الصفحة 400

المبشّرين بالجنّة على ما يروونه.

ولذلك تراهم عندما يصلّون على النبي وأهل بيته يلحقون بهم الصحابة أجمعين بدون استثناء.

هذا ما أعرفه من علماء أهل السنّة والجماعة، وذاك ما سمعته من علماء الشيعة في تقسيم الصحابة، وهذا ما دعاني إلى أن أجعل بحثي يبدأ بهذه الدراسة المعمّقة حول الصحابة وعاهدت ربّي - إن هداني - أن أتجرّد من العاطفة لأكون حيادياً موضوعياً، ولأسمع القول من الطرفين فأتّبع أحسنه، ومرجعي في ذلك:

1 ـ القاعدة المنطقية السليمة وهي أن لا أعتمد إلاّ ما اتفقوا عليه جميعاً في خصوص التفسير لكتاب الله، والصحيح من السنّة النبوية الشريفة.

2 ـ العقل فهو أكبر نعمة من نعم الله على الإنسان، إذ به كرّمه وفضّله على سائر مخلوقاته، ألا ترى أنّ الله سبحانه عندما يحتجّ على عباده يدعوهم للتعقّل بقوله:

"أفلا يعقلون، أفلا يفقهون، أفلا يتدبرون، أفلا يبصرون..." الخ.

وليكن إسلامي مبدئياً إيماناً بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ الدين عند الله الإسلام، ولا أعتمد في ذلك على أيّ واحد من الصحابة مهما كانت قرابته ومهما علت منزلته، فأنا لست أمويّاً، ولا عبّاسياً، ولا فاطمياً، ولا سنّياً ولا شيعياً، وليست لي أيّ عداوة لأبي بكر، ولا لعمر، ولا لعثمان، ولا لعلي، ولا حتّى لوحشي قاتل سيدنا الحمزة ما دام أنّه أسلم، والإسلام يجبّ ما قبله، وقد عفى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وما دمت أقحمت نفسي في هذا البحث بغية الوصول للحقيقة، وما دمت قد تجرّدت من كلّ الأفكار المسبقة بكُلّ إخلاص، فأنا أبدأ هذا البحث على بركة الله في مواقف الصحابة.


الصفحة 401

الصــحابة
في صلح الحديبية


الصفحة 402

الصفحة 403

1 ـ الصحابة في صلح الحديبية:

مجمل القصّة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج في السنة السادسة للهجرة يريد العمرة مع ألف وأربعمائة من أصحابه، فأمرهم أن يضعوا سيوفهم في القرب، وأحرم هو وأصحابه بذي الحليفة، وقلّدوا الهدى ليعلم قريشاً أنّه إنّما جاء زائراً معتمراً وليس محارباً، ولكنّ قريشاً بكبريائها خافت أن يسمع العرب بأنّ محمّداً دخل عنوة إلى مكّة وكسر شوكتها، فبعثوا إليه بوفد يرأسه سهيل بن عمرو بن عبد ودّ العامري، وطلبوا منه أن يرجع في هذه المرّة من حيث أتى على أن يتركوا له مكّة في العام القادم ثلاثة أيّام، وقد اشترطوا عليه شروطاً قاسية قبلها رسول الله لاقتضاء المصلحة التي أوحى بها إليه ربّه عزّ وجلّ.

ولكن بعض الصحابة لم يعجبهم هذا التّصرف من النبي، وعارضوه في ذلك معارضة شديدة، وجاءه عمر بن الخطاب فقال: ألست نبي الله حقاً؟

قال: بلى.

قال عمر: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟

قال: بلى، قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري،

قال عمر: أولست كنت تحدّثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟

قال: بلى، أفأخبرتك أنّا نأتيه العام؟

قال عمر: لا.

قال: فإنّك آتيه ومطوّف به.

ثُمّ أتى عمر بن الخطاب إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقّاً؟


الصفحة 404

قال: بلى، ثمّ سأله عمر نفس الأسئلة التي سألها رسول الله، وأجابه أبو بكر بنفس الأجوبة قائلا له: أيّها الرجل، إنّه لرسول الله وليس يعصي ربّه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه(1).

ولمّا فرغ رسول الله من كتاب الصلح قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثمّ أحلقوا، فوالله ما قام منهم رجل حتّى قال ذلك ثلاث مرات، فلمّا لم يمتثل لأمره منهم أحد; فدخل خباءه ثمّ خرج فلم يكلّم أحداً منهم بشيء حتّى نحر بُدنةً بيده، ودعا حالقه فحلق رأسه، فلمّا رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتّى كاد بعضهم يقتل بعضاً(2).

هذه مجمل قصة الصلح في الحديبية، وهي من الأحداث المتفق عليها عند الشيعة والسنّة، وقد ذكرها المؤرخون وأصحاب السير كالطبري، وابن الأثير، وابن سعد وغيرهم كالبخاري ومسلم.

____________

1- لا أدري لماذا هذه المراجعة الثانية لابي بكر، ألا يطمئنّ قلب عمر بن الخطاب بكلام النبي (صلى الله عليه وآله)؟ وهل يثق بكلام أبي بكر ويطمئنّ له أكثر من النبي (صلى الله عليه وآله)؟! ولا أدري لماذا يغضب عمر من كلام النبي ولا يغضب من أبي بكر لما أجابه نفس الجواب، ذكر البخاري في كتاب التفسير في سورة الفتح: "فقال (صلى الله عليه وآله): يا بن الخطاب إنّي رسول الله ولن يضيّعني الله أبداً، فرجع متغيّظاً فلم يصبر حتّى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحقّ..؟ قال: يا بن الخطاب، انّه رسول الله ولن يضيّعه الله أبداً"، وفي السيرة الحلبية 3: 28 "ولقي عمر من ذلك الشروط... أمراً عظيماً، وجعل يردّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله)الكلام...".

2- وردت هذه القصة بأسانيد وألفاظ مختلفة راجع: صحيح البخاري 2: 974 كتاب الشروط، باب شروط الجهاد، وأيضاً كتاب التفسير في تفسير سورة الفتح، مسند أحمد 3: 486، 4: 331، المصنف للصنعاني 5: 339، صحيح ابن حبان 11: 224، تفسير الطبري 13: 117، تفسير ابن كثير 4: 213، البداية والنهاية 4: 200، السنن الكبرى للبيهقي 9: 220، المعجم الكبير للطبراني 20: 14، الدر المنثور للسيوطي 6: 77، نيل الأوطار للشوكاني 8: 187، السيرة الحلبية 3: 28.


