الصفحة 197

كتاب الله وعترتي، أو كتاب الله وسنّتي؟


قد وافينا البحث في هذا الموضوع في كتاب "مع الصادقين"، وقُلنا باختصار بأنّ الحديثين لا يتناقضان; لأنّ السنّة النبويّة الصحيحة محفوظة عند العترة الطاهرة من أهل البيت (عليهم السلام)، وأهل البيت أدرى بما فيه، وعليّ بن أبي طالب هو باب السنّة النبويّة، وهو أولى أن يكون راوية الإسلام من أبي هريرة، ومن كعب الأحبار، ووهب بن منبه.

ومع ذلك لابدّ من مزيد البيان والتوضيح، ولو أدى ذلك إلى التكرار، فإنّ في الإعادة إفادة، ولعلّ بعضهم لم يقرأوه هناك، فإنّهم سيطّلعون عليه هنا بمزيد من التفصيل والإيضاح.

ولعلّ القرّاء الكرام يجدون في هذا البحث ما يقنعهم بأنّ حديث "كتاب الله وعترتي" هو الأصل، وإنّما عمد الخلفاء على إبداله بحديث "كتاب الله وسنّتي" ليبعدوا بذلك أهل البيت عن مسرح الحياة.

ولابدّ من الملاحظة بأنّ حديث "كتاب الله وسنّتي" لا يصُحُّ حتى عند "أهل السنّة والجماعة"، لأنّهم رووا في صحاحهم بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نهاهم عن كتابتها، إذا كان حديث النهي صحيحاً، فكيف يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: تركت فيكم سُنّتي، وهي غير مكتوبة ولا معلومة؟!

ثمّ لو كان حديث "كتاب الله وسنّتي" صحيحاً، فكيف جاز لعمر بن الخطّاب أنْ يرد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: حسبنا كتاب الله؟!


الصفحة 198
وإذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك سنّة مكتوبة، فكيف جاز لأبي بكر وعمر حرقها ومنعها من الناس؟!

وإذا كان حديث "كتاب الله وسنّتي" صحيحاً، فلماذا يخطبُ أبو بكر بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: "لا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه"(1)؟!

وإذا كان حديث "كتاب الله وسنّتي" صحيحاً، فلماذا خالفها أبو بكر في قتال مانعي الزكاة، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من قال لا إله إلاّ الله عصم منّي دمه وماله وحسابه على الله!"(2)؟.

وإذا كان حديث "كتاب الله وسنّتي" صحيحاً، فكيف جاز لأبي بكر وعمر ومن وافقهما من الصحابة أن يستبيحوا حرمة الزهراء، ويهجموا على بيتها مهدّدين بحرقها بمن فيها، ألم يسمعوا قول النبيّ فيها: "فاطمة بضعة منِّي من أغضبها فقد أغضبني ومن آذاها فقد آذاني"(3).

بلى والله لقد سمعوها ووعوها.

ألم يسمعوا قول الله تعالى: {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(4) التي نزلت فيها وفي بعلها وولديها؟(5) فهل كانت مودّة أهل البيت

____________

1- تذكرة الحفاظ 1: 3.

2- صحيح مسلم 1: 38 باختلاف، باب الأمر بقتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه.

3- صحيح البخاري 4: 210، (كتاب المناقب، باب مناقب قرابة رسول اللّه).

4- الشورى: 23.

5- ورد نزولها فيهم (عليهم السلام) في شواهد التنزيل للحسكاني 2: 191، المعجم الكبير

=>


الصفحة 199

____________

<=

11: 351، الدر المنثور 6: 7، الصواعق المحرقة 2: 487 الآيات النازلة فيهم، ذخائر العقبى: 25، ينابيع المودة 2: 325 وغيرها.

وذكر ابن حجر الهيتمي في الصواعق أيضاً: أخرج البزار والطبراني عن الحسن (رضي الله عنه) عن طرق بعضها حسان أنّه خطب خطبة من جملتها: "وأنا من أهل البيت الذين افترض الله عزّ وجلّ مودّتهم وموالاتهم، فقال فيما أنزل على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.

وهناك بعض الإثارات حول هذه الآية وتفسيرها نذكرها مع الإجابة عليها، منها القربى في الآية عامة ولا تختص بعليّ وفاطمة والحسنين (عليهم السلام)؟

وفيه إنّ الله تعالى لمّا أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقول للناس: (قل ما أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى) فلابدّ من أن تكون هذه القربى ذات خصوصية ومميزات جعلتهم مؤهلين لهذه الرتبة السامية، فليست الدعوة عامة، فإنّ مودة الأقرباء على إطلاقهم ليست ممّا يندب إليه في الإسلام، مضافاً إلى أنّ الروايات الواردة هي التي تقيّده وتفسّره، وقد فسّرته بهؤلاء (عليهم السلام).

