الصفحة 691

وإذا كان خالد بن الوليد وهو عندنا من عظمائنا حتّى لقبناه بسيف الله، أفكان ربنا يسلّ سيفه ويسلّطه على المسلمين والأبرياء وعلى المحارم فيهتكها، ففي ذلك تناقض لأن الله ينهى عن قتل النفس، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

ولكنه ـ أي خالد ـ في نفس الوقت يسل سيف البغي ليفتك بالمسلمين، ويهدر دماءهم وأموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، إن هذا زور من القول وبهتان مبين، سبحانك ربّنا وبحمدك تباركت وتعاليت عن ذلك علّواً كبيراً، سبحانك ما خلقت السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظنّ الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.

كيف جاز لأبي بكر وهو خليفة المسلمين أن يسمع بتلكم الجرائم الموبقة ويسكت عنها، بل ويدعو عمر بن الخطاب بأن يكفّ لسانه عن خالد، ويغضب على أبي قتادة لإنكاره فعل خالد؟!

أكان مقتنعاً حقّاً بأنّ خالد تأوّل فأخطأ؟ فأيّ حجّة بعد هذا على المجرمين والفاسقين في هتكهم الحرمات وادّعائهم التأويل.

أما أنا فلا أعتقد بأنّ أبا بكر كان متأوّلا في أمر خالد الذي سمّاه عمر بن الخطاب بـ "عدو الله"، وكان من رأيه أن يقتل خالد لأنه قتل امرءاً مسلماً، ويرجمه بالحجارة لأنه زنى بزوجة مالك (ليلى)، ولم يكن شيء من ذلك قد وقع لخالد، بل خرج منها منتصراً على عمر بن الخطاب; لأن أبا بكر وقف إلى جانبه، وهو يعلم حقيقة خالد أكثر من أيِّ أحد.

فقد سجّل المؤرخون بأنّه بعثه بعد تلك الواقعة المشينة إلى اليمامة التي خرج منها منتصراً، وتزوّج في أعقابها بنتاً كما فعل مع ليلى، ولمّا تجف دماء المسلمين بعدُ ولا دماء أتباع مسيلمة، وقد عنّفه أبو بكر على فعلته هذه بأشد


الصفحة 692

ممّا عنّفه على فعلته مع ليلى(1).

ولا شك أن هذه البنت هي الأخرى ذات بعل، فقتله خالد ونزا عليها كما فعل بليلى زوجة مالك، وإلاّ لما استحق أن يعنّفه أبو بكر بأشدّ مما عنّفه على فعلته الأولى. على أنّ المؤرخين يذكرون نصّ الرسالة التي بعث بها أبو بكر إلى خالد بن الوليد، وفيها يقول: "لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ تنكح النساء، وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد"(2).

ولما قرأ خالد هذا الكتاب قال: "هذا عمل الأعسر"، يقصد بذلك عمر بن الخطاب!

فهذه من الأسباب القوية التي جعلتني أنفر من أمثال هؤلاء الصحابة، ومن تابعيهم الذين يترضون عنهم، والذين يدافعون عنهم بكل حماس، ويتأوّلون النصوص، ويختلقون الروايات الخيالية لتبرير أعمال أبي بكر، وعمر، وعثمان، وخالد بن الوليد، ومعاوية، وعمرو بن العاص وإخوانهم.

اللّهم إنّي أستغفرك وأتوب إليك..

اللّهم إنّي أبرأ إليك من أفعال هؤلاء وأقوالهم التي خالفت أحكامك، واستباحت حرماتك، وتعدّت حدودك.

وأبرأ إليك من أتباعهم وأشياعهم ومن والاهم على بصيرة وعلم بكُلّ ذلك، وأغفر لي ما سبق من موالاتهم إذ كنت من الجاهلين، وقد قال رسولك: "لا يعذر الجاهل بجهله".

اللّهم إنّ ساداتنا وكبراءنا قد أضلّونا السبيل، وحجبوا عنّا الحقيقة، وصوّروا لنا الصحابة المنقلبين بأنّهم أفضل الخلق بعد رسولك، ولا شك إن آباءنا وأجدادنا كانوا ضحيّة الدّس والغش الذي توخّاه الأمويون ومن بعدهم

____________

1- الأستاذ هيكل في كتابه "الصديق أبو بكر": 140.

2- تاريخ الطبري 2: 519، الفتوح لابن أعثم 1:37.


الصفحة 693

العباسيون.

اللّهم فاغفر لهم ولنا فأنت تعلم السرائر وما تخفي الصدور، وما كان حبّهم وتقديرهم وإحترامهم لأولئك الصحابة إلاّ عن حسن نيّة على أنهم أنصار رسولك محمّد صلواتك وسلامك عليه وأحباؤه.. وأنت تعلم ـ يا سيدي ـ حبّهم وحبّنا للعترة الطاهرة، الأئمة الذين أذهبت عنهم الرِّجس وطهرتهم تطهيراً، وعلى رأسهم سيد المسلمين، وأمير المؤمنين، وقائد الغرّ المحجّلين، وإمام المتّقين، سيدنا علي بن أبي طالب.

واجعلني اللّهم من شيعتهم، ومن المتمسكين بحبل ولائهم، والسائرين على منهاجهم، والراكبين في سفينتهم، والمستمسكين بعروتهم الوثقى، والداخلين من أبوابهم، والدائبين في محبتهم ومودّتهم، العاملين بأقوالهم وأفعالهم، والشاكرين لفضلهم ونوالهم.

اللّهم واحشرني في زمرتهم، فقد قال نبيّك صلواتك عليه وعلى آله: "يحشر المرء مع من أحبّ"(1).

2 ـ حديث السّفينة:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق"(2).

____________

1- بحار الأنوار 66: 81، العهود المحمدية للشعراني: 42.

2- هذا الحديث رواه عدة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأبو ذر الغفاري، وأبو سعيد الخدري، وابن عبّاس، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك. وطرق الحديث إلى هؤلاء الصحب مستفيضة، وقفنا على ستة طرق مختلفة في طبقاتها، وعدة طرق تتداخل في بعض طبقاتها فراجع فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل 2: 785، المصنف لابن أبي شيبة 7: 503، المعجم الكبير للطبراني 3: 44 ـ 45، والمعجم الأوسط 4: 10 و5: 306 ـ 355 و6: 85، المعجم الصغير 1: 193 و2: 22، مستدرك الحاكم 2: 343 و3: 151، تاريخ بغداد 12: 901، الحلية لأبي نعيم 4: 306، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 209، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 168، الجامع الصغير للسيوطي 2: 533. قال الحاكم في المستدرك 2: 343: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وقال الحافظ السخاوي في استجلاب ارتقاء الغرف 2: 484 بعد ان ذكر عدة طرق: "وبعض هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً".

وقال ابن حجر الهيتمي في الصواعق: 352: "وجاء من طرق كثيرة يقوي بعضها بعضاً مثل: أهل بيتي"، وفي رواية: "إنّما مثل أهل بيتي، وفي أُخرى: إنّ مثل أهل بيتي"، وفي رواية: "ألاّ إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق"، وفي رواية: "من ركبها سلم ومن تركها غرق، "وإن مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له".

