الصفحة 217

مصادر التشريع عند الشيعة


المتتبّع لفقه الشيعة الإمامية يجدهم ينقطعون في كلّ الأحكام الفقهية ـ إلاّ المستحدثة(1) ـ إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام).

وهؤلاء عندهم مصادر التشريع اثنان لا ثالث لهما:

الكتاب والسنّة، أعني المصدر الأوّل هو القرآن الكريم، والمصدر الثاني هو السنّة النبويّة الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.

وهذه هي أقوال الشيعة قديماً وحديثاً، بل هي أقوال الأئمة من أهل البيت الذين لم يدّع واحد منهم أنّه اجتهد برأيه أو حكم حكماً من عنده.

فهذا الإمام الأوّل علي بن أبي طالب عندما اختاروه للخلافة، واشترطوا عليه أن يحكم فيهم بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر، قال: لا أحكم إلاّ بكتاب الله وسنّة رسوله(2).

____________

1- ونقصد بها اجتهاد العلماء في ما لا نصّ فيه والذي حدث بعد غيبة الإمام الثاني عشر (المؤلّف).

2- وفي بعض الروايات قال: "وما عداهما فأجتهد رأيي" وهي زيادة مكذوبة من أصحاب الاجتهاد وأنصاره; لأنّ الإمام عليّاً لم يدّع يوماً بأنّه اجتهد برأيه، بل كان دائماً يستنبط الأحكام من كتاب الله وسنّة رسوله، أو كان يقول: عندنا الجامعة وفيها كلّ ما يحتاجه الناس حتى أرش الخدش، وهذه الصحيفة هي من إملاء رسول الله وخطّ علي، وقد مرّ الكلام عن الصحيفة الجامعة في فصل "أهل السنّة ومحق السنّة" من هذا الكتاب (المؤلّف).


الصفحة 218
وسنوضح في أبحاث لاحقة بأنّه (عليه السلام) كان دائماً يتقيّد بسنّة النبيّ ولا يحيد عنها أبداً، ويحاول بكلّ جهوده إرجاع الناس إليها، حتى سبب له ذلك غضب الخلفاء، ونفور الناس منه لشدّته في ذات الله، وتشبّثه بسنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله).

كما أنّ الإمام الباقر (عليه السلام) كان يقول دائماً:

"لو حدّثناكم برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا، ولكنّا نحدّثكم ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه فبيّنها نبيّه لنا"(1).

وقال مرّة أُخرى: "يا جابر، إنّا لو كنا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم"(2).

وهذا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يقول:

"والله ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا، ولا نقول إلاّ ما قال ربنا"(3) "فمهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله، لسنا نقول برأينا من شيء"(4).

وأهل العلم والمحقّقون يعرفون ذلك من أئمة أهل البيت، فلم يسجّلوا عن أحدهم القول بالرأي، ولا بالقياس، ولا بالاستحسان، أو بشيء غير القرآن والسنّة.

وحتى إذا رجعنا للمرجع الكبير المعاصر الشهيد آية الله محمّد باقر

____________

1- بصائر الدرجات: 319 ح2.

2- المصدر نفسه: 319 ح1.

3- المصدر نفسه: 320 ح7.

4- المصدر نفسه: 321 ح8.


الصفحة 219
الصدر ـ رضوان الله عليه ـ نجده في رسالته العملية لفقه العبادات والمعاملات في الفتاوى الواضحة يقول حرفياً:

"ونرى من الضروري أن نشير أخيراً بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدناها بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة، وهي كما ذكرنا في مستهل الحديث عبارة عن الكتاب الكريم، والسنّة الشريفة المنقولة عن طريق الثقات المتورّعين في النقل مهما كان مذهبهم(1). أمّا القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوغاً شرعياً للاعتماد عليها.

وأمّا ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدّثون في أنّه هل يسوغ العمل به أولا، فنحن وإن كنّا نؤمن بأنّه يسوغ العمل به، ولكنّا لم نجد حكماً واحداً يتوقّف إثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى، بل كلّ ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنّة.

وأمّا ما يسمّى بالإجماع فهو ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنّة، وإنّما لا يعتمد عليه إلاّ من أجل كونه وسيلة إثبات في بعض الحالات.

وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنّة، ونبتهل إلى الله أن يجعلنا من المتمسّكين بهما: "ومن استمسك بهما فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم"(2).

نعم، ونجد هذه الظاهرة هي السائدة عند الشيعة قديماً وحديثاً، ولا

____________

1- انظر إلى علماء الشيعة كيف يأخذون عن الثقات المتورّعين مهما كان مذهبهم، وهو ردّ على القائلين بأنّ الشيعة لا يثقون بالصحابة، وإنّما يرفض الشيعة حديث الصحابي إذا تعارض مع ما يرويه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (المؤلّف).

2- الفتاوى الواضحة للشهيد محمد باقر الصدر: 15.


الصفحة 220
يعتمد عندهم إلاّ على الكتاب والسنّة، ولا نجد لأحدهم فتوى واحدة ناتجة عن القياس أو الاستحسان، وقصة الإمام الصادق مع أبي حنيفة معروفة، وكيف أنّه نهاه عن القياس، وقال له فيما قال: "لا تقس في دين الله فإنّ الشريعة إذا قيست محقت، وإنّ أوّل من قاس إبليس عندما قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"(1).

هذه هي مصادر التشريع عند الشيعة من عهد علي بن أبي طالب وإلى يومنا هذا، فما هي مصادر التشريع عند (أهل السنّة والجماعة)؟

____________

1- الكافي 1: 58، الأمالي للطوسي: 645 ح8133، باختلاف في الألفاظ.


الصفحة 221

مصادر التشريع عند " أهل السنّة والجماعة "


وإذا تتبّعنا مصادر التشريع عند "أهل السنّة والجماعة"، وجدناها كثيرة تتعدّى حدود الكتاب والسنّة التي رسمها الله ورسوله، فالمصادر عندهم بالإضافة إلى الكتاب والسنّة هي: سنّة الخلفاء الراشدين، وسنّة الصحابة، وسنّة التابعين وهم علماء الأثر، وسنّة الحكّام ويسمّونها صوافي الأمراء، ثمّ القياس، والاستحسان، والإجماع، وسدّ باب الذرائع.

وهي كما ترى عشرة مصادر عندهم كلّها تتحكّم في دين الله، وحتى لا نتكلّم بدون دليل ونُلقي الكلام على عواهنه، أو يتهمنا البعض بالمُبالغة لابدّ من إعطاء بعض الأدلّة من أقوالهم وكُتبهم كي يتبيّن للقارئ الكريم ذلك واضحاً.

ونحن لا نُناقش (أهل السنّة والجماعة) في المصدرين الأولين المتمثّلين في الكتاب والسنّة، فهو أمر لا خلاف فيه، بل هو الواجب الذي جاء به النقلُ والعقلُ والإجماع، وهو من باب قوله تعالى: { مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }(1) وقوله: { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ }(2) وقوله: {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ}(3) وغيرها من الآيات البينات الدالّة على وجوب تشريع

____________

1- الحشر: 7.

2- المائدة: 92.

3- الأحزاب: 36.


الصفحة 222
الأحكام من كتاب الله وسنّة رسوله فقط، ولكن نقاشنا معهم في المصادر الأُخرى التي أضافوها من عندهم.

أوّلا: سنّة الخلفاء الراشدين:

فقد احتجّوا بحديث "عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديّين الراشدين تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ"(1).

وقد بيّنا في كتاب "مع الصادقين" بأنّ المقصود من الخلفاء الراشدين في هذا الحديث هم أئمة أهل البيت، وأضيف هنا بعض الأدّلة الأُخرى لمن فاته ذلك البحث.

أخرج البخاري ومسلم وكل المحدّثين بأنّ رسول الله حصر خلفاءه في اثني عشر، فقال: "الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش"(2) فدلّ هذا الحديث الصحيح على أنّ المقصود هم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وليسوا الخلفاء "الحكّام" الذين اغتصبوا الخلافة.

