الصفحة 162
ولمّا كان لهؤلاء الخلفاء الثلاثة حضورٌ مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبة، فقد أخذوا عنه بعض السنن التي لا تتعارض مع سياستهم.

فإنّ معاوية لم يدخل الإسلام إلاّ في السنة التاسعة للهجرة على أشهر الروايات الصحيحة، فلم يصحب النبيّ إلاّ قليلا، ولم يعرف من سنّته شيئاً يذكر، فاضطرّ إلى تعيين أبي هريرة وعمرو بن العاص وبعض الصحابة الذين كلّفهم بالإفتاء على ما يريده.

واتّبعَ بنو أُميّة وبنو العبّاس بعده هذه "السنّة الحميدة" أو هذه البدعة الحسنة، فكلّ حاكم جلس إلى جانبه قاضي القضاة المكلّف بدوره بتعيين القضاة الذين يراهم صالحين للدّولة، ويعملون على دعمها وتأييدها.

وما عليك بعد ذلك إلاّ أن تعرف ماهية أُولئك القُضاة، الذين يُغضبون ربّهم في إرضاء سيّدهم ووليّ نعمتهم الذي نصّبهم.

وتفهم بعد ذلك السرّ في إبعاد الأئمّة المعصومين من العترة الطاهرة، فلا تجد منهم أحداً وعلى مرّ العصور عيّنوه من قِبلهم، أو نصبوه قاضياً، أو قلّدوه وسام الإفتاء.

وإذا أردنا مزيد التحقيق حول كيفية انتشار المذاهب "السنيّة" الأربعة بواسطة الحكّام، فلنا أن نأخذ لذلك مثالا واحداً من خلال كشف الستار عن مذهب الإمام مالك، الذي يُعدّ من أكبر المذاهب وأعظمها قدراً وأوسعها فقهاً، فقد اشتهر مالك بالخصوص بالموطّأ الذي كتبه بنفسه، ويقال عند أهل السنّة بأنّه أصحّ الكتب بعد كتاب الله(1)، وهناك بعض العلماء الذين يقدّمونه

____________

1- هذه المقولة تُنسب إلى الشافعي. راجع (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والمسانيد) لابن عبد البرّ 1: 60، و (تنوير الحوالك) للسيوطي: 7. وكلام عثمان الخميس في كشف الجاني: 177 هراء لا طائل منه; لأنّ كلام الشافعي هذا وإن كان قبل وجود صحيح البخاري، لكن من أين لعثمان الخميس أن يعلم بأنّ الشافعي لو بقي حيّاً لفضّل صحيح البخاري على الموطأ؟! فما ذلك إلاّ رجماً بالغيب نشأ من عقيدته بصحيح البخاري التي يريد تحميلها على غيره!!

مضافاً إلى أنّ كلام القاضي أبا بكر العربي بعد وجود صحيح البخاري، ومع ذلك يعدّه الأصل الثاني بعد الموطأ.


الصفحة 163
ويفضّلونه على صحيح البُخاري(1).

كما أنّ شهرة مالك فاقت كلّ الحدود، حتى قيل: "أيفتى ومالك في المدينة"؟ ولقّبوه بإمام دار الهجرة.

ولا يفوتنا أن نذكر بأنّ مالكاً أفتى بحرمة بيعة الإكراه، فضربه جعفر بن سليمان والي المدينة سبعين سوطاً.

وهذا ما يحتجّ به المالكية دائماً على معاداة مالك للسّلطة، وهو غير صحيح إذ إنّ الذين رووا هذه القصّة، هم أنفسهم الذين رووا ما بعدها، فإليك

____________

1- قال السيوطي في تنوير الحوالك: 6 "قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: الموطأ هو الأصل الأوّل واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمذي". وقال الشاه ولي اللّه الدهلوي في كتابه حجة اللّه البالغة 1: 249 عند سرده لطبقات الأحاديث الصحيحة "فالطبقة الأُولى منحصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ وصحيح البخاري، وصحيح مسلم".