الصفحة 405

وأنا لي هنا وقفة، فلا يمكن لي أن أقرأ مثل هذا ولا أتأثّر، ولا أعجب من تصرّف هؤلاء الصحابة تجاه نبيّهم، وهل يقبل عاقل قول القائلين بأنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمتثلون أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وينفذونها، فهذه الحادثة تكذّبهم وتقطع عليهم ما يرومون، هل يتصوّر عاقل بأنّ هذا التصرف في مواجهة النبيّ هو أمر هيّن أو مقبول أو معذور؟!

قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(1).

فهل سلّم عمر بن الخطاب هنا، ولم يجد في نفسه حرجاً ممّا قضى الرسول (صلى الله عليه وآله)؟! أم كان في موقفه تردد في ما أمر النبي وخصوصاً في قوله: أولست نبي الله حقّاً أولست كنت تحدثنا إلى آخره؟!

وهل سلّم بعدما أجابه رسول الله بتلك الأجوبة المقنعة؟

كلا لم يقتنع بجوابه وذهب يسأل أبا بكر نفس الأسئلة، وهل سلّم بعدما أجابه أبو بكر ونصحه أن يلزم غرز النبي؟ لا أدري إذا كان سلّم بذلك أو اقتنع بجواب النبي أو بجواب أبي بكر!! وإلاّ لماذا تراه يقول عن نفسه: "فعملت لذلك أعمالا.."(2).

____________

1- سورة النساء: 65.

2- ورد في صحيح ابن حبان 11: 224 "قال عمر بن الخطاب: فعملت في ذلك أعمالا، يعني في نقض الصحيفة"، وقال ابن حجر في فتح الباري 5: 255 "قال بعض الشراح: قوله: أعمالا، أي من الذهاب والمجيء والسؤال والجواب، ولم يكن ذلك شكاً من عمر بل طلباً لكشف ما خفي عليه وحثاً على إذلال الكفار...".

أقول: إنّ عمر اعترف بنفسه بالشك حيث قال: "ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ" (انظر المصنف لعبد الرزاق 5: 339، صحيح ابن حبان 11: 224، المعجم الكبير للطبراني 20: 14، تفسير الطبري 26: 129، الدر المنثور للسيوطي 6: 77، تفسير الثعلبي 9:60)، ولا ريب أنّ هذه الجملة دالة على أنّ عمر كان شاكاً في دينه، ولا شك أن الشكّ في الدين كفر، والتعصب الأعمى لتقديس عمر بن الخطاب وغيره الكثير من الشخصيات المصطنعة ادت بابن حجر العسقلاني مع تعلات عمر هذه واعترافاته وشكوكه إلى جعله الأعلم بشؤون الدين ومصالحه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!!

وذكر الآلوسي في تفسيره 13: 273 "فلمّا تأخر ذلك (أي تأخّر تعبير الرؤيا التي رآها النبي (صلى الله عليه وآله) في دخول مكة) قال على طريق الاعتراض عبد الله بن أُبي، وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام. وقد روي عن عمرقال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه"!

ولا ندري لماذا تأثر عمر بالمنافقين وأخذ يردّد كلامهم، ونحن نأخذ برواية الآلوسي ونترك درايته.

وفي الأزمنة الأخيرة ظهرت نابتة تدّعي لنفسها العلم، وتطلق الكلمات بدون تثبت، حتّى تجرأت وأخذت تطعن في أهل البيت(عليهم السلام)، فلما راوا صنائع الخليفة عمر بن الخطاب المزرية في صلح الحديبية، وكيفية اعتراضه على الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومكالمته بشدة وغلظة، وعدم اقتناعه بما قاله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واقراره بأنّه فعل افعالاً وأعمالاً يعلمها الله سبحانه وتعالى، وفوق ذلك كُلّه اقراره بأنّه ما شك في الإسلام إلاّ ذلك اليوم الذي صالح فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع مشركي قريش، فلمّا رأى أنصار عمر بن الخطاب ومحبيه هذه الأفعال الشنيعة والأعمال الغريبة التي تستوقف القارئ للتأمّل حتّى أخذوا بالطعن بعميد أهل البيت(عليهم السلام)وهو الإمام علي (عليه السلام)فقالوا: علي بن أبي طالب لم يمتثل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أمره بمحو اسمه من كتاب الصلح؟ فاذن لم يخالف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمر فقط وإنّما علي بن أبي طالب خالف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصى أمره؟!

وفي الجواب نكتفي بنقل كلام الامام الشوكاني والنووي فإنّهما قد أجادا في دفع هذا الوهم:

قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار 2: 229: "قال الآسنوي: قد اشتهر زيادة سيدنا قبل محمّد عند أكثر المصلين، وفي كون ذلك أفضل نظر.

وقد روي عن ابن عبد السّلام أنّه جعله من باب سلوك الأدب، وهو مبني على أنّ سلوك طريق الأدب أحب من الامتثال، ويؤيده حديث أبي بكر حين أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يثبت مكانه فلم يمتثل وقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك امتناع علي عن محو اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصحيفة في صلح الحديبية بعد أن أمره بذلك وقال: لا امحو اسمك ابداً.. فتقريره (صلى الله عليه وآله وسلم) لهما على الامتناع من امتثال الأمر تأدباً مشعر بأولويته"، وايضاً نقله في عون المعبود العظيم آبادي 3: 191.

وقال النووي في شرح مسلم 12:126: "قوله: (فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: امحه! فقال: ما أنا بالذي امحاه)، هكذا هو في جميع النسخ بالذي امحاه، وهي لغة في امحوه. وهذا الذي فعله علي (رضي الله عنه) من باب الأدب المستحب لأنّه لم يفهم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحتيم محو علي بنفسه ولهذا لم ينكر..".

ويقرب من هذا الكلام ذكره ـ أيضاً ـ الجصاص في كتاب الفصول في الأُصول 4: 490، والصالحي الشامي في كتاب سبل الهدى والرشاد 5: 77.

وقال ابن حجر في فتح الباري 7: 503: "ثُمّ قال لعلي: امح رسول الله، أي امح هذه الكلمة المكتوبة من الكتاب.

