الصفحة 313
والنار، والسلام"(1).

وهذه هي الحقيقة المؤلمة، وهذه هي نهاية الزبير، ومهما يحاول بعض المؤرّخين إقناعنا بأنّه تذكّر حديث النبيّ الذي ذكره به علي فتاب واعتزل القتال، وخرج إلى وادي السباع فقتله ابن جرموز، فهذا لا يستقيم مع نبوءة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال له: "ستقاتل عليّاً وأنت له ظالم".

ويقول بعض المؤرّخين بأنّه أراد الاعتزال عندما ذكره الإمام علي بالحديث، ولكن ابنه عبد الله عيّره بالجبن، فأخذته الحمية فرجع يقاتل حتى قتل.

وهذا أقرب للواقع وللحديث الشريف الذي فيه إخبار بالغيب من الذي لا ينطق عن الهوى.

ثمّ لو كان فعلا ندم وتاب ورجع عن غيّه وظلمه، فلماذا لم يعمل بقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، وأخذل من خذله"؟

فلماذا لم ينصر علياً ولم يواله ولم يسترضه؟ وهب أنّ ذلك لا يمكنه فعله، فهلاّ ركب في الناس الذين جاء بهم للحرب، وأخبرهم بأنّه استبصر إلى الحقّ وتذكّر ما كان ناسياً، وطلب منهم أنْ يكفّوا عن الحرب، فيحقن بذلك دماء الأبرياء من المسلمين؟

لكن شيئاً من ذلك لم يقع، فعرفنا بأنّ أُسطورة التوبة والاعتزال هي من خيال الوضّاعين الذين بهرهم حقّ علي وباطل الزبير، وبما أنّ صاحبه

____________

1- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 3: 111.


الصفحة 314
طلحة قتله مروان بن الحكم، فاختاروا ابن جرموز لقتل الزبير غدراً حتى يتسنّى لهم التأويل في مصير طلحة والزبير، فلا يحرموهم من دخول الجنّة ما دامت الجنّة من ممتلكاتهم يدخلون فيها من يشاؤون ويمنعون منها من يشاؤون.

ويكفينا دليلا على كذب الرواية ما جاء في رسالة الإمام علي، ودعوتهما للرجوع عن الحرب وقوله: "فإن الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يجمع العار والنار".

ولم يحدث أحد أنّهما استجابا لندائه، ولا امتثلا لأمره، ولا ردّا على رسالته.

أضف إلى كلّ ذلك أنّ الإمام وقبل بدء المعركة دعاهم لكتاب الله كما قدّمنا، فرفضوا الامتثال، وقتلوا الشاب الذي حمل لهم القرآن، عند ذلك استباح علي قتالهم.

وإنّك لتقرأ بعض المهازل عند المؤرّخين، فتعرف أنّ البعض منهم لا يعرفون الحقّ ولا يفقهون، مثال ذلك: يقول بعضهم بأنّ الزبير لما علم بأنّ عمّار بن ياسر جاء مع عليّ بن أبي طالب، قال: يا جدع أنفاه، يا قطع ظهراه، ثمّ أخذه إفكل فجعل السلاح ينتفض في يده، فقال أحد أصحابه: ثكلتني أُمي هذا الزبير الذي كنت أريد أن أموت معه أو أعيش معه؟

والذي نفسي بيده ما أخذ هذا ما أرى إلاّ لشيء قد سمعه أو رآه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

ويقصدون بوضع هذه الروايات بأنّ الزبير تذكّر حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) "ويح

____________

1- تاريخ الطبري 3: 521، أنساب الأشراف للبلاذري: 257.


الصفحة 315
عمّار تقتله الفئة الباغية" فخاف وارتعش وارتعدت فرائصه خوفاً من أن يكون من الفئة الباغية!

ويريد هؤلاء أن يحتقروا عقولنا ويهزؤوا منّا، لكن عقولنا كاملة وسليمة بحمد الله ولا نرضى منهم بذلك، فكيف يخاف الزبير ويرتعد من حديث "عمّار تقتله الفئة الباغية" ولا يخاف ولا يرتعد من أحاديث كثيرة قالها النبيّ في علي بن أبي طالب؟ أكان عمّار عند الزبير أفضل وأشرف من علي؟!

ألم يسمع الزبير قول النبيّ: "يا علي لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق"(1)؟ ألم يسمع قوله: "علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيث دار"(2)، وقوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من

____________

1- مسند أحمد 1: 95 وصّرح الشيخ أحمد شاكر بصحته، سنن الترمذي 5: 306، السنن الكبرى للنسائي 5: 137 ح8487، صحيح مسلم 1: 61.

