الصفحة 285
وُسْعَهَا }(1) وأخيراً قوله سبحانه وتعالى: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(2).

فقول أبي بكر بأنّه لا يطيق سنّة النبيّ هو ردّ على هذه الآيات، وإذا كان أبو بكر الخليفة الأوّل بعد النبيّ لا يطيق سنته في ذلك العهد، فكيف يُطلبُ من مسلمي العصر الحاضر أن يُقيموا حكم الله بكتابه وسنّة نبيّه؟!

على أنّنا وجدنا أبا بكر يُخالف السنّة النبويّة حتّى في الأُمور الميسورة التي يقدر عليها فقراء الناس وجهالهم.

وقد ترك أبو بكر الأضحية التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يفعلُها ويؤكّد عليها، وقد عرف كلّ المسلمين بأنّ الأضحية هي سنّة مستحبّة ومؤكّدة، فكيف يتركها خليفة المسلمين؟!

قال الشافعي في كتاب الأُم وغيره من المحدّثين:

"إنّ أبا بكر وعمر (رضي الله عنهما) كانا لا يضحيان، كراهية أنْ يُقتدى بهما فيظنّ من رآهما أنّها واجبة"(3).

إنّه تعليل باطل لا يقوم على دليل، وكلّ الصحابة عرفوا من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الأضحية سنّة وليست واجبة.

وعلى فرض أنّ الناس ظنّوا أنّها واجبة فماذا يترتّبُ عن ذلك، وقد رأينا عمر يبتدع صلاة التراويح وهي ليستْ سنّة ولا واجبة، بل إنّ النبيّ نهى

____________

1- البقرة: 286.

2- الحشر: 7.

3- كتاب الأُم 2: 246، وانظر السنن الكبرى للبيهقي 9: 264.


الصفحة 286
عنها، ومع ذلك فأغلب "أهل السنّة والجماعة" اليوم يظنّون أنّها واجبة.

ولعلّ أبا بكر وعمر بتركهم سنّة النبيّ في الأضحية أرادا أن يُوهمَا الناس بأنّ كلّ ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بواجب ويمكن تركه وإهماله.

وبذلك يستقيم قولهم: حسبنا كتاب الله يكفينَا، ويستقيم أيضاً قول أبي بكر: لا تُحدّثوا عن النبيّ شيئاً، وقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه.

وعلى هذا لو حاجج رجل أبا بكر بالسنّة النبويّة في الأضحية مثلا، فسيكون جواب أبي بكر: لا تحدّثني عن النبيّ شيئاً، وأرني الأضحية في كتاب الله!

وبعد هذا يَفهم الباحثُ لماذا بقيتْ سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عندهم مجهولة ومتروكة، ولماذا بدّلوا أحكام الله ورسوله بآرائهم وقياسهم، وما استحسنوه من أُمور تتماشى وأهواءهم.

وهذه الأمثلة التي أخرجناها هي غيضٌ من فيض لما فعله أبو بكر تجاه السنّة النبويّة الشريفة، وما لقيتْ منه من إهانة وحرق وإهمال، ولو شئنا لكتبنا في ذلك كتاباً مستقلاًّ.

فكيف يطمئنُّ المسلم إلى شخص هذا مبلغه من العلم، وهذه علاقته بالسنّة النبويّة الشريفة، وكيف يتسمّى أتباعه بـ "أهل السنّة"؟!

فأهل السنّة لا يهملونها ولا يحرقونها.

كلاّ، بل أهل السنّة هم الذين يتّبعونها ويقدّسونها.

{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ

الصفحة 287
رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فاِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }(1).

صدق الله العلي العظيم         

2 ـ عمر بن الخطّاب (الفاروق):

عرفنا في أبحاث سابقة من كتبنا بأنّه كان بطل المعارضة للسنّة النبويّة الشريفة، وأنّه الجريء الذي قال: إنّ رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله يكفينا، وحسب قول الرسول الذي لا ينطق عن الهَوى، فإنّ عمر هو الذي تسبّب في ضلالة من ضلّ في هذه الأُمّة(2).