فقال: لا والله لا أمحوا أبداً.

وللنسائي من طريق علقمة بن قيس عن علي قال: كنت كاتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يوم الحديبية، فكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله، فقال سهيل: لو علمنا أنّه رسول الله ما قاتلناه امحها، فقلت: هو والله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وإن رغم أنفك، لا والله لا امحوها، وكأن علّياً فهم أن أمره له بذلك ليس متحتماً فلذلك امتنع من امتثاله، ووقع في رواية يوسف بعد فقال لعلي: امح رسول الله؟ فقال: لا والله لا أمحاه ابداً. قال: فأرنيه، فأراه إياه فمحاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بيده، ونحوه في رواية زكريا عند مسلم وفي حديث علي عند النسائي وزاد وقال: أما أنّ لك مثلها وستأتيها وأنت مضطر، فبشر (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما وقع لعلي يوم الحكمين فكان كذلك".

هذا ما ذكره علماء السنة في دفع هذا الايهام الذي أورده في حقّ سيد العترة الطاهرة علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ومنه تعرف أنّ هذا يختلف تمام الاختلاف عمّا صدر من عمر بن الخطاب من افعال وتصرفات شنيعة يندى لها الجبين، فعلي بن أبي طالب (عليه السلام) توقف عن محو اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصحيفة تأدباً واجلالاً واكراماً له (صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما عمر بن الخطاب اعترض على كتاب الصلح، ولم يقنع بجواب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فكلم ابا بكر، وقد شك في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وامر الدين، وذكر بأنّه فعل افعالاً الله اعلم بها.. إلى غير ذلك.

فأين فعل عمر بن الخطاب المخالف للآداب والقيّم الإسلامية مع فعل علي ابن أبي طالب (عليه السلام) الموافق للأخلاق والموازين الأدبية، مالكم كيف تحكمون!!

بل إنّ الملاحظ بجدّ أنّ عمر بن الخطاب قد شكّ في أمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يفكر بأيّ شيء يخطر على باله بأنّ هنالك مصلحة أو غير ذلك أدت إلى إبرام عقد الصلح، بينما علي بن أبي طالب كان ثابت الإيمان لم يتغير ولم يتبدل وازداد قوّة، فلذلك رفض إمحاء اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم); لأن يده لا تطيق مسح أسم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).


الصفحة 406

الصفحة 407

الصفحة 408

فالله وحده ورسوله يعلم ما هي الأعمال التي عملها عمر، ولا أدري سبب تخلّف البقية الباقية من الحاضرين بعد ذلك إذ قال لهم رسول الله: قوموا فانحروا ثمّ أحلقوا، فلم يستمع إلى أمره أحد منهم، حتّى كرّرها عليهم ثلاث مرّات بدون جدوى.

سبحان الله! أنا لا أكاد أصدّق ما أقرأ، وهل يصل الأمر بالصحابة لهذه الحدّ في التعامل مع أمر الرسول، ولو كانت هذه القصة مروية من طريق الشيعة وحدهم لعددتُ ما قالوا افتراء على الصحابة الكرام، ولكن القصة بلغت من الصحة والشهرة أن تناقلها كُلّ المحدّثين من أهل السنّة والجماعة أيضاً، وبما أنّني ألزمت نفسي توثيق ما اتّفقوا عليه، فلا أراني إلاّ مسلّماً ومتحيّراً: ماذا عساني أن أقول؟ وبماذا أعتذر عن هؤلاء الصحابة الذين قضوا مع رسول الله قرابة عشرين عاماً من البعثة إلى يوم الحديبية، وهم يشاهدون المعجزات وأنوار النبوّة؟ والقرآن يعلّمهم ليلا ونهاراً كيف يتأدّبون مع حضرة الرسول وكيف يكلّموه، حتّى هدّدهم الله بأحباط أعمالهم إنّ رفعوا أصواتهم فوق صوته.

ويدفعني إلى الاحتمال بأنّ عمر بن الخطاب هو الذي أثار بقيّة الحاضرين، ودفعهم إلى التردد والتخلّف عن أمر الرسول ـ زيادة على اعترافه


الصفحة 409

بأنّه عمل لذلك أعمالا لم يشأ ذكرها ـ ما يردده هو في موارد أُخرى قائلا: ما زلت أصوم وأتصدّق وأصلّي وأعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به... إلى آخر ما هو مأثور عنه في هذه القضية(1).

____________

1- مسند أحمد 4:325، تاريخ الطبري 2:280، البداية والنهاية 4:192، عيون الأثر 2:120، السيرة النبوية لابن كثير 3:320، السيرة الحلبية 2: 706.

قد يقول بعض إخواننا أهل السنة: سلّمنا انّ الصحابة فعلوا ما فعلوا لكنّ الله تعالى انزل بعد انصرافهم من الحديبية سورة الفتح وجاء فيها قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...) فالله تعالى رضي عنهم وغفر لهم.

نقول في الجواب:

أولا: هذه الآية ليست ناظرة إلى ما فعلوا من المخالفة لأمر النبي (صلى الله عليه وآله)والتشكيك في صحة كلامه، بل إنّها ناظرة إلى قضيّة البيعة التي حصلت تحت الشجرة لما وصل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنّ مشركي مكة قبضوا على عثمان ومن كان معه، فبايعوا النبي على الموت أو على أن لا يفرّوا، وقضية الصلح وشك عمر واعتراضه جاءت متأخرة عنها.

ثانياً: لقد قال تعالى في سورة الفتح قبل هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيماً) فاشترط تعالى في الأجر والرضى الوفاء وعدم النكث. وفي الدر المنثور للسيوطي 6: 74 وفتح القدير للشوكاني 5: 52: "وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "(لقد رضي الله)... فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم قال: انّما نزلت السكينة على من علم منه الوفاء".

إذاً فالآية مقيّدة وليست مطلقة.