وقال أسد حيدر في كتابه (الإمام الصادق (عليه السلام) والمذاهب الأربعة): "واختلفوا في منزلة الموطأ من كتب السنّة فمنهم من جعله مقدّماً على الصحيحين كابن العربي وابن عبد البر والسيوطي، وفي هذه الكلمات تصريح بتفضيل الموطأ على كتاب البخاري، ومنكر ذلك مكابر ومعاند لا قيمة لكلامه.


الصفحة 164
البيانُ والتفصيل:

قال ابن قتيبة: "وذكروا أنّه لما بلغ أبا جعفر المنصور ضرب مالك بن أنس، وما أنزل به جعفر بن سليمان، أعظم ذلك إعظاماً شديداً وأنكره ولم يرضه، وكتب بعزل جعفر بن سليمان عن المدينة، وأمر أن يؤتى به إلى بغداد على قتب.

ثمّ كتب إلى مالك بن أنس ليستقدمه إلى نفسه ببغداد، فأبى مالك، وكتب إلى أبي جعفر يستعفيه من ذلك ويعتذر له بعض العذر إليه، فكتب أبو جعفر إليه: أن وافني بالموسم العام القابل إن شاء الله، فإنّي خارج إلى الموسم"(1).

فإذا كان أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور الخليفة العبّاسي، يعزلُ ابن عمّه جعفر بن سليمان بن العباس عن ولاية المدينة من أجل ضرب مالك، فهذا يبعثُ على الشكّ والتأمّل; إذ أنّ ضرب جعفر بن سليمان لمالك لم يكن إلاّ لتأييد خلافة ابن عمّه وتدعيم ملكه وسلطانه، فكان الواجب على أبي جعفر المنصور إكرام الوالي وترقيته، لا عزله وإهانته بتلك الطريقة، فقد عزله وأمر بإقدامه على شرّ حال مكبّلا بالأغلال على قتب، ثمّ يبعث الخليفة بنفسه اعتذاره إلى مالك لكي يسترضيه! إنّه أمر عجيب!

ويفهمُ من ذلك بأنّ والي المدينة جعفر بن سليمان تصرّفَ تصرّف الحمقى الذين لا يعرفون من السياسة ودهائها شيئاً، ولم يفهم بأنّ مالكاً هو

____________

1- تاريخ الخلفاء لابن قتيبة 2: 200. وتقدّم ذكر بعض المصادر التي تنصّ على الصلح بين مالك والخليفة المنصور، واعتذار المنصور لمالك عمّا صدر من واليه على المدينة.


الصفحة 165
عمدة الخليفة وركيزته في الحرمين الشريفين، وإلاّ ما كان ليعزل ابن عمّه من الولاية لأنّه ضرب مالكاً الذي استحقّ ذلك من أجل فتواه بحرمة بيعة الإكراه.

وهذا ما يقَع اليوم أيضاً بين ظهرانينا وأمام أعيننا، عندما يحاول بعض الولاة إهانة شخص مَا وسجنه لتدعيم هيبة الدّولة وسلامة أمنها، فإذا بذلك الشخص يكشف عن هويّته، وإذا به من أقارب السيّد الوزير، أو من معارف زوجة الرئيس، فإذا بالوالي قد أُعفِيَ من منصبه، ودُعيَ لمهام أُخرى قد لا يعرفُها حتّى الوالي نفسه.

وهذا يذكرني بحادثة وقعتْ زمن الاحتلال الفرنسي للبلاد التونسية، فكان شيخ الطريقة العيساوية وجماعته يضربون البنادير، ويرفعون أصواتهم بالمدائح في اللّيل مروراً ببعض الشوارع، وحتى يصلوا إلى محل الحضرة كما هي عادتُهم.

وبمرورهم أمام مسكن ضابط الشرطة الفرنسي، خرج إليهم هذا الأخير مُغضباً فكسر بناديرهم وفرّق جمعهم، لأنّهم لم يعملوا بقانون احترام الجار، والتزام الهدوء بعد العاشرة ليلا.