ولقائل أن يقول: سواء أكان المقصود بالخلفاء أئمة أهل البيت الاثني عشر كما يقول الشيعة، أم الخلفاء الراشدين الأربعة كما يقول "أهل السنّة"، فإنّ مصادر التشريع ثلاثة: القرآن، والسنّة، وسنّة الخلفاء؟

وهذا صحيح على رأي "أهل السنّة"، ولكنّه لا يصحّ على رأي الشيعة; لأنّ أئمة أهل البيت كما قدّمنا لم يكونوا يشرّعون باجتهادهم وآرائهم، بل

____________

1- مسند أحمد 4: 126، سنن الدارمي 1: 45، سنن ابن ماجة 1: 16 ح42، سنن أبي داد 2: 393 ح4607.

2- مضى تخريجه في صفحات سابقة. راجع موضوع "التعريف بأئّمة الشيعة".


الصفحة 223
كلّ ما قالوه هو سنّة جدّهم رسول الله، تعلّموها منه واحتفظوا بها كي يظهروها للنّاس إذا اقتضت الحاجة ذلك.

أمّا "أهل السنّة والجماعة" فقد حفلت كتبهم بالاستدلال بسنّة أبي بكر وسنّة عمر كمصدر للتشريع الإسلامي ولو خالفت الكتاب والسنّة.

وممّا يزيدنا يقيناً بأنّ أبا بكر وعمر غير مقصودين بحديث النبيّ; أنّ عليّاً رفض أن يحكم بسنّتهم عندما اشترط عليه الصحابة ذلك.

فلو كان الرسول يقصد بالخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر لما جاز لعلي أن يردّ على رسول الله ويرفض سنّتهم، فدلّ الحديث على أنّ الخلفاء الراشدين ليس منهم أبو بكر ولا عمر.

على أنّ "أهل السنّة والجماعة" يقصدون بالخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان دون سواهم; لأنّ علياً لم يكن معدوداً عندهم من الخلفاء، وإنّما أُلحقَ في زمن متأخّر كما قدّمنا(1)، ولأنّه كان يُلعنُ على المنابر فكيف يتّبعون سنّته؟!

وإذا قرأنا ما رواه جلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء تحقّق لدينا صحّة ما ذهبنا إليه.

قال السيوطي نقلا عن حاجب بن خليفة: شهدتُ عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة، فقال في خطبته:

"ألا إنّ ما سنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحباهُ فهو دينٌ نأخذ به وننتهي إليه،

____________

1- قد مضى تخريجه في صفحات سابقة. راجع موضوع "أهل السنّة لايعرفون السنّة النبوية".


الصفحة 224
وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه"(1).

والحقيقة أنّ جلّ الصحابة والحكّام الأمويّين والعبّاسيين كانوا يرون أنّ ما سنّ أبو بكر وعمر وعثمان هو دينٌ يأخذون به وينتهون إليه.

وإذا عمل هؤلاء الخلفاء الثلاثة على منع سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما عرفنا ذلك فيما سبق، فلا يبقى بعد ذلك من السنّة إلاّ ما سنّوه، ومن الأحكام إلاّ ما أحكموه.

ثانياً: سنّة الصحابة عموماً:

إنّنا نجد أدلّة كثيرة وشواهد عديدة على اقتداء "أهل السنّة والجماعة" بسنّة الصحابة عموماً بدون اسثناء.

فهم يحتجّون بحديث مكذوب وافينا البحث فيه في كتاب "مع الصادقين"، والحديث يقول: "أصحابي كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم"، وقد احتجّ ابن القيم الجوزية بهذا الحديث على حجيّة رأي الصحابي(2).

وقد اعترف بهذه الحقيقة أيضاً الشيخ أبو زهرة إذ قال: "لقد وجدناهم (يعني فقهاء أهل السنّة) جميعاً يأخذون بفتوى الصحابي" ثمّ يُضيف في مقطع آخر قوله:

____________

1- تاريخ الخلفاء للسيوطي: 241 ـ ط / القاهرة.

2- احتج ابن القيم في أعلام الموقعين 4: 137 بنحو هذا الحديث وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد... وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى اُمتي ما يوعدون".

وأما الاحتجاج بحديث "أصحابي كالنجوم" فقد أورده في كتابه أيضاً 2: 183 عن لسان المقلّد في مناظرة جرت بين مقلّد وصاحب حجة.