وفي جواهر العقدين: 259 للسمهودي باباً باسم "ذكر أنّهم أمان الأُمة وأنهم كسفينة نوح عليه الصلاة والسلام، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق".

فاذن الحديث صحيح لوجود طرق متعددة له يقوي بعضها الآخر، ولاجل ذلك حكم قسم من العلماء بصحته كما تقدم ذكرهم، وطرق الحديث كالتالي عن عمرو بن ثابت عن سماك بن حرب عن حنش عن الطبري في الأوسط 5: 355.

عن عطية عن أبي سعيد عن الطبراني في الاوسط 6: 85.

وعن ابن عبّاس كما في حلية الأولياء 4: 306.

وعن أنس بن مالك كما في تاريخ بغداد 12: 91.

وعن عامر بن واثلة كما في الكنى للدولابي 1: 76.

وعليه فما ذكره عثمان الخميس في كشف الجاني: 116 غير صحيح لجهله بالطرق الأخرى للحديث، فهو ليس له طريق واحد حتّى يحكم بضعفه وإنّما له طرق متعددة.


الصفحة 694

"وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غُفر له"(1).

وقد أورد ابن حجر في كتابه الصواعق المحرقة هذا الحديث ثمّ قال:

____________

1- الفضائل لأحمد 2: 785 ح1402، المعجم الصغير للطبراني 2: 22، الأوسط 6: 85، فرائد السمطين 2: 242 ح516، جواهر العقدين 2: 190، المناقب لابن المغازلي: ح174 ـ 177، الصواعق المحرقة 2: 445، وقال: "وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً".


الصفحة 695

"ووجه تشبيههم بالسّفينة أنّ من أحبهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان.

ووجه تشبيههم بباب حطّة، أنّ الله تعالى جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا، أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الأمة مودّة أهل البيت سبباً لهم"(1).

ويا ليتني أسأل ابن حجر هل كان من الذين ركبوا السفينة، ودخلوا الباب وأخذوا بهدي العلماء، أم أنّه من الذين يقولون ما لا يفعلون ويخالفون ما يعتقدون؟! وكثيرون هم أولئك الجهلة الذين عندما أسألهم واحتج عليهم يقولون لي: نحن أولى بأهل البيت وبالإمام عليّ من غيرنا، نحن نحترم أهل البيت ونقدرهم، وليس هناك من ينكر فضلهم وفضائلهم!

نعم، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، أو أنّهم يحترمونهم ويقدرونهم ولكن يقتدون ويقلّدون أعداءهم ومن قاتلهم وخالفهم، أو أنهم في أغلب الأحيان لا يعرفون من هم أهل البيت، وإذا سألتهم: من هم أهل البيت؟ يجيبون على الفور: هم نساء النبي اللاّتي أذهب الله عنهم الرِّجس وطهرهم تطهيراً.

وقد كشف لي أحدهم عن هذا اللّغز عندما سألته وأجابني قائلا: أهل السنّة والجماعة كلّهم يقتدون بأهل البيت.

وتعجّبت وقلت: كيف ذلك؟

فقال: قال رسول الله: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء"(2) يعني

____________

1- الصواعق المحرقة 2: 446، الآيات الواردة فيهم، الآية السابعة.

2- ورد بلفظ: "خذوا شطر دينكم..." في كُلّ من: المبسوط للسرخسي 10:163 تحفة الاحوذي 10: 259، تذكرة الموضوعات: 100، كشف الخفاء 1: 374، إرواء الغليل 1: 10، الأحكام للآمدي 1: 248، البداية والنهاية 3: 159، السيرة النبوية لابن كثير 2: 137، النهاية في غريب الحديث 1:438، لسان العرب 4:209، تاج العروس 6:301.


الصفحة 696

عائشة، فنحن أخذنا نصف الدين عن أهل البيت!!

وعلى هذا الأساس يفهم كلامهم حول احترام وتقدير أهل البيت، أما إذا سألتهم عن الأئمة الاثني عشر فلا يعرفون منهم غير علي والحسن والحسين، مع أنّهم لا يقولون بإمامة الحسنين، وهم يحترمون معاوية بن أبي سفيان الذي دس السم للحسن فقتله ويسمونه "كاتب الوحي" وعمرو بن العاص كاحترامهم الإمام علي (عليه السلام)!!

إنّه التناقض والخلط والتّلبيس، تلبيس الحقّ بالباطل، وتغليف الضياء بالظلام، وإلاّ كيف يجتمع في قلب المؤمن حب الله والشيطان، قال الله في كتابه المجيد: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

وقال أيضاً عزّ من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ}(2).

3 ـ حديث من سرّه أن يحيا حياتي:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي، فليوال عليّاً من بعدي وليوال وليّه، وليقتد بأهل بيتي من بعدي، فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذّبين

____________

1- سورة المجادلة: 22.

2- سورة الممتحنة: 1.


الصفحة 697

بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي"(1).

وهذا الحديث هو كما نرى من الأحاديث الصريحة التي لا تقبل التأويل، ولا تترك للمسلم أي اختيار بل تقطع عليه كلّ حجّة، وإذا لم يُوال عليّاً ويقتدِ بأهل البيت عترة الرسول، فهو محروم من شفاعة جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وتجدر الإشارة هنا بأنّه خلال البحث الذي قمت به شككّت في البدء في صحّة هذا الحديث واستعظمته، لما فيه من تهديد ووعيد لمن كان على خلاف مع علي وأهل البيت، وخصوصاً أن هذا الحديث لا يقبل التأويل، وخفت الوطأة عندما قرأت في كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني بعدما أخرج الحديث قوله: "قلت في إسناده يحيى بن يعلى المحاربي وهو واه"(2).

وأزال ابن حجر بهذا القول بعض الإشكال الذي علق بذهني إذ تصوّرت أن يحيى بن يعلى المحاربي هو واضعُ الحديث وهو ليس بثقة، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يوقفني على الحقيقة بكاملها.

وقرأت يوما كتاب "مناقشات عقائدية في مقالات إبراهيم الجبهان"(3)، وأوقفني هذا الكتاب على جليّة الحال، إذ تبيّن أن يحيى بن يعلى المحاربي هو

____________

1- أخرجه الحاكم في المستدرك 3:128، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وأبو نعيم في الحلية 4:387، والطبراني في المعجم الكبير 5:194، وابن عساكر في تاريخ دمشق 42:242 من طريق يحيى بن يعلى الأسلمي، مع تفاوت في بعض الألفاظ من حيث الزيادة والنقصان، رواه الرافعي في كتاب تدوين أخبار قزوين 2:485.

والحديث سنده حسن، لأنّ طرق الحديث متعددة وليس الطريق منحصراً بيحيى بن يعلى الأسلمي الذي ضعفوه، وإن أخرج له ابن حبّان في صحيحه 15:393، وحسن له الألباني في سنن الترمذي حديثه 2:269.

2- الاصابة 2: 485 رقم 2872، وهو غفلة منه; لأنّ في السند الأسلمي وليس المحاربي.

3- مناقشات عقائدية في مقالات إبراهيم الجبهان: 28.