ومنها السبب في استعمال كلمة "في القربى" بدل قوله: "لذوي القربى" وما شاكل؟

ويكفينا في الإجابة عليه ما ذكره الزمخشري في تفسيره حول هذه الآية: "فإن قلت: هلاّ قيل: "إلاّ مودة القربى أو المودة للقربى؟ وما معنى قوله: إلاّ المودة في القربى؟ قلت: جعلوا مكاناً للمودة ومقرّاً لها كقولك: لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى وحب شديد، تريد: أحبهم وهم مكان حبي ومحله. قال: وليست "في" بصلة للمودة كاللام إذا قلت: إلاّ المودة للقربى، إنّما هي متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلاّ المودة ثابتة في القرب ومتمكنة فيها".

ومنها: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يسأل أجراً على رسالته؟

وفيه أولا: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما طلب ذلك من تلقاء نفسه بل بأمر من الله تعالى

=>


الصفحة 200
هي ترويعهم وتهديدهم بالحرق، وضغط الباب على بطن فاطمة حتى أسقطت جنينها بأبي هي وأُمي؟!

وإذا كان حديث "كتاب الله وسنّتي" صحيحاً، فكيف استحلّ معاوية والصحابة الذين بايعوه وساروا في ركابه أن يلعنوا علياً ويسبوه على المنابر طيلة حكم بني أُمية، ألم يسمعوا أمر الله لهم بأن يصلّوا عليه كما يصلّون على النبيّ؟ ألم يسمعوا قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "من سبّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله"(1)؟!

____________

<=

حيث أمره وقال له: (قل ما أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى).

ثانياً: المقصود من الأجر الذي نفى الأنبياء أخذه إنّما هو الأجر المادي الذي يعود نفعه إلى صاحب الرسالة لتنافيه مع مقام الدعوة والرسالة، فما سأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر من الله لم يكن أجراً ماديّاً بل هو أجر معنوي وأُخروي يعود نفعه إلى الناس أنفسهم، وذلك لأنّ مودة ذي القربى تجر المحب إلى أن ينتهج سبيلهم في الحياة ويجعلهم اسوة في دينه ودنياه، وإلى هذا يشير ما جاء في دعاء الندبة: "ثمّ جعلت أجر محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) مودتهم في كتابك فقلت: "لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى"، وقلت: "ما سألتكم من أجر فهو لكم"، وقلت: "ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا" فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك".

وورد في الصواعق 2: 489 ما يدلّ على أنّ بعض الصحابة تضجّروا من فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال ابن حجر: "ونقل الثعلبي والبغوي عنه إنّه لما نزل قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى) قال قوم في نفوسهم: ما يريد إلاّ أن يحثنا على قرابته من بعده، فأخبر جبرئيل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّهم اتّهموه، فأنزل: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } فقال القوم: يا رسول الله إنّك صادق، فنزل: { هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ }.

1- نظم درر السمطين: 105، الجامع الصغير 2: 608 ح8736، كنز العمال 11: 573 ح32713، تاريخ دمشق 42: 533، وروى صدره الحاكم في المستدرك 3: 121 وصححّه ووافقه الذهبي، والنسائي في السنن الكبرى 5: 133، والنسائي في الخصائص ص 76 وقال محقّق الكتاب الحويني الأثري: "إسناده صحيح".


الصفحة 201
وإذا كان حديث "كتاب الله وسنّتي" صحيحاً، فلماذا غابت هذه السنّة على أكثر الصحابة، فجهلوها وأفتوا في الأحكام بآرائهم، وكذلك فعل أئمة المذاهب الأربعة الذين التجأوا للقياس، والاجتهاد، والإجماع، وسدّ باب الذرائع، والمصالح المرسلة، والاستصحاب، وصوافي الأمراء، وأخفّ الضررين وغير ذلك(1)؟!

فإذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترك "كتاب الله وسنّة نبيّه" ليعصمان الناس من الضلالة، فلا داعي لكلّ هذه الأُمور التي ابتدعها "أهل السنّة والجماعة"، فكلّ بدعة وضلالة، وكلّ ضلالة في النار، كما جاء في الحديث الشريف..!

ثمّ إنّ العقلاء وأهل المعرفة يلقون باللّوم على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أهمل سنّته ولم يعتن بها، ولم يأمر بتدوينها وحفظها، ومن ثمّ صيانتها من التحريف والاختلاف والوضع والاختلاق، ثمّ يقول للناس: "إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي: كتاب الله وسنّتي"!

أمّا إذا قيل لهؤلاء العقلاء بأنّه نهاهم عن كتابتها فسيكون عند ذلك هزؤاً; لأنّ ذلك ليس من أفعال الحكماء، إذ كيف ينهى المسلمين عن كتابة سُنته، ثمّ يقول لهم: تركت فيكم سنّتي؟!

