الصفحة 179

اختبار الحاكم العبّاسي لعلماء عصره


كان الخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور من الدّهاة الكبار، وقد عرف كيف يستولي على عقول الناس ويشتري ضمائرهم، وقد عمل على بسط نفوذه وتوسيع دائرة ملكه بوسائل الترغيب والترهيب.

كما عرفنا مكره ودهاءه من خلال تعامله مع مالك بعد ما ضربه والي المدينة، ممّا يدلّنا على الصلة الوثيقة التي تربطه بالإمام مالك قبل تلك الواقعة بزمن طويل.

فقد كان لمالك لقاء مع المنصور قبل هذا اللّقاء الذي ذكرناه بخمسة عشر عاماً، وذلك إبّان استيلاء المنصور على الخلافة(1). وقال المنصور لمالك فيما

____________

1- كان بين مالك والخليفة أبي جعفر المنصور لقاءات متعدّدة كما ذكر ذلك مالك نفسه إذ يقول: (دخلت على أبي جعفر مراراً، وكان لا يدخل عليه أحد من الهاشميين وغيرهم إلاّ قبّلوا يده، فلم أُقبّل يده قط) تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل، الرازي 1: 66.

وفي إحدى المرّات يعترض على مالك لكثرة دخوله على السلطان إذ يقال له: (إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون..) المصدر السابق: 69.

ومرّة يدخل مالك على أبي جعفر المنصور فيطلب منه أن يكتب له الموطأ ليحمل الناس عليه، فيمتثل مالك طلبه، ويكتب الموطأ. راجع تاريخ الإسلام للذهبي: 321 حوادث سنة 171 ـ 180، تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل 1: 58.

وأُخرى يدخل مالك على الخليفة أبي جعفر المنصور فيقول له: يا مالك كثر شيبك. تقدمة المعرفة 1: 69، سير أعلام النبلاء، الذهبي 8: 112.

وثالثة يرسله الخليفة أبي جعفر المنصور إلى بني الحسن بن علي الذين جمعهم في حبسه لأجل التفاوض معهم. راجع الكامل في التاريخ، ابن الأثير 5: 523.

إلى غير ذلك من اللقاءات التي ذكرها المؤرّخون وما لم يذكروه أكثر وأكثر.

وتجدر الإشارة إلى أنّه وقع خطأ في تاريخ ابن قتيبة حيث ذكر أنّ هذا اللقاء الذي ذكره المؤلّف كان في سنة 163هـ، وهذا لا يصح; لأنّ الخليفة أبي جعفر المنصور توفّي سنة 158هـ. فهناك خطأ في تحديد سنة اللقاء، ولعله وقع في سنة 150 كما يشير إلى هذا اللقاء الرازي في تقدمة المعرفة، ويذكر الخليفة لمالك أنّه كثر شيبه، أو لعلّه في سنة 152هـ حيث ذهب أبي جعفر المنصور إلى الحجّ ولعلّه التقى بمالك هناك.


الصفحة 180
قال: "يا أبا عبد الله إنّي رأيت رؤيا!" فقال مالك: يوفّق الله أمير المؤمنين إلى الصواب من الرأي، ويُلهمه الرشاد من القول، فما رأى أمير المؤمنين؟

فقال أبو جعفر: رأيتُ أنّي أُجلسك في هذا البيت، فتكون من عمار بيت الله الحرام، وأحمل الناسَ على علمك، وأعهد إلى أهل الأمصار يوفدون إليك وفودهم، ويرسلون إليك رسُلهم في أيّام حجّهم، لتحملهم من أمر دينهم على الصواب والحقّ إن شاء الله، وإنّما العلم علم أهل المدينة، وأنت أعلمهم....