ولمّا علم المُراقب المدني بالحادثة، وهو بمثابة الوالي عندنا، غضب غضباً شديداً على ضابط الشرطة فعزله من منصبه، وأعطاه ثلاثة أيام لمغادرة مدينة قفصة، ثمّ استدعى شيخ الطريقة العيساوية واعتذر إليه باسم الحكومة الفرنسية، واسترضاه بأموال كثيرة كي يشتري بها بنادير وأثاثاً جديداً ويعوّض كلّ ما كُسّر لهم.


الصفحة 166
وعندما سأله أحد المقرّبين إليه لماذا فعل كلّ ذلك؟ أجابه بأن الأفضل لنا أن يتلهّى هؤلاء الوحوش بضرب البنادير، وينشغلوا بالشطحات وأكل العقارب، وإلاّ سوف يتفرّغوا لنا ويأكلونا نحن لأنّا غاصبين حقوقهم!!

ونعود إلى الإمام مالك لنستمع إليه يروي بنفسه كيف كان لقاؤه بالخليفة أبي جعفر المنصور:


الصفحة 167

لقاء مالك مع أبي جعفر المنصور


هذه الرواية التي يرويها ابن قتيبة المؤرّخ الكبير في كتابه تاريخ الخلفاء منقولة عن مالك نفسه، فلابدّ من هذه الملاحظة وأخذها بعين الاعتبار.

قال مالك: لمّا صرتُ بمنى أتيتُ السرادقات، فأذنتُ بنفسي، فأذن لي، ثمّ خرج إليّ الآذن من عنده فأدخلني، فقلتُ للآذن: إذا انتهيت بي إلى القبّة التي يكون فيها أمير المؤمنين فأعلمني، فمرّ بي من سرادق إلى سرادق، ومن قبّة إلى أُخرى، في كلّها أصناف من الرجال بأيديهم السيوف المشهورة والأجزرة المرفوعة، حتّى قال لي الآذن: هو في تلك القبة، ثمّ تركني الآذن وتأخّر عنّي.

فمشيتُ حتّى انتهيتُ إلى القبة التي هو فيها، فإذا هو قد نزل عن مجلسه الذي يكون فيه إلى البساط الذي دونه، وإذا هو قد لبس ثياباً قصدة لا تُشبه ثياب مثله تواضعاً لدخولي عليه، وليس معه في القبة إلاّ قائم على رأسه بسيف صليت.

فلما دنوتُ منه رحّب بي وقرّب، ثمّ قال: ها هنا إليّ، فأوميتُ للجلوس، فقال: ها هنا، فلم يزل يُدنيني حتّى أجلسني إليه، ولصقتْ ركبتي بركبتَيْه.

ثمّ كان أوّل ما تكلّم به أن قال: والله الذي لا إله إلاّ هو يا أبا عبد الله ما أمرتُ بالذي كانَ، ولا علمته قبل أن يكون، ولا رضيتُه إذ بلغني (يعني الضرب).

قال مالك: فحمدتُ الله تعالى على كلّ حال، وصلّيتُ على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،

الصفحة 168
ثمّ نزّهته عن الأمر بذلك والرضى به. ثمّ قال: يا أبا عبد الله، لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإنّي أخالك أمَاناً لهم من عذاب الله وسطوته، ولقد دفع الله بك عنهم وقعة عظيمة، فإنّهم ما علمت أسرع الناس إلى الفتن وأضعفهم عنها، قاتلهم الله أنّى يؤفكون.

وقد أمرتُ أن يُؤتى بعدوّ الله(1) من المدينة على قتب، وأمرت بضيق مجلسه والمبالغة في امتهانه، ولابدّ أن أُنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه.

فقلت له: عافى الله أمير المؤمنين، وأكرم مثواه، قد عفوتُ عنه لقرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ منك.

قال أبو جعفر: وأنتَ فعفى الله عنك ووصلك.

قال مالك: ثمّ فاتحني في من مضى من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس بالناس، ثمّ فاتحني في العلم والفقه، فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه، وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظاً لما روي واعياً لما سمع.

ثمّ قال لي: يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودوّنهُ، ودوّن منه كُتباً، وتجنّب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عبّاس، وشواذ عبد الله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمّة والصحابة (رضي الله عنهم)، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكُتبك، ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها.