وعرفنا بأنّه عمل على إهانة الزهراء وإيذائها، فروّعَها وأدخل الرعب عليها وعلى صغارها عندما هجم على بيتها وهدّد بحرقه.

وعرفنا بأنّه عمل على جمع كلّ ما كتب من السنّة النبويّة فأحرقها، ومنع الناس من التحدّث بأحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد خالف عمر سنّة النبيّ في كلّ أدوار حياته وبمحضر النبيّ، كما خالف سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في تسييره ضمن جيش أُسامة، ولم يخرج معه بدعوى إعانة أبي بكر على أعباء الخلافة.

كما خالف القرآن والسنّة في منع سهم المؤلّفة قلوبهم.

____________

1- آل عمران: 31 ـ 32.

2- دليل ذلك قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً"، وقول ابن عبّاس: لو كتبَ ذلك الكتاب ما اختلف من الأُمّة اثنان، ولمَا كان عمر هو الذي منع رسول الله من الكتاب واتّهمه بالهجر كي لا يصرّ النبيّ على الكتابة، عرفنا بأنّه تسبّب في الضلالة وحَرم الأُمّة الإسلامية من الهداية (المؤلّف).


الصفحة 288
كما خالف القرآن والسنّة في متعه الحجّ، وكذلك في متعة النساء.

كما خالف القرآن والسنّة في الطلاق ثلاث فجعله طلقة واحدة.

كما خالف القرآن والسنّة في فريضة التيمّم، وأسقط الصلاة عند فقد الماء.

كما خالف القرآن والسنّة في عدم التجسس على المسلمين فابتدعه.

كما خالف القرآن والسنّة في إسقاط فصل من الأذان وإبداله بفصل من عنده.

كما خالف القرآن والسنّة في عدم إقامة الحدّ على خالد بن الوليد، وكان يتوعّده بذلك.

كما خالف السنّة النبويّة في النهي عن صلاة النافلة جماعة، فابتدع التراويح.

كما خالف السنّة النبويّة في العطاء، فابتدع المفاضلة وخلق الطبقيّة في الإسلام.

كما خالف السنّة النبويّة باختراعه مجلس الشورى وعهده لابن عوف.

والغريب أنّك تجد "أهل السنّة والجماعة" ينزلونه بعد كلّ هذا منزلة المعصومين، ويقولون بأنّ العدل مات معه، وبأنّه لمّا وُضع في قبره وجاءه الملكان ليسألانه، فصاح بهما عمر: "من ربّكما؟"! ويقولون بأنّه الفاروق الذي فرّق الله به الحقّ من الباطل.

أليس ذلك دليلا على الاستهزاء والسخرية من بني أُميّة وحكّامهم على الإسلام والمسلمين، وبوضعهم أمثال هذه المناقب لشخص عُرف بالفظّ

الصفحة 289
الغليظ، كما عُرف بمعارضته المستمرّة للرسول(1). فكأن لسان حالهم يقول للمسلمين: لقد ولّى عهد محمّد بما فيه، وأقبل عهدنا نحن لنُشرّع لكم من الدين ما نريد وما يعجبُنا، فها أنتم أصبحتُم لنا عبيداً، رغم أُنوفكم ورغم نبيّكم الذي فيه تعتقدون.

أليس هذا من قبيل ردّ الفعل والأخذ بالثّأر لتعود زعامة قريش بقيادة بني أُميّة الذين حاربوا الإسلام ونبيّ الإسلام؟

وإذا كان عمر بن الخطّاب يعمل على طمس السنن النبويّة، ويسخر منها ويعارضُها حتى بحضور النبيّ نفسه، فلا غرابة أن تُسلّم له قُريش قيادتها وتجعله زعيمها الأكبر، لأنّه أصبح بعد ظهور الإسلام لسانَها الناطق وبطلها المعارض، كما أصبح بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قوّتها الضاربة، وأملها العريض في تحقيق أحلامها وطموحاتها للوصول إلى السلطة وإرجاع عادات الجاهلية التي يعشقونها وما زالوا يحنّون إليها.

وليس من قبيل الصدفة أن نجد عمر بن الخطّاب يخالف السنّة النبويّة في خلافته، ويعمل على تأخير مقام إبراهيم عن البيت إلى ما كان عليه أيام الجاهلية.