يقول ابن قتيبة: لما ولَي أبو جعفر المنصور الخلافة جمع مالك بن أنس، وابن أبي ذؤيب، وابن سمعان في مجلس واحد وسألهم: أيُّ الرجال أنا عندكم؟ أمن أئمة العدل أم من أئمة الجور؟

قال مالك، فقلت: يا أمير المؤمنين أنا متوسّلٌ إليك بالله تعالى، وأتشفّع

الصفحة 181
إليك بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرابتك منه، إلاّ ما أعفيتني من الكلام في هذا، قال: قد أعفاك أمير المؤمنين.

أمّا ابن سمعان فقال له: أنتَ والله خير الرجال يا أمير المؤمنين، تحجّ بيت الله الحرام، وتجاهد العدوّ، وتؤمّن السبل، ويأمن الضعيف بك أن يأكله القويُّ، وبك قوام الدّين، فأنتَ خير الرجال وأعدل الأئمّة.

أمّا ابن أبي ذؤيب فقال له: أنتَ والله عندي شرّ الرجال، استأثرت بمال الله ورسوله، وسهم ذوي القُربى واليتامى والمساكين، وأهْلكتَ الضعيف، وأتعبتَ القوي، وأمسكتَ أموالهم، فما حُجّتك غداً بين يدي الله؟

فقال له أبو جعفر: ويحك ما تقول؟ أتعقل؟ أنظر ما أمامك؟

قال: نعم قد رأيت أسيافاً، وإنّما هو الموت، ولابدّ منه، عاجله خير من آجله.

وبعد هذه المحاورة طرد المنصور ابن أبي ذؤيب وابن سمعان، واختلى بمالك وحده وأمّنَه وقال له:

يا أبا عبد الله انصرف إلى مصرك راشداً مهدياً، وإن أحببْتَ ما عندنا، فنحنُ لا نُؤثر عليك أحداً، ولا نعدلُ بك مخلوقاً.

قال: ثمّ بعث أبو جعفر المنصور من الغد لكلّ واحد منهم صرّة فيها خمسة آلاف دينار مع أحد شرطته وقال له:

تدفع لكلّ رجل منهم صُرّة، أمّا مالك بن أنس إن أخذها فبسبيله، وإن ردّها فلا جناح عليه في ما فعل.

وأمّا ابن أبي ذؤيب فائتني برأسه إنْ أخذها، وإنْ ردّها عليك، فبسبيله لا جناح عليه.


الصفحة 182
وإن يكن ابن سمعان ردّها فَأئت برأسه، وإن أخذها فهي عافيتُه.

قال مالك: فنهض بها إلى القوم، فأمّا ابن سمعان فأخذها فسلم، وأمّا ابن أبي ذؤيب فردّها فسَلم، وأما أنا فكنتُ والله محتاجاً إليها فأخذتها(1).

ونلاحظ من هذه القصّة بأن مالكاً يعرف جور الخليفة وظلمه، ولكنّه وللعلاقة الودية التي كانت بينه وبين المنصور فقد ناشده بمحمّد وقرابته منه.

وهذا ما كان يُعجبُ الحكّام العباسيين ويهمّهم في ذلك العصر، وهو أن يعظّمهم الناس ويمجّدونهم بقرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك فَهِم الخليفةُ قصد مالك فأعجبه ذلك وأعفاه من الكلام.

أمّا الثاني وهو ابن سمعان فقد أطراه بما ليس فيه مخافة القتل إذ كان السياف واقفاً ينتظر إشارة الخليفة.

أمّا الثالث وهو ابن أبي ذؤيب فكان شجاعاً، لا يخشى في الله لومة لائم، وكان مؤمناً مخلصاً وصادقاً ناصحاً لله ولرسوله ولعامّة المسلمين، فجابهه بحقيقة أمره، وكشف عن زيفه ومغالطته، وعندما هدّده بالقتل رحّب به ولم يخَفْ منه.

ولذلك نرى أنّ الخليفة امتحنَ الرجلين بالأموال الطائلة، وأعفى الإمام مالكاً من ذلك الامتحان، فهو سالم في الحالتين إن أخذها أو ردّها.