2- المناقب لابن شهرآشوب 2: 260، تاريخ بغداد 14: 322 بلفظ "علي مع الحقّ والحقّ مع عليّ ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة"، ومثله في تاريخ دمشق 42: 449، وفي مجمع الزوائد 7: 235 عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (علي مع الحقّ أو الحقّ مع علي حيث كان)، وتعقّبه الهيثمي بقوله: رواه البزار وفيه سعيد بن شعيب ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.

أقول: وقع تصحيف في اسم الرواي فهو سعيد بن شعيب الحضرمي وهو ثقة لمن يرجع إلى ترجمته.

وفي مجمع الزوائد 7: 235 عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال عندما مرّ به علي (عليه السلام): (الحقّ مع ذا، الحقّ مع ذا)، رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

وفي تاريخ مدينة دمشق 42: 418: (عن محمّد بن منصور الطولي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

قال الشيخ أبو بكر البيهقي: وهذا لأنّ أمير المؤمنين علياً عاش بعد سائر الخلفاء حتى ظهر له مخالفون وخرج عليه خارجون فاحتاج من بقي من الصحابة إلى رواية ما سمعوه في فضائله ومراتبه ومناقبه ومحاسنه ليردّوا ذلك عنه ما لا يليق به من القول والفعل، وهو أهل كلّ فضيلة ومنقبة ومستحقّ لكلّ سابقة ومرتبة، ولم يكن أحدٌ في وقته أحقّ بالخلافة منه، وهو كما قال أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل (رحمه الله) فيما أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ في التاريخ، نا علي بن عيسى وهو من ثقات شيوخ شيخنا، نا أحمد بن مسلمة، قال: سمعت أحمد بن سعيد الرباطي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يزل علي بن أبي طالب مع الحقّ والحقّ معه حيث كان.


الصفحة 316
عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله"(1)، وقوله: "يا علي أنا حرب لمن

____________

1- حديث الغدير حديث صحيح متواتر، صرّح بتواتره الذهبي في تذكرة الحفّاظ 2: 713، وسير أعلام النبلاء 7: 571، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 343، نظم المتناثر من الحديث المتواتر، الكتاني: 194، قطف الأزهار المتناثرة، السيوطي: 277، وقال ابن حجر في الصواعق 1: 106 "وقول بعضهم: إنّ زيادة "اللهمّ وال من والاه..." مردود فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثيراً منها".

وفي مجمع الزوائد نقل عدّة طرق لهذا الحديث فذكر منها 9: 104: (وعن عمرو ابن ذي مر وسعيد بن وهب وعن زيد بن بثيع قالوا: سمعنا علياً يقول: نشدت رجلا سمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خمّ لما قام فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟". قالوا: بلى يا رسول اللّه! قال: فأخذ بيد علي فقال: "من كنت مولاه فهذا مولاه اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من يبغضه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله" ثمّ قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليقة وهو ثقة، وذكر الحديث ابن حبان في صحيحه 15: 376، وأخرجه الحاكم في المستدرك 3: 109 وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله"، وأخرج الحديث مع زيادة: اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله" ابن ديزل في كتابه (وقعة صفّين) بإسناد رجاله كلّهم ثقات كما نقل ذلك ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3: 208.


الصفحة 317
حاربك وسلم لمن سالمك"(1)، وقوله: "لأعطينّ رايتي إلى رجل يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله"(2)، وقوله: "أنا قاتلتهم على تنزيل القرآن وأنت

____________

1- الأمالي للمفيد: 213 ح4، وورد بلفظ الجمع في مسند أحمد 2: 442، سنن الترمذي 5: 360، المستدرك 3: 149، صحيح ابن حبّان 15: 434، أحكام القرآن للجصاص 1: 571، تاريخ بغداد 7: 144، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 512، المعجم الكبير للطبراني 3: 40، تاريخ دمشق لابن عساكر 13: 218 ـ 219، وروي الحديث بطريق ثالث بلفظ "أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم" أخرجه الحافظ عمرو بن شاهين في كتابه (فضائل سيّدة النساء 29).

وهو من الأحاديث المعتبرة عند المحدّثين، قال الحاكم في المستدرك بعد أن أخرجه وذكر له شاهداً: "هذا حديث حسن" ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك على ذلك.

وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح 3: 1735 والتي هي تلخيص لكتاب المصابيح للبغوي، وقد ذكر البغوي في المصابيح أنّه إذا لم يشر إلى ضعف الحديث وكان موجوداً في كتب السنن فهو من الحسان عنده.

