الصفحة 63

أهل السنّة لا يعرفون السنّة النبويّة


أيّها القارئ العزيز، لا يستفزّك هذا العنوان، فأنت بحمد الله تمشي على طريق الحقّ لتصل في النهاية إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، فلا تدع وساوس الشيطان، ولا الغرور بالنّفس، ولا التعصّب المقيت يستولي عليك ويصدّك عن الوصول إلى الهدف المنشود، والحقّ المفقود وجنّة الخلود.

وكما قدّمنا فيما سبق بأنّ المتسمّين "بأهل السنّة والجماعة" هم القائلون بخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، هذا ما يعرفه الناس اليوم.

ولكنّ الحقيقة المؤلمة هي أنّ علي بن أبي طالب لم يكن معدوداً عند "أهل السنّة" من الخلفاء الراشدين، لا ولم يعترفوا حتى بشرعيّة خلافته، وإنّما أُلحِقَ عليّ بالخلفاء الثلاثة في زمن متأخّر جداً، وذلك في سنة ثلاثين ومائتين للهجرة في زمن أحمد بن حنبل.

أمّا الصحابة من غير الشيعة، والخلفاء والملوك، والأمراء الذين حكموا المسلمين من عهد أبي بكر وحتى عهد الخليفة العباسي محمّد بن الرشيد المعتصم، لم يكونوا يعترفون بخلافة علي بن أبي طالب أبداً، بل منهم من كان يلعنه ولا يعتبره حتى من المسلمين، وإلاّ كيف يجوز لهم سبّه ولعنه على المنابر؟!

وقد عرفنا سياسة أبي بكر وعمر في إقصائه وعزله كما قدّمنا، ثمّ جاء

الصفحة 64
عثمان بعدهما فأمعن في احتقاره أكثر من صاحبيه والتقليل من شأنه حتّى هدّده مرّة بالنفي كما نفى أبا ذر الغفاري، ولما ولي معاوية أمعن في سبّه ولعنه، وحمل الناس على ذلك، فدأب حكّام بني أُميّة على ذلك في كلّ مدينة وقرية، ودام ذلك ثمانين عاماً(1).

بل وتواصل ذلك اللعن والطعن والبراءة منه ومن شيعته أكثر من ذلك بكثير، فهذا المتوكّل الخليفة العباسي يصل به الحقد إلى نبش قبر علي وقبر الحسين بن علي، وذلك سنة أربعين ومائتين للهجرة.

وهذا الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين في عهده، يخطب الناس يوم الجمعة فيقول لهم من فوق المنبر: إنّ الحديث الذي روي عن رسول الله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى" صحيح، ولكنّه محرّف; لأنَ رسول الله قال له: أنت مني بمنزلة قارون من موسى فاشتبه على السامع(2)!!

ولمّا كان عهد المعتصم الذي كثر فيه الزنادقة والملحدون والمتكلّمون، وولّى عهد الخلافة الراشدة، واشتغل الناس بمشاكلّ هامشية، وكانت محنة أحمد بن حنبل في قوله بقدم القرآن، وأصبح الناس يدينون بدين ملوكهم وبأن القرآن مخلوق.

ولمّا تراجع أحمد بن حنبل عن قوله الأوّل خوفاً من المعتصم وخرج من محنته(3)، واشتهر بعد ذلك ولمع نجمهُ في عهد المتوكّل بين أهل

____________

1- كلّهم باستثناء عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله).

2- تاريخ بغداد 8: 266.