ثالثاً: إنّي أعتقد أنّ الله تعالى قد غفر تلك الزلّة للصحابة المؤمنين الذين علم منهم الوفاء، ورضي عنهم، لكن لا ينقضي عجبي من قول عمر بن الخطاب: "مازلت اصوم وأتصدق..." فإذا كان في قضية الصلح غير مطمئن لقول النبي (صلى الله عليه وآله) لما اعترض عليه، واطمأنّ بقول أبي بكر لما أعاد عليه نفس جواب النبي (صلى الله عليه وآله)، لا أدري لماذا لا يطمئن ولا يسكن لقول الله تعالى حيث وعد أهل الحديبية بالجنة والرضوان؟! هل لكونه لم يكن من المبايعين تحت الشجرة؟! او لشكّه في شمول كلمة: "المؤمنين" في الآية له؟! أو لأنّه عندما صدرت هذه الجملة من عنده افتقد أبا بكر ليرشده وينزل السكينة والأمان على روعه، ويقول له: إنّ الله قد رضي عنك فلا داعي لهذا التعب والعناء، كما أرشده في صلح الحديبية وبعدما قُبض النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي مواطن أُخر؟!!


الصفحة 410

ممّا يشعرنا بأنّ عمر نفسه كان يدرك بعد الموقف الذي وقفه ذلك اليوم. إنّها قصّة عجيبة وغريبة ولكنّها حقيقية.


الصفحة 411

الصــحابة
ورزية يوم الخميس


الصفحة 412

الصفحة 413

2 ـ الصحابة ورزية يوم الخميس:

ومجمل القصة: إنّ الصحابة كانوا مجتمعين في بيت رسول الله قبل وفاته بثلاثة أيّام، فأمرهم أنّ يحضروا له الكتف والدواة ليكتب لهم كتاباً يعصمهم من الضلالة، ولكنّ الصحابة اختلفوا، ومنهم من عصى أمره واتّهمه بالهجر، فغضب رسول الله وأخرجهم من بيته دون أن يكتب لهم شيئاً، وإليك شيئاً من التفصيل:

قال ابن عبّاس: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتدّ برسول الله وجعه، فقال: هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إنّ النبي قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول: ما قال عمر.

فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): قوموا عنّي، فكان ابن عبّاس يقول: إنّ الرزية كلّ الرّزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(1).

____________

1- أما قول عمر: "غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله" تجده في صحيح البخاري كتاب المرضى باب 17، كتاب العلم باب 39، صحيح مسلم كتاب الوصية باب 5، مسند أحمد 1: 325، 336، المصنف لعبدالرزاق 5: 439، السنن الكبرى للنسائي 3: 433، 4: 360، صحيح ابن حبان 14: 562، الملل والنحل للشهرستاني 1: 22، شرح النهج لابن أبي الحديد 2: 55، البداية والنهاية لابن كثير 5: 247، دلائل النبوة للبيهقي 7: 181 ـ 183، الطبقات لابن سعد 2: 244، الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي: 794.

أما بالنسبة إلى قولهم: "ما شأنه أهجر، استفهموه، يهجر، ليهجر" فانظر: صحيح البخاري 4: 66، 5: 137، صحيح مسلم 5: 75، المصنف لعبد الرزاق 6: 57، 10: 361، مسند الحميدي 1: 242، مسند أحمد 1: 222، السنن الكبرى للنسائي 3: 434، الطبقات لابن سعد 2: 242 ـ 243، البداية والنهاية لابن كثير 5: 247، الشفا للقاضي عياض 2: 192، المعجم الكبير للطبراني 11: 352، تاريخ ابن خلدون ق2 ج2: 62، شرح النهج لابن أبي الحديد 13: 31، الكامل لابن الأثير 2: 320، تاريخ الطبري 2: 436.

قال ابن الأثير في تعيين القائل "ما شأنه أهجر" في كتابه النهاية في غريب الحديث 5: 245 وكذلك أورد كلامه ابن منظور في لسان العرب 5: 254، قال: "ومنه حديث مرض النبي (صلى الله عليه وآله) "قالوا: ما شأنه أهجر" أي اختلف كلامه بسبب المرض على سبيل الاستفهام، أي هل تغيّر كلامه واختلط لأجل ما به من مرض؟ وهذا أحسن ما يقال فيه، ولا يجعل اخباراً فيكون أما من الفحش أو الهذيان، والقائل كان عمر، ولا يظن به ذلك"، وانظر أيضاً منهاج السنة 6: 24، 315.

وفي تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: 65 "فقال عمر: دعوا الرجل فإنّه ليهجر"، وفي السقيفة وفدك لأبي بكر الجوهري كما عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج 6: 51: "فقال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ قال: عندنا القرآن حسبنا كتاب الله".


الصفحة 414

هذه الحادثة صحيحة لا شك فيها، فقد نقلها علماء الشيعة ومحدّثوهم في كتبهم، كما نقلها علماء السنّة ومحدّثوهم ومؤرخوهم، وهي ملزمة لي على ما ألزمت به نفسي، ومن هنا أقف حائراً في تفسير الموقف الذي وقفه عمر بن الخطاب من أمر رسول الله، وأيّ أمر هو؟ أمر عاصم من الضلالة لهذه الأمّة، ولا شكّ أنّ هذا الكتاب فيه شيء جديد بالنسبة للمسلمين سوف يقطع عليهم كلّ شك(1).

____________

1- والشيء الجديد هو ما أراد كتابته (صلى الله عليه وآله) بعدما بيّنه شفاهاً مراراً عديدة من الوصاية بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولو كتب هذا الكتاب، لما حصل الضلال بين المسلمين كما في الحديث الشريف.

قد يقول قائل: بان هذا الكتاب لو كان فيه شيء جديدٌ لما تركه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّه مأمور بتبليغ أوامر الله سبحانه وتعالى، مضافاً إلى أنّ النبي قد بلغ كلّ شيء طبقاً لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). هذا من جانب

ومن جانب آخر هذا الأمر لم يكن واجب التبليغ وإلاّ لو كان واجب التبليغ يلزم إما القول بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبلغ وعصى أمر الله، أو القول إنّه بلّغ وكلاهما باطل، أما الباقي فنعرف أنّ الرسول لم يكتب ذلك الكتاب، وأما الاوّل فباطل أيضاً لانّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكنه أن يعصي أوامر الله سبحانه وتعالى، وخصوصاً الأُمور المرتبطة بتبليغ الرسالة، فمن هذا وذاك يفهم من الأمر ان هناك امراً ـ مهما كان ذلك الأمر ـ ولم يكن ذا ضرورة أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلّغه، أو بتعبير أدق أن يخبر الناس به، لكنه وقع كلام بين الحاضرين فلم يذكره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لعدم أهميته، وعدم ثبوت شأن مهم له.