الصفحة 225
"والاحتجاج بأقوال الصحابة وفتاويهم هو مسلك جماهير الفقهاء، وخالفهم الشيعة(1) ولكنّ ابن القيم الجوزية أيّد الجمهور بنحو ستّة وأربعين وجهاً وكلّها حُجج قويّة...".

ونحن نقول للشيخ أبي زهرة: كيف تكون الحجّة التي تخالف كتاب الله وسنّة رسوله قويّة؟!

فكلّ الحجج التي جاء بها ابن القيم واهية كبيت العنكبوت، وأنتَ بنفسك قد نسفتها عندما قلتَ:

"ولكنّنا وجدنا الشوكاني يقول: والحقّ أنّ قول الصحابي ليس بحجّة، فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس لنا إلاّ رسول واحد، والصحابة ومن بعدَهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه في الكتاب والسنّة، فمن قال بأنّه تقوم الحجّة في دين الله بغيرهما، فقد قال في دين الله بما لا يُثبتُ، وأثبتَ شرعاً لم يأمر الله به"(2).

فتحيّةً إلى الشوكاني الذي قال حقّاً ونطق صدقاً، ولم يتأثّر بالمذهب، فكان قوله موافقاً لأئمة الهدى من العترة الطّاهرة ورضي الله عنه وأرضاه إن كانت أعماله مطابقة لأقواله.

ثالثاً: سنّة التابعين (علماء الأثر):

كذلك نجد "أهل السنّة والجماعة" يأخذون بآراء التابعين ويسمّونهم

____________

1- وهذه شهادة أُخرى من الشيخ أبي زهرة تؤيّد ما قلناه بأنّ الشيعة لا يقبلون في شرع الله إلاّ الكتاب الكريم والسنّة النبوية (المؤلّف).

2- أُصول الفقه لأبي زهرة: 203 في فتوى الصحابي، نقلا عن ارشاد الفحول في تحقيق الحقّ في علم الأُصول: 214.


الصفحة 226
"علماء الأثر" كالأوزاعي، وسفيان الثوري، وحسن البَصري، وابن عيينة وغيرهم كثير، كما أنّهم متّفقون على الأخذ باجتهادات أئمّة المذاهب الأربعة وتقليدهم، رغم أنّهم من تابعي التابعين.

وإذا كان الصحابة أنفسهم يعترفون بخطئهم في عديد من المرّات، وأنّهم يقولون ما لا يعلمون.

فهذا أبو بكر يقول عندما يُسأل عن مسألة: "سأقول فيها برأيي، فإن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمنّي أو من الشيطان"(1)! وهذا عمر يقول لأصحابه: "لعلّي آمركم بالأشياء التي لا تصلح لكم، وأنهاكم عن أشياء تصلح لكم"(2).

وإذا كان هذا هو مبلغهم من العلم، وأنّهم يتّبعون الظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئاً، فكيف يحقّ لمسلم عرف الإسلام أن يجعل أفعال هؤلاء وأقوالهم سنة متّبعة، ومصدراً من مصادر التشريع؟ وهل يبقى بعد هذا الحديث "أصحابي كالنجوم" من أثر؟

وإذا كان هؤلاء هم الصحابة الذين حضروا مجالس النبيّ وتعلّموا منه يقولون مثل هذه الأقوال، فكيف تكون حال من جاء بعدهم، وأخذ عنهم وشارك في الفتنة؟

____________

1- سنن الدارمي 2: 366، السنن الكبرى للبيهقي 6: 223.

2- تاريخ بغداد 14: 81، والمصنّف لابن أبي شيبة 5: 235 ح14.

ونحن نقول لهؤلاء: إن كان هذا هو مبلغكم من العلم، فلماذا تقدّمتم على من عنده علم الأولين والآخرين وحرمتم الأُمّة من هديه ونوره وتركتموها تتخبّط في الفتنة والجهالة والضلالة؟! (المؤلّف).


الصفحة 227
وإذا كان أئمّة المذاهب الأربعة يقولون في دين الله بآرائهم مصرّحين ومعترفين بإمكانية الخطأ، فيقول الواحد منهم: هذا ما أعتقد أنّه صحيح، وقد يكون رأي غيري هو الصحيح، فلماذا ألزم المسلمون أنفسهم بتقليدهم؟!

