صحيحة السند، وانّها من طريق غير طريق البخاري؟!

وليس هذا فقط بل ولها شواهد صحيحة ـ أيضاً ـ كما تقدم!!

اكتفيت بها عن ذكر ما قد يصلح للاستشهاد به فقد قال في آخر شرحه للحديث: "هلكت أمتي على يدي غُلمة من قريش" الفتح 13/11: "وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد أخرجها الطبراني وغيره غالبها فيها مقال، وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك"!

وأعجب من ذلك كُلّه تحفظ الحافظ الذهبي بقوله في ترجمة (الحكم) من تاريخه 2: 96 "وقد وردت أحاديث متكررة في لعنه لا يجوز الاحتجاج بها. وليس له بالجملة خصوص الصحبة بل عمومها"! كذا قال مع أنّه بعد صفحة واحدة ساق رواية الشعبي عن ابن الزبير مصححاً اسناده كما تقدم!!

ومثل هذا التلون او التناقض مما يفسح المجال لأهل الأهواء أن يأخذوا منه ما يناسب أهواءهم نسأل الله السلامة".

وهناك كلمات كثيرة ـ يطول المقام بذكرها ـ ذكرها العلماء حول علماء الحديث وما فيهم من معاييب ونقائص وتحامل، فهم يستدلون بالحديث الضعيف، ويرتبون عليه أحكاماً شرعية، سواء في أصول الدين أو فروعه، ويضللّون الناس على أساسه ويدعونهم على ضوئه، تبعاً لاهوائهم وما تمليه عليهم قناعاتهم واوضاعهم التي يعيشون في وسطها.

ومن يرجع إلى موازين علماء الحديث لا يجد شيئاً ممّا ذكر ـ من عدالتهم وتمسكهم بالحق والعدل والانصاف ـ في الحكم، واليك غيضاً من فيض كلماتهم وموازينهم المجحفة.

1 ـ قال ابن حجر العسقلاني 8 : 411: "وقد كنت استشكل توثيقهم الناصبي غالباً وتوهينهم الشيعي مطلقاً ولا سيما أن علياً ورد في حقه لا يحبه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق".

فهذا الميزان يجعل المنافق بنصّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو كاذب بصريح القرآن موثقاً مقبول الرواية عند المحدثين، بينما الشيعي المؤمن الصادق بنصّ القرآن الكريم كاذباً ومطعوناً فيه لا لشيء إلاّ لكونه شيعياً!!

2 ـ إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني أحد أئمة الجرح والتعديل، قال ابن عدي ـ في ترجمة إسماعيل بن أبان الوراق ـ كما قال فيه الجوزجاني كان مائلاً عن الحقّ، ولم يكن يكذب الجوزجاني كان مقيماً بدمشق، يحدث على المنبر، وكان أحمد يكاتبه فيتقوى بكتابه، ويقرؤه على المنبر، وكان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي(رضي الله عنه)، فقوله في إسماعيل: مائل عن الحقّ يريد به ما عليه الكوفيين من التشيع. ميزان الاعتدال 1: 76.

وقال ابن حجر في لسان الميزان 1: 16: "وممّن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد فإنّ الحاذق إذا تأمّل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفه رأى العجب، لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة، وعبارة طلقة وحتى إنه أخذ يلين مثل الاعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث".

فهذا إمام من أئمة علماء الحديث وهو شدّيد النصب لعلي(عليه السلام)، يأخذون بقوله ويعتمدون عليه في أقواله وأحكامه، بل يعد من المؤسسين لقواعد علم الرجال السنّي فهو أوّل من أسس قاعدة إن المبتدع الثقة لا تقبل روايته إذا وافقت بدعته، حتّى اذا كان ثقة لا يكذب، الباعث الحثيث 100.

3 ـ تمالئهم حول الصحابة والتابعين الذين خطأوا أصحاب الجمل وصفين ورميهم بالابتداع، وعدم الأخذ برواياتهم، قال الذهبي في ميزان الاعتدال 1: 118 في ترجمة أبان بن تغلب: "فلقائل أنّ يقول: كيف ساغ توثيق المبتدع وحد الثقة العدالة والاتقان؟ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟

وجوابه: إنّ البدعة على ضربين، فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة.