3- المشهور عند المحدّثين والمؤرّخين أنّ أحمد بن حنبل لم يتراجع عن قوله وبقي صامداً، ولكن هناك بعض الشواهد وردت في طيات الكتب تجعلنا نشكّك

=>


الصفحة 65

____________

<=

في هذه الشهرة وتدعونا إلى مزيد التأمّل والفحص، منها ما ذكره الجاحظ في رسالته في خلق القرآن حيث قال: "وقد كان صاحبكم هذا ـ يعني أحمد بن حنبل ـ يقول: لا تقية إلاّ في دار الشرك، فلو كان ما أقرّ به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية فقد أعملها في دار الإسلام وقد أكذب نفسه، وإن كان ما أقرّ به على الصحة والحقيقة فلستم منه وليس منكم، على أنّه لم ير سيفاً مشهوراً، ولا ضرب ضرباً كثيراً، ولا ضرب إلاّ بثلاثين سوط مقطوعة الثمار مشعبة الأطراف حتى أفصح بالإقرار مراراً..." (رسائل الجاحظ، الرسائل الكلامية: 170).

ومنها ما ورد أيضاً في تاريخ اليعقوبي 2: 332 "وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء وناظره عبدالرحمن بن إسحاق وغيره... فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال؟ قال: بل علمته من الرجال، قال: شيئاً بعد شيء أو جملة؟ قال: علمته شيئاً بعد شيء، قال: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ قال: بقي عليّ، قال: هذا ممّا لم تعلمه وقد علمكه أمير المؤمنين، قال: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين. قال: في خلق القرآن؟ قال: في خلق القرآن، فأشهد عليه وخلع عليه وأطلقه إلى منزله".

وما منها ما ذكره أحمد بن يحيى بن المرتضى (ت 840) في طبقات المعتزلة (ص125) بعدما ذكر ضرب أحمد بن حنبل وتعذيبه، إنّ إسحاق بن إبراهيم قال له: "ويحك، قل ما يقول أمير المؤمنين، فأقرّ بخلق القرآن، فقال المعتصم: ألق عليه ثياباً واجمع عليه أهل بغداد فإذا أقرّ بخلق القرآن فأطلقه، ففعل حتى أقرّ فأطلقه".

ومنها: أنّ الواثق بالله شدّد الأمر في مسألة خلق القرآن حتى قتل فيها من قتل من العلماء، منهم أحمد بن نصر الخزاعي من أئمة أهل الحديث قتله الواثق، ولمّا

=>


الصفحة 66
الحديث، عند ذلك أُلحِقَ علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالخلفاء الثلاثة(1).

____________

<=

صلبه كتب ورقة وعلقت في اُذنه فيها: "هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله بن الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلاّ المعاندة فعجلّه الله إلى ناره" (تاريخ الخلفاء للسيوطي: 341).

وممّا يدلّل على شدّة اهتمام الواثق العباسي بهذه المسألة، أنّه لما أراد أن يفادي أُسراء المسلمين الذين كانوا عند الرومانيين جعل شرط الفداء امتحان هؤلاء الاسرى بمسألة خلق القرآن، فمن قال: (القرآن مخلق) فودي به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الروم (تاريخ الطبري حوادث سنة 231).

فنقول ونتساءل: كيف ترك الواثق أحمد بن حنبل ولم يتعرّض له؟! فهذا ممّا يثير الشكّ في أمره، ولم يكن الواثق العباسي بالذي يخشى من أحمد أو من فتنة الناس، فإنّه كان في أوج قدرته وكان يقتل العلماء المخالفين له من دون أيّ حرج، فلذا لما قيل أحمد بن حنبل: صبرت يا أبا عبدالله في المحنة، قال: ما صبرت الذي صبر أخي أحمد بن نصر الخزاعي، وذلك أنّهم أغلظوا القول فأغلظ لهم، فضربوا عنقه وما خافهم. (طبقات الحنابلة 2: 288) فهذه الأُمور كلّها تجعلنا نشككّ في ثبات أحمد وتخدش الرأي المشهور، والله العالم.

1- بعد تغلّب المروانيين وبني أُميّة على دفّة الحكم، وما حدث من ملاحقة شيعة عليّ (عليه السلام) وقتلهم، وما حدث من لعن عليّ (عليه السلام) على المنابر كما قال ابن تيميّة في منهاج السنّة 6: 201 "وقد كان من شيعة عثمان من سبّ علياً ويجهر بذلك على المنابر وغيرها..." فبعد هذا كلّه صرفت أنظار الناس عن عليّ (عليه السلام) وكانوا لا يعدّونه من الخلفاء إطلاقاً، ويتعجّبون ممّن يسمّيه خليفة.