أمّا ابن أبي ذؤيب فيقطع رأسه إن أخذها، وكذلك ابن سمعان يقطع رأسه إنْ ردّها.

ولما كان أبو جعفر المنصور داهيةً عُظمى تراه عمل على رفع مكانة

____________

1- تاريخ الخلفاء لابن قتيبة 2: 196.


الصفحة 183
مالك وفرض مذهبه، وقضى على مذهب ابن أبي ذؤيب بالرغم من أنّ ابن أبي ذؤيب كان أعلم من مالك وأفضل منه، كما اعترف بذلك الإمام أحمد ابن حنبل(1).

كما أنّ ليث بن سعد كان أفقه من مالك، كما اعترف بذلك الإمام الشافعي(2).

والحقيقة في ذلك العصر أنّ الإمام جعفر الصادق كان أفضل وأعلم وأفقه منهم جميعاً وقد اعترفوا كلّهم بذلك(3)، وهل يتجرّأ أحدٌ من الأُمّة أن يُباريه في علم أو في عمل، في فضل أو في شرف، وجدّه علي بن أبي طالب هو أفضل وأعلم وأفقه من الخلق كلّهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

ولكنّ السياسة هي التي ترفَعُ قوماً وتضعُ آخرين، والمالَ هو الذي يُقدّمُ قوماً ويُؤخّر آخرين.

والذي يهمّنا في هذا البحث هو أن نُبيّن بالأدلّة الواضحة والحُجج الدّامغة، بأنّ المذاهب الأربعة لـ "أهل السنّة والجماعة" هي مذاهب ابتدعتها السياسة، وفرضتها على الناس بوسائل الترهيب والترغيب والدّعاية، فالنّاس على دين ملوكهم.

ومن أراد مزيداً من البيان والتحقيق فعليه بقراءة كتاب "الإمام الصادق والمذاهب الأربعة" للشيخ أسد حيدر (رحمه الله)، وهناك سيعرف ما حضي

____________

1- تذكرة الحفاظ 1: 191.

2- راجع تهذيب التهذيب لابن حجر 8: 415، البداية والنهاية 10: 178.

3- قد مرّ عليك قول مالك: ما رأت عينٌ ولا سمعتْ أذنٌ ولا خطر على قلب بشر أفقه من جعفر بن محمّد الصادق.


الصفحة 184
به الإمام مالك من الجاه والسلطان، حتى إنّ الإمام الشافعي كان يتوسّل بوالي المدينة كي يدخل على مالك، فيقول له الوالي: "أفضل المشي راجلا من المدينة إلى مكة أهون عليَّ من الوقوف على باب مالك، لأنّي لا أشعر بالذلة إلاّ عند الوقوف على بابه"(1).

وهذا أحمد أمين المصري يقول في كتابه ظهر الإسلام: "كانَ للحكومات دخلٌ كبير في نصرة مذهب أهل السنّة، والحكومات عادة إذا كانتْ قويّة وأيّدتْ مذهباً من المذاهب تبعهُ الناسُ بالتقليد، وظلّ سنداً إلى أن تدول الدولة"(2).

ونحن نقول بأنّ مذهب الإمام جعفر الصادق، وهو مذهب أهل البيت إذا جاز لنا تسميتُه بالمذهب جرياً على عادة المسلمين، وإلاّ فإنّه الإسلام الصحيح الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يُؤيّده أي حاكم، ولم تعترف به أيّة سلطة، بل عمل كلّ الحكّام على إسقاطه والقضاء عليه، وتنفير الناس منه بشتّى الوسائل.

فإذا شقّ تلك الظلمات الحالكة، وكان له أتباعٌ وأنصارٌ عبر القرون الظّالمة، فذلك من فضل الله تعالى على المسلمين; لأنّ نور الله لا تُطفِئُه الأفواه، ولا تقضي عليه السيوف، ولا تبطله الدّعايات الكاذبة، والإشاعات المُغرضة; لئلاّ يكون للناس على الله حجّة، أو يقولوا إنّا كنّا عن هذا غافلين.