فقد أخرج ابن سعد في طبقاته وغيره من المؤرّخين:

إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فتح مكّة ألْصقَ مقام إبراهيم بالبيت، كما كان على عهد

____________

1- أخرج مسلم في صحيحه 4: 59 باب (إهلال النبيّ وهديه) أنّ ابن عبّاس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر بن عبد الله: فعلناهما مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ نهانَا عنهما عمر فلم نعدلهما.


الصفحة 290
إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) لأنّ العرب في الجاهلية أخّروه إلى مكانه اليوم، فلمّا ولّي عمر بن الخطّاب أخّره إلى موضعه الآن، وكان على عهد النبيّ وأبي بكر ملصقاً بالبيت(1).

فهل ترى بربّك من مبرّر لعمر بن الخطّاب حتّى يعمد فيُميتَ سنّة النبيّ الذي أعاد ما فعله إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، فيُحيي عمر سنّة الجاهلية، ويُعيد بناء المقام كما كان على عهدهم؟

فكيف لا تُقدّمه قريش، وكيف لا تروي في فضائله ما يتعدّى الخيال، حتّى إنّ صاحبه أبا بكر الذي تقدّمه في الخلافة لم يبلغ شأوَهُ وكان في نزعه ضعفٌ حسب ما يرويه البخاري، ولكن عمر أخذها منه فلم يُرَ عبقرياً يفري فريه.

وهذا نزرٌ يسيرٌ من بدعه التي أحدثها في الإسلام، وهي مخالفة كلّها لكتاب الله وسنّة رسوله، ولو شئنا جمع البدع والأحكام التي قال فيها برأيه، وحمل الناس عليها، لكتبنَا في ذلك كتاباً مستقلا، لولا توخّي الاختصار.

ولقائل أن يقول: كيف خالف عمر بن الخطّاب كتاب الله وسنّة رسوله، والله تعالى يقول: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِيناً }(2)؟

وهذا ما يردّده أكثر الناس اليوم، وكأنّهم يكذبون ولا يصدّقون أنّ عمر

____________

1- الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 284 ولفظه: "وهو أخّر المقام إلى موضعه اليوم، كان ملصقاً بالبيت".

2- الأحزاب: 36.


الصفحة 291
ابن الخطّاب يفعلُ ذلك.

فنقول لهؤلاء: هذا ما أثبتَهُ له أولياؤه وأتباعه من "أهل السنّة والجماعة" الذين يُفضّلونه على النبيّ من حيث لا يشعرون.

فإذا كان ما قيل فيه كذباً، فصحاحُهم كلّها تسقُطُ عن الاعتبار، ولا حجّة لهم بعد ذلك على كلّ ما يعتقدون! على أنّ جلّ الأحداث التاريخية كتبتْ في عهد دولة "أهل السنّة والجماعة" الذين لا يُشكَّ في حبّهم واحترامهم وتقديرهم لابن الخطّاب.

وإذا كانتْ صحيحة ـ وذلك هو الواقع الذي لا مفرَّ منه ـ فعلى المسلمين اليوم أنْ يُراجعوا موقفهم، ويعيدوا النظر في كلّ عقائدهم إنْ كانوا من "أهل السنّة والجماعة".

وإنّك تجد أكثر المحقّقين اليوم لمّا أعيتهم الحيلة لردّ مثل هذه الروايات والأحداث التاريخية التي أجمع عليها العلماء والمحدّثون، ولا يقدرون على تكذيبها، فتراهم يتأوّلُون ويلتمسون بعض الأعذار الواهية التي لا تقوم على دليل علمي، والبعض منهم أخذ يعدّد بدعه ويقلبها مناقب من مفاخرة التي يُشكر عليها.

وكأنّ الله ورسوله ما كانا يعرفان مصلحة المسلمين، وغفلا عن تلك البدع ـ استغفر الله ـ، فاكتشفها عمر بن الخطّاب، فسنّها لهم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

إنّه بهتانٌ عظيم وكفرٌ صريح، نعوذ بالله من خطل الآراء وزلل الأهواء، وإذا كان عمر هو زعيم وإمام "أهل السنّة والجماعة"، فإنّي أبرأُ إلى الله من

الصفحة 292
تلك السنّة وتلك الجماعة.

