الصفحة 299

4 ـ طلحة بن عبيد الله:

إنّه من كبار الصحابة المشهورين، وهو أحد الستة الذين رشّحهم عمر بن الخطّاب للخلافة، وقال فيه بأنّه مؤمن الرضى، كافر الغضب، يوماً إنسان ويوماً شيطان، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة على زعم "أهل السنّة والجماعة".

وعندما نبحثُ عن شخصية هذا الرجل في كتب التاريخ يتبيّنُ لنا بأنّه من عشّاق الدنيا، من الذين غرّتهم وجرّتهم وراءها، فباعوا دينهم من أجلها، وخسروا أنفسهم، وما ربحت تجارتهم، ويوم القيامة يندمون(1).

هذا طلحة الذي كان يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "إن ماتَ رسول الله تزوجتُ عائشة فهي بنت عمي، فبلغ رسول الله قوله فتأذّى من ذلك"(2).

ولمّا نزلتْ آية الحجاب واحتجب نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال طلحة: "أيحجبنا محمّد عن بنات عمّنا ويتزوّج نساءنا من بعدنا؟ فإن حدث به حدث لنزوجنّ نساءه من بعده"(3).

ولمّا تأذى رسول الله من ذلك نزل قول الله تعالى:

____________

1- جاء في الإمامة والسياسة لابن قتيبة عند ذكره لحرب الجمل أنّ الزبير كان لا يشكّ في ولاية العراق وطلحة في اليمن، فلمّا استبان لهما أنّ عليّاً غير موليهما شيئاً أظهرا الشكاة.

وفي تاريخ الطبري 3: 491 أنّه جاء رجل إلى طلحة والزبير وهما في المسجد بالبصرة، فقال: نشدتكما الله في مسيركما أعهد إليكما فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً؟ فقام طلحة فلم يجبه، فناشد الزبير، فقال: لا، ولكن بلغنا أنّ عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها.

2- الدر المنثور 5: 214، الطبقات الكبرى 8: 201، زاد المسير لابن الجوزي 6: 213.

3- الدر المنثور 5: 214.


الصفحة 300
{... وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً }(1).

وهذا طلحة الذي دخل على أبي بكر قبل وفاته عندما كتب عهده بالخلافة لعمر بن الخطّاب فقال له: ماذا تقول لربّك إذ ولّيتَ علينا فظّاً غليظاً؟ فشتمه أبو بكر بكلام بذيء(2).

ولكنّنا نجده بعد ذلك يسكُت ويرضى بالخليفة الجديد، ويُصبح من أنصاره، ويعمل على جمع الأموال وكسب العبيد، خصوصاً بعد أن طمع في الخلافة، واشرأبتّ عنقه إليها بعد أن رشّحه عمر بن الخطّاب لها.

وطلحة هو الذي خذل الإمام عليّاً، وانحاز في صفّ عثمان بن عفّان لعلمه المسبق بأنّ الخلافة إذا آلتْ إلى علي فلا يبقى له فيها مطمع بعد ذلك، وقد قال عليّ في ذلك: "فصغى رجلٌ منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن...".

يقول الشيخ محمّد عبده في شرحه: "وكان طلحة ميالا لعثمان لصلات بينهما على ما ذكره بعض رواة الأثر، وقد يكفي في ميله إلى عثمان انحرافه عن علي لأنّه تيمي، وقد كان بين بني هاشم وبني تيم مواجد لمكان الخلافة في أبي بكر"(3).

لا شكّ بأنّ طلحة هو أحد الصحابة الذين حضروا بيعة الغدير، وسمعوا

____________

1- الأحزاب: 53.

2- نحوه في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 13، السنن الكبرى للبيهقي 8: 149، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 485 ح46، الطبقات الكبرى 3: 274.

3- شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده 1: 34.


الصفحة 301
قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "من كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه".

ولا شكّ بأنّه سمع رسول الله يقول: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي"، وحضر يوم خيبر عندما أعطاه الراية وقال بأنّه يحبُّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسوله، ويعرف أيضاً بأنّ عليّاً هو للنّبي بمنزلة هارون من موسى، ويعرفُ الكثير والكثير.

ولكنّ الحقد الدفين والحسد ملأ قلبه، فلم يعد يرى إلاّ التعصّب لقبيلته، والانحياز إلى ابنة عمّه عائشة بنت أبي بكر التي كان يطمع في الزواج منها بعد النبيّ، ولكن القرآن حال دون ذلك.