والذين اقتدوا بأئمة الهُدى من العترة الطاهرة، كانُوا ثلّة قليلة يُعدّون على

____________

1- نحوه في تاريخ دمشق لابن عساكر 51: 286.

2- كتاب ظهر الإسلام 4: 96، الفصل الثالث.


الصفحة 185
الأصابع بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتكاثروا على مرّ التاريخ والعصور; لأنّ الشجرة الطّيبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، تؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربها، وما كان لله دام واتّصل.

وقد حاولتْ قريش القضاء على محمّد في بداية الدعوة، ولمّا عجزتْ عن ذلك بفضل الله وفضل أبي طالب وعلي اللذين كانا يفديانه بنفسيهما، سلّت قريش نفسها بأنّ محمّداً أبتر ليس له عقب إذا مات انقطع نسله وانتهى أمره، فصبروا على مضض.

ولكنّ ربّ العالمين أعطاه الكوثر، وأصبح محمّد جدّ الحسنين، وبشرّ المؤمنين بأنهما إمَامان إن قاما وإن قعدَا، وبأنّ الأئمة كلّهم من ذرية الحسين، وهذا كلّه يهدّد مصالح قريش ومستقبلها.

وهذا لم يُعجب قريش، فثارت ثائرتُها بعد وفاة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحاولتْ القضاء على عترته كلّها، فأحاطوا بيت فاطمة بالحطب(1)، ولولا استسلام علي وتضحيتُه بحقّه في الخلافة ومسالمته لهم، لقُضي عليهم، وانتهى أمرُ الإسلام من ذلك اليوم.

وسكتتْ قريش، وهدأ روعها ما دامتْ هي الحاكمة، وليس في نسل محمّد من يهدّد مصالحها، وبمجرّد ما رجعتْ الخلافة لعلي اشعلتْ قُريش

____________

1- قصّة تهديد القوم لإحراق بيت فاطمة (عليها السلام) أخرجها ابن أبي شيبة في مصنّفه 8: 572 بسند صحيح، وقد قال الباحث السلفي حسن فرحان المالكي في كتابه (قراءة في كتب العقائد ـ المذهب الحنبلي نموذجاً): 52 في الهامش: (كنت أظنّ المداهمة مكذوبة لا تصحّ حتي وجدت لها أسانيد قويّة منها ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف) الذي نقلناه بالجزء والصفحة.


الصفحة 186
ضدّه الحروب الطّاحنة، ولم تهدأ حتّى قضتْ عليه، وأرجعتْ الخلافة إلى أخبث بطن من بطونها، فأصبحت ملكية قيصرية يعهد بها الآباء إلى أبنائهم، وعندما رفض الحسين مبايعة يزيد قريش، هبّت قريش عند ذلك وثارتْ ثورتها العارمة للقضاء نهائياً على العترة النبويّة، وكلّ شيء اسمه نسلُ محمّد ابن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فكانت مذبحة كربلاء، والتي قتلوا فيها ذريّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بما في ذلك الصبيان والرضّع، وأرادوا اجتثاث شجرة النبوّة بكلّ فروعها، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أنجز وعدَه لمحمّد، فأنقذ علي بن الحسين، وأخرج من صلبه بقية الأئمّة، ومُلئتْ الأرض بنسله شرقاً ومغرباً، وكان الكوثر.

فما من بلد ولا قرية ولا بقعة من الأرض إلاّ لنسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها وجود وأثرٌ، وعند الناس لهم فيها احترام ومودّة.

وها نحن اليوم، وبعد كلّ المحاولات التي باءتْ بالفشل أصبح عدد نفوس الشيعة الجعفريّة وحدهم يبلغُ 250 مليون مسلم في العالم، كلّهم يقلّدون الأئمة الاثني عشر من عترة النبيّ، ويتقرّبونَ إلى الله بمودّتهم وموالاتهم، ويرجون شفاعة جدّهم.