روى الخلاّل في السنّة: 426 ح646 عن عبد الملك بن الحميد الميموني أنّه قال: قلت لأبي عبد الله: فإنّا وبعض اخوتي هو ذا نعجب منك في إدخالك علياً في الخلافة، قال: فأيش أصنع وأيش أقول بقول عليّ (رحمه الله): أنا أمير المؤمنين ويقال له يا أمير المؤمنين...؟ قلت: فما تصنع وما تقول في قتال طلحة والزبير إياه وتلك الدماء؟ قال: ما لنا وما لطلحة والزبير وذكر ذا....

=>


الصفحة 67

____________

<=

سبحان الله أُنظر إلى القوم بدل أن يجعلوا قتال طلحة والزبير لعليّ (عليه السلام) طعناً فيهما، جعلوه طعناً في عليّ (عليه السلام)، وعلى كلّ حال إنّ أحمد بن حنبل كان جاداً في هذا الأمر وكان يفحش على من لم يقل إنّ علياً خليفة (السنّة للخلاّل: 419 ح626).

وكان يبتسم لعمّه عندما كان يقول: "هؤلاء الفسّاق الفجّار الذين لا يثبتون إمامة علي" (السنّة: 427 ح648).

فلذا أظهر أحمد التربيع بالخلفاء ودافع عنه، وممّا يدلّ على أنّه هو الذي أظهر التربيع هذه الرواية التي يقول فيها الراوي: "دخلت على أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعليّ فقلت: يا أبا عبد الله، إنّ هذه اللّفظة توجب الطعن على طلحة والزبير". (شرح أصول اعتقاد أهل السنّة للالكائي 8: 1475 ح2670).

وذكر ابن حجر في فتح الباري 7: 47 إنّ أحمد احتج في التربيع بعليّ بحديث سفينة مرفوعاً: الخلافة ثلاثون سنة.

وقال ابن تيميّة في منهاج السنّة 4: 401: (.. يقولون..: إنّ الزمان زمان فتنة وفرقة، ولم يكن هناك إمام جماعة ولا خليفة. وهذا القول قاله كثير من علماء أهل الحديث البصريين والشاميين والأندلسيين وغيرهم.

وكان بالأندلس كثير من بني أُميّة يذهبون إلى هذا القول، ويترحمّون على عليّ ويثنون عليه، لكن يقولون: لم يكن خليفة، وإنّما الخليفة من اجتمع الناس عليه، ولم يجتمعوا على عليّ. وكان من هؤلاء من يربّع بمعاوية في خطبة الجمعة، فيذكر الثلاثة ويربّع بمعاوية ولا يذكر علياً، ويحتجّون بأنّ معاوية أجمع عليه الناس بالمبايعة لمّا بايعه الحسن، بخلاف علي فإنّ المسلمين لم يجتمعوا عليه، ويقولون لهذا ربّعنا بمعاوية، لا لأنّه أفضل من علي، بل علي أفضل منه.

وهؤلاء قد احتجّ عليهم الإمام أحمد وغيره بحديث سفينة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" وقال أحمد: من لم يربّع بعلي فهو أضلّ من حمار أهله".

=>


الصفحة 68
ولعلّ أحمد بن حنبل بهرته الأحاديث الصحيحة الواردة في فضائل علي، والتي ظهرت رغم أنف الحكّام، فهو القائل: "لم يرد في أحد من الناس من الفضائل بالأحاديث الحسان مثل ما ورد في علي بن أبي طالب"(1).

عند ذلك ربّع بخلافته واعتبرها صحيحة، بعد ما كانت عندهم منكورة.