نعم، لقد انضمّ طلحة إلى عثمان وبايعه بالخلافة لأنّه كان يُعطيه الصِّلات والهبات، ولمّا اعتلى عثمان منصّة الخلافة أغدق على طلحة من أموال المسلمين بدون حساب(1)، فكُثرتْ أمواله ومواشيه وعبيده حتّى بلغتْ غلّته من العراق وحده كلّ يوم ألف دينار.

يقول ابن سعد في طبقاته: لما ماتَ طلحة كانتْ تركتُه ثلاثين مليوناً من الدّراهم، كان النقد منها مليونين ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وكان سائرها عروضاً وعقاراً(2).

____________

1- ذكر الطبري 3: 433، وابن أبي الحديد 2: 161، وطه حسين في الفتنة الكبرى: 344 بأنّ طلحة كان قد اقترض من عثمان خمسين ألفاً، فقال له ذات يوم: قد تهيأ مالك فأرسل من يقبضه، فقال عثمان: هو لك يا أبا محمّد معونة على مروءتك! ويقال: إنّ عثمان وصل طلحة بمائتي ألف أيضاً.

2- الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 222، باختلاف، المجموعة الكاملة لمؤلّفات طه حسين 4: 344.


الصفحة 302
لكلّ ذلك طغَى طلحة وتجبّر، وبدأ يؤلّب على صديقه الحميم عثمان ليُطيح به ويأخذَ مكانه.

ولعلّ عائشة أُمّ المؤمنين أطمعته في الخلافة ومنّته بها; لأنّها هي الأُخرى عملت على إسقاط عثمان بكلّ جهودها، وكانت لا تشكُّ في أنّ الخلافة ستؤول إلى ابن عمّها طلحة، ولمّا بلغها مقتل عثمان وأنّ الناس قد بايعوا طلحة فرحتْ فرحاً شديداً وقالت: "بعداً لنعثل وسحقاً، إيه ذَا الإصبع إيه أبا شبل، إيه ابن عمّ لله أبوك، أمَا إنّهم وجدوا طلحة لها كفؤاً"(1).

نعم، هذا جزاء عثمان من طلحة، بعدما أغناهُ غدر بهِ من أجل الطّمع في الخلافة وألّب عليه الناس، وكان من أشدّ المحرّضين عليه حتّى منعه من شرب الماء أيام الحصار.

قال ابن أبي الحديد بأنّ عثمان كان يقول أيّام الحصار: ويْلي على ابن الحضرميّة "يعني طلحة"، أعطيته كذا وكذا بهاراً(2) ذهباً، وهو يروم دمي ويحرّض على نفسي، اللّهمّ لا تمتّعهُ به، ولقّه عواقب بغْيِه(3).

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 215، انساب الأشراف للبلاذري: 217، باختلاف.

2- البهار: شيءٌ يوذن به، وهو ثلاثمائة رطل اُستمائة ألف مجمع البحرين 1: 257، مادة: بهر، الصحاح للجوهري 2: 599، مادة: بهر، لسان العرب لابن منظور 4: 84، مادة: بهر.

3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 35.

وقال الذهبي في ترجمة طلحة 1: 34: (يحيى بن معين، حدّثنا هشام.. سمعت علقمة بن وقاص الليثي قال: لما خرج طلحة والزبير وعائشة للطلب بدم عثمان

=>


الصفحة 303
نعم، هذا طلحة الذي انحاز لعثمان، واختاره للخلافة من أجل إبعادها عن عليّ، ولأنّ عثمان أعطاه الذّهب والفضّة، وها هو اليوم يؤلّب عليه، ويأمر الناس بقتله، ويمنع دخول الماء إليه، وعندما يأتون بجثّته يمنع من دفنه في مقابر المسلمين، فيدفنُ في "حش كوكب" كانت اليهود تدفن فيه موتاهم(1).

ثمّ بعد ذلك نَرى طلحة أوّل من يُبايع الإمام عليّاً بعد مقتل عثمان، ثمّ

____________

<=

عرّجوا على منصرفهم بذات عرق، فاستصغروا عروة بن الزبير وأبا بكر عبد الرحمان فردّوهما، قال: رأيت طلحة وأحبّ المجالس إليه أخلاها.. فقلت: يا أبا محمّد إنّي أراك وأحبّ المجالس إليك أخلاها إن كنت تكره هذا الأمر فدعه! فقال: يا علقمة لا تلمني، كنّا أمس يداً واحدة على من سوانا، فأصبحنا اليوم جبلين من حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه، ولكنّه كان منّي شيء في أمر عثمان، ممّا لا أرى كفارته إلاّ سفك دمي وطلب دمه) وسند الرواية صحيح كما صرّح الذهبي في تلخيص المستدرك.