ثمّ بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يتبجح بهم ولا كرامة.

وايضاً فما استحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله! حاشا وكلا.

فالشيعي الغالي في زمن السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية، وطائفة ممّن حارب علياً(رضي الله عنه) وتعرض لسبهم..".

ففي ميزان الذهبي المحدث أنّ الذين يتكلم فيمن حارب علياً يعد شيعياً غالياً، وقد ذكر في موضع من كتابه سير أعلام النبلاء 7: 37 تعليقاً على ما نقل من قول وكيع: بان الحسن بن صالح إمام فقيل له: إنّه لا يترحم على عثمان؟! فقال: أفتترحم أنت على الحجاج فقال الذهبي معلقاً: "قلت: لا بارك الله في هذا المثال، ومراده: إنّ ترك الترحم سكوت، والساكت لا ينسب إليه قول، ولكن من سكت عن ترحم مثل الشهيد أمير المؤمنين عثمان فإنّ فيه شيئاً من تشيع، فمن نطق فيه بغض وتنقص وهو شيعي جلد يؤدب"

فعلى هذا يكون كثير من التابعين مستحقين للتأديب والتوبة لما فيهم من تشيع ولما قالوه في حقّ عثمان! وهذا الحكم لم يسنده الذهبي إلى دليل معتبر أو قاعدة يعول عليها.

أضف إلى ذلك فانه مرّ عليه سابقاً من انهم يوثقون الناصبي غالباً، بل ويصفونه بانه اصدق الناس من أهل البدع كما قاله ابن داود! مع أنّ الناصبي الطعن فيه اولى من الطعن بالشيعي المنتقص للشيخين فضلاً عن عائشة وطلحة والزبير; لأن عليّاً بن ابي طالب ورد في حقه ان حبه إيمان وبغضه نفاق، فالناصب منافق والمنافق كاذب بشهادة القرآن، فكيف يوثقونهم دائماً ويأخذون برواياتهم؟! وكيف يجعلونهم أصدق الناس مع شهادة الله ورسوله بكذبهم؟!!

ومنه يتضح أنّ ما ذكر في حقّ المحدثين من الصدق واتباع الحقّ ما هو إلاّ مجازفة وتعظيم لامر لا صحة له أصلاً.

4 ـ قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 464: "ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال: ذاك الأعور الذي يستفتي بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار..

قال ابو عمر: معاذا الله أن يكون الشعبي كذّاباً، بل هو إمام جليل والنخعي مثله جلالة وعلماً، وأظن الشعبي عوقب بقوله في الحارث الهمداني: حدثني الحارث وكان كذاباً. ولم يبن من الحارث كذب، وإنّما نقم عليه افراطه في حبّ علي(رضي الله عنه) وتفضيله له على غيره. ومن ههنا والله أعلم كذبه الشعبي; لأنّ الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر(رضي الله عنه) وإلى أنّه أوّل من أسلم...".

فهم يكذبون المحدث الذي يحب علي بن أبي طالب حتّى لو كان صادقاً في قوله، فكيف يمكن الحكم على هؤلاء بأنّهم أصدق الناس وأكثر اتباعاً للحق؟!!

5 ـ وهاك الطامة الكبرى التي سار عليها المحدثون واسسوا بنيتها للاحقين، فهذا الأوزاعي الامام المعرف يقول: "ما أخذنا العطاء حتّى شهدنا على علي بالنفاق، وتبرأنا منه، وأُخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وايمان البيعة" سير اعلام النبلاء 7: 130.

فاذا كان أهل الحديث لا ينطقون إلاّ بالصدق ولا يعدلون عن الحقّ فكيف تبرأوا من أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السلام) الذي نفسه نفس الرسول، وهو أخوه وصهره وأبو ولده، وهو ميزان الإيمان والنفاق؟! فاذا جاز لهم التبرؤ من علي بن أبي طالب والشهادة عليه بالنفاق، فيجوز صدور أي شيء منهم من كتاب وتدليس وقول الزور والحكم بما لا يرضي الله ورسوله.