أضف إلى كلّ ما تقدّم بأنّ كتاب الله المجيد، إذا أضفنا إليه السنّة النبويّة التي كتبها المسلمون عبر القرون، فإنّ فيها الناسخ والمنسوخ، وفيها الخاصّ

____________

1- جامع البيان: 275، باب اجتهاد الرأي على الاصول عند عدم النصوص.


الصفحة 202
والعام، وفيها المحكم والمتشابه، فهي شقيقة القرآن، غير أنّ القرآن كلّه صحيح; لأنّ الله سبحانه تكفّل بحفظه ولأنّه مكتوب، أمّا السنّة ففيها المكذوب أكثر من الصحيح، فالسنّة النبويّة هي قبل كلّ شيء محتاجة إلى المعصوم الذي يدلّ على صحيحها، ويطرح كلّ ما وضع فيها، وغير المعصوم لا يقدر على شيء من ذلك ولو كان عالماً علاّمة.

كما أنّ "القرآن والسنّة" معاً يفتقران إلى عالم متبحّر عارف بكلّ أحكامهما، مطلع على أسرارهما، لكي يبيّن للناس من بعد النبيّ ما اختلفوا فيه وما جهلوه.

ألم ترّ أنّ الله سبحانه أشار إلى أنّ القرآن الكريم يفتقر إلى مبين، فقال جلّ وعلا: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(1)؟ فلو لم يكن النبيّ يبيّن للناس ما نزل إليهم، لم يكونوا ليعرفوا أحكام الله ولو نزل القرآن بلغتهم!

وهذا أمر بديهي يعرفه كلّ الناس، ورغم نزول القرآن بفرائض الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، فالمسلمون في حاجة لبيان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو الذي أوضح كيفية أداء الصلاة، ومقدار نصاب الزكاة، وأحكام الصوم، ومناسك الحجّ، ولولاه لما عرف الناس من ذلك شيئاً.

وإذا كان القرآن الذي لا اختلاف فيه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بحاجة إلى مبيّن، فإنّ السنّة النبويّة أحوج من القرآن إلى من يبينها، وذلك لكثرة الاختلاف الذي حصل فيها، ولكثرة الدسّ والكذب الذي

____________

1- النحل: 44.


الصفحة 203
طرأ عليها، وإنّه من الطبيعي جداً، بل من الضروريات العقليّة أنْ يعتني كلّ رسول بالرسالة التي بعث بها، فيقيم عليها وصيّاً وقيّماً بوحي من ربّه حتى لا تضيع الرسالة بموته، ولأجل ذلك كان لكلّ نبيّ وصيّ.

ولكلّ ذلك أعدّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خليفته ووصيّه على أمّته عليّ بن أبي طالب، وربّاه منذ صغره بأخلاق النبوّة، وعلّمه في كبره علم الأولين والآخرين، وخصّه بأسرار لا يعرفها غيره، ودلّ الأُمّة عليه مراراً، وأرشدهم إليه تكراراً، فقال لهم: "إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي عليكم"(1)، وقال: "أنا خير الأنبياء وعليّ خير الأوصياء"(2) "وخير من أترك بعدي"(3)، وقال: "عليّ مع الحقّ والحقّ معه"(4)، و"عليّ مع القرآن والقرآن معه"(5)، وقال:

____________

1- هذا الحديث جزء من حديث الدار في بدء الدعوة وورد بألفاظ مختلفة، راجع تاريخ الطبري 2: 321، الكامل لابن الأثير 2: 63، تاريخ أبي الفداء 1: 175، شواهد التنزيل للحسكاني 1: 486، شرح النهج لابن أبي الحديد 13: 211، كنز العمال 13: 133 ح36419، عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم، وفيها التصريح بالعدد وأنّهم كانوا أربعين أو نحو هذا العدد.

2- في ينابيع المودة 3: 269 ح33 عن المناقب لابن المغازلي: 101 ح144، وفرائد السمطين 1: 92 ح61 ولفظه: "يا فاطمة منّا خير الأنبياء وهو أبوك، ومنّا خير الأوصياء وهو بعلك...".

3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 228، كنز العمال 11: 610 ح32952، شواهد التنزيل للحسكاني 1: 98، تاريخ دمشق 42: 57.

4- الأمالي للصدوق: 150 ح146، كفاية الأثر للخزاز القمي: 20، المناقب لابن شهرآشوب 2: 260، تاريخ دمشق 42: 449، الامامة والسياسة 1: 98، تاريخ بغداد 14: 322، ومجمع الزوائد 7: 235 وقال: "رواه البزار وفيه سعد بن شعيب ولم أعرفه، وبقيّة رجاله رجال الصحيح".