ويتبين من هذا الكلام أن تهويل هذه المسألة واعطائها حجماً كبيراً، بحيث نجعلها مثلبة على الصحابة وبالخصوص عمر بن الخطاب، ومؤشراً على وجود انحراف فيهم امراً مبالغاً فيه، وتضخيماً للشيء فوق حجمه!

هذا ما ذكر في الكتب التي اعترضت على الدكتور التيجاني ككتاب كشف الجاني: 77، وكتاب بل ضللت: 38، وكتاب الانتصار للصحب والآل: 75.

والجواب على هذا الكلام نقول: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بيّن لأمته جميع ما تحتاجه من الأُمور التي تقربها إلى الهداية وتبعدها عن الضلال، وبين كلّ شيء يحتاجه الناس في حياتهم العلمية سواءً الفردية منها او الاجتماعية.. فلم يبقِ شيء في الشريعة خافياً لم يبينه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنه أراد أن يبين شيئاً كان قد ذكره سابقاً لكن الآن يريد بيانه بطريقة أُخرى وباسلوب جديد، بحيث يقطع الأمور على كلّ مشكُكّ وعلى كلّ مرجف ولا يبقى نزاع حول ذلك الامر.. وذلك الأمر الذي أراد أن يبيّنه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مرتبطاً بصميم الدين وروحه، حيث كان (كتاباً لن تضلوا بعده ابداً)! كتاباً يحمل الهداية التي لا يضل المسلم بعدها.. فأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقيّد مصباح الهداية ويضعه في موضع آمن يكون مرجعاً لطالبيه وبغية لقاصديه، إلى جنب الاعتماد على الاقوال والأحاديث الشريفة التي ذكرها، فلذلك وصف هذا الكتاب بأنّه الحصن المنيع والسور الأمين لحماية الإيمان من الانحراف أو الزيغ والضلال.. فلذلك كان أمراً جديداً باعتبار الأسلوب الذي يريد طرحه إلى الناس والطريقة التي يريد استخدامها لايصال ذلك الأمر اليهم.

لكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجه بالاعتراض وعدم القبول، كما يشير إلى ذلك رواية الامام أحمد حيث تقول: "إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده أبداً، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتّى رفضها" مسند أحمد بن حنبل 3: 346، في رواية الطبراني عن عمر بن الخطاب قال: "لما مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ادعوا لي بصحيفة ودواة، اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ابداً، فكرهنا ذلك أشدّ الكراهة. ثمّ قال: ادعوا لي بصحيفة اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ابداً، فقال النسوة من وراء الستر: إلا تسمعون ما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!

فقلت: إنكن صويحبات يوسف إذا مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عصرتن أعينكن واذا صح ركبتن عنقه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "احزنتني فإنّهنّ خير منكم" المعجم الأوسط 5: 288، مجمع الزوائد 9:34.

ولأجل هذا الاعتراض امتنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتابة ذلك الكتاب.

وقبل الدخول في هذا البحث نرجع إلى قائل هذه المقولة من هو؟

إذا رجعنا إلى الروايات نجدها وردت بصيغ مختلفة واليكها:

1 ـ ما أخرجه البخاري عن ابن عبّاس 1: 32 أنّ عمر بن الخطاب قال: "إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غلبه الوجع"

2 ـ في مسند أحمد بن حنبل 3: 346 قال: "فخالف عليها عمر بن الخطاب حتّى رفضها" وصرح محقق الكتاب بصحته.

3 ـ وفي مسند أحمد بن حنبل 6: 47 قال عمر: "حسبنا كتاب الله".

4 ـ في رواية الطبراني المتقدمة 5: 288 قال عمر: "فكرهنا ذلك أشدّ الكراهة".

هذا ما ورد في بعض الروايات التي صرحت باسم عمر بن الخطاب.

أما الروايات التي لم تصرّح بالاسم ووردت بلفظ قالوا او قال، ففي بعضها أنهّم قالوا: "ما له أهجر"، وفي بعضها قالوا: "يهجر"، وفي بعضها قال بعضهم: "إن نبي الله ليهجر"... إلخ.

ونحن إذا أردنا إتباع القواعد العقلائية في فهم الروايات، ومعرفة قائل الكلمة في مورد بحثنا لا بدّ لنا من حمل الروايات المبهمّة على الروايات المفسّرة، فالروايات التي ورد فيها فقال بعضهم تفسر بأنّ القائل عمر بن الخطاب نفياً لتلك الروايات المصرّحة باسم القائل، وتبقى الروايات المصرّحة بلفظ الجمع (فقالوا، أو قالوا) فهذه الروايات إما أن نقول: بانه صدر من الصحابة قولان فقول قالها عمر بن الخطاب، ومقولة قالها بعض الصحابة الآخرين الذين يوافقون عمر بن الخطاب الرأي.

ويشهد لذلك أنّه في الرواية التي ذكرت تنازع القوم واختلافهم حول طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرت بأنّ بعضهم قال ما قال عمر بن الخطاب!

فاذن كان لعمر مؤيدون وموافقون له في الرأي، فمن القريب جداً أنّ يكونوا ذكروا مقالة عمر بن الخطاب إما مقارنة له أو بعدما قالها.

ولو قبلنا بالتعدد، وان الكلمة قبلت من أكثر من شخص، فلا محذور من الالتزام بذلك وأنّ الكلام ذكر مرتين، مرّة من قبل عمر بن الخطاب، ومرة من قبل بعض الصحابة الموافقين له في الرأي.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ العلماء الشراح للحديث ذكروا بأنّ القائل لهذا الكلام ـ على اختلاف في تحديد الالفاظ ـ هو عمر بن الخطاب.

قال صاحب الفتح 7: 740: ".. وصمّم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ذلك عن غير قصد جازم"!!

وقال النووى 11: 132: "إنّما قصد عمر التخفيف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين غلبه الوجع..".

وقال ابن الاثير: "الهجر: بالضم هو الخنا والقبيح من القول، ولا تقولوا هجر: أي فحشاً. وهجر يهجر هجراً بالفتح اذا اختلط في كلامه واذا هذى.. ومنه حديث مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قالوا: ما شأنه أهجر.. والقائل كان عمر" النهاية في غريب الحديث والأثر 5: 245.