ومن شاء مزيد اطلاع يرجع إلى جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر في فصل (حكم قول العلماء بعضهم في بعض) ليرى كلمات بعضهم في حق بعض، وطعن بعضهم بعضاً!

قال العلامة بدر الدين الحوثي في معرض رده على مقبل الوادعي الذي قال: "وأقرب الناس ممّن تنطبق عليه هذه الصفات هم أهل الحديث" قال: "والجواب: أهل الحديث مختلفون في العقائد والمذاهب والاعمال... فإنّ أراد بقوله "أهل الحديث" أئمته الذين عددهم، أيّ ابن المبارك والبخاري ومسلم فهي دعوى تحتاج إلى بينة; لأنّ الصفات التي ذكرها الله تعالى في سورة العصر، وأول سورة المؤمنين والحديث واضحة وجلية في كلّ من وضح منه العمل بكتاب الله وسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك واضح في علماء آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام) وفاطمة(عليها السلام) والحسنين(عليهما السلام) ومن بعدهم، والذين توارثوا العلم والدين من ذلك الزمان، ولم يقلّدوا في الدين من خالف آباءهم الطاهرين، بل أعظم همّهم أخذ العلم عن أسلافهم، وعرض ما ورد عليهم من الكتاب والسنة، المعلومة باليقين والمجمع عليها بين المختلفين، وعملوا بحديث الثقلين ونحوه، وحديث: "لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق"، وتجنبوا مخالطة الظلمة الركون إليهم، وجاهدوا في الله حقّ جهاده، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فكانوا أحق باسم الإيمان هّم ومن سلك طريقهم، وأحق أن يكونوا الفرقة الناجية لقوله تعالى في الفرق بين المنافقين والمنافقات: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم}، وقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنّ الله عزيز حكيم} وقوله تعالى: {قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم..}.."

وقال في معرض رده على مقبل الوادعي الذي قال في أهل الحديث: "لأنهم لا يتعصبون لاي مذهب وإنّما يتعصبون للحق" قال: "والجواب: إنّ عنى أئمته من أهل الحديث فهل يعني ليس لهم مذهب يتعصبون له؟ فهذا خلاف الواقع لأنّ لهم مذاهب معروفة يتعصبون لها منها: تقديم أبي بكر وعمر وعثمان، وتفضيل الشيخين أو الثلاثة على علي(عليه السلام)، وتعصبهم لهذا ظاهر، حتّى إنّ من خالفهم فيه يرمونه بالغلو في التشيع، وربما رموه بالرفض، وأقل أحواله أنّه يعتبر مبتدعاً ضعيفاً في الحديث في الغالب، إذا أحبَّ علياً وقدّمه ولم يسبّ، وكذلك يعتبرون من تكلم في أحد الثلاثة أو طلحة أو الزبير أو عائشة دجالاً كذاباً، او رافضياً خبثاً، لا يكتب حديثه، ويرمونه بسب الصحابة جملة في التعبير. ومن روى فضيلة تستلزم في ظنهم نقص أحد المذكورين وسبهم بزعم القوم جرموه لأنّه عندهم يروي المثالب فكيف لو روى مثله حقيقة، بل جرحوا من روى في معاوية: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه"؟!

وجرحوا فيه وفي عمرو: "اللّهم اركسهما في الفتنة".

وإن أراد مقبل أن لاهل الحديث مذهباً يتعصبون له لكنه عنده هو الحقّ، فتعصبهم له تعصب للحق، بخلاف غيرهم من أهل المذاهب فهم يتعصبون للباطل؟!

فالجواب: هذه دعوى، وكل أهل المذاهب يدعون أنهم أهل الحقّ، ولمن تعصبهم لمذهبهم صلابة في الدين، فالتعليل الذي ذكره مقبل ـ يريد أنّهم الطائفة التي لا تزال على أمر الله فيما روى ـ تعليل بمجرد الدعوى، فكأنه يقول: لا يزالون على امر الله; لأنّهم أهل أمر الله.

ولا يزالون على الحقّ; لأنّهم أهل الحقّ، لأنّ أمر الله هو الحقّ، والحقّ في الأُمة هو أمر الله.

هذا.