قال الشيخ الأميني: "الرجل الذي لم يعرفه الهيثمي هو سعيد بن شعيب الحضرمي، قد خفي عليه لمكان التصحيف، ترجمه غير واحد بما قال شمس الدين إبراهيم الجوزجاني: إنّه كان شيخاً صالحاً صدوقاً كما في خلاصة الكمال 118، وتهذيب التهذيب 4: 48" الغدير 3: 177.

=>


الصفحة 204
"أنا قاتلت على تنزيل القرآن وعليّ يقاتل على تأويله"(1)، "وهو الذي

____________

<=

وورد عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "رحم اللّه علياً اللّهم أدر الحقّ معه حيث دار" أخرجه الترمذي في السنن 5: 297، وأبو يعلى في المسند 1: 419، ح550، الطبراني في الأوسط 6: 95، والحاكم في المستدرك 3: 124 وابن عساكر في تاريخ دمشق 30: 63 و42: 448 و44: 139. وصحّح هذا الحديث كلّ من الحاكم في المستدرك وأبو منصور ابن عساكر الشافعي في "الأربعين في مناقب أُمهات المؤمنين: 86 ح24"، والسيوطي في الجامع الصغير كما في فيض القدير 4: 25.

وأرسله الفخر الرازي إرسال المسلّمات فقال في تفسيره: "ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قوله (عليه السلام): اللّهم أدر الحقّ مع عليّ حيث دار" تفسير الرازي 1: 210.

وقال أبو القاسم البلخي وتلامذته: "قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنّه قال: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور حيثما دار" ووافقهم ابن أبي الحديد على ذلك في شرح نهج البلاغة 2: 296 ـ 297.

5- المعجم الأوسط للطبراني 5: 135، الجامع الصغير للسيوطي 2: 177 ح5594، المناقب للخوارزمي: 177 ح214، المستدرك للحاكم 3: 124 وصحّحه ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك، كنز العمال 11: 603 ح32912.

1- ينابيع المودة 2: 235 عن الفردوس 1: 46 ح15، وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5: 639 ح2487 ولفظه: "إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر، فقال: لا، ولكنه خاصف النعل، يعني عليّاً". ومثله المستدرك للحاكم 3: 123 وصحّحه ووافقه الذهبي، مجمع الزوائد 9: 133 وقال: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة) وصحيح ابن حبان 15: 385.


الصفحة 205
يبيّن لأُمتي ما اختلفوا فيه من بعدي"(1)، وقال: "لا يؤدّي عنّي إلاّ عليّ"(2) "وهو ولي كلّ مؤمن بعدي"(3) وقال: "عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى"(4)، "عليّ مني وأنا منه"(5) "وهو باب علمي"(6).

____________

1- تاريخ دمشق 42: 387، ينابيع المودة 2: 86، المستدرك للحاكم 3: 122 وصحّحه، كنز العمال 11: 615، شواهد التنزيل 1: 383.

2- السنن الكبرى للنسائي 5: 128 ح8458، تاريخ دمشق 42: 345 وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير 2: 753 ح4091. وورد الحديث مع زيادة فيه إذ جاء فيه عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عنّي إلاّ أنا أو علي" صححه الترمذي في سننه 5: 300، وحسنه الذهبي في سير أعلام النبلاء 8: 212، وصححه الألباني في تعليقه على سنن ابن ماجة 1: 75، والحويني الاثري في الخصائص 67، ومسند أحمد وأشار محقق الكتاب أحمد حمزة الزين إلى صحته 13: 394.

3- كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 550 ح1187، وقال الألباني محقّق الكتاب: إسناده صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم، والحديث أخرجه الترمذي 2: 297 وابن حبان (2203) والحاكم 3: 110، وأحمد 4: 437... وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي.

4- صحيح مسلم 7: 120، سنن الترمذي 5: 302 ح3808، المستدرك 2: 337.

5- أورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5: 261 ح2223 وقال: أخرجه الترمذي (3713) والنسائي في الخصائص (ص13 و16 و17) وابن حبان (2203) والحاكم (3: 110) والطيالسي في مسنده (829) وأحمد (4: 437) وابن عدي في الكامل (2: 568).

6- المناقب للخوارزمي: 129، ينابيع المودة 1: 200، كنز العمال 11: 614 ح32981، كشف الخفاء للعجلوني 1: 204، وورد الحديث بلفظ: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها" قال السيوطي في تاريخ الخلفاء 131: "وأخرج البزّار والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد اللّه وأخرج الترمذي والحاكم عن علي قال: قال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها" هذا حديث حسن على الصواب، لا صحيح كما قال الحاكم ولا موضوع كما قاله جماعة منهم ابن الجوزي والنووي، وقد بيّنت حاله في التعقيبات على الموضوع".