ولن تجد مثل هذا العدد في أيّ مذهب من المذاهب الأُخرى إذا أخذنا كلّ مذهب على انفراد، رغم تأييد الحكّام ودعمهم.

{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(1).

____________

1- الأنفال: 30.


الصفحة 187
ألم يأمر فرعون بذبح كلّ مولود من الذكور في بني إسرائيل عندما أخبره المنجّمون بأنّ مولوداً في الإسرائيليين يهدّد بزوال ملكه؟ ولكن خير الماكرين أنقذ موسى من مكر فرعون وأوصله حتّى تربّى في حجر فرعون نفسه، وقوّض ملكه، وأهلك حزبه، وكان أمر الله مفعولا.

ألم يعمل معاوية (فرعون زمانه) على لعن علي وقتله وقتل أولاده وشيعته؟ ألم يحرّم أن يذكره ذاكر بفضيلة؟ ألم يحاول بكلّ مكره على إطفاء نور الله وإرجاع الأمر إلى الجاهلية؟ ولكنّ خير الماكرين رفع ذكر علي على رغم أنف معاوية وحزبه، وأصبح ذكر علي يلهجُ به المسلمون سنّة وشيعة بل حتّى النصارى واليهود، وأصبح قبر علي مزاراً بعد قبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقصده ملايين المسلمين، يذرفون الدموع، ويتقرّبون إلى الله به، وتعلو مقامَه قبّةٌ ومآذن ذهبية شامخة في السماء تأخذ بالأبصار.

بينما خمدَ ذكر معاوية الامبراطور الذي ملك الأرض وعاث فيها فساداً، فهل تجد له ركزاً؟ أم تجد له مزاراً يُذكر غير مقبرة مظلمة ومهملة؟ فإنّ للباطل جولة وللحقّ دولة، فاعتبروا يا أُولي الألباب.

والحمدُ لله على هدايته، الحمدُ لله الذي عرّفنَا بأنّ الشيعة هم على سنّة الرسول، فهم أهل السنّة النبويّة لأنّهم اقتدوا بأهل البيت، وأهل البيت أدرى بما فيه، وهم الذين اصطفاهم الله وأورثهم علم الكتاب.

كما عرّفنا بأن "أهل السنّة والجماعة" قد اتّبعوا بدع الحكّام من السلف والخلف، كما أنّهم لا حجّة لهم فيما يدّعونه.


الصفحة 188

الصفحة 189

حديث الثقلين عند الشيعة


وممّا يدلّ على أنّ الشيعة هم اتباع السنّة النبويّة الصحيحة، هو ما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديث الثقلين وقوله: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما أن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، فلا تتقدّموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم" وفي بعض الروايات: "وإنّ اللطيف الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"(1).

____________

1- مضى تخريجه والكلام حوله في نهاية موضوع (أهل السنّة ومحق السنّة) السابق من هذا الكتاب، وننقل هنا كلام الشيخ الألباني في صحيحته حول هذا الحديث، قال الشيخ محمّد الألباني في صحيحته 4: 355 ـ 359 ح1761: (حديث العترة وبعض طرقه:

1761 ـ (يا أيها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا; كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي) أخرجه الترمذي 2: 308، والطبراني (2680) عن زيد بن الحسن الأنماطي، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللّه قال: "رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول:..." فذكره، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان وغير واحد من أهل العلم".

قلت: قال أبو حاتم منكر الحديث، وذكره ابن حبّان في الثقات وقال الحافظ: ضعيف.