وإن أراد بأهل الحديث علماء السنة كُلّهم، فيشكل عليه قوله: "ليس لهم مذهب يتعصبون له" فتخرج من كان زيدياً او امامياً او شيعياً مطلقاً او ناصبياً او خارجياً او عثمانياً او وهابياً أو شبه ذلك من أهل أسماء المذاهب المشهورة، حتّى المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي فمن هم أهل الحديث؟!" تحرير الافكار: 47 ـ 50.

ويضاف إلى ذلك اشكال آخر مفاده أنّ المحدّثين رووا عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "خير القرون قرني ثُمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم" نظم المتناثر من الحديث المتواتر 199.

مع أنهم يذكرون بان أغلب التابعين وتابعي التابعين كانوا مبتدعه (راجع ترجمة أبان بن تغلب من الميزان 1: 188)

فكيف يوفق بين خيرية القرون وأنّها المفضّلة وبين انتشار البدعة فيها بشكل واسع وملحوظ؟!!

ومن هذا العرض الموجز الذي ذكرناه تتضح المنهجية المتذبذبة التي يعيشها المذهب السنّي بمستوياته المختلفة من محدثين وفقهاء ومؤرخين.


الصفحة 351

الصفحة 352

الصفحة 353

الصفحة 354

الصفحة 355

الصفحة 356

الصفحة 357

الصفحة 358

الصفحة 359

الصفحة 360

الصفحة 361

الصفحة 362

فلا كلام لنا مع الأديان المتعددة التي يدعي كُلّ منها أنّه هو الحقّ وغيره الباطل، ولكن أعجب واندهش وأحتار عند قراءة هذا الحديث، وليس عجبي واندهاشي وحيرتي للحديث نفسه، ولكن للمسلمين الذي يقرؤون هذا


الصفحة 363

الحديث، ويردّدونه في خطبهم، ويمرّون عليه مرَّ الكرام بدون تحليل، ولا بحث في مدلوله، لكي يتبيّنوا الفرقة الناجية من الفرق الضالة.

والغريب أنّ كلّ فرقة تدّعي أنّها هي وحدها النّاجية، وقد جاء في ذيل الحديث: "قالوا: من هم يا رسول الله؟

قال: من هم على ما أنا عليه أنا وأصحابي"(1).

فهل هناك فرقة إلاّ وهي متمسّكة بالكتاب والسنّة، وهل هناك فرقة إسلامية تدّعي غير هذا؟ فلو سئل الإمام مالك، أو أبو حنيفة، أو الإمام الشافعي، أو أحمد بن حنبل، فهل يدّعي أي واحد منهم إلاّ التمسّك بالقرآن والسنّة الصحيحة؟

فهذه المذاهب السنّية؟ وإذا أضفنا إليها الفرق الشيعية التي كنت أعتقد بفسادها وانحرافها، فها هي الاُخرى تدّعي ـ أيضاً ـ أنّها متمسّكة بالقرآن والسنّة الصحيحة المنقولة عن أهل البيت الطاهرين، وأهل البيت أدرى بما فيه كما يقولون.

فهل يمكن أن يكونوا كُلّهم على حق كما يدّعون؟ وهذا غير ممكن لأنّ الحديث الشريف يفيد العكس، اللّهم إلاّ إذا كان الحديث موضوع، مكذوب، وهذا لا سبيل إليه، لأنّ الحديث متواتر عند السنّة والشيعة.

أم إنّ الحديث لا معنى له ولا مدلول؟ وحاشى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقول شيئاً لا معنى له ولا مدلول، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وكُلّ أحاديثه حكمة وعبر.

إذاً لم يبق أمامنا إلاّ الاعتراف بأنّ هناك فرقة واحدة على الحقّ وما بقي

____________

1- نقل الحديث بالمعنى وارجع إلى المعجم الأوسط للطبراني 8: 22، المعجم الصغير 1: 256، المعجم الكبير 9: 360، كتاب الغرباء: 31، إثبات عذاب القبر: 82.


الصفحة 364

فهو باطل، فالحديث يبعث على الحيّرة، كما يبعث على البحث والتنقيب لمن يريد لنفسه النّجاة.