=>


الصفحة 206

____________

<=

وقال السيّد حسن السقّاف في تحقيقه على كتاب تناقضات الألباني الواضحات 3: 82: "صحّ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها" صحّحه الحافظ ابن معين كما في تاريخ بغداد 11: 49، والإمام الحافظ ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار مسند سيّدنا عليّ: 104، حديث 8، والحافظ العلائي في النقد الصحيح، والحافظ ابن حجر والحافظ السيوطي كما في اللالئ المصنوعة 1: 334، والحافظ السخاوي كما في المقاصد الحسنة"، كما ألّف العلاّمة أحمد ابن الصديق المغربي كتاباً خاصاً في تصحيح الحديث المذكور أسماه (فتح الملك العلي بصحة حديث بأنّ مدينة العلم علي).

ثمّ قال التيجاني بعد سرد هذه الأحاديث: "كل هذه الأحاديث صحيحة عند أهل السنّة والجماعة أخرجها علماؤهم وصحّحوها، وقد ذكرنا في الكتب السابقة ومن أراد المصادر فعليه بكتاب المراجعات بتحقيق حسين الراضي". ونحن بدورنا قمنا بذكر بعض مصادر هذا الأحاديث وذكرنا ما عثرنا عليه ممّن صحّحها وما فاتنا أكثر.

وبعد ما عرفنا مصادر الأحاديث والمصحّحين لها من العلماء والحفاظ نعرف بأنّ ما ذكره عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني: 178 غير صحيح بتاتاً، بل بتر الكلام وحاول تشويه صورة الأحاديث بكلّ ما أوتي من قوّة نصب وعداء لأهل البيت (عليهم السلام) ولعلي بن أبي طالب خاصّة، ولإثبات ذلك نتعرض لبعض ما ذكره حول بعض الأحاديث:

1 ـ ضعّف حديث: (علي مع الحقّ والحقّ معه)، وأورد كلام الهيثمي في المجمع ولم يحققه بين سعد بن شعيب، وسعيد بن شعيب.

أضف إلى ذلك أنّ الحديث ورد بطرق أُخرى غير طريق الهيثمي في المجمع، وقد ذكرنا طرقه في الصفحة السابقة.

2 ـ حديث: (علي مع القرآن والقرآن معه) ضعّفه بذكر رواية الطبراني فقط، مع أنّ الحديث رواه الحاكم في المستدرك وصحّحه ووافقه الذهبي على ذلك. وسنده لا غباره عليه.

3 ـ حديث: (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ضعّفه مع أنّ الحديث صحّحه الألباني والحاكم والذهبي والهيثمي وغيرهم.

4 ـ حديث: (علي منّي وأنا منه) أوهم القارئ أنّه ضعيف وأرجعه إلى ردّه على كتاب "ثمّ اهتديت"، مع أنّه في ردّه على كتاب "ثمّ اهتديت" لم يتعرّض لحديث (علي منّي وأنا منه)، ولم يذكره أصلا!!

وهكذا تعرف أنّ عثمان الخميس في كلامه لا يرتكز على موازين علمية، وإنّما يلقي الكلام على عواهنه تعصّباً لعقيدة النواصب من بني أُميّة وغيرهم.


الصفحة 207
وقد ثبت بالدليل العلمي وبالتاريخ، وما كتبه أصحاب السير بأنّ عليّاً كان المرجع الوحيد لكلّ الصحابة عالمهم وجاهلهم، ويكفي أن يعترف "أهل السنّة" بأنّ عبد الله بن عباس ـ والذي لقبوه بحبر الأُمّة ـ تلميذه وخريجه، كما يكفي دليلا أنّ كلّ العلوم التي عرفها المسلمون تنسب إليه (عليه السلام)(1).

____________

1- راجع في ذلك مقدمة ابن أبي الحديد على شرح نهج البلاغة.

وقال الحافظ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب: 225: "ويقال: هو البطين من العلم لغزارة علمه وفطنته وحدّة فهمه، كان عنده لكلّ معضلة عتاداً، ورزق خشية الله عزّ وجلّ، ولهذا كان أعلم الصحابة، ويدلّ على أنّه كان أعلم الصحابة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال: فهو أنّ عليّاً (عليه السلام) كان في أصل الخلقة في غاية الذكاء والفطنة والاستعداد للعلم، وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الفضلاء وخاتم الأنبياء، وكان عليّ في غاية الحرص على طلب العلم، وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في غاية الحرص على تربيته وإرشاده إلى اكتساب الفضائل، ثمّ إنّ عليّاً بقي في أوّل عمره في حجر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي كبره صار ختناً له، وكان يدخل عليه في كلّ الأوقات، ومن المعلوم إنّ التلميذ إذا كان في غاية الحرص والذكاء في التعليم، وكان الاُستاذ في غاية الحرص على التعليم، ثمّ اتفق لهذا التلميذ أن اتّصل بخدمة مثل هذا الاستاذ من زمن الصغر، وكان ذلك الاتصال بخدمته حاصلا في كلّ الأوقات، فإنّه يبلغ التلميذ في العلم مبلغاً عظيماً ويحصل له ما لا يحصل لغيره.