قلت [ الألباني ]: لكنّ الحديث صحيح، فإنّ له شاهداً من حديث زيد بن أرقم

=>


الصفحة 190

____________

<=

قال: "قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً فينا خطيباً بماء يُدّعى (خُمّاً) بين مكّة والمدينة، فحمد اللّه، وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثمّ قال:

أمّا بعد; ألا أيّها الناس فإنما أنا بشرٌ، يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب اللّه، فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلّ، فخذوا بكتاب اللّه، واستمسكوا به ـ فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه ـ ثمّ قال: وأهل بيتي، أُذّكركم اللّه في أهل بيتي، أُذّكركم اللّه في أهل بيتي، أُذّكركم اللّه في أهل بيتي". أخرجه مسلم 7: 122 ـ 123، والطحاوي في مشكل الآثار 4: 368، وأحمد 4: 366 ـ 367، وابن أبي عاصم في السنّة 1550 ـ 1551، والطبراني (5026) من طرق يزيد بن حيان التميمي عنه.

ثمّ أخرج أحمد 4: 371، والطبراني (5040)، والطحاوي من طريق علي بن ربيعة قال: "لقيت زيد بن أرقم وهو داخل على المختار أو خارج من عنده، فقلت له: أسمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي؟ قال: نعم". وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح.

وله طُرق أُخرى عند الطبراني (4969، 4971، 4980، 4982، 5040)، وبعضها عند الحاكم (3: 109، 148، 533)، وصحّح هو والذهبي بعضها.

وشاهد آخر من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "إني أوشك أو أُدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي; الثقلين أحدهما أكبر من الآخرة: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". أخرجه أحمد (3: 14، 17، 26، 59)، وابن أبي عاصم (1553 ـ 1555)، والطبراني (2678 ـ 2679) والديلمي (2: 1 / 45).

وهو إسناد حسن في الشواهد، له شواهد أُخرى من حديث أبي هريرة عند الدارقطني (529)، والحاكم (1: 93) والخطيب في الفقيه والمتفقه (56/1)،

=>


الصفحة 191

____________

<=

وابن عبّاس عند الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي وعمرو بن عوف عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2: 4 / 110)، وهي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من ضعف فبعضها يقوّي بعضها، وخيرها حديث ابن عبّاس.

ثمّ وجدّت له شاهداً قويّاً من حديث علي مرفوعاً به، أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (2: 307) من طريق أبي عامر العقدي: ثنا يزيد بن كثير عن محمّد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن علي مرفوعاً بلفظ: "كتاب اللّه بأيديكم، وأهل بيتي"...).

ثمّ يقول الشيخ الألباني رداً على من ضعّف الحديث مع كثيرة طرقه وصحتها يقول: (بعد تخريج الحديث بزمن بعيد، كُتب عليَّ أن أهاجر من دمشق إلى عمّان، ثمّ أن أُسافر منها إلى الامارات العربية أوائل سنة 1402 هجري، فلقيت في قطر بعض الأساتذة والدكاترة الطيّبين، فأهدى إليَّ أحدهم رسالة له مطبوعة في تضعيف هذا الحديث، فلّما قرأتها تبيّن لي أنّه حديث عهد بهذه الصناعة، وذلك من ناحيتين ذكرتهما له:

الأُولى: إنّه اقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة، ولذلك قصّر تقصيراً فاحشاً في تحقيق الكلام عليه، وفاته كثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة فضلا عن الشواهد والمتابعات، كما يشاهد كلّ ناظر يقابل تخريجه بما خرجته هنا.

الثانية: إنّه لم يلتفت إلى أقوال المصحّحين للحديث من العلماء، ولا إلى قاعدتهم التي ذكروها في مصطلح الحديث: إنّ الحديث الضعيف يتقوّى بكثرة الطُرق، فوقع في هذا الخطأ الفادح من تضعيف الحديث الصحيح.

وكان قد نمي إليّ قبل الالتقاء به والاطلاع على رسالته أنّ أحد الدكاترة في الكويت يضعّف هذا الحديث، وتأكّدت من ذلك حين جاءني خطاب من أحد الإخوة هناك يستدرك عليّ إيرادي الحديث في صحيح الجامع الصغير بالأرقام (2453، 2454، 2745، 7754); لأنّ الدكتور المشار إليه قد ضعّفه، وأنّ هذا

=>


الصفحة 192
وحديث الثقلين هذا أخرجه "أهل السنّة والجماعة" في أكثر من عشرين مصدراً من صحاحهم ومسانيدهم، كما أخرجه الشيعة في كلّ كتب الحديث.