رابعاً: سنّة الحكّام:

ويسمّى عند أهل السنّة والجماعة: (صَوافي الأُمراء)، وقد استدلّوا عليه بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(1)(2).

فأُولي الأمر عندهم الحكّام وإن كانوا متسلّطين بالقوّة والقهر، وهم يعتقدون بأنّ الحكّام أمَّرهم الله على رقاب العباد، فيجب لذلك طاعتهم والأخذ بسُنّتهم.

وردّ ابن حزم الظاهري على "أهل السنّة والجماعه" ردّاً عنيفاً بقوله: "بناءً على ما تقولون فللأمراء أن يُبطلوا ما شاؤوا من الشرائع التي أمر الله ورسوله بها، كما لهم أن يزيدوا فيها، ولا فرق بين الزيادة والنقص في ذلك، وهذا كُفرٌ ممّن أجازهُ بلا خلاف"(3).

وردّ الذهبي على ابن حزم بقوله: "هذا تقرير فاسد، وخطأ فاحش، فإنّ

____________

1- النساء: 59.

2- لقد أوضحنا بالأدلة في كتاب "مع الصادقين" بأنّ أولي الأمر هم أئمة الهدى من العترة الطّاهرة وليس المقصود بهم الحكّام الغاصبين، ومن المستحيل أن يأمر الله سبحانه بطاعة الظّالمين والفاسقين والكافرين (المؤلّف).

3- ابن حزم في ملخص إبطال القياس: 37.


الصفحة 228
الأُمّة أجمعتْ ـ إلاّ داود بن علي ومن مشى خلفه ـ على أنّ أُولي الأمر لهم الحكم بالرأي والاجتهاد إذا لم يكن في النازلة نصٌّ، ويقولون: لا يحلّ لهم الحكم بالرأي والاجتهاد مع علمهم بالنصّ في النازلة، فظهر بهذا أنّ لهم أن يزيدوا في الشرع زيادة ساغتْ في الشرع، وليس لهم أن يُبطلوا ما شاؤوا من الشرع".

ونحن نقول للذّهبي: كيف تدّعي إجماع الأُمّة وأنتَ نفسك استثنيتَ داود ابن علي ومن مشى خلفه!؟ ولماذا لم تُسمّ من مشى خلفه؟! ثمّ لماذا لم تستثن الشيعة وأئمّة أهل البيت، ألأنّهم عندك ليسوا من الأُمّة الإسلاميّة؟! أم أنَّ تزلّفك للحكّام هو الذي جعلك تُبيحُ لهم أن يزيدوا في الشرع، لكي يزيدوا في عطائك وشهرتك؟

وهل كان الحكّام الذين حكموا المسلمين باسم الإسلام يعرفون النصوص القرآنية والنصوص النبويّة حتى يقفوا عند حدودها؟

وإذا كان الخليفتان أبو بكر وعمر تعمّدا مخالفة النصوص القرآنية والنبويّة، كما قدّمنا في أبحاث سابقة، فكيفَ يلتزمُ من جاء بعدهما بتلك النصوص التي بُدّلت وغُيّرتْ وأُعفيت آثارها؟

وإذا كان فقهاء "أهل السنّة والجماعة" يفتونَ للأُمراء بأن يقولوا في دين الله ما يشاؤون، فليس غريباً على الذهبي أنْ يُقلّدهم.

فقد جاء في طبقات الفقهاء عن سعيد بن جُبير قال: سألتُ عبد الله بن عمر عن الإيلاء؟ فقال: أتريد أن تقول: قال ابن عمر قال ابن عمر؟!

قال: قلتُ: نعم، ونرضى بقولك ونقنَعُ. فقال ابن عمر: يقول في ذلك

الصفحة 229
الأُمراء، بل يقول في ذلك الله ورسوله ومن يقول عنهُما(1).

وعن سعيد بن جُبير قال: كان رجاء بن حيوة يُعدُّ في أفقه فقهاء الشام، ولكن كنتُ إذا حرّكته وجدته شاميّاً يقول: قضى عبد الملك بن مروان فيها بكذا وكذا(2).

كما روي عن المسيّب بن رافع قال: كان إذا جاء الشيء من القضاء وليس في الكتاب ولا في السنّة سُمّيَ "صوافي الأمراء" فدفع إليهم فجمع له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحقّ(3).