وقال سبط بن الجوزي: "... ولمّا مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال قبل وفاته بيسير: ائتوني بدواة وبياض لاكتب لكم كتاباً لا تختلفوا فيه بعدي! فقال عمر: دعوا الرجل فإنّه ليهجر" تذكرة الخواص: 65.

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: "قال النقيب: وممّا جرّأ عمر على بيعة أبي بكر والعدول عن علي ما كان يسمعه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمره، أنّه انكر مراراً على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)أموراً.. من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة ممّا هي خلاف النصّ وذلك نحو انكاره: في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق، وانكاره فداء أُسارى بدر، وانكاره عليه تبّرج نسائه للناس، وانكاره قضية الحديبية، وانكاره أمان العبّاس لابي سفيان بن حرب، وانكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة، وانكاره أمره بالنداء من قال لا إله إلاّ الله دخل الجنّة، وانكاره أمره بذبح النواضح، وانكاره على النساء بحضرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهيبتهن له دون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى غير ذلك من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث.

ولو لم يكن إلاّ انكاره قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه: ائتوني بدواة وكتف اكتب لكم ما لا تضلون بعدي، وقوله ما قال، وسكوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه.

وأعجب الاشياء أنّه قال ذلك اليوم: حسبنا كتاب الله، فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار، فبعضهم يقول: القول ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعضهم يقول القول ما قال عمر، فقال رسول الله وقد أكثروا اللغط، وعلت الاصوات: قوموا عنّي، فما لنبي أن يكون عنده هذا التنازع فهل بقي للنبّوة مزية أو فضل..؟!

فمن بلغت قوته وهمّته إلى هذا كيف ينكر منه أن يبايع أبا بكر لمصلحة رآها ويعدل عن النصّ؟!

ومن الذي كان ينكر عليه ذلك وهو في القول الذي قاله للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجهه غير خائف من الأنصار ولا ينكر عليه أحد.. وهو أشدّ من مخالفته النصّ في الخلافة وأفضع وأشنع" شرح نهج البلاغة 12: 88.

وقال ابن حزم الاندلسي بعد ايراده الحديث: "قال أبو محمّد: هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديماً، وقد كان في سابق علم الله أن يكون بيننا الاختلاف وتضل طائفة وتهتدي بهدي الله أُخرى، فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به، ممّا كان سبباً إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضلّ بعده.." الأحكام 7: 984.

فهذه الكلمات وغيرها تزيل الريب من كون المطلق للكلام هو الخليفة عمر بن الخطاب.

وبعد ذلك يطرح السؤال التالي: لماذا لم يكتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكتاب حتّى على فرض رفض الصحابة له؟

والجواب على هذا الكلام: إنّ الصحابة بعدما اختلفوا فيما بينهم، وبعد اتهامهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهجران فقد رفعوا بذلك موضوعية الكلام، وأصبح الكتاب لا قيمة له مادام قائله يهجر أو مشكوك الصحة!

فلذلك ورد في بعض الروايات أنّهم قالوا: "إلاّ نأتيك بما طلبت؟

قال: أوبعد ما قال؟! فلم يدع به" الطبقات الكبرى 2:242.

فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرف ان لا قيمة لكتابة ذلك الكتاب بعدما سلبوا منه الوعي والسلامة من الهذيان حينما قالوا: انّه يهجر!!

وهذه الكلمة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرينة ـ أيضاً ـ على أنّ القائل هو عمر بن الخطاب لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "أوبعد ما قال؟"، أيّ أوبعد ما أطلق كلمته المشؤمة واتهامه الباطل.. وبعدما اوقع الشك في النفوس، ومعه لا ينفع كتابة الكتاب لأنّه أصبح صادراً من نبي مشكوك الصحة والسلامة، لا من نبي سالم معافى.

ثُمّ اذا كان الشاهد على كتابة الكتاب حاله التشكيك فيه والطعن في نبّيه فكيف يكون حال غيره، من الذين يأتون بعدهم ويأخذون بما حفظوه ونقلوه؟!

فلا يبقى له قيمة تذكر ولا تركن النفس في الاعتماد عليه والرجوع إليه عند اختلاف الأهواء وظهور البدع.. وكُلّ ذلك يرجع إلى أمر بسيط إلاّ وهو الشك في صحة الرسول حينما قال الكلام وبيّنه.. بل كيف يقبله المسلم اللاحق مادام صحابته الحاضرين عنده والمشاهدين له قد طعنوا فيه، وحكموا بعدم أهليته للكلام فضلاً عن الايصاء بامر يرتبط بالهداية والضلال فإنّ العقلاء يشككون في هذا الكلام ولا يقبلوه ولا يرجعون إليه بل يكون حينئذ الايصاء به مضراً وليس نافعاً.

هذا كُلّه على فرض التسليم له بالمجيء بالدواة والكتف بعد اللفظ الذي حصل، وإلاّ فهم بقوا على اصرارهم وعنادهم في عدم احضار الدواة والكتف، ولهذا صاحت النسوة ما لكم قربوا لرسول الله الكتاب، فزجروهنّ وقابلوهنّ بالرفض.

إذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصر على كتابة الصحيفة التي لا يضلّوا بعدها أبداً لأنّ قولهم: (هجر او أهجر) يمكن أن يكون مقدمة يشك بها البعض فيما سيكتبه الرسول، بمعنى أن الرسول كتب ما كتب وهو في حالة لا تسمح له بذلك، والتشكيك مكتوب، ربما يتعدى هذا المكتوب إلى مكتوب آخر تحت هذه الحجّة.

ويمكن أن يكون ترك كتابة الكتاب لأنّ الرسول لما أكثروا اللغط والاختلاف عنده علم أنّ الاختلاف واقع من بعده لا محالة كما أخبره ربه، ولأجل ذلك اكتفى بما أقامه عليهم قبل ذلك من الحجج.

وممّا تقدم يتضح الجواب على سؤال آخر وهو: إنّ كتابة الكتاب لم تكن واجبة وإلاّ لما تركها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فاننا نقول: بان كتابة الكتاب كانت واجبة، وهذا أمر واضح لمن راجع الحديث وتمعن فيه، وممّا يدلل على ذلك عدّة أمور.