وهو كما ترى صريح صراحة لا مزيد عليها بأنّ "أهل السنّة والجماعة" ضلّوا; لأنّهم لم يتمسكوا بهما معاً، وهلكوا لأنّهم تقدّموا على أهل البيت، وظنوا بأنّ أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وابن حنبل أعلم من العترة الطاهرة، فقلّدوهم وتركوا العترة الطاهرة.

على أنّ قول بعضهم بأنّهم تمسّكوا بالقرآن لا دليل عليه; لأنّ القرآن كلّه

____________

<=

استغرب منّي تصحيحه! ويرجو الأخ المشار إليه أن أُعيد النظر في تحقيق هذا الحديث، وقد فعلت ذلك احتياطاً، فلعلّه يجد فيه ما يدلّ على خطأ الدكتور، وخطأه هو في استرواحه واعتماده عليه، وعدم تنبيه للفرق بين ناشئ في هذا العلم ومتمكّن فيه، وهي غفلة أصابت كثير من الناس الذي يتبعون كلّ من كتب في هذا المجال، وليست له قدم راسخة فيه، واللّه المستعان) انتهى كلام الشيخ الألباني.

وقال ابن كثير في تفسيره 4: 142: (وقد ثبت في الصحيح أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) قال في خطبته بغدير خمّ: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"..).

ومن هذا الكلام يتّضح أنّ ما ذكره عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني: 178 من اتهام المؤلّف بالكذب في وجود هذا الحديث في صحيح مسلم والترمذي ما هو إلاّ مكابرة وتعنت وليست غفلة، مع أنّ الشيخ الألباني والملقّب ببخاري العصر عند السلفية يصرّح بأنّه في صحيح مسلم والترمذي وغيرها من المصادر وكذلك ابن كثير، والحديث صحيح لا غبار عليه، بل كما ذكرنا في تعليقة سابقة أنّه حديث متواتر. وأعجب من ذلك تكذيب عثمان الخميس للحديث، مع تصريح أئمته بأنّه صحيح، بل وتصريح بعضهم بأنّه متواتر، فهل يدّعي عثمان بأنّه أعلم من الشيخ الألباني وابن كثير وغيرهم المصرّحين بصحة الحديث؟! ولا يبعد ذلك منه بعدما رأيناه في كتابه كشف الجاني ينكر الواضحات والمسلمات الثابتة عندهم!! وللّه في خلقه شؤون.


الصفحة 193
عمومات وليس فيه تفاصيل الأحكام، وهو حمّال أوجه ولابدّ له من مُبيّن ومفسّر، كما هو الحال بالنسبة للسنّة النبويّة التي تتطلّب رواة ثقات ومفسّرين عالمين.

وليس هناك حلّ لهذا المشكل إلاّ بالرجوع لأهل البيت، أعني الأئمة من العترة الطاهرة الذين أوصى بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وإذا أضفنا إلى حديث الثقلين المتقدّم أحاديث أُخرى لها نفس المعنى، وترمي إلى نفس الهدف، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا حتى يردا علي الحوض"(1)، وقوله أيضاً: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة"(2); تأكّد لدينا ولدى كلّ باحث بأنّ من ترك عليّاً فقد ترك التفسير الحقيقي لكتاب الله تعالى، ومن ترك عليّاً فقد نبذ الحقّ وراء ظهره واتبع الباطل، فليس بعد الحقّ إلاّ

____________

1- المعجم الصغير للطبراني 1: 255، والأوسط 5: 135، الجامع الصغير للسيوطي 2: 177، المستدرك للحاكم 3: 124 وصححه ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك، كنز العمال 11: 603 ح32912، فيض القدير في شرح الجامع الصغير، المناوي 4: 470.