الدّليل على ذلك:

جاء في طبقات الحنابلة ـ وهو الكتاب الصحيح والمشهور عندهم ـ: عن ابن أبي يعلى بالإسناد عن وُرَيْزة الحمصي قال:

دخلتُ على أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي (رضي الله عنه)(2) فقلت له: يا أبا عبد الله إنّ هذا طعن على طلحة و الزبير!

فقال: بئسما قلتَ، وما نحن وحرب القوم وذكرها؟

فقلت: أصلحك الله إنّما ذكرناها حين ربَّعتَ بعلي وأوجبْتَ له الخلافة وما يجب للأئمة قبله!

فقال لي: وما يمنعني من ذلك؟!

قلت: حديث ابن عمر.

____________

<=

وتكلّم بعض هؤلاء في أحمد بسبب هذا الكلام، وقال: قد أنكر خلافته من الصحابة طلحة والزبير وغيرهما ممّن لا يقال فيه هذا القول واحتجّوا بأنّ أكثر الأحاديث التي فيها ذكر خلافة النبوّة لا يذكر فيها إلاّ الخلفاء الثلاثة).

وقال في مجموعة الفتاوى 4: 269: ".. المنصوص عن أحمد قيد مع من توقّف في خلافة عليّ وقال: هو أضلّ من حمار أهله، وأمر بهجرانه، ونهى مناكحته..".

1- نحوه في مستدرك الحاكم 3: 107، وسكت عنه الذهبي مقراً بصحته، شواهد التنزيل للحسكاني 1: 26.

2- أُنظر إلى هذا المحدّث رغم أنّه لا يسبّ عليّاً ولا يلعنه بل يقول: (رضي الله عنه) ولكنّه لا يقبل بأن يكون علي معدوداً من الخلفاء وينكر ذلك على أحمد بن حنبل، وقوله: "إنّما ذكرناها" يدلّ على أنّه يتكلّم باسم الجماعة وهم أهل السنّة الذين بعثوه إلى أحمد بن حنبل منكرين عليه (المؤلّف).


الصفحة 69
فقال لي: عمر خير من ابنه، فقد رضي عليّاً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى، وعلي قد سمّى نفسه أمير المؤمنين، فأقول أنا ليس للمؤمنين بأمير؟!

قال: فانصرفت عنه(1).

ومن هذه القصّة يتبيّن لنا بأنّ "أهل السنّة" لم يقبلوا بخلافة علي ويقولوا بصحّتها إلاّ بعد أحمد بن حنبل بكثير، كما لا يخفى.

ويظهر جليَّاً من هذا المحدّث أنّه زعيم "أهل السنّة والجماعة" ومتكلّمهم; لأنّهم يرفضون خلافة علي محتجين على ذلك بحديث عبد الله ابن عمر ـ فقيه أهل السنّة ـ والذي أخرجه البخاري في صحيحه، وبما أنّهم يقولون بأنّ البخاري هو أصحّ الكتب بعد كتاب الله، فكان لزاماً عليهم رفض خلافة علي وعدم الاعتراف بها.

وقد ذكرنا هذا الحديث في كتاب "فاسألوا أهل الذكر" ولا بأس بإعادته لتعميم الفائدة، فإنّ في الإعادة إفادة، أخرج البخاري في صحيحة عن عبد الله بن عمر، قال: "كنّا نُخيّر بين الناس في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فنخير أبا بكر، ثمّ عمر بن الخطّاب، ثمّ عثمان بن عفان (رضي الله عنهم)(2).

كما أخرج البخاري في صحيحه حديثاً آخر لابن عمر أكثر صراحة من الأول، إذ قال عبد الله بن عمر:

"كنّا في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لاَ نعدل بأبي بكر أحداً، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ

____________

1- كتاب طبقات الحنابلة 1: 393 رقم 510، ترجمة وَرَيْزة بن محمّد الحمصي.

2- صحيح البخاري 4: 191، (كتاب بدء الخلق، باب فضل أبي بكر بعد النبيّ).


الصفحة 70
نترك أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نفاضل بينهم"(1).