وعلّق الذهبي على هذه الرواية بقوله:

(قلت: الذي كان منه في حقّ عثمان تمغفل وتأليب، فعله باجتهاد..).

وفي نفس المصدر 1: 35: (عن قيس قال: رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم، فوقع في ركبته، فما زال يسنح حتى مات.

رواه جماعة عنه، ولفظ عبد الحميد بن صالح عنه: هذا أعان على عثمان ولا أطلب بثأري بعد اليوم.

قال خليقة بن خياط: حدّثنا من سمع جويرية بن أسماء.. عن عمّه: أنّ مروان رمى طلحة بسهم فقتله، ثمّ التفت إلى أبان فقال: قد كفيناك بعض قتلة أبيك).

أقول: هذا الإمام الذهبي المحدّث الكبير يصف طلحة بن عبيد اللّه أحد العشرة المبشرين بالجنة بأنّه مغفل، وأنّ فيه غفلة جعلته يؤلّب الناس على عثمان، ثمّ بعد مقتل عثمان ألّب الناس على علي بن أبي طالب!!

1- تاريخ الطبري 3: 438.


الصفحة 304
ينكُث بيعته ويلتحق بعائشة ابنة عمّه في مكّة، وينقلب فجأةً للمطالبة بدم عثمان، سبحان الله! هل يوجد بهتان أكبر من هذا؟!

بعض المؤرّخين يُعلّلُ ذلك بأنّ عليّاً رفض أن يُولّيه على الكوفة وما وراءها، فنكث البيعة وخرج محارباً للإمام الذي بايعه بالأمس.

إنّها نفسيّة من غرق في الدنيا إلى أُمّ رأسه، وباع آخرته ولم يعد يُشغله غير المنصب والجاه والمال.

يقول طه حسين:

"فكان طلحة إذن يمثّلُ نوعاً خاصاً من المعارضة، رضِيَ مَا أتاحَ الرضى لَه الثراء والمكانة، فلمّا طمع في أكثر من ذلك عارض حتى أهلك وهلكَ(1).

هذا هو طلحة الذي بايع بالأمس الإمام علياً، يخرج بعد أيّام قليلة يجرُّ حرم رسول الله عائشة إلى البصرة، فيقتل الأبرياء، وينهب الأموال، ويُثير الرعب في الناس حتى يشقّوا عصا الطّاعة لعلي، ويقف بدون خجل يُحارب إمام زمانه الذي أعطاه عهد البيعة طائعاً مختاراً.

ومع ذلك فقد بعث إليه الإمام علي قبل المعركة، فلقيه في الصفّ، فسأله: "أمّا بايعتني؟ وما الذي أخرجك يا طلحة"؟

قال: الطلب بدم عثمان.

قال علي: "قتل الله أولانَا بدم عثمان".

وفي رواية ابن عساكر، قال له الإمام علي: "أُنشدك الله يا طلحة أسمعتَ

____________

1- المجموعة الكاملة لمؤلّفات طه حسين 4: 345.


الصفحة 305
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من كنتُ مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه"؟

قال: نعم.

فقال له: "فلم تُقاتلني"؟!

وكان جوابه: الطّلب بدم عثمان، وكان ردّ علي: "قتل الله أولانا بدم عثمان"(1).

واستجاب الله دعوة علي فقُتل طلحة في اليوم نفسه، قتله مروان بن الحكم الذي جاء به طلحة لمحاربة علي(2).

إنّه طلحة الفتنة والبهتان وتقليب الحقائق لا يراعي في ذلك إلاًّ ولا ذمّة، ولا يفي بعهده، ولا يسمع نداء الحقّ، وقد ذكّره به الإمام علي، وأقام عليه بذلك الحجّة، ولكنّه أصرّ واستكبر وتمادى في غيّه، فضلَّ وأضلَّ، وقُتلَ بسبب فتنته خلق كثير من الأبرياء، لم يشاركوا في مقتل عثمان ولا عرفوه مدّة حياتهم، ولا خرجوا من البصرة.