ونحن نقول كما قال اللّه تعالى: {... بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَو اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ }(4).

خامساً: بقيّة مصادر التشريع عند "أهل السنّة"

ونذكر منها القياس، والاستحسانُ، والاستصحابُ، وسدّ باب الذّرائع، والإجماع، فمشهورة جدّاً ومعروفة عندهم.

وقد اشتهر الإمام أبو حنيفة بالعمل بالقياس وردّ الأحاديث، كما اشتهر الإمام مالك بالرّجوع لعمل أهل المدينة وسدّ باب الذّرائع، واشتهر الإمام الشافعي بالرجوع إلى فتاوى الصحابة، وقد رتّبهم على أقسام ودرجات فقال بأولويّة العشرة المبشّرين بالجنّة، ثمّ المهاجرين الأوّلين، ثمّ الأنصار،

____________

1- طبقات ابن سعد 6: 258.

2- تهذيب الكمال للمزي 9: 154، عن مطر الوراق.

3- أعلام الموقّعين 1: 84.

4- المؤمنون: 70 ـ 71.


الصفحة 230
ثمّ مسلمة الفتح، ويقصد بهم الطّلقاء والذين أسلموا بعد فتح مكّة(1).

كما اشتهر الإمام أحمد بن حنبل بعدم الاجتهاد والابتعاد عن الفتوى، وأخذه برأي أيّ صحابيّ كان.

فقد نقل عنه الخطيب البغدادي أنّ رجلا سأله عن مسألة في الحلال والحرام، فقال له أحمد: سَل عافاك الله غيرنا، قال: إنّما نريد جوابك يا أبا عبد الله، قال: سَل عافاك الله غيرنا، سَل الفقهاء سَل أبا ثور(2).

كما نقل عن المروزي قوله: أمّا الحديث فقد استرحنا منه، وأمّا المسائل فقد عزمتُ إن سألني أحدٌ عن شيء فلا أجيبُه(3).

ولا شكّ بأنّ أحمد بن حنبل هو الذي أوحى بفكرة عدالة الصحابة كلّهم بدون استثناء، فأثّر مذهبه في "أهل السنّة والجماعة".

فقد ذكر الخطيب في تاريخ بغداد في جزئه الثاني بالإسناد عن محمّد ابن عبد الرحمان الصيرفي قال: قلت لأحمد بن حنبل: إذا اختلف أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسألة، هل يجوز لنا أن ننظر في أقوالهم، لنعلم مع مَنْ الصواب منهم فنتبعه؟

فقال لي: لا يجوز النظر بين أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقلتُ: كيف الوجهُ في ذلك؟

قال: تُقلّد أيهم أحبَبْتَ.

____________

1- مناقب الشافعي 1: 443.

2- تاريخ بغداد 2: 66.

3- مناقب الإمام أحمد بن حنبل: 57.


الصفحة 231
ونحن نقول: وهل يجوز تقليد مَنْ لا يعرف الحقَّ من الباطل؟ وغريب أن يفتي أحمد ـ وهو الذي يتهرّب من الفتوى ـ بتقليد أيّ صحابي أحبّ، وبدون النظر في أقوالهم لمعرفة الصواب!

وبعد هذا العرض الوجيز لمصادر التشريع الإسلامي عند الشيعة وعند أهل السنّة والجماعة، يتبيّن لنا بوضوح لا لُبس فيه بأنّ الشيعة هم الذين يتقيّدون بسنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يبغون عنها حولا، حتّى كانت سنّة النبيّ هي شعارهم كما شهد بذلك أعداؤهم.

أمّا "أهل السنّة والجماعة" فهم يتّبعون سنّة أيّ صحابي وأيّ تابعي وأيّ حاكم.

وهذه كتُبُهم وأقوالهم تشهد عليهم وكفى بها شهيداً، وسوف نبحث في فصل قادم إن شاء الله تعالى أفعالهم، لنعرف بأنّها ليستْ من سنّة النبيّ في شيء.

وأترك للقارئ نفسه أن يستنتجَ مَن هم أهل السُنّة، ومَن هم أهل البدعة؟


الصفحة 232