1 ـ وصف الكتاب بانه لا تضلوا بعده ابداً. فاذن الكتاب كان فيصلاً بين الهداية والضلالة، وكان مشعل النور الذي يضيء لمن اتبعه ويضل من تخلف عنه، ولذلك قال ابن حزم كلمته المتقدّمة من أنّ منع كتابة الكتاب ادّت إلى حرمان الخير.

2 ـ اختلاف القوم فيما بينهم فحزب ايد عمر وقسم ايد الرسول، وهذا يدل على جدية الموضوع وانه أراد ان يكتب للامة كتاباً مهماً، وإلاّ لو كان امراً عابراً لما كان هنا داع لهذا الاختلاف!

3 ـ طرد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بعدما تنازعوا واكثروا من اللغط، وهذا يدل على جدية الموضوع ـ أيضاً ـ ، إذ لو كان امراً عابراً لا معنى لأن يغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويطرد صحبه المحبين إليه من عنده، خصوصاً وهو في آخريات أيّامه الشريفة!

4 ـ وصفه للنسوه اللاتي طلبن تقريب الكتاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنهنّ خير منهم، لأنّهنّ يردن تقريب الدواة والقلم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم رفضوا ذلك، فلاجل ذلك وصفهنّ الرسول بأنهنّ خيرٌ منهم، وهذا إن دلّ على شيء فيدل على جدية الأمر ولزومه.

5 ـ بكاء ابن عبّاس رضوان الله تعالى عليه وتسميته لذلك اليوم بأنّه رزية خير دليل على جدية الأمر، وانه أراد أن يكتب كتاباً مهماً، وكان واجباً وضرورياً لأنّه الفيصل بين الهداية والضلالة، والبصر والعمى.


الصفحة 415

الصفحة 416

الصفحة 417

الصفحة 418

الصفحة 419

الصفحة 420

ولنترك قول الشيعة: بأنّ الرسول أراد أن يكتب اسم علي خليفة له، وتفطّن عمر لذلك فمنعه، فلعلّهم لا يقنعوننا بهذا الزعم الذي لا يرضينا مبدئيّاً، ولكن هل نجد تفسيراً معقولا لهذه الحادثة المؤلمة التي أغضبت الرسول حتّى طردهم(1)، وجعلت ابن عبّاس يبكي حتّى يبلّ دمعه الحصى ويسمّيها أكبر رزيّة.

أهل السنة يقولون بأنّ عمر أحسّ بشدّة مرض النبي فأشفق عليه وأراد أن يريحه!

هذا التعليل لا يقبله بسطاء العقول فضلا عن العلماء، وقد حاولت مراراً وتكراراً التماس بعض الأعذار لعمر، ولكنّ واقع الحادثة يأبى علي ذلك، وحتّى لو أبدلتْ كلمة يهجر "والعياذ بالله" بلفظة "غلبه الوجع" فسوف لن نجد مبرّراً لقول عمر: "عندكم القرآن"، و"حسبنا كتاب الله".

أو كان هو أعلم بالقرآن من رسول الله الذي أنزل عليه؟

____________

1- جاء في مسند أحمد 1: 325: "فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف وغمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)قال: قوموا عنّي..."، وفي لفظ الطبقات لابن سعد 2: 244: "وغمّوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: قوموا عنّي"، وفي لفظ أنساب الأشراف للبلاذري 2: 236: "فغمّ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)وأضجره، وقال: إليكم عنّي، ولم يكتب شيئاً".


الصفحة 421

أم أنّ رسول الله لا يعي ما يقول ـ حاشاه ـ ؟

أم أنّه أراد بأمره ذلك أنّ يبعث فيهم الاختلاف والفرقة "أستغفر الله"؟

ثُمّ لو كان تعليل أهل السنّة صحيحاً، فلم يكن ذلك ليخفى على رسول الله حسن نيّة عمر، ولشكره رسول الله على ذلك وقرّبه، بدلا من أن يغضب عليه ويقول أخرجوا عنّي.

وهل لي أن أتسائل لماذا امتثلوا أمره عندما طردهم من الحجرة النبوية، ولم يقولوا بأنّه يهجر؟

ألأنّهم نجحوا بمخطّطهم في منع الرسول من الكتابة، فلا داعي بعد ذلك لبقائهم، والدليل على أنّهم أكثروا اللغط والاختلاف بحضرته (صلى الله عليه وآله)، وانقسموا إلى حزبين، منهم من يقول: قرّبوا إلى رسول الله يكتب لكم ذلك الكتاب، ومنهم من يقول: ما قال عمر، أي إنّه "يهجر"(1).

____________

1- انظر: صحيح البخاري كتاب المرضى باب 17، صحيح مسلم كتاب الوصية باب 5، دلائل النبوة للبيهقي 7: 183، مسند أحمد 1: 325، المصنف للصنعاني 5:438، السنن الكبرى للنسائي 3:433، السيرة النبوية لابن كثير :451، الطبقات لابن سعد 2: 244.

وجاء في مجمع الزوائد للهيثمي 4: 391، 8: 609: "عن عمر قال: لما مرض النبي قال: ادعوا لي بصحيفة ودواة اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً، فكرهنا ذلك أشدّ الكراهة، ثمّ قال: ادعوا لي بصحيفة اكتب كتاباً لا تضلوا بعده أبداً..."، وفي لفظ آخر أيضاً 4: 309، 8: 609، "عن جابر قال: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله)دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده أبداً، قال: فخالف عليها عمر بن الخطاب...".

قال السيد ابن طاووس في الطرائف: 435 "ومن طريف ما في هذا الحديث المذكور وأسراره أنّه يشهد انّ الطعن في قول نبيهم والردّ عليه والقدح فيه إنّما كان من عمر وحده، وأنّه هو ابتدأ به، بدليل قوله: "فقال قوم: القول ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله)، وقال قوم: القول ما قاله عمر"، فما أطرف هذه الغفلة من القوم الذين قالوا القول ما قاله عمر، إنّ هذا ممّا يبكي الأولياء ويضحك الأعداء".


الصفحة 422

والأمر لم يعد بتلك البساطة يتعلق بشخص عمر وحده، ولو كان كذلك لأسكته رسول الله وأقنعه بأنّه لا ينطق عن الهوى، ولا يمكن أن يغلب عليه الوجع في هداية الأمّة وعدم ضلالتها، ولكن الأمر استفحل واستشرى ووجد له أنصاراً كأنهم متّفقون مسبقاً، ولذلك أكثروا اللّغط والاختلاف، ونسوا أو تناسوا قول الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ}(1).