فقلت له: أصلح الله الأمير، إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرونَ في عملهم رأيَنَا.

____________

1- يقصد ابن عمّه جعفر بن سليمان بن العبّاس واليه على المدينة.


الصفحة 169
فقال أبو جعفر: يُحملون عليه، ونضرب عليه هاماتِهم بالسيف، ونقطع طي ظهورهم بالسّياط، فتعجّل بذلك وضعها فسيأتيك محمّد المهدي ابني العام القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله.

قال مالك: فبينما نحن قعود إذ طلع بُني له صغير من قبة بظهر القبّة التي كنّا فيها، فلمّا نظر إلي الصبي فزع ثمّ تقهقرَ فلم يتقدّم، فقال له أبو جعفر: تقدّم يا حبيبي إنّما هو أبو عبد الله فقيه أهل الحجاز، ثمّ التفت إليّ فقال: يا أبا عبد الله أتدري لمَ فزع الصبي ولم يتقدّم؟ فقلت: لا!

فقال: والله استنكر قرب مجلسك منّي إذ لم يرَ بهِ أحداً غيرك قط، فلذلك تقهقر.

قال مالك: ثمّ أمر لي بألف دينار عيناً ذهباً، وكسوة عظيمة، وأمر لابني بألف دينار، ثمّ استأذنته فأذن لي، فقمتُ فودّعني ودعا لي، ثمّ مشيتُ مُنطلقاً، فلحقني الخصيّ بالكسوة فوضعها على منكبي، وكذلك يفعلون بمن كسوه وإن عَظُم قدره، فيخرج بالكسوة على الناس فيحملها ثمّ يُسلّمها إلى غلامه.

فلمّا وضع الخصيّ الكسوة على منكبي انحنيتُ عنها بمنكبي كراهة احتمالها، وتبرّؤاً من ذلك.

فناداه أبو جعفر: بلّغها رَحْلَ أبي عبد الله... إنتهى(1).

____________

1- تاريخ الخلفاء لابن قتيبة 2: 201.


الصفحة 170

الصفحة 171

تعليق لابدّ منه لفائدة البحث والتحقيق


يُلاحظُ المتتبّع لهذه المقابلة الوديّة التي جمعت بين الإمام مالك والخليفة الجائر أبي جعفر المنصور، ومن خلال المحاورة التي دارت بينهما نستنتجُ الأُمور التالية:

أولا: نلاحظ بأنّ الخليفة العبّاسي عزلَ واليه على المدينة، وهو ابن عمّه وأقرب الناس إليه، وأهانه بعد عزله، ثمّ يعتذر للإمام مالك عمّا صدر عنه، ويُقسِم بالله أنّه لم يكن بأمره ولا بعلمه، ولم يرضه عندما بلغه.

كلّ ذلك يدلّ على الوفاق التام الذي كان بين الرجلين، والمكانة التي كان يحظى بها الإمام مالك عند أبي جعفر المنصور، إلى درجة أنّه يستقبله على انفراد بلباس داخلي، ويجلسه مجلساً لم يجلس فيه أحدٌ قط، حتّى إنّ ابن الخليفة فزع وتقهقر عندما رأى ركبتي مالك لاصقة بركبتي أبيه.

ثانياً: نستفيد من قول المنصور لمالك: لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنتَ بين أظهرهم، وإنّك أمان لهم من عذاب الله، وإنّ الله دفع بكَ عنهم وقعة عظيمة، بأنّ أهل الحرمين أرادوا الثورة على الخليفة وحكمه الظالم، فهدّأهم الإمام مالك، وأخمد ثورتهم ببعض الفتاوى كالقول بوجوب الطاعة لله ورسوله وأُولي الأمر (وهو الحاكم)، وبذلك استكان الناس وهدأوا فلم

الصفحة 172
يُقاتلهم الخليفة، ودفع الله بتلك الفتوى مجزرة الخليفة(1).

ولذلك قال المنصور لمالك: إنّ أهل الحرمين أسرع الناس إلى الفتن، وأضعفهم عنها، قاتلهم الله أنّى يؤفكون.