الصفحة 698

من الثقات الذين اعتمدهم الشيخان مسلم والبخاري.

وتتبّعت بنفسي فوجدت البخاري يخرج له أحاديث في باب غزوة الحديبية من جزئه الثالث في صفحة عدد 31، كما أخرج له مسلم في صحيحه في باب الحدود من جزئه الخامس في صفحة عدد 119، والذهبي نفسه ـ على تشدّده ـ أرسل توثيقة إرسال المسلمات، وقد عدّه أئمة الجرح والتعديل من الثقات واحتج به الشيخان.

فلماذا هذا الدسّ والتزوير، وتقليب الحقائق، والطعن في رجل ثقة احتج به أهل الصحاح؟ ألأنه ذكر الحقيقة الناصعة في وجوب الاقتداء بأهل البيت (عليهم السلام)، فكان جزاؤه من ابن حجر التوهين والتضعيف، وقد فات ابن حجر أنّ من ورائه علماء جهابذة يحاسبونه على كلّ صغيرة وكبيرة، ويكشفون تعصّبه وجهله; لأنّهم يستضيئون بنور النبوة، ويهتدون بهدي أهل البيت (عليهم السلام).

وعرفت بعد ذلك أن بعض علمائنا يحاولون جهدهم تغطية الحقيقة; لئلا ينكشف أمر الصحابة والخلفاء الذين كانوا أمراءهم وقدوتهم، فتجدهم مرة يتأوّلون الأحاديث الصحيحة الثابتة ويحمّلونها غير معانيها، ومرة يكذّبون الأحاديث التي تناقض مذهبهم وإن وردت في صحاحهم وأسانيدهم، ومرة يحذفون من الحديث نصفه أو ثلثيه ليبدلوه بكذا وكذا!! ومرة يشككون في الرواة الثقات لأنهم حدّثوا بما لا تهوى أنفسهم، ومرة يخرجون الحديث في الطبعة الأولى ويحذفونه في الطبعات الأخرى بدون أيّ إشارة إلى مبرر الحذف، رغم أن المطلعين يدركون سبب ذلك!!

وقد تحقق لديّ كلّ هذا بعد البحث والتمحيص، وعندي أدلة قاطعة على ما أقول: فليتهم إذ يحاولون عبثاً كلّ هذه المحاولات لتبرير أعمال الصحابة الذين انقلبوا على الأعقاب، فجاءت أقوالهم متناقضة بعضها مع بعض ومتناقضة مع التاريخ، ليتهم اتّبعوا الحقّ ولو كان مرا إذاً لأراحوا واستراحوا،


الصفحة 699

ولكانوا سبباً في جمع شمل هذه الأمة المتمزقة والمتناحرة لا لشيء إلاّ لتأييد أقوالهم أو تفنيدها.

وإذا كان بعض الصحابة الأولين غير ثقات في نقل الأحاديث النبوية الشريفة، فيبطلون منها ما لا يتماشى وأهواءهم، وخصوصاً إذا كانت هذه الأحاديث من الوصايا التي أوصى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند وفاته، فقد أخرج البخاري ومسلم بأن رسول الله أوصى عند موته بثلاث:

ـ أخرجوا المشركين من جزيرة العرب.

ـ أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم...

ثمّ يقول الراوي: ونسيت الثالثة(1).

فهل يعقل أن الصحابة الحاضرين الذين سمعوا وصايا الرسول الثلاث عند موته ينسون الوصية الثالثة، وهم الذين كانوا يحفظون القصائد الشعرية الطويلة بعد سماعها مرةً واحدة؟ كلا ولكن السياسة هي التي أجبرتهم على نسيانها وعدم ذكرها، إنّها مهزلة أخرى من مهازل هؤلاء الصحابة، ولأن الوصية الأولى لرسول الله كانت بلا شك استخلاف علي بن أبي طالب فلم يذكرها الراوي.

مع أنّ الباحث في هذه المسألة يجد رائحة الوصية لعلي تفوح رغم كتمانها وعدم ذكرها، فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الوصايا، كما أخرج مسلم أيضاً في صحيحه في كتاب الوصية أنّه ذكر عند عائشة أنّ النبي أوصى إلى علي(2). أنظر كيف يظهر الله نوره ولو ستره الظالمون.

____________

1- صحيح البخاري 4: 31، باب 176 جوائز الوفد من كتاب الجهاد والسير، صحيح مسلم 5: 75، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، سنن أبي داود 2: 41، السنن الكبرى 9: 207، المصنف للصنعاني 6: 57، مسند أبي يعلى الموصلي 4: 298، نصب الراية للزيلعي 4: 343.

2- صحيح البخاري 3: 186، كتاب الوصايا، باب 1، صحيح مسلم 5: 75، كتاب الوصيّة، باب ترك الوصية، مسند أحمد 6: 32.


الصفحة 700

أعود فأقول: إذا كان هؤلاء الصحابة غير ثقات في نقل وصايا رسول الله، فلا لوم بعد ذلك على التابعين وتابعي التابعين.

وإذا كانت عائشة أم المؤمنين لا تطيق ذكر اسم علي (عليه السلام)، ولا تطيب لها نفساً بخير ـ كما ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته والبخاري في صحيحه (باب مرض النبي ووفاته)(1)، وإذا كانت تسجد لله شكراً عندما سمعت بموته، فكيف يرجى منها ذكر الوصية لعلي، وهي من عرفت لدى الخاص والعام بعدائها وبغضها لعلي وأولاده ولأهل بيت المصطفى.

فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

____________

1- الطبقات الكبرى 2: 232 في ذكر مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "قالت عائشة:... فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين ابن عبّاس ـ تعني الفضل ـ ورجل آخر، قال عبيد الله: فأخبرت ابن عباس بما قالت، قال: فهل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمّ عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عبّاس: هو عليّ، ان عائشة لا تطيب له نفساً بخير..."، وفي مسند أحمد 6: 228، وارواء الغليل 1: 178 بتحقيق الشيخ الالباني وقال عنه: "وسنده صحيح".

وفي صحيح البخاري 7: 18 كتاب الطب، لكن بترها ولم يورد: "انّ عائشة لا تطيب له نفساً بخير"، وكذلك مسلم في صحيحه 2: 22، كتاب الأذان، باب استخلاف الامام إذا عرض له عذر.


الصفحة 701

الصفحة 702

مصيبتنا في الاجتهاد
مقــابل النــصوص


الصفحة 703

الصفحة 704

مصيبتنا في الاجتهاد مقابل النصوص

استنتجت من خلال البحث أن مصيبة الأمة الإسلامية انجرّت عليها من الاجتهاد الذي دأب عليه الصحابة مقابل النصوص الصريحة، فاخترقت بذلك حدود الله، ومحقت السنة النبوية، وأصبح العلماء والأئمة بعد الصحابة يقيسون على اجتهادات الصحابة، ويرفضون بعض الأحيان النصّ النبوي إذا تعارض مع ما فعله أحد الصحابة، أو حتّى النصّ القرآني، ولست مبالغاً.