ومن أجل هذا الحديث الذي ليس لرسول الله فيه رأي ولا عمل، إنّما هو من خيال عبد الله بن عمر، وآرائه الفاسدة وحقده وبغضه المعروف لعلي بنى "أهل السنّة والجماعة" مذهبهم على عدم الاعتراف بخلافة علي.

وبأمثال هذه الأحاديث استباح بنو أُميّة سبّ علي ولعنه وشتمه وانتقاصه، ودأب الحكّام من عهد معاوية إلى أيام مروان بن محمّد بن مروان سنة 132 للهجرة يلعنون علياً على المنابر، ويقتلون من تشيّع له، أو من أنكر عليهم ذلك(2).

ثمّ قامتْ دولة العباسيين من عهد العباس السفّاح سنة 132 للهجرة وإلى عهد المتوكّل سنة 247 للهجرة، تواصلت خلالها البراءة من علي ومن تشيّع له بأساليب مختلفة ومتعدّدة حسب الظروف والملابسات; لأنّ دولة العباسيين قامتْ على أنقاض أهل البيت والمتشيعين لهم، فكان الحكّام لا يجهرون بلعن عليّ عندما تقتضي مصلحة الدولة، ولكنّهم يعملون في الخفاء أكثر من عمل الأمويين.

وقد استفادوا من التجربة التاريخية التي أبرزت مظلوميّة أهل البيت وشيعتهم وعطف الناس عليهم، فعمل الحكّام بدهاء لكسب الموقف لصالحهم، وتقرّبوا إلى أئمة أهل البيت لا حباً فيهم ولا اعترافاً بحقّهم، وإنّما

____________

1- صحيح البخاري 4: 203 باب مناقب عثمان بن عفّان.

2- باستثناء سنتين تولّى خلالهما عمر بن عبدالعزيز فأبطل اللّعن، ولكن بعد قتله عادوا إلى اللّعن وإلى أكثر من اللّعن حتّى نبشوا قبره، وحرّموا أن يتسمّى أحدٌ باسمه (المؤلّف).


الصفحة 71
لاحتواء الثورات الشعبية التي تقوم في أطراف الدولة وتهدد كيانها، ذلك ما فعله المأمون بن هارون الرشيد مع الإمام علي بن موسى الرضا، أمّا إذا سيطرت الدولة وقضت على الثورات الداخلية، فإنّها تمعن في إهانة الأئمة وشيعتهم، كما فعل المتوكّل الخليفة العباسي الذي اشتهر ببغض عليّ وشتمه حتى نبش قبره وقبر الحسين.

ولكلّ ذلك قلنا بأنّ "أهل السنّة والجماعة" لم يقبلوا بخلافة علي إلاّ بعد زمن أحمد بن حنبل بكثير.

صحيح أنّ أحمد بن حنبل هو أوّل من قال بها، ولكنّه لم يقنع بها أهل الحديث كما قدّمنا; لاقتدائهم بعبد الله بن عمر.

فلابدّ لذلك من وقت طويل حتى يقتنع الناس، ويقبلوا الفكرة التي ظهر بها أحمد بن حنبل، والتي قد يظهر الحنابلة بمظهر المنصفين والمتقرّبين لأهل البيت، فتميزهم عن المذاهب السنية الأُخرى من المالكية والحنفية والشافعية، والذين كانوا يتنافسون لكسب المؤيدين، فلابدّ إذاً من قبول الفكرة وتبنّيها.

وبمرور الزمن قال "أهل السنّة والجماعة" كلّهم بمقولة أحمد بن حنبل، وقبلوا بتربيع الخلافة بعلي، وأوجبوا له ما أوجبوه للخلفاء الثلاثة من الاحترام والترضي.