ثالثاً: إن الخليفة كان يرشّح مالكاً ليكون هو العالم المنظور إليه في كلّ الأقطار الإسلامية، ثمّ يفرض مذهبه على الناس ويحملهم على اتّباعه بوسائل الترهيب والترغيب.

فمن وسائل الترغيب قوله: ونعهد إلى أهل الأمصار أن لا يُخالفوها ولا يقضوا بسواها، وأن يوفدوا إليه وفودهم، ويرسلوا إليه رسلهم في أيّام حجّهم.

ومن وسائل الترهيب قوله: أمّا أهل العراق فيُحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طيّ ظهورهم بالسّياط.

ونفهم من هذه الفقرة ماذا كان يُلاقيه الشيعة المساكين من حكّام الجور من اضطهاد وقتل، لحملهم على ترك الأئمة من أهل البيت واتّباع مالك وأمثاله.

رابعاً: نلاحظ بأنّ الإمام مالكاً وجعفر المنصور كانا يحملان نفس العقائد ونفس المفاضلة بخصوص الصحابة والخلفاء الذين استولوا على

____________

1- ولا تناقض بين فتواه بفساد بيعة الإكراه وفتواه بوجوب طاعة السلطان، وقد رووا في ذلك أحاديث كثيرة أذكر منها على سبيل المثال: "من خرج على طاعة السلطان فمات على ذلك مات ميتة جاهلية" وكقولهم: "عليك بالسّمع والطاعة ولو أخذ الأمير مالك وضرب ظهرك" (المؤلّف).


الصفحة 173
الخلافة بالقوّة والقهر.

قال مالك في ذلك: ثمّ فاتحني في العلم والفقه فوجدته أعلم الناس، ثمّ فاتحني في من مضى من السلف والعلماء فوجدته أعلم الناس بالناس.

ولا شكّ بأنّ أبا جعفر المنصور بادل الإمام مالكاً نفس الشعور وأطراه بنفس الإطراء، إذ قال له مرة في لقاء قبل هذا: وأيم الله ما أجدُ بعد أمير المؤمنين أعلم منك ولا أفقه(1) ويقصد بأمير المؤمنين (نفسه طبعاً).

وممّا سبق نفهمُ بأن الإمام مالكاً كان من النواصب، إذ إنه لم يكن يعترف بخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أبداً، وقد أثبتنا فيما تقدّم بأنّهم أنكروا على أحمد بن حنبل الذي ربّع الخلافة بعلي، وأوجب له ما يجب للخلفاء قبله، وغنيّ عن البيان بأنّ مالكاً هلك قبل مولد ابن حنبل بكثير.

أضف إلى ذلك أنّ مالكاً اعتمد في نقل الحديث على عبد الله بن عمر الناصبي، الذي كان يحدّث بأنّهم لا يعدلون في زمن النبيّ بأبي بكر أحداً، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ الناس بعد ذلك سواسية.

وعبد الله بن عمر هو أشهر رجال مالك، وأغلب أحاديث الموطّأ تعود إليه، وكذلك فقه مالك.

خامساً: نلاحظ بأنّ السياسة التي قامت على الظّلم والجور تريد أن تتقرّب إلى الناس بما يُرضيهم من الفتاوى التي ألفوها، ولا تكلّفهم الالتزام بالنّصوص القرآنية أو النبويّة.

____________

1- تاريخ الخلفاء لابن قتيبة 2: 193.


الصفحة 174
فقد جاء في كلام المنصور لمالك قوله: ضع هذا العلم ودوّن منه كتباً، وتجنّب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص ابن عبّاس، وشواذ ابن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة لنحمل الناس على علمك وكُتبك.

ومن هذا يتبيّن لنا بوضوح بأنّ مذهب "أهل السنّة والجماعة" هو خليط من شدائد ابن عمر، ورخص ابن عبّاس، وشواذ ابن مسعود، وما استحسنه مالك من أواسط الأُمور التي كان عليها الأئمة والمقصود بهم "أبو بكر وعمر وعثمان"، وما اجتمع عليه الصحابة الذين رضي عنهم الخليفة أبو جعفر المنصور.