وأسأله سبحانه أن يُميتني على سنّة خاتم النبيين وسيّد المرسلين سيّدنا محمّد، وعلى منهاج أهل بيته الطّيبين الطّاهرين.

3 ـ عثمان بن عفان (ذو النورين):

وهو الخليفة الثالث الذي وصل الخلافة بتدبير عمر بن الخطّاب وعبد الرحمان بن عوف، الذي أخذ عليه العهد والميثاق بأنْ يحكُمَ فيهم بكتاب الله وسنّة رسوله وسنّة الخليفتين.

وأنا شخصياً أصبحتُ أشكّ في الشرط الثاني الذي يتمثّل في الحكم بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم); لأنّ عبد الرحمان بن عوف يعرف أكثر من غيره بأنّ الخليفتين أبا بكر وعمر لم يحكُما السنّة النبويّة، وإنّما حكما باجتهادهما وآرائهما، وأنّ السنّة النبويّة على عهد الشيخين كادت تكون معدومة تماماً لولا وقوف الإمام علي على إحيائها كلّما سمحتْ له الظّروف بذلك.

وأغلبُ الظنّ أنّه اشترط على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأن يحكم فيهم بكتاب الله وسنّة الشيخين، فرفض علي هذا العرض قائلا: لا أحكم إلاّ بكتاب الله وسنّة رسوله، فخسر الخلافة لأنّه أراد إحياء سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفاز بها عثمان لأنّه قبل أن يواصل درب أبي بكر وعمر اللذين صرّحَا غير مرّة بأنْ لا حاجة بالسنّة النبويّة، وإنّما يكفي القرآن ليُحلّلوا حلاله ويُحرّموا حرامه.

ويزيدنا يقيناً صحّة ما ذهبنا إليه أنّ عثمان بن عفّان فهم من هذا الشرط أنّ عليه أن يجتهد برأيه في الأحكام كما فعل صاحباه، وهي السنّة التي

الصفحة 293
سنّها الشيخان بعد النبيّ.

ولذلك نرى عثمان أطلق العنان لرأيه، واجتهد أكثر من صاحبه، حتّى أنكر عليه الصحابة، وجاؤوا يلومون عبد الرحمان بن عوف قائلين له: هذا عمل يديك!

ولمّا كثُرتْ المعارضة والإنكار على عثمان، قام في الصحابة خطيباً فقال لهم: "لماذا لم تنكروا على عمر بن الخطّاب اجتهاده، ألأنّه كان يُخيفكم بدرته؟".

وفي رواية ابن قتيبة: قام عثمان خطيباً على المنبر لما أنكر الناس عليه فقال: أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار لقد عبتم عليَّ أشياء ونقمتم عليَّ أموراً قد أقررتم لابن الخطّاب مثلها، ولكنّه وقمكم وقمعكم، ولم يجترئ أحدٌ يملأ بصره منه ولا يُشير بطرفه إليه، أمَا والله لأنَا أكثر من ابن الخطّاب عدداً وأقرب ناصراً(1).

وأعتقد شخصيّاً بأنّ الصحابة من المهاجرين والأنصار لم ينكروا على عثمان اجتهاده، فقد ألفوا الاجتهاد وباركوه من أوّل يوم، ولكنّهم أنكروا عليه لمّا عزلهم وولّى المناصب والولايات الفساق من بني عمومته وقرابته، الذين كانوا بالأمس القريب حرباً على الإسلام والمسلمين.

وقد سكت المهاجرون والأنصار على أبي بكر وعمر لأنّهما أشركاهم في الحكم، وأعطياهم المناصب التي فيها المال والجاه.

أمّا عثمان فإنّه عزل أكثرهم، وأعطى الأموال الطائلة إلى بني أُميّة بغير

____________

1- تاريخ الخلفاء لابن قتيبة 1: 46.


الصفحة 294
حساب، عند ذلك أنكروا عليه، وأثاروا حوله الشبهات إلى أن قتلوه.