أليس هذا أكبر دليل على أنّ "أهل السنّة والجماعة" كانوا من النواصب الذين يبغضون علياً، ويعملون على انتقاصه وإسقاطه؟

ولقائل أن يقول: كيف يصحّ ذلك، ونحن نرى اليوم "أهل السنّة

الصفحة 72
والجماعة" يحبّون الإمام علياً ويترضّون عنه؟

فنقول: نعم، لمّا قدُم العهد ومات الأئمة من أهل البيت، ولم يعد هناك ما يخيف الحكّام ويهدّد ملكهم، وتلاشتْ هيبة الخلافة الإسلامية، واستولى عليها المماليك والمغول والتتار، وضعُف الدّين، وأصبح أكثر المسلمين يُشغلهم الفنّ والطرب، واللهو والمجون، والخمر والجواري، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، وأصبح المعروف عندهم منكراً، والمنكر عندهم معروفاً، وعمّ الفساد البرّ والبحر، عند ذلك بكى المسلمون على أسلافهم، وتغنّوا بأمجادهم، وتذاكروا أيامهم، فسمّوها بالعصور الذّهبية.

وبما أنّ أفضل العصور عندهم هو عصر الصحابة، فهم الذين فتحوا الأمصار، ووسّعوا المملكة الإسلاميّة شرقاً وغرباً، ودان لهم الأكاسرة والقياصرة، فترضّوا على الصحابة جميعاً بما فيهم علي بن أبي طالب، وإذا كان "أهل السنّة والجماعة" يقولون بعدالتهم جميعاً فلا يمكنهم عند ذلك أن يخرجوا علياً من بين الصحابة.

ولو قالوا بإخراجه لافتضحوا وكشف أمرهم عند كلّ عاقل وباحث، فموّهوا على العامّة بأنّه رابع الخلفاء الراشدين، وهو باب مدينة العلم رضي الله عنه وكرّم الله وجهه.

ونحن نقول لهم: فلماذا لا تُقلّدوه في أُمور دينكم ودنياكم، إن كان اعتقادكم فيه صحيحاً بأنّه باب مدينة العلم؟

لماذا تركتم الباب عمداً وقلّدتم أبا حنيفة، ومالكاً، والشافعي، وابن

الصفحة 73
حنبل، وابن تيميّة، الذين لا يدانوه في علم ولاَ عمل، ولا فضل ولا شرف، فأين الثرى من الثريّا، وأين السيف من المنجل، وأين معاوية من علي لو كنتم تعقلون؟!

هذا بقطع النظر عن كلّ النصوص الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي توجب على كلّ المسلمين اتّباع الإمام علي من بعده والاقتداء به، ولقائل من "أهل السنّة" أن يقول: إنّ فضل علي وسابقته وجهاده في سبيل الإسلام، وعلمه الغزير، وشرفه العظيم، وزهده الكبير يعرفه الناس جميعاً، بل إنّ أهل السنّة يعرفون علياً ويحبّونه أكثر من الشيعة (هذا ما يردده الكثير منهم اليوم).

فنقول لهؤلاء: أين كنتم(1) وأين كان أسلافكم وعلماؤكم عندما كان عليّ يُلعن على المنابر مئات السنين؟ فلم نسمع ولم يحدّثنا التاريخ أن أحداً منهم أنكر ذلك، أو منع من ذلك، أو قُتلَ من أجل ولاَئه وحبّه لعلي، فلا ولن نجد من علماء أهل السنّة من فعل ذلك، بل كانوا مقرّبين للسلاطين والأُمراء والولاة لما أعطوهم من البيعة والرضى، وأَفْتوا لهم بقتل الرافضة الذين يوالون عليّاً وذريته، وهؤلاء موجودون حتى في عصرنا الحاضر.

لقد دأب النصارى على معاداة اليهود عبر القرون واعتبروهم مجرمين، وحمّلوهم مسؤولية قتل السيّد المسيح عيسى بن مريم، ولكن لمّا ضعف أمر

____________

1- لقد تعمّدت القول: أين كنتمْ، وأقصد بها المعاصرين من "أهل السنّة والجماعة" اليوم، فإنّهم يقرأون في صحيح مسلم بأنّ معاوية كان يسبّ عليّاً ويأمر الصحابة بذلك فلا ينكرون، بل إنّهم يترضّون على سيّدهم معاوية كاتب الوحي عندهم، فدلّ ذلك على أنّ حبّهم لعلي حبّ مزيّف خال عن كلّ اعتبار (المؤلّف).