=>


الصفحة 208

____________

<=

هذا بيان إجمالي... وأمّا التفصيل فيدلّ عليه وجوه: الأوّل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أقضاكم عليّ"، والقاضي محتاج إلى جميع أنواع العلوم، فلمّا رجّح على الكلّ في القضاء لزم ترجيحه عليهم في جميع العلوم، أمّا سائر الصحابة فقد رجّح كلّ واحد منهم على غيره في علم واحد، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفرضكم زيد، وأقرأكم أُبيّ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل... فلمّا ذكر لكلّ واحد فضيلة وأراد أن يجمعها لابن عمّه بلفظ واحد كما ذكر لأولئك، ذكره بلفظ يتضمّن جميع ما ذكره في حقّهم، وإنّما قلنا ذلك لأنّ الفقيه لا يصلح لمرتبة القضاء حتى يكون عالماً بعلم الفرائض والكتاب والسنّة والكتابة والحلال والحرام ويكون مع ذلك صادق اللهجة، فلو قال: قاضيكم عليّ كان متضمناً لجميع ما ذكر في حقّهم، فما ظنّك بصيغة أفعل التفضيل..." ثمّ ذكر بعض الشواهد الدالة على أعلميته (عليه السلام).

ونقل المناوي في فيض القدير 6: 361 عن البسطامي أنّه قال: "أنّ عليّاً من أعلم الصحابة بدقائق العلوم ولطائف الحكم". وقال أحمد بن الصديق المغربي في فتح الملك العليّ: 65: "وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان أعلم الصحابة على الإطلاق كما هو معلوم مشهود ومستفيض متواتر، حتى ضربوا باشتهار علمه المثل للتواتر المعنوي" ثمّ ذكر قول الحافظ موفق الدين ابن قدامة في كتابه "اثبات صفات العلو لله" حيث استشهد للتواتر المعنوي بشجاعة عليّ (عليه السلام).

ثمّ يكفينا في إثبات أعلميّته المطلقة كونه الثقل الثاني وعدل القرآن والعاصم من الضلال.


الصفحة 209
وعلى سبيل الافتراض لو تعارض حديث "كتاب الله وسنّتي" مع حديث "كتاب الله وعترتي" لوجب تقديم الثاني على الأوّل، أعني تقديم "عترتي" على "سنّتي"، ليتسنّى للمسلم العاقل الرجوع إلى أئمة أهل البيت الطاهرين كي يبينوا له مفاهيم القرآن والسنّة.

أمّا لو أخذ بحديث "كتاب الله وسنّتي" فسوف يبقى محتاراً في كلّ من القرآن والسنّة، ولا يجد المرجع الموثوق الذي يبيّن له الأحكام التي لم يفهمها، أو الأحكام التي اختلف فيها العلماء اختلافاً كبيراً، وقال فيها أئمة المذاهب أقوالا متعدّدة أو متناقضة.

ولا شكّ بأنّه لو أخذ بقول هذا العالم أو ذاك، أو اتبع رأي هذا المذهب أو ذاك، فإنّما يتبعه ويأخذ منه بدون دليل على صحة هذا وبطلان ذاك، وإنّ قبول هذا المذهب ورفض ذاك هو تعصّب أعمى وتقليد بدون حجّة.

قال الله تعالى في هذا المعنى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}(1). وأضرب لذلك مثالا واحداً حتى يعرف القارئ الكريم صدق الحديث، ويتبيّن له الحقّ من الباطل.

لو أخذنا القرآن الكريم، وقرأنا فيه آية الوضوء وقول الله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}(2)، فهمنا منها لأوّل وهلة مسح الأرجل كمسح الرؤوس، وإذا نظرنا إلى فعل المسلمين نجدهم مختلفين في

____________

1- يونس: 36.

2- المائدة: 6.


الصفحة 210
ذلك. "فأهل السنّة والجماعة" كلّهم يغسلون، والشيعة كلّهم يمسحون.

فنُصاب عند ذلك بالحيرة والشك، أيهما الصحيح؟

ونرجع إلى العلماء من "أهل السنّة والجماعة" ومفسّريهم، فنجدهم مختلفين في هذا الحكم على حسب ما يروونه من أن هناك قراءتين "أرجلَكم بالنصب" و "أرجلِكم بالجرّ".

ثمّ يُصحّحون القراءتين ويقولون: من قرأ بالنصب فقد أوجب الغسل، ومن قرأ بالجر فقد أوجب المسح.