وهذه هي الحقيقة التي تنَبّأ بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قال لهم: "إنّي لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكنّي أخاف عليكم أنْ تنافسوا فيها"(1).

وقال الإمام علي (عليه السلام): "كأنّهم لم يسمعوا قول الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2). بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"(3).

فهذا هو الواقع، أمّا أن نعتقد بأنّهم أنكروا عليه تغيير سنّة النبيّ، فهذا ممّا لا سبيل إليه، ولأنّهم لم ينكروا على أبي بكر وعمر، فكيف ينكرونها عليه، والمفروض أنّ عثمان بن عفّان أكثر عدداً وأقرب ناصراً من أبي بكر وعمر، كما صرّح هو نفسه بذلك، لأنّه زعيم بني أُميّة، وبنو أُميّة أقرب للنّبي من تيم وعدي قبيلتي أبي بكر وعمر، وأشدّ منهما قوّة ونفوذاً وأشرف منهما حسباً ونسباً.

ولأنّ الصحابة لم ينكروا على أبي بكر وعمر، بل كانوا يقتدون بسنّتهما، ويتركون سنّة النبيّ وهم يعلمون، فلا يمكن أن ينكروا على عثمان ما أقرّوه لغيره.

والدّليل أنّهم حضروا في كثير من المواقف التي غيّر فيها عثمان سنّة

____________

1- صحيح البخاري 2: 94 باب الصلاة على الشهيد، السنن الكبرى للبيهقي 4: 14، صحيح ابن حبان 7: 473.

2- القصص: 83.

3- نهج البلاغة 1: 36، الخطبة: 3.


الصفحة 295
النبيّ كإتمامه صلاة السفر، ومنعه من التلبية، وتركه التكبير في الصلاة، ومنعه من التمتّع في الحجّ، فلم ينكر عليه غير علي بن أبي طالب، كما سنعرفه قريباً بحول الله.

والصحابة كانوا يعرفون سنّة النبيّ، ويعمدون على مخالفتها من أجل إرضاء الخليفة عثمان.

أخرج البيهقي في سننه الكبرى عن عبد الرحمان بن يزيد قال: كنّا مع عبد الله بن مسعود، فلمّا دخل مسجد منى قال: كم صلّى أمير المؤمنين (يعني عثمان) قالوا: أربعاً، فصلّى أربعاً، قال: فقلنا: ألم تُحدّثنَا أن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى ركعتين وأبا بكر صلّى ركعتين؟!

فقال: بلَى وأنا أحدّثكموه الآن، ولكن عثمان كان إماماً، فما أُخالفه والخلاف شرِّ(1).

  إقرأ واعجب من هذا الصحابي، وهو من أكابرهم عبد الله بن مسعود، إذ يرى في خلاف عثمان شرّاً، ويرى في خلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ الخير!!

أفبعد هذا يقالُ: إنّهم أنكروا عليه عندما ترك السنّة النبويّة؟!

وروى سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمّد قال:

اعتلَّ عثمان وهو بمنى، فأتى عليٌّ فقيل له: صلِّ بالنّاس.

فقال علي: إنْ شئتم، ولكن أُصلّي لكم صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني ركعتين!

____________

1- السنن الكبرى للبيهقي 3: 144، تاريخ دمشق 39: 254.


الصفحة 296
فقالوا: لا إلاّ صلاة أمير المؤمنين عثمان أربعاً، فأبى علي أنْ يصلّي بهم(1).

إقرأ واعجب من هؤلاء الصحابة وهم أُلوف مؤلّفة; لأنّهم كانوا بمنى في موسم الحجّ، كيف يرفضون صراحة سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يقبلون إلاّ بدعة عثمان؟!!

وإذا كان عبد الله بن مسعود يرى في خلاف عثمان شرّاً فيصلّي أربعاً، رغم أنّه يروي عن النبيّ ركعتين، فلعلّه فعل ذلك تقيّة خوفاً من هؤلاء الذين يُعدّون بالآلاف، والذين لا يقبلون إلاّ ما فعله عثمان، ضاربين بالسنّة النبويّة عرض الجدار.