الصفحة 74
النصارى، وتلاشت أُمور العقيدة عندهم، واعتنق أكثرهم مذهب الإلحاد، وأصبحت الكنيسة في سلّة المُهملات للموقف المُعادي الذي وقفته ضدّ العلم والعلماء، وفي المقابل قويَ أمرُ اليهود، واستفحل واستشرى حتى احتلوا الأراضي العربية والإسلامية بالقوة، وامتدّ نفوذهم في الشرق والغرب، وأقاموا دولة إسرائيل، عند ذلك اجتمع البابا يوحنا بولس الثاني مع أحبار اليهود وبرّأهم من جريمة قتل المسيح.

"فالناس ناس والزمان زمان".


الصفحة 75

"أهل السنّة" ومحق السنّة


نريد في هذا الفصل توضيح شيء مهم لا غنى للباحث أن يتعمق فيه، ليكتشف بدون لبس بأنّ الذين يتسمّون "بأهل السنّة" ليس لهم في الحقيقة من سنّة النبيّ شيء يذكر.

وذلك لأنّهم، أو بالأحرى لأنّ أسلافهم من الصحابة والخلفاء الراشدين عندهم الذين يقتدون بهم، ويتقرّبون إلى الله بحبّهم وولائهم، قد وقفوا من السنّة النبويّة موقفاً سلبياً إلى درجة أنّهم أحرقوها، ومنعوا من كتابتها والتحدّث بها(1).

وإضافة لما سبق توضيحه لابدّ لنا من كشف الستار عن تلك المؤامرة الخسيسة التي حيكتْ ضدّ السنّة النبويّة المطهّرة لمنع انتشارها والقضاء عليها في المهد، وإبدالها ببدع الحكّام واجتهاداتهم، وآراء الصحابة وتأويلاتهم.

وقد عمل الحكّام الأولون:

أوّلا: على وضع الأحاديث المكذوبة التي تؤيّد مذهبهم في منع الكتاب لعموم السنّة النبويّة والأحاديث الشريفة.

فها هو الإمام مسلم يخرج في صحيحه، عن هدّاب بن خالد الأزدي،

____________

1- يراجع في هذا الصدد كتاب "فاسألوا أهل الذكر" من صفحة 200 وما بعدها (المؤلّف).


الصفحة 76
عن همام، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

"لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حرج..."(1).

والغرض من وضع هذا الحديث، هو تبرير ما فعله أبو بكر وعمر اتّجاه الأحاديث النبويّة التي كتبها بعض الصحابة ودوّنوها، وقد وُضع هذا الحديث في زمن متأخّر عن الخلفاء الراشدين، وغفل الوضّاعون الكاذبون عن الأُمور التالية:

أ: لو قال هذا الحديث صاحب الرسالة لامتثل أمره الصحابة الذين كتبوا عنه، ولمحوه قبل أن يتولّى أبو بكر وعمر حرقها بعد سنوات عديدة من وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ب: لو كان هذا الحديث صحيحاً لاستدلّ به أبو بكر أولا، ثمّ عمر ثانياً، لتبرير منعهما كتابة الأحاديث ومحوها، ولاعتذر أُولئك الصحابة الذين كتبوها إمّا جهلا وإمّا نسياناً(2).

____________

1- صحيح مسلم 8: 229، (كتاب الزهد والرقائق، باب التثبّت في الحديث وحكم كتابة العلم).

2- قال محمّد أبو زهرة في كتابه (الحديث والمحدّثون): 233: "إنّ امتناع بعض الصحابة عن كتابة الحديث ومنعهم منه لم يكن سببه نهي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كتابة الحديث; بدليل أنّ الآثار الواردة عنهم في المنع أو الامتناع من كتابة الحديث لمن ينقل فيها التعليل بذلك، وإنّما كانوا يعلّلون بمخافة أن يشتغل الناس بها عن كتاب اللّه، أو بمخافة أن يهمل الناس الحفظ اعتماداً على الكتابة، أو لغير ذلك من الأغراض".