ثمّ يطلع علينا عالم ثالث متبحّر في اللغة العربية من علماء السنّة(1) فيقول: إنّ قراءة النصب وقراءة الجرّ توجبان المسح; لأنّ الأرجل إمّا تكون منصوبة على المحل أو تكون مجرورة بالجوار، ثمّ يقول بأنّ القرآن جاء بالمسح، وجاءت السنّة بالغسل.

وأنت كما ترى أيّها القارئ بأنّ علماء "السنّة والجماعة" لم يزيلوا حيرتنا باضطراب أقوالهم، بل قد ضاعفوا شكّنا لقولهم بأنّ السنّة خالفت القرآن، وحاشا للنبيّ أن يخالف القرآن ويغسل رجليه في الوضوء.

ولو غسل النبيّ رجليه في الوضوء لما جاز لكبار الصحابة مخالفته، وهم من هم في العلم والمعرفة والقرب منه أمثال علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن والحسين، وحذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وكلّ

____________

1- هو الفخر الرازي في تفسيره الكبير 4: 305 سورة المائدة، آية: 6. وفي الدر المنثور 2: 262 وكذلك كنز العمال 9: 434 ح26852 عن الشعبي قال: نزل القرآن بالمسح وجرت السنّة بالغسل.


الصفحة 211
الصحابة الذين قرأوا بالجرّ، وهم أغلب القراء الذين أوجبوا المسح، وكلّ الشيعة الذين اقتدوا بالأئمّة من العترة الطاهرة قالوا بوجوب المسح.

فما هو الحل؟!

ألم ترَ أيّها القارئ العزيز بأنّ المسلم سيبقى محتاراً في شكّه، وبدون الرجوع إلى من يعتمد عليه فسوف لا يعرف وجه الصواب، ولا يدري ما هو حكم الله الصحيح من المكذوب عليه؟

وقد تعمّدت أن أضرب لك هذا المثال من القرآن الكريم أيّها القارئ العزيز، حتى تعرف مدى الاختلاف والتناقض الذي يتخبط فيه علماء المسلمين من "أهل السنّة والجماعة" في أمر كان يفعله النبيّ عدّة مرّات في كلّ يوم وطيلة ثلاثة وعشرين عاماً.

وكان من المفروض أن يعرفه الخاصّ والعام من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا بالعلماء عند "أهل السنّة" يختلفون في القراءات، فينصبون ويجرون، ويرتبون على ذلك أحكاماً متضاربة!

وللعلماء في تفسير كتاب الله، وترتيب الأحكام على حسب القراءات المتعدّدة، اختلافات كثيرة لا تخفى على الباحثين.

وإذا كان اختلافهم في كتاب الله ظاهراً، فهو في السنّة النبويّة أظهر وأكثر.

فما هو الحلّ إذن؟

إذا قلت بوجوب الرجوع إلى من يعتمد عليه في شرح وبيان الأحكام الصحيحة من القرآن والسنّة، فسوف نطالبك بالشخص العاقل المتكلم; لأنّ

الصفحة 212
القرآن والسنّة لا يعصمان من الضلالة، فهما صامتان لا يتكلّمان(1)،(2) ويحملان عدّة وجوه كما قدّمنا في آية الوضوء، ولقد اتفقنا عزيزي القارئ على وجوب تقليد العلماء العارفين بحقائق القرآن والسنّة، وبقي الخلاف بيننا فقط في معرفة هؤلاء العلماء العارفين بحقائق القرآن والسنّة.

____________

1- وهذا هو السرّ في وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالثقلين من بعده وعدم افتراقهما إلى يوم القيامة وأنّ المتمسّك بهما لا يضل، فالقرآن والسنّة الصحيحة في كفّة وهما يعتبران المادة الأُولى للشريعة، والعترة (عليهم السلام) في كّفة أُخرى حيث تكون وهي الشارحة والمبيّنة والناطقة باسم القرآن والسنّة، ولذا قال عليّ (عليه السلام) قبل قضية التحكيم يوم صفين: "أنا القرآن الناطق" (ينابيع المودة 1: 214 ح20).

2- يدلّ على كلام المؤلّف حديث الثقلين المتواتر كما تقدم والذي ورد فيه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً; كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي..." حيث بيّن أنّ الإنسان يعصم من الضلال إذا تمسّك بالقرآن الكريم وأهل البيت المطهّرين، ومن أخلّ بأحدهم فقد وقع في الضلال. والقرآن الكريم الوارد في الحديث المراد به كتاب اللّه والسنّة النبويّة المطهّرة التي هي شارحة ومفّسرة له كما قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إني أُتيت القرآن ومثله معه".