وقد قدّمت كيف أنهم رغم وجود النصّ على التيمم في كتاب الله وسنّة الرسول الثابتة.. رغم كلّ ذلك اجتهدوا، فقالوا بترك الصلاة مع فقد الماء، وقد علّل عبد الله بن عمر اجتهاده بالنحو الذي أشرنا إليه في مكان آخر من بحثنا.

ومن اوائل الصحابة الذين فتحوا هذا الباب على مصراعيه هو الخليفة الثاني الذي استعمل رأيه مقابل النصوص القرآنية بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فعطّل سهم المؤلفة قلوبهم الذين فرض الله لهم سهماً من الزكاة، وقال: "لا حاجة لنا فيكم".

أما اجتهاده في النصوص النبوية فلا يحصى، وقد اجتهد في حياة الرسول نفسه وعارضه عدة مرات، وقد أشرنا في ما سبق إلى معارضته في صلح الحديبية، وفي منع كتابة الكتاب وقوله: "حسبنا كتاب الله".

وقد وقعت له حادثة أُخرى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلها تعطينا صورة أوضح لنفسية عمر، الذي أباح لنفسه أن يناقش ويجادل ويعارض صاحب الرسالة، تلك هي حادثة التبشير بالجنّة، إذ بعث رسول الله أبا هريرة وقال له: "من لقيته من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنّة"، فخرج ليبشّر فلقيه عمر ومنعه من ذلك وضربه حتّى سقط على أسته.

فرجع أبو هريرة إلى رسول الله وهو يبكي، وأخبره بما فعل عمر، فقال رسول الله لعمر: "ما حملك على ما فعلت"؟


الصفحة 705

قال: هل أنت بعثته ليبشر بالجنة من قال لا إله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه؟

قال رسول الله: "نعم".

قال عمر: لا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس على لا إله إلاّ الله!(1)

وهذا ابنه عبد الله بن عمر يخشى أن يتكل الناس على التيمم فيأمرهم بترك الصلاة! وياليتهم تركوا النصوص كما هي، ولم يبدّلوها بإجتهاداتهم العقيمة التي تؤدي إلى محو الشريعة، وانتهاك حرمات الله، وتشتيت الأمة في متاهات المذاهب المتعددة، والآراء المتشعبة، والفرق المتناحرة.

ومن مواقف عمر المتعددة اتجاه النبي وسنته نفهم بأنّه ما كان يعتقد يوماً بعصمة الرسول، بل كان يرى أنه بشر يخطئ ويصيب.

ومن هنا جاءت الفكرة لعلماء السنة والجماعة بأنّ رسول الله معصوم في تبليغ القرآن فقط، وما عدا ذلك فهو يخطئ كغيره من البشر، ويستدلّون على ذلك بأن عمر صوّب رأيه في العديد من القضايا.

وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ كما يروي البعض من الجهلة ـ يقبل مزمارة الشيطان في بيته، وهو مستلق على ظهره، والنسوة يضربن الدفوف، والشيطان يلعب ويمرح إلى جانبه، حتّى إذا دخل عمر بن الخطاب هرب الشيطان، وأسرع النسوة فخبأن الدفوف تحت أُستهن، وقال رسول الله لعمر: "ما رآك الشيطان سالكاً فجّاً حتّى سلك فجا غير فجك"(2). فلا غرابة إذاً أن يكون لعمر ابن الخطاب رأي في الدين، وأن يسمح لنفسه بمعارضة النبي في الأمور

____________

1- صحيح مسلم 1: 44، كتاب الايمان، باب من لقي الله بالايمان، فتح الباري 1: 202، صحيح ابن حبّان 10: 409، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 56، رياض الصالحين:356، تفسير الآلوسي 26:60.

2- صحيح البخاري 7: 93، كتاب الأدب، باب الاخاء والحلف، صحيح مسلم 7: 115، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عمر، مسند أحمد 1: 171، السنن الكبرى 6: 60، مسند أبي يعلى 2: 133، صحيح ابن حبان 15: 316 وغيرها من المصادر.


الصفحة 706

السياسية، وحتى في الأمور الدينية، كما تقدم في تبشير المؤمنين بالجنة.

ومن فكرة الاجتهاد واستعمال الرأي مقابل النصوص، نشأت أو تكونت مجموعة من الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، وقد رأيناهم يوم الرزية كيف ساندوا وعضدوا رأي عمر مقابل النصّ الصريح.

ومن ذلك أيضاً نستنتج بأنّ هؤلاء لم يقبلوا يوماً نصوص الغدير التي نصّب بها النبي (صلى الله عليه وآله) علياً خليفة له على المسلمين، وتحيّنوا الفرصة السانحة لرفضها عند وفاة النبي، فكان اجتماع السقيفة وانتخاب أبي بكر من نتيجة هذا الاجتهاد.

ولما استتب لهم الأمر وتناسى الناس نصوص النبي في خصوص الخلافة، بدأوا يجتهدون في كلّ شيء، حتّى استطالوا على كتاب الله فعطلوا الحدود، وأبدلوا الأحكام.

فكانت مأساة فاطمة الزهراء بعد مأساة زوجها وإبعاده عن منصة الخلافة، ثمّ كانت مأساة قتل مانعي الزكاة، وكل ذلك من الاجتهاد مقابل النصوص، ثمّ كانت خلافة عمر بن الخطاب نتيجة حتمية لذلك الإجتهاد، إذ إنّ أبا بكر اجتهد برأيه وأسقط الشورى التي كان يستدل بها هو نفسه على صحة خلافته، وزاد عمر في الطين بلّة عندما ولي أمور المسلمين، فأحل ما حرّم الله ورسوله(1)، وحرم ما أحل الله ورسوله(2).

ولما جاء عثمان بعده ذهب شوطاً بعيداً في الاجتهاد، فبالغ أكثر ممن سبقوه، حتّى أثّر اجتهاده في الحياة السياسة والدينية بوجه عام، فقامت الثورة ودفع حياته ثمن اجتهاده.

____________

1- كقضية امضاءه الطلاق الثلاث صحيح مسلم 4: 84، باب الطلاق الثلاث من كتاب الطلاق، سنن أبي داود 1: 344 (المؤلّف).

2- كتحريمه متعة الحج ومتعة النساء صحيح مسلم كتاب الحج، صحيح البخاري كتاب الحج باب التمتع (المؤلف).


الصفحة 707

ولما ولي الإمام علي أمور المسلمين وجد صعوبة كبيرة في إرجاع الناس إلى السنة النبوية الشريفة وحظيرة القرآن، وحاول جهده أن يزيل البدع التي أدخلت في الدين، ولكن بعضهم صاح: "واسنة عمراه"(1)!

وأكاد اعتقد وأجزم بأنّ الذين حاربوا الإمام عليّاً وخالفوه إنّما فعلوا ذلك لأنه ـ سلام الله عليه ـ حملهم على الجادة، وأرجعهم إلى النصوص الصحيحة، مميتاً بذلك كل البدع والاجتهادات التي ألصقت بالدين طوال ربع قرن، وقد ألفها الناس وخاصّة منهم أصحاب الأهواء والأطماع الدنيوية، الذين اتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا، وكدّسوا الذهب والفضة، وحرموا المستضعفين من أبسط الحقوق التي شرعها الإسلام.