وفي هذه الحادثة تعدّوا حدود رفع الأصوات والجهر بالقول إلى رميه (صلى الله عليه وآله) بالهجر والهذيان ـ والعياذ بالله ـ، ثمّ أكثروا اللّغط والاختلاف، وصارت معركة كلامية بحضرته.

وأكاد أعتقد بأنّ الأكثرية الساحقة كانت على قول عمر، ولذلك رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عدم الجدوى في كتابة الكتاب، لأنه علم بأنّهم لن يحترموه، ولم يمتثلوا لأمر الله فيه في عدم رفع أصواتهم بحضرته، وإذا كانوا لأمر الله عاصين فلن يكونوا لأمر رسوله طائعين(2).

____________

1- سورة الحجرات: 2.

2- ويظهر من بعض الروايات أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يكرّر ذلك الطلب، ففي رواية ابن عباس أنّه كان يوم الخميس أي قبل وفاته (صلى الله عليه وآله) بعدة أيّام، وفي رواية جابر كما في مجمع الزوائد للهيثمي 4: 214: "إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) دعا عند موته بصحيفة ليكتب..." وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى... ورجال الجميع رجال الصحيح، وفيه أيضاً 9: 333 عن عمر بن الخطاب انّ النبي (صلى الله عليه وآله) كرّر طلبه باحضار الكتاب مرتين، وفي لفظ الطبراني في المعجم الكبير 11: 30 عن ابن عباس قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ائتوني بكتف ودواة اكتب لكم كتاباً لا يختلف فيه رجلان، قال: فأبطأوا بالكتف والدواة فقبضه الله". وفي لفظ ابن سعد في الطبقات 2: 244 "فقالت زينب زوج النبي (صلى الله عليه وآله): ألا تسمعون النبي يعهد إليكم؟ فلغطوا، فقال: قوموا، فلمّا قاموا قبض النبي (صلى الله عليه وآله) مكانه".


الصفحة 423

واقتضت حكمة الرسول بأن لا يكتب لهم ذلك الكتاب لأنّه طعن فيه في حياته، فكيف يعمل بما فيه بعد وفاته، وسيقول الطاعنون: بأنّه هَجْرٌ من القول، ولربّما سيشكّكون في بعض الأحكام التي عقدها رسول الله في مرض موته، إذ إنّ اعتقادهم بهجره ثابت.

أستغفر الله وأتوب إليه من هذا القول في حضرة الرسول الأكرم، وكيف لي أن أقنع نفسي وضميري الحرّ بأنّ عمر بن الخطّاب كان عفويّاً، في حين أنّ أصحابه ومن حضروا محضره بكوا لما حصل، حتّى بلّ دمعهم الحصى وسمّوها رزية المسلمين.

ولهذا فقد خلصتُ إلى أن أرفض كلّ التعليلات التي قُدمت لتبرير ذلك، ولقد حاولت أن أنكر هذه الحادثة وأكذبها لأستريح من مأساتها، ولكن كتب الصحاح نقلتها وأثبتتها وصححتها، ولم تحسن تبريرها.

وأكاد أميل إلى رأي الشيعة في تفسير هذا الحدث، لأنّه تعليل منطقي وله قرائن عديدة، وإنّي لا زلت أذكر إجابة السيد محمّد باقر الصدر عندما سألته: كيف فهم سيدنا عمر من بين الصحابة ما يريد الرسول كتابته وهو استخلاف علي ـ على حد زعمكم ـ ، فهذا ذكاء منه(1).

قال السيد الصدر: لم يكن عمر وحده فهم مقصد الرسول، ولكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر، لأنّه سبق لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن قال مثل هذا، إذ

____________

1- ذكر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد مسنداً كما في شرح النهج لابن أبي الحديد 12: 21 محاورة ابن عبّاس مع عمر وفيها قال عمر: "لقد كان من رسول الله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام...".

وفيه أيضاً 12: 79 في حوار آخر مع ابن عبّاس قال عمر: "إنّ رسول الله أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته عنه خوفاً من الفتنة".


الصفحة 424

قال لهم: "إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً"، وفي مرضه قال لهم: "هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً".

ففهم الحاضرون ومن بينهم عمر أن رسول الله يريد أن يؤكّد ما ذكره في غدير خم كتابيّاً، وهو التمسك بكتاب الله وعترته، وسيد العترة هو علي، فكأنّه (صلى الله عليه وآله) أراد أنّ يقول: "عليكم بالقرآن وعلي"، وقد قال مثل ذلك في مناسبات أخرى كما ذكر المحدّثون(1).

وكان أغلبية قريش لا يرضون بعليّ لأنّه أصغر القوم، ولأنّه حطّم كبرياءهم، وهشّم أنوفهم، وقتل أبطالهم، ولكنّهم لا يجرؤون على رسول الله إلى الحد الذي حصل في صلح الحديبية، وفي المعارضة الشديدة للنبيّ عندما صلّى على عبد الله ابن أبيّ المنافق(2)، وفي عدّة مواقف أخرى سجّلها التاريخ، وهذا الموقف منها.

وأنت ترى أنّ المعارضة لكتابة الكتاب في مرض النبي شجّعت بعض الآخرين من الحاضرين على الجرأة، ومن ثمّ الإكثار من اللغط في حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله).

إنّ هذه المقولة جاءت ردّاً مطابقاً تماماً لمقصود الحديث، فمقولة: "عندكم القرآن"، "حسبنا كتاب الله" مخالفة لمحتوى الحديث الذي يأمرهم بالتمسّك بكتاب الله وبالعترة معاً، فكأن المقصود هو: حسبنا كتاب الله فهو

____________

1- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض" رواه الحاكم في المستدرك 3: 124 وصحّحه ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك، ورواه الطبراني في المعجم الصغير 1: 255، والأوسط 5: 135، ورواه السيوطي في الجامع الصغير 2: 177.

2- أنظر: صحيح البخاري 2: 76، كتاب الكسوف، باب في الجنائز، وصحيح مسلم 7: 116، باب فضائل عمر، سنن ابن ماجة 1: 487، سنن أبي داود 2: 57، المستدرك للحاكم 1: 341.