وليس فيه شيءٌ من سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تُروى عن الأئمة الطاهرين من عترته(1)، والذين عاصر المنصور ومالك البعض منهم، وعمل الخليفة عل

____________

1- بل يلاحظ على خصوص مالك بن أنس أنّه كان يطعن في الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ولا يروي عنه في الأُصول، وإنّما يروي عنه متابعة ويضمّ إليه من هو أرفع منه كما ذكر ذلك المزي في تهذيب الكمال 5: ح7، مع أنّ مالك بن أنس نفسه كان يحضر عند الصادق (عليه السلام) وقد قال عنه: (اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلاّ على ثلاث خصال: إمّا مصلّ، وإمّا صائم، وإمّا يقرأ القرآن، وما رأيته يحدّث إلاّ على طهارة) تهذيب التهذيب، ابن حجر 2: 104.

فهذا مالك يحضر عند جعفر الصادق، ويرى حاله ممّا هو عليه من الورع والتقوى، ومع ذلك يتركه ولا يروي عنه!!

وقد ذكر عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني: 177 بأنّ الناصبي عند الشيعة كلّ من كان سنياً!!

=>


الصفحة 175
عزلهم وخنق أنفاسهم.

____________

<=

وهذا افتراء وتقوّل يكذّبه ما يصدع به الشيعة دائماً، وما هو مسطور في كتبهم الفقهية حيث يقولون بأنّ الناصبي هو: المعلن بعداوة أهل البيت صريحاً، وراجع في ذلك: القواعد للعلاّمة الحلي 3: 14، مسالك الافهام للشهيد الثاني 1: 24، مصباح الفقيه، رضا الهمداني 1: 564، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الخوئي 2: 217، وغيرها من المصادر التي تخصّ النصب بالإعلان والمجاهرة بعداوة أهل البيت (عليهم السلام)، وأهل السنّة ليسوا كذلك كما هو واضح لمن يراجع ويرى، حيث إنّ الكثير منهم ممّن يحبّ أهل البيت ويكنّ لهم المودّة والمحبّة.

وما ذكره عثمان الخميس هو من أجل إيقاع الفتنة بين المسلمين شيعة وسنّة، وتأجيج نارها، وقد ذكر العالم السنّي محمّد البهي في كتابه (الفكر الإسلامي في تطوره): 140 سعي الوهابية في الفتنة فقال: (وسّعت [ الوهابية ] شّقة الخلاف بين السنّة والشيعة، وأصبحت الفجوة كبيرة في النزاع المذهبي بين السنّة والشيعة منذ القرن الثامن عشر الميلادي، بل أصبحت أشدّ من ذي قبل).

وذكر أيضاً بأنّ المؤلّف كذب عندما قال بأنّ أهل السنّة لا يروون عن أئمة أهل البيت، فأجاب بأنّ أهل السنّة يروون عن علي بن أبي طالب في كتبهم!

وللجواب على كلامه نقول: إنّ أهل السنّة تركوا مذهب أهل البيت وفقهم (عليهم السلام) بدءاً بعلي بن أبي طالب ومروراً بالحسن والحسين والصادق والباقر، وهذا ما ذكره ابن تيميّة صريحاً حينما قال في منهاج سنّته 7: 529: (فليس في الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الفقهاء من يرجع إليه [ يعني الإمام علي ] في فقهه; أمّا مالك فإنّ علمه عن أهل المدينة، وأهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي بل فقههم عن الفقهاء السبعة..). فهذا ابن تيميّة يقول بصريح العبارة: إن أهل السنّة وبدءاً بفقهائهم تركوا فقه علي بن أبي طالب ولم يأخذوا به!!

وهذا هوالذي يقوله المؤلّف.

وأمّا القول بأنّ كتب أهل السنة روت عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فهذا كلام لا ينفع; لأنّهم وإن رووا في كتبهم عن علي بن أبي طالب لكنهم تركوا رواياته ولم يأخذوا بفقهه كما شهد ابن تيميّة بذلك.