ومن أجل هذا داخلني الشكّ والحيرة بعد لقائي بالشيعة، فمن يدري لعلّهم يقولون حقّاً وينطقون صدقاً! ولماذا لا أبحث ولا أنقب، وقد كلّفني الإسلام بقرآنه وسنّته أن أبحث وأقارن وأتبيّن، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1).

وقال أيضاً: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}(2).

وقد قيل: "ابحث عن دينك حتّى يقال عنك مجنون"، فالبحث والمقارنة واجب شرعي على كلّ مكلّف.

بهذا القرار وبهذه العزيمة الصادقة واعدت نفسي وأصدقائي من الشيعة في العراق، وأنا أودّعهم معانقاً ومتأسّفاً لفراقهم فقد أحببتهم وأحبّوني، وقد تركت أحبّاء أعزاء مخلصين ضحّوا بأوقاتهم من أجلي لا لشيء كما قالوا لا خوفاً ولا طمعاً، وإنّما ابتغاء مرضاة الله سبحانه، فقد ورد في الحديث الشريف "لئن يهد الله بك رجلا واحداً خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس"(3).

وغادرت العراق بعد قضاء عشرين يوماً في ربوع الأئمة وشيعتهم، مرّت كأنّها حلم لذيذ يتمنى النائم أن لا يستيقظ حتّى يستوفيه، غادرت العراق متأسّفاً على قصر المدّة، متأسّفاً على فراق الأفئدة التي أهوي إليها، والقلوب التي تنبض بمحبّة أهل البيت، وتوجهت للحجاز قاصداً بيت الله الحرام، وقبر

____________

1- سورة العنكبوت: 69.

2- سورة الزمر: 18.

3- الكافي 5: 28، 36، التهذيب 6: 141، البحار 32: 448، المستدرك للحاكم 3: 598، مجمع الزوائد 5: 334، وصححه المعجم الكبير للطبراني 1: 315، الجامع الصغير للسيوطي 2: 401.


الصفحة 365

سيد الأوّلين والآخرين صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.


الصفحة 366

السّفر إلى الحجاز


الصفحة 367

الصفحة 368

السّفر إلى الحجاز

وصلت إلى جدّة، والتقيت بصديقي البشير الذي فرح بقدومي وأنزلني في بيته، وأكرمني غاية الإكرام، وكان يقضي أوقات فراغه معي في النزهة والمزارات بسيّارته، وذهبنا للعمرة معاً، وعشنا أيّاما كُلّها عبادة وتقوى.

واعتذرت له عن تأخري لبقائي في العراق، وحكيت له عن اكتشافي الجديد أو الفتح الجديد، وكان متفتحاً ومطلعاً فقال: فعلا أنا أسمع أنّ فيهم بعض العلماء الكبار وعندهم ما يقولون، ولكنّ عندهم فرقاً كثيرة كافرة منحرفة يخلقون لنا مشاكل متعدّدة في كلّ موسم للحج.

سألته ما هي هذه المشاكل التي يخلقونها؟

أجاب: إنّهم يصلّون حول القبور، يدخلون البقيع جماعات فيبكون وينوحون، ويحملون في جيوبهم قطعا من الحجارة يسجدون عليها، وإذا ذهبوا إلى قبر سيّدنا الحمزة في أُحد فهناك يقيمون جنازة بلطم وعويل، وكأنّ الحمزة مات في ذلك الحين، ومن أجل كلّ ذلك منعتهم الحكومة السعودية من الدخول إلى المزارات.

ابتسمت، وقلت له: ألهذا تحكم عليهم بأنهم منحرفون عن الإسلام؟

قال: هذا وغيره، إنّهم يأتون لزيارة النبيّ، ولكنّهم في نفس الوقت يقفون على قبر أبي بكر وعمر ويسبّونهم ويلعنونهم، ومنهم من يلقي على قبر أبي بكر وقبر عمر القذارات والنجاسات.

وذكرني هذا القول بالرواية التي سمعتها من والدي غداة رجع من الحجّ، ولكنّه قال بأنّهم يلقون القذارات على قبر النبيّ، ولا شكّ بأنّ والدي لم يشاهد ذلك بعينيه لأنّه قال: شاهدنا جنوداً من الجيش السعودي يضربون بعض الحجّاج بالعصى، ولمّا استنكرنا عليهم إهانتهم لحجّاج بيت الله الحرام! أجابونا


الصفحة 369

بأنّ هؤلاء ليسوا من المسلمين، فهم من الشيعة جاؤوا بالقذارات ليلقوها على قبر النبي، قال والدي: عند ذلك لعنّاهم وبصقنا عليهم.