الصفحة 77
ت: لو كان هذا الحديث صحيحاً لوجب على أبي بكر وعلى عمر أن يمحوا الأحاديث محواً لا أن يحرقاها حرقاً(1).

ث: لو صحّ هذا الحديث فالمسلمون من عهد عمر بن عبد العزيز إلى يوم الناس هذا كلّهم آثمون، لأنّهم خالفوا نهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى رأسهم عمر ابن عبد العزيز الذي أمر العلماء في عهده بتدوين الأحاديث وكتابتها، والبخاري ومسلم اللذان يُصحّحان هذا الحديث ثمّ يعصيانه، ويكتبان أُلوف الأحاديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ج: وأخيراً لو صحّ هذا الحديث لما غاب عن باب مدينة العلم علي بن أبي طالب، الذي جمع أحاديث النبيّ في صحيفة طولها سبعون ذراعاً، ويسمّيها الجامعة (وسيأتي الكلام عنها لاحقاً بحول الله).

ثانياً: عمل الحكّام الأمويون على التأكيد بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير معصوم عن الخطأ، وهو كغيره من البشر الذين يخطئون ويصيبون، ويروون في ذلك عدّة أحاديث.

والغرض من وضع تلك الأحاديث هو التأكيد على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجتهد برأيه، فكان كثيراً ما يخطئ ممّا حدا ببعض الصحابة أنْ يصوّب رأيه، كما جاء ذلك في قضية تأبير النخل، ونزول آية الحجاب، والاستغفار للمنافقين، وقبول الفدية من أسرى بدر، وغير ذلك ممّا يدعيه "أهل السنّة

____________

1- راجع إحراق أبي بكر للأحاديث النبويّة: تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 7، وكذلك عمر بن الخطّاب حيث منع من التحدث بالسنّة النبويّة فضلا عن كتابتها، تقييد العلم 49، طبقات ابن سعد 1: 140.


الصفحة 78
والجماعة" في صحاحهم وما يعتقدونه في صاحب الرسالة (عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام).

ونحن نقول لأهل السنّة والجماعة:

إذا كان هذا هو ديدنكم، وهذا هو اعتقادكم في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف تدعون التمسّك بسنّته، وسنته عندكم وعند أسلافكم غير معصومة، بل غير معلومة ولا مكتوبة(1)؟

على أننا نردُّ على هذه المزاعم والأكاذيب وندحضها من نفس كتبكم وصحاحكم(2).

فهذا الإمام البخاري يخرج في صحيحه من كتاب العلم، وفي باب كتابة العلم، عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد أكثر حديثاً عنه منّي، إلاّ ما كان من عبد الله بن عَمْرو فإنّه كان يكتُبُ ولاَ أكتُبُ(3).

ويستفاد من هذه الرواية بأنّ هناك من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان يكتب أحاديثه، وإذا كان أبو هريرة يروي أكثر من ستّة آلاف حديث عن النبيّ شفاهياً، فإنّ عبد الله بن عمرو بن العاص فاق هذا العدد كتابياً، ولذلك

____________

1- لأنّ تدوين السنّة النبويّة تأخّر إلى زمن عمر بن عبدالعزيز أو بعده، أمّا الخلفاء والحكّام الذين حكموا قبله فقد أحرقوها ومنعوا من كتابتها والتحدّث بها (المؤلّف).

2- الغريب أنّ أهل السنّة كثيراً ما يروون الحديث ونقيضه في نفس الكتاب، والأغرب من ذلك أنّهم كثيراً ما يعملون بما هو مكذوب، ويهملون ما هو صحيح (المؤلّف).

3- صحيح البخاري 1: 36 (كتاب العلم، باب كتابة العلم).