نقل ابن أبي الحديد أنّه لمّا نزل طلحة البصرة أتاه عبد الله بن حكيم التميمي لكُتب كان كتبها إليه فقال لطلحة:

____________

1- تاريخ دمشق 25: 108، باختلاف.

2- قال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة مروان 3: 479: (قال ابن سعد: كانوا ينقمون على عثمان تقريب مروان وتصرّفه.

وقاتل يوم الجمل أشدّ قتال، فلمّا رأى الهزيمة رمى طلحة بسهم فقتله، فخرج يومئذ وحمل إلى بيت امرأة فداووه.. وكان يوم الحرة مع مسرف بن عقبة يحرّضه على قتال أهل المدينة).


الصفحة 306
يا أبا محمّد أما هذه كتبك إلينا؟

قال: بَلَى.

قال: فكتبتَ أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتّى إذا قتلتهُ أتيتنا ثائراً بدمه، فلعمري ما هذا رأيك، إنّك لا تريد إلاّ هذه الدنيا، مهلا إذا كان هذا رأيكَ فلِمَ قبلتَ من علي ما عرض عليك من البيعة، فبايعته طائعاً راضياً ثمّ نكثتَ بيعتك، ثمّ جئتَ لتدخلنا في فتنتك(1).

نعم، هذه هي حقيقة طلحة بن عبيد الله عارية، كما ذكرها أصحاب السنن والتواريخ من "أهل السنّة والجماعة"، وبعد كلّ هذا فهم يقولون بأنّه من العشرة المبشّرين بالجنّة.

ويحسبون أنّ الجنة هي فندق هيلتون يدخلها أصحاب الملايين والسماسرة من رجال الأعمال، فيلتقي فيها القاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، ويلتقي فيها المؤمن والفاسق، والبرّ والفاجر.

{ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىً مِنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيم }(2).

{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ }(3).

{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ }(4).

{ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 318.

2- المعارج: 38.

3- ص: 28.

4- السجدة: 18.


الصفحة 307
* وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ }(1).

5 ـ الزبير بن العوّام:

هو أيضاً من كبار الصحابة ومن المهاجرين الأوّلين، وله قرابة قريبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو ابن صفيّة بنت عبد المطّلب عمّة النبيّ.

وهو أيضاً زوج أسماء بنت أبي بكر أُخت عائشة، وهو أحد الستة الذين رشحهم عمر بن الخطّاب للخلافة(2).

وهو أيضاً من المبشّرين بالجنّة على ما يقول "أهل السنّة والجماعة".

ولا غرابة أن نجده دائماً في صحبة شبيهه طلحة، فلا يذكر طلحة إلاّ ومعه الزبير، ولا الزبير إلاّ ومعه طلحة.

وهو أيضاً من الذين تنافسوا في الدّنيا وملأوا منها البطون، فقد بلغتْ تركته حسبما يذكره الطّبري، خمسين ألف دينار، وألف فرس، وألف عبد، وضياعاً كثيرة في البصرة وفي الكوفة وفي مصر وغيرها.

____________

1- السجدة: 19 ـ 20.

2- لقد ابتكر عمر بن الخطّاب هذه الفكرة وهي من الدّهاء بمكان، وذلك ليخلق معارضين لعلي ومنافسين له; لأنّ الصحابة كلّهم كانوا على علم تامّ بأنّ الخلافة هي من حقّ عليّ وإنّما اغتصبتها قريش اغتصاباً، ولمّا حاججتهم فاطمة الزهراء قالوا لها: لو سبق إلينا زوجك وابن عمّك ما عدلنا به أحداً، فما رضي عمر بن الخطّاب أن تعود الخلافة بعد موته لصاحبها الشرعي فخلق له منافسين بهذه الطريقة، فطمع كلّ منهم بالخلافة وحدّثتهم أنفسهم بالرئاسة فباعوا دينهم بدنياهم فما ربحت تجارتهم (المؤلّف).


الصفحة 308
يقول طه حسين في ذلك:

"والناس يختلفون في مقدار ما قسّم على الورثة من تركة الزبير، فالمقلّون يقولون: إنّ الورثة اقتسموا فيما بينهما خمسة وثلاثين مليوناً، والمكثرون يقولون: إنّهم اقتسموا اثنين وخمسين مليوناً، والمعتدلون يقولون: إنّهم اقتسموا أربعين مليوناً.

ولا غرابة في ذلك فقد كانت للزبير خطط في الفسطاط، وخطط في الإسكندرية، وخطط في البصرة، وخطط في الكوفة، وإحدى عشرة داراً في المدينة، وكانت له بعد ذلك غلات وعروض أخرى"(1).