وقد نجد أن المستكبرين في كلّ عصر يميلون إلى الاجتهاد ويطبّلون له; لأنّه يفسح لهم المجال للوصول إلى مآربهم من كلّ طريق، أمّا النصوص فتقطع عليهم وجهتهم، وتحول بينهم وبين ما يرومون.

ثمّ إنّ الاجتهاد وجد له أنصاراً في كلّ عصر ومصر حتّى من المستضعفين أنفسهم لما فيه من سهولة التطبيق وعدم الالتزام.

ولأن النصّ فيه التزام وعدم حرية، وقد يسمّى عند رجال السياسة الحكم الثيوقراطي، يعني (حكم الله)، ولأنّ الاجتهاد فيه حرية وعدم الالتزام بالقيود، فيسمونه الحكم الديمقراطي، يعني (حكم الشعب) فالذين اجتمعوا في السقيفة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ألغوا الحكومة الثيوقراطية التي أسّسها رسول الله على مبدأ النصوص القرآنية، وأبدلوها بحكومة ديمقراطية يختار الشعب فيها من يراه صالحاً لقيادته، على أن أولئك الصحابة لم يكونوا ليعرفوا كلمة "الديمقراطية" لأنها ليست عربية، ولكنهم يعرفون نظام الشورى(2).

____________

1- الشافي للمرتضى 4: 219، وتلخيص الشافي للطوسي 4: 52.

2- رغم أنّه في الواقع لم يحصل حتّى هذا النوع من الانتخاب إذ إنّ الذين انتخبوا لا يملكون حق تمثيل الأمة بأي وجه من الوجوه (المؤلف).


الصفحة 708

فالذين لا يقبلون النصّ على الخلافة اليوم هم أنصار "الديمقراطية"، ويفتخرون بذلك، مدّعين أنّ الإسلام هو أول من ارتأى هذا النظام، وهم أنصار الاجتهاد والتجديد، وهم اليوم أقرب ما يكونون من النظم الغربية، ولذلك نسمع اليوم من الحكومات الغربية تمجيداً لهؤلاء، وتسميتهم بالمسلمين المتطورين والمتسامحين.

أما الشيعة أنصار "الثيوقراطية" أو حكومة الله يرفضون الاجتهاد مقابل النص، ويفرّقون بين حكم الله والشورى، فالشورى عندهم لا علاقة لها بالنصوص، وإنما الاجتهاد والشورى في ما لا نصّ فيه.

أفلا ترى أن الله سبحانه هو الذي اختار رسوله محمّداً، ومع ذلك قال له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(1).

أما فيما يتعلق باختيار القادة الذين يقودون البشرية قال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(2).

فالشيعة عندما يقولون بخلافة الإمام علي بعد رسول الله إنّما يتمسّكون بالنص، وهم عندما يطعنون في بعض الصحابة إنّما يطعنون في الذين أبدلوا النصّ بالاجتهاد، فضيّعوا بذلك حكم الله ورسوله، وفتحوا في الإسلام رتقاً لم يلتئم حتّى اليوم.

ومن أجل هذا أيضاً نجد الحكومات الغربية ومفكريهم ينبذون الشيعة، ويَسِمُونهم بالتعصب الديني، ويُسمّونهم رجعيين; لأنّهم يريدون الرجوع إلى القرآن الذي يقطع يد السارق، ويرجم الزاني، ويأمر بالجهاد في سبيل الله، وكل ذلك عندهم عنجهية بربرية.

____________

1- سورة آل عمران: 159.

2- سورة القصص: 68.


الصفحة 709

وفهمت خلال هذا البحث لماذا أغلق بعض علماء أهل السنة والجماعة باب الاجتهاد منذ فقهاء القرن الثاني للهجرة، فربما كان ذلك لما جرّه هذا الاجتهاد على الأمة من ويلات ومصائب وخطوب وحروب دامية أكلت الأخضر واليابس، وقد أبدل الاجتهاد خير أمة أخرجت للناس أمة متناحرة متقاتلة، تسودها الفوضى، وتحكم فيها القبلية، وتنقلب من الإسلام إلى الجاهلية.

أما الشيعة الذين بقي عندهم باب الإجتهاد مفتوحاً ما دامت النصوص قائمة، ولا يمكن لأيّ أحد تبديلها، وأعانهم على ذلك وجود الأئمة الاثني عشر الذين ورثوا علم جدّهم، فكانوا يقولون: ليس هناك مسألة إلاّ ولله حكم فيها، وقد بيّنه رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ونفهم أيضا بأن أهل السنة والجماعة لما اقتدوا بالصحابة المجتهدين الذين منعوا كتابة السنّة النبوية، وجدوا أنفسهم مضطرّين أمام غياب النصوص للاجتهاد بالرأي والقياس، والاستصحاب، وسد باب الذرائع إلى غير ذلك.

ونفهم أيضاً من كلّ ذلك بأن الشيعة التفوا حول الإمام علي، وهو باب مدينة العلم، والذي كان يقول لهم: "سلوني عن كلّ شيء، فقد علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لكُلّ باب ألف باب"(1). وغير الشيعة التفّوا حول معاوية بن أبي سفيان الذي لم يكن يعرف من سنّة النبي إلاّ قليلا.

وأصبح إمام الفئة الباغية، أميرا للمؤمنين، بعد وفاة الإمام علي، فعمل في دين الله برأيه أكثر من الذين سبقوه، وأهل السنة والجماعة يقولون بأنّه كاتب الوحي، وأنه من العلماء المجتهدين!

كيف يحكمون باجتهاده وقد دس السم للحسن بن علي سيد شباب

____________

1- ينابيع المودة 1: 222 ح43 عن فرائد السمطين 1: 101 ح70، بحذف أوّله.


الصفحة 710

أهل الجنة فقتله؟ ولعلهم يقولون: هذا أيضاً من اجتهاده فقد اجتهد وأخطأ!

كيف يحكمون باجتهاده وقد أخذ البيعة من الأمة بالقوة والقهر لنفسه، ثمّ لابنه يزيد من بعده، وحوّل نظام الشورى إلى الملكية القيصرية؟

كيف يحكمون باجتهاده ويعطوه أجراً، وقد حمل الناس على لعن علي وأهل البيت ذرية المصطفى من فوق المنابر، وأصبحت سنة متبعة لستين عاماً؟!

وكيف يسمّونه (كاتب الوحي) وقد نزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله)طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، كان معاوية لأحد عشر عاماً منها مشركاً بالله ولمّا أسلم بعد الفتح لم نعثر على رواية تقول بأنه سكن المدينة، في حين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يسكن مكة بعد الفتح.. فكيف تسنّى لمعاوية كتابة الوحي يا ترى؟!

فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، والسؤال يعود دائماً: أيّ الفريقين على الحقّ وأيّهما على الباطل؟ فأما أن يكون عليّ وشيعته ظالمين وعلى غير الحقّ، وأما أن يكون معاوية وأتباعه ظالمين وعلى غير الحقّ.

وقد أوضح رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلّ شيء، غير أنّ بعض مدّعي أتباع السنة يبغونها عوجاً.