الصفحة 176
سادساً: يلاحظ أنّ أوّل كتاب كُتب في تدوين السنّة من أحاديث الصحابة والتابعين هو كتاب الموطّأ للإمام مالك، وكان يطلب من السلطة على لسان الخليفة نفسه لكي يحمل الناس عليه قهراً بضرب السيوف إن لزم ذلك كما صرّح المنصور، فلابدّ أن تكون تلك الأحاديث من وضع الأمويّين والعبّاسيين، والتي تخدم مصالحهم، وتُقوّي نفوذهم وسلطانهم، وتبعد الناس عن حقائق الإسلام التي صدع بها نبيّ الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم).

سابعاً: نلاحظ بأنّ الإمام مالكاً ما كان يخشى إلاّ من أهل العراق; لأنّهم كانوا شيعة لعلي بن أبي طالب، وقد تشبّعوا بعلمه وفقهه، وانقطعوا في تقليدهم للأئمة الطّاهرين من ولده، فلم يُقيموا وزناً لمالك ولا لأمثاله; لعلمهم بأنّ هؤلاء نواصب يتزلّفون للحكّام، ويبيعون دينهم بالدّرهم والدينار.

ولذلك قال مالك للخليفة: أصلح الله الأمير، إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في عملهم رأينا.

فيجيبه المنصور بكلّ غطرسة: يحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طي ظهورهم بالسّياط.

وبهذا نفهم كيف انتشرتْ المذاهب التي ابتدعتها السلطات الحاكمة، وسمّتها بمذاهب "أهل السنّة والجماعة".

والأمر العجيب في كلّ ذلك أنّك ترى أبا حنيفة يخالف مالكاً، ومالكاً يخالفه، والاثنين يخالفان الشافعي والحنبلي، وهذان يختلفان ويخالفان الاثنين، وليس هناك مسألةٌ فيها اتّفاق الأربعة إلاّ نادراً، ومع ذلك فكلّهم

الصفحة 177
"أهل سنّة وجماعة". أيّ جماعة هذه؟ مالكية، أم حنفية، أم شافعية، أم حنبلية؟! فلا هذا ولا ذاك، وإنّما هي جماعة معاوية بن أبي سفيان، وهم الذين وافقوه على لعن علي بن أبي طالب، وجعلوها سنّةً متّبعة ثمانين عاماً.

ولماذا يُسمح بالخلاف وتعدّد الآراء والفتيا في المسألة الواحدة، ويُصبح خلافهم رحمةً ما دام مقصوراً على المذاهب الأربعة، فإذا خالفهم مجتهدٌ آخر كفّروه وأخرجوه عن الإسلام؟

ولماذا لا يحمَلُ خلاف الشيعة لهم كالخلاف فيما بينهم لو كانوا مُنصفين وعاقلين؟

ولكنّ ذنب الشيعة لا يغتفر; لأنّهم لا يقدّمون على علي أمير المؤمنين أحداً من الصحابة، وهذا هو جوهر الخلاف الذي لا يتحمّله "أهل السنّة والجماعة" الذين اتّفقوا على شيء واحد ألا وهو إقصاء علي عن الخلافة، وطمس فضله وحقائقه.

ثامناً: نلاحظ بأنّ الحكّام الذين استولوا على أموال المسلمين بالقهر والقوة، نراهم يوزّعون هذه الأموال بسخاء على علماء السوء والمتزلّفين إليهم; لاستمالتهم وشراء ضمائرهم ودينهم بدنياهم.

قال مالك: ثمّ أمر لي بألف دينار عيناً ذهباً، وكسوة عظيمة، وأمر لابني بألف دينار.

فهذا ما اعترف به مالك على نفسه، وقد يكون ما لم يحدّث به أكثر من ذلك بكثير; لأنّ مالكاً كان يشعر بالحرج من العطايا الظّاهرة، فكان لا يحبّ

الصفحة 178
أن يراها الناس، نفهم ذلك من قوله:

فلمّا وضع الخصي الكسوة على منكبي انحنيتُ عنها كراهة احتمالها، وتبرؤاً من ذلك.

ولمّا عرف المنصور منه ذلك أمر الخصيّ أن يبلغها رحل أبي عبد الله مالك حتى لا يعرف الناس عنه ذلك.