أمّا البخاري فيروي أنّه خلّف في تركته خمسين ألف ألف ومائتي ألف(2).

ونحن لا نقصد من هذا العرض محاسبة الصحابة عمّا اكتسبوه من عروض، وما جمعوه من أموال قد تكون كلّها من حلال، ولكن عندما نرى حرص الرجلين طلحة والزبير على الدنيا، ونعلم بأنّهما نكثا بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب; لأنّه عزم على إرجاع الأموال التي اقتطعها عثمان إلى بيت مال المسلمين، عند ذلك نشكّ في أمر الرجلين.

أضف إلى ذلك أنّ الإمام علياً عندما تولّى الخلافة بادرَ بإرجاع الناس إلى السنّة النبويّة، وأوّل شيء فعله هو توزيع بيت المال، فأعطى لكلّ واحد

____________

1- الفتنة الكبرى لطه حسين (ضمن مجموعة المؤلّفات) 4: 342.

2- صحيح البخاري 4: 53 باب فرض الخمس، باب بركة الغازي في ماله حيّاً وميّتاً.


الصفحة 309
من المسلمين ثلاثة دنانير سواء كان عربياً أم أعجمياً، وهو ما فعله النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة حياته، وأبطل علي بذلك بدعة عمر بن الخطّاب الذي فضلّ العربي على الأعجمي، فأعطى للعربي ضعف الأعجمي.

ويكفي علي بن أبي طالب أن يعود بالناس إلى السنّة النبويّة حتى يثور عليه الصحابة الذين أُعجبوا بما ابتدعه عمر.

وهذا أمر أغفلناه في تعليل محبّة قريش وتقديسها لعمر، وقد فضّلها على باقي المسلمين، وبعث فيهم نعرة القومية العربيّة، والقبليّة القريشيّة، والطبقيّة البورجوازيّة.

فكيف يأتي علي بعد ربع قرن من وفاة النبيّ ليعود بقريش إلى ما كانت عليه زمن النبيّ الذي سوّى في العطاء، فكان بلال الحبشي يقبض كالعبّاس عمّ النبيّ، وقد كانت قريش منكرة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك المساواة، وقد نجد خلال تصفّح السيرة بأنّهم كانوا يُعارضونه في أغلب الأوقات من أجل ذلك.

ومن أجل ذلك أيضاً ثارت ثورة طلحة والزبير على أمير المؤمنين علي لأنّه ساوى بينهم في العطاء، ولم يعطهم ما طلبوا من الامارة، ثمّ هو يريد محاسبتهم على الأموال التي جمعوها ليعود بالأموال المسروقة إلى الشعب المستضعف.

والمهم أن نعرف بأنّ الزبير عندما يئس أنْ يولّيه علي على البصرة، وأن يفضّله على غيره، وخاف أن يُحاسبه الخليفة الجديد على ثروته الخيالية، جاء مع صاحبه طلحة يستأذنان علياً في الخروج إلى العمرة، وعرف علي

الصفحة 310
نواياهما المبيتة فقال:

"والله ما أرادا العمرة ولكنّهما أرادا الغدرة"(1).

والتحقَ الزبير هو الآخر بعائشة بنت أبي بكر فهي أختُ زوجته، وأخرجها هو وطلحة صوب البصرة، ولما نبحتها كلاب الحوأب، وأرادت الرجوع جاؤوها بخمسين رجلا جعلوا لهم جعلا وشهدوا زوراً لكي تواصل أُمّ المؤمنين عصيانها لرّبها ولزوجها، وتسير معهم الي البصرة، لأنّهم عرفوا بدهائهم بأن تأثيرها في الناس أكبر من تأثيرهم، فقد أوعزوا طيلة ربع قرن، وأوهموا الناس بأنّها حبيبة رسول الله وابنة الصديق الحميراء التي عندها نصف الدين، والعجيب في أمر الزبير أنّه هو الآخر خرج للطلب بدم عثمان كما يدّعي، وقد اتهمه صلحاء الصحابة بأنّه هو الذي عمل على قتله.

فقد قال له الإمام علي عند مُقابلته له في ساحة المعركة: "أتطلب منّي دم عثمان وأنت قتلته"؟(2)

وفي لفظ المسعودي قال له: "ويحك يا زبير ما الذي أخرجك"؟ قال: الطلب بدم عثمان، قال علي: "قتل الله أولانا بدم عثمان"(3).