وقد اتضح لي من خلال البحث ومن خلال الوقوف على الدفاع عن معاوية أنّهم (المدافعين) أتباع معاوية وبني أمية، وليسوا كما يدعون أتباع السنة النبوية، وخصوصاً إذا تتبعت مواقفهم، فهم يكرهون شيعة علي، ويحتفلون بيوم عاشوراء عيداً، ويدافعون عن الصحابة الذين آذوا رسول الله في حياته وبعد وفاته، ويصحّحون أخطاءهم، ويبرّرون أعمالهم.

تُرى كيف تحبون علياً وأهل البيت وتترضون في نفس الوقت على أعدائهم وقاتليهم؟!

كيف تحبون الله ورسوله، وتدافعون عمن بدّل أحكام الله ورسوله،


الصفحة 711

واجتهد وتأوّل برأيه في أحكام الله؟!

كيف تحترمون من لم يحترم رسول الله، بل يرميه بالهجر ويطعن في إمارته؟!

كيف تقلّدون أئمة نصّبتهم الدولة الأموية أو الدولة العباسية لأمور سياسية، وتتركون الأئمة الذين نصّ عليهم رسول الله بعددهم(1)وبأسمائهم(2)؟!

كيف تقلّدون من لم يعرف النبي حق معرفته، وتتركون باب مدينة العلم، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى؟!

____________

1- مسند أحمد 5:87، صحيح البخاري 8:127، كتاب الأحكام، صحيح مسلم 6:3، كتاب الأمارة، باب الناس تبع لقريش، سنن أبي داود 2:309، المستدرك على الصحيحين 3:617، مجمع الزوائد 5:178، المصنف لابن أبي شيبة 7:492.

2- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 3: 281.


الصفحة 712

من الذي أطلق مصطلح
أهــل السنّة والجـــماعة ؟!


الصفحة 713

الصفحة 714

من الذي أطلق مصطلح أهل السنة والجماعة ؟!

لقد بحثت في التاريخ فلم أجد إلاّ أنّهم اتفقوا على تسمية العام الذي استولى فيه معاوية على الحكم بعام الجماعة، وذلك أن الأمة انقسمت بعد مقتل عثمان إلى قسمين: شيعة علي وأتباع معاوية، ولما استشهد الإمام علي واستولى معاوية على الحكم بعد الصلح الذي أبرمه مع الإمام الحسن، وأصبح معاوية هو أمير المؤمنين، سُمِّيَ ذلك العام بعام الجماعة.

إذن فالتسمية بأهل السنة والجماعة دالّة على اتباع سنة معاوية والاجتماع عليه، وليست تعني اتباع سنة رسول الله.

فالأئمة من ذريته وأهل بيته أدرى وأعلم بسنة جدّهم من الطلقاء، وأهل البيت أدرى بما فيه، وأهل مكة أدرى بشعابها، ولكنّنا خالفنا الأئمة الاثني عشر الذين نص عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) واتبعنا أعداءهم.

ورغم اعترافنا بالحديث الذي ذكر فيه رسول الله اثني عشر خليفة كلّهم من قريش(1)، إلاّ أنّنا نتوقّف دائماً عند الخلفاء الأربعة.

____________

1- ولا يخفى أنّ الحديث لا يدل على لزوم تصدي هؤلاء الاثني عشر للحكم الظاهري، فلا يقدح فيه عدم جريان أحكام بعض الأئمة (عليهم السلام) في الظاهر، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله) مشيراً إلى الحسنين: "ابناي هذان امامان قاما أو قعدا"، فالحديث يدلّ على أنّ أمر الناس سيكون ماضياً والإسلام سيكون عزيزاً إذ وليهم اثنا عشر خليفة، فما دام لم يليهم هؤلاء لم يكونوا أعزاء بل اصيبوا طيلة حياتهم منذ وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا بأنواع الفتن والمحن، وهذا نظير قوله تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً)فبما انهم لم يستقيموا لم يسقوا، وبما انّ المسلمين لم يتمسّكوا بهؤلاء الاثني عشر لم يكونوا أعزّاء.

ثمّ انّ هذا الحديث من المعاجز النبوية ومن الأمور الغيبية التي أخبر بها نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله)، وقد أثبتها الرواة ورووها قبل اكتمال عدد الأئمة (عليهم السلام) فلا يحتمل فيها الوضع من قبل الشيعة، ولا يقدح في تمسّكنا به افتراق بعض الشيعة، فانّ الضلال له أسباب ودوافع مختلفة منها المعاندة، قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)، فافتراق بعض الشيعة وانحرافهم عن الصراط المستقيم لا يدل على عدم صحة تمسّكنا بهذا الحديث.

ثمّ إنّه لا يقال: "إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) ابلغ الناس ولا يذكر الأعم وهو قوله: كُلّهم من قريش، ويريد الأخص وهو عليّ وأولاده، فهذا خلاف البلاغة"

لأنّنا نقول:

أولا: ذكر العام وإرادة الخاص يكون قبيحاً فيما إذا لم تكن هناك قرائن متصلة أو منفصلة تعيّن المراد، وهذه القرائن بحمد الله موجودة سواء كانت متصلة أو منفصلة، أما القرائن المتصلة فيدلّ على وجودها النظر في متن الحديث وما وقع الضجيج والغوغاء بعد تكلّم الرسول (صلى الله عليه وآله) بحيث لم يسمع الراوي تمام الحديث ولذا اضطر بالسؤال من أبيه أو عمه أو غيرهما ـ كما ورد في الأحاديث ـ فقد جاء في مسند أحمد 5: 93: "ثمّ تكلم بكلمة لم افهمها وضج الناس"، وفي لفظ الطبراني 2: 196: "ثمّ لغط الناس وتكلموا فلم أفهم قوله بعد كلهم"، وفي المعجم أيضاً 2: 249: "ثمّ تكلم بشيء لم اسمعه فزعم القوم انّه قال: كلهم من قريش" فهذه النصوص وغيرها، تدلّ على وجود قرائن في الكلام حاول البعض اخفاءها كما فعلوا فيما بعد عند مرضه (صلى الله عليه وآله) من لغطهم واختلافهم.

وفي لفظ كفاية الأثر للخزاز القمي ص 106 هكذا جاء: "الأئمة بعدي اثنا عشر كلهم من قريش تسعة من صلب الحسين والمهدي منهم" وهذا هو المعوّل عندنا.

وأما القرائن المنفصلة فهي كثيرة منها: حديث الثقلين، ومنها: ما ورد عن عليّ (عليه السلام) كما في النهج الخطبة 142 حيث قال: "إنّ الأئمة من قريش في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا يصلح الولاة من غيرهم".

ثانياً: لو فرضنا أنّ القرائن اللفظية انعدمت لكن العقل هو الحاكم هنا وهو الذي يخصص هذا العموم، قال الآمدي في الأحكام 2: 339: "مذهب الجمهور من العلماء جواز تخصيص العموم بالدليل العقلي... ودليل ذلك قوله تعالى: (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيء) متناول بعموم لفظه لغة كلّ شيء مع انّ ذاته وصفاته أشياء حقيقية وليس خالقاً لها... وكذلك قوله: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...) فإنّ الصبي والمجنون من الناس حقيقة وهما غير مرادين من العموم بدلالة نظر العقل على امتناع تكليف من لا يفهم".