ولا تنسَ بعد كلّ هذا أنْ تُصلّي وتُسلّم على النبيّ، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي رفض أنْ يُصلّي بهم إلاّ صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أراد بذلك إحياء السنّة النبويّة التي خالفوها، ولم يخشَ عليٌّ في ذلك لومة لائم، ولا خاف من جموعهم ومؤامراتهم.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ عبد الله بن عمر قال: الصلاة في السفر ركعتان، من خالف السنّة فقد كفَر(2).

وبهذا فقد كفّر عبد الله بن عمر الخليفة عثمان، وكلّ الصحابة الذين تابعوه على بدعة إتمام الصلاة في السفر، ومع ذلك فلنا عودة مع الفقيه عبد الله بن

____________

1- المحلّى لابن حزم 4: 270.

2- المعجم الأوسط 8: 24، كنز العمال 7: 546 ح20185، أحكام القرآن للجصاص 2: 319.


الصفحة 297
عمر لنحكم عليه بما حكم به على غيره.

كما أخرج البخاري في صحيحه قال: سمعتُ عثمان وعلياً ـ رضي الله عنهما ـ بين مكّة والمدينة، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلمّا رأى ذلك عليٌّ أهلّ بهما جميعاً قائلا: لبّيك عمرة وحجّة معاً، فقال عثمان: تراني أنهى الناس عن شيء وتفعله أنتَ؟ فقال عليٌّ: لم أكن لأدع سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقول أحد من الناس(1).

ألا تعجب من خليفة المسلمين الذي يخالف صريح السنّة، ولا يكتفي بذلك حتّى ينهى الناس عنها، فلا ينكرُ عليه أحدٌ منهم إلاّ علي بن أبي طالب الذي لم يكن يدع سنّة رسول الله ولو قتل دون ذلك!!

فقل لي بربك، هل تجدْ في أصحاب محمّد من يمثّل السنّة النبويّة بحقّ وحقيقة غير أبي الحسن علي (عليه السلام)؟

ورغم سطوة الحاكم وشدّته، ورغم تأييد الصحابة له، فإنّ عليّاً لم يترك السنّة أبداً، وهذه كتبهم وصحاحهم تشهد على صدق ما ذهبنا إليه من أنّه (سلام الله عليه) قد حاول بكلّ جهوده إحياء السنّة النبويّة، وإرجاع الناس إلى أحضانها، ولكن "لا رأي لمن لا يُطاع"، كما قال هو بنفسه.

فلم يكن في ذلك العصر من يُطيعُه ويعمل بأقواله غير الشيعة الذين والُوه واتّبعوه وانقطعوا إليه في كلّ شيء.

وبهذا يتبيّن لنا جلياً بأنّ الصحابة لم ينكروا على عثمان تغييرهُ للسنّة النبويّة، فقد عرفنَا من صحاحهم كيفَ أنّهم يُخالفون سنّة النبيّ ولا يُخالفونه

____________

1- صحيح البخاري 2: 151 (كتاب الحجّ، باب التمتّع والإقران).


الصفحة 298
في بدعه، ولكنّهم ثارتْ ثائرتُهم عليه من أجل الدّنيا الدّنيئة لكسب المالِ والجاه والسلطان.

وهم الذين حاربوا عليّاً دون هوادة لأنّه لم يُولِّهم المناصبَ، وطالبَهم أن يُرجعوا الأموال التي جمعوها بغير حقّ إلى بيت مال المسلمين ليستفيدَ منها المسَاكين.

لك الله يا أبا الحسن، يا من حافظت على كتاب ربّك وسنّة ابن عمّك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكنتَ إمام المتّقين، وناصرَ المستضعفين، وكان شيعتك هم الفائزون، إذ إنّهم تمسّكوا بكتاب الله وسنّة رسوله بالتفافهم حولك وانقطاعهم إليك.

فهل تُصدّق أيّها القارئ العزيز والباحث اللّبيب بعد كلّ ما مرّ عليك من أبحاث بأنّ أتباع عثمان بن عفّان هم أهل السنّة، واتباعُ علي هم الروافض وأهل البدع؟!

فاحكم بما أراك الله إن كنتَ من المنصفين.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}(1).

صدق الله العلي العظيم         

____________

1- النساء: 58.