كما أخرج الحاكم في المستدرك، قال: جاء طلحة والزبير إلى البصرة، فقال لهم الناس: ما جاء بكم؟ قال: نطلب بدم عثمان، فقال الحسين: أيا سبحان الله، أفما كان للقوم عقول فيقولون والله ما قتل عثمان غيركم(4).

____________

1- تاريخ اليعقوبي 2: 180، الإرشاد للمفيد 1: 245.

2- تاريخ الطبري 3: 520.

3- مروج الذهب 2: 363 في معركة الجمل.

4- المستدرك 3: 118.


الصفحة 311
لقد فعل الزبير مثل صاحبه طلحة، غدر بعثمان وحرّض على قتله، ثمّ بايع الإمام عليّاً طائعاً ونكث البيعة والعهد، وجاء إلى البصرة يطلب هو الآخر بدم عثمان!

ولمّا دخل البصرة شارك بنفسه في تلك الجرائم، فقتلوا أكثر من سبعين رجلا من حرّاسه، ونهبوا بيت المال، يقول المؤرّخون بأنّهم كتبوا كتاب هدنة مع عثمان بن حنيف (والي البصرة)، وتعاهدوا على احترامه حتى يقدم علي.

ثُمّ خانوا العهد والميثاق، وهجموا على عثمان بن حنيف، وهو يصلّي بالناس صلاة العشاء، فكتفوهم وقتلوهم، وأرادوا قتل عثمان بن حنيف والي علي، فخافوا أن يسمع أخوه سهل بن حنيف والي المدينة فينتقم من أهلهم، فضربوه ضرباً شديداً ونتفوا لحيته وشاربيه، ثمّ هجموا على بيت المال فقتلوا من حراسه أربعين رجلا وحبسوا عثمان وأسرفوا في تعذيبه.

يقول طه حسين في شأن هذه الخيانة، ويقصد طلحة والزبير:

"لم يكتف هؤلاء القوم بنكث البيعة التي أعطوها عليّاً، وإنّما أضافوا إليها نكث الهدنة التي اصطلحوا عليها مع عثمان بن حنيف، وقتلوا من قتلوا من أهل البصرة الذين أنكروا نقض الهدنة وحبس الأمير، وغصب ما في بيت المال، وقتل من قتلوا من حرسه"(1).

ولمّا أقبل عليّ إلى البصرة لم يقاتلهم، بل دعاهم إلى كتاب الله فرفضوا وقتلوا من حمل إليهم القرآن، ومع ذلك فقد ناداه الإمام هو الآخر، وذكّره

____________

1- الفتنة الكبرى لطه حسين (ضمن مجموعة المؤلّفات) 4: 465.


الصفحة 312
كما فعل مع طلحة، إذ قال له:

"يا زبير أتذكر يوم مررت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بني غنم فنظر إليّ فضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): صه، إنّه ليس به زهو ولتقاتلنّه وأنت له ظالم"(1).

ذكر ابن أبي الحديد خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول فيها:

"اللهمّ إنّ الزبير قطع رحمي، ونكث بيعتي، وظاهر عليّ عدوّي، فاكفنيه اليوم بما شئت"(2).

وقد جاء في نهج البلاغة للإمام علي قوله في طلحة والزبير: "اللهم إنّهما قطعاني وظلماني، ونكثا بيعتي، وألّبا الناس عليَّ، فاحلل ما عقدا، ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أملا وعملا، ولقد استتبتهما قبل القتال، واستأنيتُ بهما أمام الوقائع، فغمطا النعمة وردّا العافية"(3).

وفي رسالة منه بعث بها إليهما قبل بدء القتال جاء فيها: "فارجعا أيّها الشيخان عن رأيكما، فإن الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يجتمع العار

____________

1- تاريخ الطبري 3: 514 في وقعة الجمل، الإمامة والسياسة 1: 92، الكامل لابن الأثير 3: 240، وأخرج الحاكم في المستدرك 3: 366 من طريق أبي حرب بن أبي الأسود الديلي قال: (شهدت الزبير خرج يريد علياً، فقال له علي: أنشدك اللّه هل سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: تقاتله وأنت له ظالم؟

فقال: لم أذكر، ثمّ مضى الزبير منصرفاً). وصحّحه الحاكم، ووافقه الذهبي في التلخيص.

2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 306، الكافي 5: 54 ح4.

3- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 2: 21.