فما نحن فيه من هذا القبيل أي ننصرف عن عموم اللفظ في الحديث بدلالة نظر العقل على امتناع تولي من لا أهلية له بهذا المنصب، لأنّ الإمامة تلو النبوة واستمرار لها ولا ينالها إلاّ من كان بمرتبة النبي وبمنزلته علماً وورعاً وشجاعة وغيرها من الصفات، فيخرج من العموم بضرورة العقل كلّ من لم يكن بمنزلة النبي في جميع صفاته وأحواله سوى نزول الوحي، وإن كان قرشياً، فلابدّ من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من عترته، لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً وأكرمهم عند الله، وكان علمهم متصلا برسول الله (صلى الله عليه وآله) بالوراثة واللدنية.


الصفحة 715

الصفحة 716

ولعلّ معاوية الذي سمّانا بأهل السنة والجماعة كان يقصد الاجتماع على السنة التي سنها بسب عليّ وأهل البيت، والتي استمرّت ستين عاماً، ولم يقدر على إزالتها إلاّ عمر بن عبد العزيز...

وقد يحدّثنا بعض المؤرخين أنّ الأمويّين تآمروا على قتل عمر بن عبد العزيز وهو منهم; لأنّه أمات السنة وهي لعن علي بن أبي طالب!!

يا أهلي ويا عشيرتي لنتجه ـ على هدى الله تعالى ـ إلى البحث عن الحقّ، وننبذ التعصب جانباً، فنحن ضحايا بني العباس، وضحايا التاريخ المظلم، وضحايا الجمود الفكري الذي ضربه علينا الأوائل.. إنّنا لا شك ضحايا الدهاء والمكر الذي اشتهر به معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وأضرابهم.

ابحثوا في واقع تاريخنا الإسلامي لتبلغوا الحقائق الناصعة، وسيؤتيكم الله أجركم مرّتين، فعسى أن يجمع الله بكم شمل هذه الأمة التي نكبت بعد موت نبيها، وتمزّقت إلى ثلاث وسبعين فرقة، هلمّوا لتوحيدها تحت راية لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله والاقتداء بأهل البيت النبوي الذين أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)باتباعهم فقال: "لا تتقدّموهم فتهلكوا، ولا تتخلّفوا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم


الصفحة 717

فإنّهم أعلم منكم"(1).

لو فعلنا ذلك، لرفع الله مقته وغضبه عنّا، ولأبدلنا من بعد خوفنا أمناً، ولمكّننا في الأرض واستخلفنا فيها، ولأظهر لنا وليّه الإمام المهدي (عليه السلام)، الذي وعدنا به رسول الله ليملأ أرضنا قسطاً وعدلا كما ملئت ظلما وجوراً، وليتمّ به الله نوره في كلّ المعمورة.

____________

1- المعجم الكبير 5: 167، مجمع الزوائد 9: 164، كنز العمال 1: 188 ح957، الصواعق المحرقة 2: 439 الآية الرابعة من الآيات النازلة فيهم، الدر المنثور 2: 60، أسد الغابة 3: 137، باختلاف يسير في الألفاظ.


الصفحة 718

دعـوة أصـدقاء للـبحث


الصفحة 719

الصفحة 720

دعوة أصدقاء للبحث

كان التحوّل بداية السّعادة الرّوحية، إذ أحسست راحة الضّمير، وانشرح صدري للمذهب الحقّ الذي اكتشفته، أو قل للإسلام الحقيقي الذي لا شكّ فيه، وغمرتني فرحة كبيرة واعتزاز بما أنعم الله تعالى علي من هداية ورشاد.

ولم يسعني السّكوت والتكتم على ما يختلج في صدري، وقلت في نفسي: لا بدّ لي من إفشاء هذه الحقيقة على الناس، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(1)، وهي من أكبر النعم، أو هي النّعمة الكبرى في الدنيا وفي الآخرة، و"الساكت عن الحقّ شيطان أخرس"، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاّ الضَّلاَلُ}(2).

والذي زاد شعوري يقيناً بوجوب نشر هذه الحقيقة هو: براءة أهل السنّة والجماعة الذين يحبّون رسول الله وأهل بيته، ويكفي أن يزول الغشاء الذي نسجه التاريخ حتّى يتبعوا الحقّ، وهذا ما وقع لي شخصيّاً، قال تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ}(3).

ودعوت أربعة أصدقاء من الأساتذة العاملين معي في المعهد، كان اثنان منهم يدرّسون التربية الدينيّة، والثالث يدرّس مادّة العربية، والرابع كان أستاذ الفلسفة الإسلامية، لم يكن أربعتهم من قفصة بل كانوا من تونس ومن جمّال وسوسة.

دعوتهم إلى البحث معي في هذا الموضوع الخطير، وأشعرتهم بأنّي قاصر عن إدراك بعض المعاني، وقد اضطربت وتشككت في بعض الأمور، وقبلوا المجيء إلى بيتي بعد إنهاء العمل، وتركتهم يقرأون كتاب المراجعات

____________

1- سورة الضحى: 11.

2- سورة يونس: 32.

3- سورة النساء: 94.


الصفحة 721

على أنّ مؤلفه يدّعي أشياء عجيبة وغريبة في الدّين، وقد استهوى الكتاب ثلاثة منهم، أمّا الرابع الذي يدرّس اللغة العربية فقد قاطعنا بعد أربع جلسات أو خمس قائلا: "إنّ الغرب الآن يغزو القمر وأنتم ما زلتم تبحثون عن الخلافة الإسلامية".

وما أن أتممنا الكتاب خلال شهر واحد حتّى استبصر ثلاثتهم، وقد أعنتهم كثيراً للوصول إلى الحقيقة من أقرب الطّرق، بما تكون عندي من سعة الاطّلاع خلال سنوات البحث.

وذقت حلاوة الهداية، واستبشرت بالمستقبل، وأخذت أدعو في كلّ مرّة بعض الأصدقاء من قفصة، والذين كانت تربطني بهم حلقات الدرس في المسجد، أو العلاقات المنجرّة من الطرق الصوفية، وبعض تلاميذي الذين كانوا يلازمونني، وما مرّت سنة واحدة حتّى أصبحنا بحمد الله عدداً كبيراً نوالي أهل البيت، نوالي من والاهم، ونعادي من عاداهم، نفرح في أعيادهم، ونحزن في عاشوراء، ونعقد مجالس تعزية.

وكانت أولى رسائلي التي تحمل خبر استبصاري إلى السيد الخوئي والسيد محمّد باقر الصدر بمناسبة عيد الغدير، إذ احتفلنا به لأوّل مرة في قفصة، وقد اشتهر أمري لدى الخاصّ والعام بأنّي تشيّعت، وأني أدعو إلى التشيّع لآل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، وبدأت الاتهامات والإشاعات تروج في البلاد، على أنّني جاسوس لإسرائيل، أعمل على تشكيك الناس في دينهم، وبأنّني أسبّ الصحابة، وبأنّني صاحب فتنة.. إلى غير ذلك.