2- تاريخ بغداد 14: 322 ح7643، تاريخ دمشق 42:419، 449، وفي مجمع الزوائد 7: 235 عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ حيث كان)، قال الهيثمي: (رواه البزار وفيه سعد بن شعيب ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح).

قال الشيخ الأميني: "الرجل الذي لم يعرفه الهيثمي هو سعيد بن شعيب الحضرمي، قد خفي عليه لمكان التصحيف، ترجمه غير واحد بما قال شمس الدين إبراهيم الجوزجاني بأنّه كان شيخاً صالحاً صدوقاً كما في خلاصة الكمال 118، وتهذيب التهذيب 4: 48" الغدير 3: 177.


الصفحة 194
الضلال، وتأكّد لدينا أيضاً بأنّ "أهل السنّة والجماعة" تركوا القرآن والسنّة النبويّة بتركهم الحقّ وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما تأكّدتْ نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله بأنّ أُمّته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلّها في الضلالة إلاّ فرقة واحدة(1).

وهذه الفرقة الناجية هي التي اتّبعتْ الحقَّ والهدى باتّباعها للإمام علي (عليه السلام)، فحاربوا حربه، وسالموا سلمه، واقتدوا به في علمه، وتمسّكوا بالأئمة الميامين من ولده.

{ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْن تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }(2).

____________

1- ورد حديث افتراق الأُمّة بألفاظ مختلفة، راجع سنن الدارمي 2: 241، المصنّف لعبدالرزاق 10: 156 وفي كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 32 خصّص باباً بهذا العنوان، مسند أحمد 4: 102، سنن ابن ماجة 2: 1322 ح3993، وغيرها من المصادر.

2- البيّنة: 7 ـ 8.


الصفحة 195

حديث الثقلين عند " أهل السنّة "


كما قدّمنا فإنّ نفس الحديث الذي ذكرناه في الفصل السابق، هو الذي أخرجه علماء "أهل السنّة والجماعة"، واعترفوا بصحّته في أكثر من عشرين مصدراً من مصادرهم المشهورة.

وإذا اعترفوا بصحة الحديث فقد شهدوا على أنفسهم بالضّلالة ضمنياً; لأنّهم لم يتمسّكوا بالعترة الطاهرة، واعتنقوا مذاهب واهية ما أنزل الله بها من سلطان، ولا وجود لها في السنّة النبويّة.

والعجيب من علماء "أهل السنّة" اليوم، وبعد انقراض بني أُميّة وهلاكهم، وفي عصر كثر فيه الاتصال المباشر، وتوفرت فيه وسائل البحوث العلمية، فكيف لا يتوبون ويرجعون إلى الله من قريب كي يشملهم قوله سبحانه وتعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى }(1).

وإذا كان الناس في القرون الخالية زمن الخلافة مُكرهين على اتّباع السلطان بالقهر والقوّة، فما هو عذرهم اليوم، والسلطان في كلّ البلاد لا يهمه من أمر الدين شيئاً ما دام عرشه مضموناً، وهو يتبجّح بالديمقراطية وبحقوق الإنسان التي من ضمنها حريّة الفكر والعقيدة؟!

بقي هناك من علماء "أهل السنّة" المعترضون على حديث الثقلين

____________

1- طه: 82.


الصفحة 196
المذكور، بحديث "تركت فيكم كتاب الله وسنّتي"(1).

وأقلّ ما يُقال في هؤلاء: إنّهم بعيدون عن مقاييس العلم وأصول البحث والمعرفة، وإثبات الحجّة والدليل.

____________

1- قلنا فيما سبق من الأبحاث بأنّ حديث "كتاب الله وسنّتي" هو حديث مرسلٌ غير مسند ولم تخرجّه الصحاح، بينما حديث "كتاب الله وعترتي" هو حديث صحيح ومتواتر أخرجته كلّ الصحاح عند السنّة والشيعة (المؤلّف).