وحديث الثقلين الذي جعل ميزاناً للضلالة والهدى أُمرنا فيه بالتمسّك بشيء صامت وهو كتاب اللّه، وبشيء ناطق وهم أهل البيت المطهّرين. إذ إنّ الناطق وهم أهل البيت المطهّرين هم الذي يرجع إليهم عند الاختلاف في حكم اللّه وشرعه; لأنّهم الجزء الثاني من ميزان الهداية المبيّن في حديث الثقلين. وهذا ما قصده المؤلّف بكلامه.

وبذلك يتضح أنّ ما ذكره عثمان الخميس في كشف الجاني:181 ما هو إلاّ تخبّط وعدم فهم لما قصده المؤلّف، وعدم تمييز بين الهداية التي يبحث فيها المؤلّف، وبين الهداية التي ذكرتها الآيات القرآنية الكريمة. وتوضيحها يحتاج إلى تفصيل لا تسعه هذه الصفحات، وما ذكرناه فيه توضيح إجمالي لما قد يتوهّم.


الصفحة 213
فإذا قلت بأنّهم علماء الأُمّة وعلى رأسهم الصحابة الكرام، فقد عرفنا اختلافهم في آية الوضوء وفي غيرها من المسائل، كما عرفنا بأنّهم تقاتلوا وكفّر بعضهم بعضاً، فلا يمكن الاعتماد عليهم جميعاً، وإنّما يعتمد على المحقّين منهم دون المبطلين ويبقى المشكل قائماً.

وإذا قلت بالرجوع إلى أئمة المذاهب الأربعة، فقد عرفت بأنّهم اختلفوا أيضاً في أكثر المسائل، حتى قال بعضهم بكراهة البسملة في الصلاة، وقال بعضهم ببطلان الصلاة بدونها، وقد عرفت أحوال هذه المذاهب وأنّها من صنائع الحكّام الظالمين، وعرفت أيضاً بأنّهم بعيدون عن عهد الرسالة، ولم يعرفوا الصحابة فضلا عن النبيّ نفسه.

فلم يبق أمامنا إلاّ حلّ واحد لا ثاني له، ألا وهو الرجوع الى أئمة العترة من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، العالمين العاملين الذين لم يلحقهم أحد في علمهم وورعهم، وحفظهم وتقواهم، فهم المعصومون عن الكذب والخطأ بنصّ القرآن الكريم(1)، وعلى لسان النبيّ العظيم(2).

فقد أورثهم الله علم الكتاب بعد أن اصطفاهم، وعلّمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ ما يحتاجه الناس، ودلّ الأُمّة عليهم بقوله: "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة

____________

1- قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

2- قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، فكما أنّ كتاب الله معصوم عن الخطأ فكذلك العترة الطاهرة، فغير المعصوم لا يضمن الهداية والذي يجوز عليه الخطأ هو في حاجة إلى الهداية.


الصفحة 214
نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق"(1) وقد قال ابن حجر وهو من علماء "أهل السنّة والجماعة" في شرح هذا الحديث بعد أن صحّحه:

"ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرفهم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان"(2).

أضف إلى ذلك أنّك لا تجد عالماً في الأُمّة الإسلامية قديماً وحديثاً من عهد الصحابة إلى اليوم، من ادّعى لنفسه أنّه أعلم أو أفضل من أئمة العترة النبويّة الطاهرة، كما أنّك لا تجد في الأُمّة قاطبة أحداً ادّعى بأنّه علّم واحداً من أئمة أهل البيت أو أرشدهم لأمر ما.

وإذا أردت أيّها القارئ مزيداً من البيان والتفصيل فعليك بقراءة "المراجعات" و"الغدير".

وما قدّمته أنا إليك فيه الكفاية إن كنت من المنصفين، فحديث "تركت فيكم كتاب الله وعترتي" هو الحقّ الذي يسلم به العقل والوجدان، وتثبته السنّة والقرآن.

وبكلّ هذا يتبيّن لنا مرّة أُخرى بالأدلّة الواضحة التي لا تدفع بأنّ الشيعة الإماميّة هم أهل السنّة النبويّة الحقيقة، وأنّ "أهل السنّة والجماعة" قد

____________

1- المستدرك للحاكم 2: 343 وصحّحه على شرط مسلم، المعجم الصغير 2: 22 والأوسط 5: 355، والكبير 3: 45 ح2638، الجامع الصغير للسيوطي 2: 533 ح8162، الدر المنثور 3: 334، تاريخ بغداد 12: 90 ح6507، الصواعق 2: 445 وقال: وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً.

2- الصواعق المحرقة 2: 446، الآية السابعة من الآيات النازلة فيهم.


الصفحة 215
أطاعوا ساداتهم وكبراءهم، فأضلوهم السبيل وتركوهم في ظلمات يعمهون، وأغرقوهم في بحر كفر النعم، وأهلكوهم في مفاوز الطغيان، على حدّ تعبير ابن حجر الشافعي.

"والحمدُ لله ربّ العالمين على هدايته لعباده المخلصين".


الصفحة 216