وها أنا الآن أسمع من صديقي السعودي المولود في المدينة المنوّرة بأنّهم يأتون لزيارة قبر النبي، ولكنهم يلقون النجاسات على قبر أبي بكر وعمر، وشككت في صحة الرّوايتين، لأنّي حججت ورأيت أنّ الحجرة المباركة التي يوجد فيها ضريح النبي وأبي بكر وعمر مغلقة، ولا يمكن لأيّ شخص أن يقترب منها للتمسّح على بابها أو شباكها، فضلا على أن يلقي فيها أشياء:

أولا: لعدم وجود فجوات،

وثانياً: لوجود حراسة مشدّدة من الجنود الغلاظ الذين يتداولون على الرّقابة والحراسة أمام كلّ باب، وفي أيديهم سياط يضربون بها كلّ من يقترب أو يحاول أن ينظر داخل الحجرة.

والغالب على الظن أنّ بعض الجنود من السعودية وهم يكفّرون الشيعة، رماهم بهذه التهمة ليبرّر ضربه لهم، وحتّى يستفز المسلمين لمقاتلتهم أو على الأقل ليسكتوا على إهانتهم، ويروّجوا إذا رجعوا إلى بلدانهم أنّ الشيعة يبغضون رسول الله ويلقون على قبره النجاسات، وبذلك يضربون عصفورين بحجر واحد.

وهذا نظير ما حكاه أحد الفضلاء ممّن أثق بهم إذْ قال: كنا نطوف بالبيت فإذا بشاب أصابه مغص من شدّة الزحام فتقيّأ، وضربه الجنود الذين كانوا يحرسون الحجر الأسود، وأخرجوه وهو في حالة يرثى لها، واتهمّوه بأنّه جاء بالنجاسة لتوسيخ الكعبة، وشهدوا عليه وأعدم في نفس اليوم.

وجالت بخاطري هذه المسرحيات، وبقيت أفكر برهة في تعليل صديقي السعودي لتكفير هؤلاء الشيعة، فلم أسمع غير أنّهم يبكون ويلطمون ويسجدون على الحجر ويصلّون حول القبور.


الصفحة 370

وتساءلت: أفي هذا دليل على تكفير من يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ويقيم الصّلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم شهر رمضان، ويحج البيت، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟

وما أردت معاندة صديقي والدخول معه في جدال لا طائل من ورائه، فاقتصرت على القول: هدانا الله وإيّاهم إلى صراطه المستقيم، ولعن الله أعداء الدّين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين.

وكنت كلّما طفت بالبيت العتيق خلال العمرة وفي كلّ زيارة لمكة المكرّمة، ولم يكن يطوف بها إلاّ نفر قليل من المعتمرين، صلّيت وسألت الله سبحانه من كلّ جوارحي أن يفتح بصيرتي ويهديني إلى الحقيقة.

وقفت على مقام إبراهيم (عليه السلام) واستعرضت الآية الكريمة: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}(1) صدق الله العظيم.

وبدأت أناجي سيدنا إبراهيم أو أبانا إبراهيم كما سمّاه القرآن:

يا أبتاه، يا من سمّيتنا المسلمين، ها قد اختلف أبناؤك من بعدك فأصبحوا يهوداً ونصارى ومسلمين، واختلف اليهود فيما بينهم إلى إحدى وسبعين فرقة، واختلف النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، واختلف المسلمون إلى ثلاث وسبعين فرقة، وكُلّهم في الضّلالة حسبما أخبر بذلك ابنك محمّد، وفرقة واحدة بقيت على عهدك يا أبتاه!

أهي سنّة الله في خلقه كما يقول القدرية، فالله سبحانه هو الذي كتب على كلّ نفس أن تكون يهودية، أو نصرانية، أو مسلمة، أو ملحّدة، أو مشركة، أم

____________

1- سورة الحج: 78.