وفي تونس العاصمة اتصلت بالصديقين راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، وكانت معارضتهما لي عنيفة جداً، وفي حديث دار بيننا في بيت عبد الفتاح، قلت: يجب علينا كمسلمين مراجعة كتبنا ومراجعة تاريخنا، وضربت لذلك مثلا صحيح البخاري الذي فيه أشياء لا يقبلها عقل ولا دين.


الصفحة 722

وثارت ثائرتهما قائلين لي: من أنت حتّى تنتقد البخاري.

وحاولت كلّ جهدي لإقناعهما للدخول في البحث، فرفضا قائلين: إذا تشيّعت أنت فلا تشيّعنا نحن، وعندنا ما هو أهم من ذلك، مقاومة الحكومة التي لا تعمل بالإسلام.

قلت: ما الفائدة إذا وصلتم أنتم إلى الحكم، فستعملون أكثر منهم ما دمتم لا تعرفون حقيقة الإسلام، وانتهى لقاؤنا بنفور بيننا.

ازدادت على أثره حملة الاشاعات ضدّنا من قبل بعض الإخوان المسلمين الذين لم يكونوا وقتها يعرفون بحركة الإتجاه الإسلامي، فبثّوا في أوساطهم بأنّني عميل للحكومة، وأنّي أشكك المسلمين في دينهم، حتّى ألهيهم عن قضيتهم المتمثّلة في مقاومة الحكومة.

وبدأت العزلة من الشبان الذين يعملون في صفوف الإخوان المسلمين، ومن الشيوخ الذين يتبعون الطرق الصوفية، وعشنا فترات قاسية غرباء في ديارنا وبين إخواننا وعشيرتنا، ولكنّ الله سبحانه أبدلنا خيراً منهم.

فكان بعض الشبان يأتون من مدن أخرى يسألون عن الحقيقة، فكنت أبذل قصارى ما في وسعي لإقناعهم، فاستبصر عدد من الشباب في العاصمة، وفي القيروان وفي سوسة، وسيدي بو زيد، وكنت خلال رحلتي الصيفية إلى العراق مررت بأوروبا حيث التقيت بعض الأصدقاء في فرنسا وفي هولندا، وتحدّثت معهم في الموضوع، فاستبصروا والحمد لله.

وكم كانت فرحتي عظيمة عندما قابلت السيد محمّد باقر الصدر في النجف الأشرف، وكان في بيته نخبة من العلماء، وأخذ السيد يقدمني إليهم بأنّي بذرة التشيع لآل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) في تونس، كما أعلمهم بأنّه بكى تأثراً عندما وصلته رسالتي مهنّئة تحمل إليه بشرى احتفالنا لأول مرة بعيد الغدير السعيد، وشكوت إليه ما نلاقيه من مقاومة، ومن بثّ الإشاعات ضدّنا، والعزلة التي نواجهها.


الصفحة 723

وقال السيد في معرض كلامه: "لا بد من تحمّل المشاق; لأنّ طريق أهل البيت صعب ووعر، وقد جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: إني أحبّك يا رسول الله!

فقال له: "أبشر بكثرة الابتلاء".

فقال: وأحبّ ابن عمّك علياً!

فقال: "أبشر بكثرة الأعداء"، فقال: "وأحب الحسن والحسين"!

فقال له: "فاستعد للفقر وكثرة البلاء".

وماذا قدّمنا نحن في سبيل دعوة الحقّ التي دفع ثمنها أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) بنفسه وأهله وذريته وأصحابه، كما دفع ثمنها الشيعة على مرّ التاريخ، وما زالوا حتّى اليوم يدفعون ثمن ولائهم لأهل البيت، فلا بد يا أخي من تحمّل بعض الأتعاب، والتضحية في سبيل الحقّ، فلئن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من الدنيا وما فيها".

كما نصحني السيد الصدر بعدم الانزواء، وأمرني بأن أتقرّب أكثر من إخواني أهل السنّة كلّما حاولوا الابتعاد عنّي، وأمرني أن أصلّي خلفهم حتّى لا تكون القطيعة واعتبارهم أبرياء، فهم ضحايا الإعلام والتاريخ المزيف، والناس أعداء ما جهلوا.

وقد نصحني السيد الخوئي بالشيء نفسه تقريباً، كما كان السيد محمّد علي الطباطبائي الحكيم يبعث لنا دائما بنصائحه في رسائل متعدّدة، كان لها أثر كبير في سيرة الإخوة المستبصرين على الهدى.

هذا وقد تعدّدت زياراتي للنجف الأشرف، ولعلماء النجف في مناسبات كثيرة، وقد آليت على نفسي أن أقضي العطلة الصيفيّة من كلّ عام في رحاب الإمام عليّ، أحضر دروس السيد محمّد باقر الصدر التي استفدت منها


الصفحة 724

كثيراً ونفعتني أيّما نفع، كما آليت على نفسي أن أزور مقامات الأئمة الاثني عشر، وقد حقّق الله أمنيتي بأنّ وفقني حتّى لزيارة الإمام الرضا الذي يوجد مرقده في مشهد، وهي مدينة قرب الحدود الروسية في إيران، وهناك تعرّفت على أبرز العلماء، واستفدت منهم كثيراً.

كما أعطاني السيد الخوئي ـ الذي كنّا نقلّده ـ وكالة للتصرف في الخمس والزكاة، وإفادة المجموعة المستبصرة عندنا بما تحتاجه من كتب وإعانات وغير ذلك، وقد كوّنت مكتبة مفيدة بها أهم المصادر التي تخصّ البحث، وتجمع كتب الفريقين، وتحمل اسم مكتبة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد أفادت الكثيرين والحمد لله.

وزاد الله فرحتنا فرحتين وسعادتنا سعادتين، فقبل حوالي خمسة عشر عاماً إذ سخّر لنا الله الكاتب العام لبلدية قفصة، فوافق على تسمية الشارع الذي أسكن فيه باسم شارع الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلا يفوتني هنا أن أشكر له هذه اللفتة المشرّفة، فهو من المسلمين العاملين، وله ميل كبير ومحبة فائقة لشخص الإمام علي، وقد أهديته كتاب المراجعات، وهو يبادل مجموعتنا حباً وتقديراً واحتراماً، فجزاه الله خيراً، وأعطاه ما يتمنّى.

وقد عمل بعض الحاقدين على إزالة اللّوحة وأعيتهم الحيل، وشاء الله تثبيتها، وأصبحت الرّسائل ترد علينا من كلّ أنحاء العالم، وعليها اسم شارع الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام); الذي بارك اسمه الشريف مدينتنا الطيبة العريقة.

وعملا بنصائح الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، وكذلك بنصائح علماء النجف الأشرف، عمدنا إلى التقرب من إخوتنا من المذاهب الأخرى ولازمنا الجماعة فكنّا نصلّي معاً، وخفّت بذلك حدّة التوتر، وتمكّنا من إقناع بعض الشباب من خلال تساؤلاتهم عن كيفية صلاتنا ووضوئنا وعقائدنا.


الصفحة 725