والخلاصة: إنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) جعلهم ميزاناً ومعياراً يعرف من خلاله حرب الإسلام والمحارب له، فمن حاربهم فهو محارب للإسلام ومن ناصرهم فهو مناصر للإسلام، فتكون حرب الجمل التي قادتها عائشة وطلحة والزبير حرب ضدّ الإسلام، بنصّ كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي لا ينطق عن الهوى.

2- راجع صحيح البخاري 5: 76 (كتاب المغازي، باب غزوة خيبر)، صحيح مسلم 7: 120 (كتاب الفضائل، من فضائل علي).


الصفحة 318
تقاتلهم على تأويله"(1)، وقوله: "يا علي أعهد إليك بأن تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين"(2).

وقوله... وقوله... وآخرها حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الزبير نفسه: "ستقاتله وأنت له ظالم" فأين الزبير من كلّ هذه الحقائق التي يعرفها كلّ الناس الأباعد الغرباء، فكيف به وهو ابن عمّة النبيّ وابن عمّة علي؟

إنّها العقول المتحجّرة التي لم تقدر على دفع الأحداث التاريخية وما فيها من حقائق، فتحاول بكلّ جهودها عبثاً أن تجد بعض الأعذار الواهية لكي تموّه على الناس، وتوهمهم بأنّ طلحة والزبير من المبشرين بالجنّة.

{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ }(3).

{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }(4).

6 ـ سعد بن أبي وقاص:

وهو أيضاً من كبار الصحابة السابقين إلى الإسلام، ومن المهاجرين الأوّلين الذين شهدوا بدراً، وهو أحد الستّة الذين رشّحهم عمر بن الخطّاب للخلافة بعده، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة على زعم "أهل السنّة

____________

1- مضى تخريجه في صفحات سابقة.

2- المستدرك للحاكم 3: 140، مسند أبي يعلى 1: 397 ح519، المعجم الكبير 4: 172، باختلاف.

3- البقرة: 111.

4- الأعراف: 40.


الصفحة 319
والجماعة".

وهو بطل القادسية في خلافة عمر بن الخطّاب، ويقال: إنّ بعض الصحابة كانوا يشكّون ويطعنون في نسبه ويؤذونه بذلك، ويروون أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أثبتَ نسبه فهو من بني زهرة.

وينقل ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة أنّ بني زهرة اجتمعوا بعد وفاة النبيّ إلى سعد بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين، فلمّا أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة قال لهم عمر: مالي أراكم حلقاً شتّى؟ قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار، فقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما من بني زهرة فبايعوا(1).

ويُروى أنّ عمر بن الخطّاب عزله عن الولاية، ولكنّه أوصى الخليفة من بعده إن صُرفتْ الخلافة عن سعد أن يولّيَهُ; لأنّه لم يعزله عن خيانة، وقد نفّذ عثمان بن عفّان وصية عمر فولاّه على الكوفة.

ومن الملاحظ أنّ سعد بن أبي وقاص لم يترك ثروة كبيرة بالقياس الى أصحابه، وبلغت تركته حسب الرواة ثلاثمائة ألف، كما أنّه لم يشارك في قتل عثمان، ولم يحرّض عليه كطلحة والزبير.

روى ابن قتيبة في تاريخه قال: كتب عمرو بن العاص إلى سعد بن أبي وقاص، يسأله عن قتل عثمان ومن قتله؟

فكتب إليه سعد: إنّك سألتني مَن قتل عثمان؟ وإنّي أخبرك أنّه قُتِلَ بسيف سلّتْهُ عائشة، وصقله طلحة، وسمّه ابن أبي طالب، وسكت الزبير

____________

1- تاريخ الخلفاء لابن قتيبة 1: 28.


الصفحة 320
وأشار بيده، وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه، ولكنّ عثمان غيّر وتغيّر، وأحسن وأساء، فإن كنّا أحسنّا فقد أحسنّا، وإن أسأنا نستغفر الله، وأخبرك أنّ الزبير مغلوب بغلبة أهله وبطلبه بذنبه، وطلحة لو يجدُ أن يشقّ بطنه من حبّ الإمارة لشقّه...(1).

ولكن الغريب في سعد بن أبي وقّاص أنّه تخلّف عن بيعة أمير المؤمنين علي ولم يُعينه، وهو يعرف حقّ الإمام وفضله، فقد روى بنفسه عدّة فضائل في علي، منها ما أخرجه الإمام النسائي والإمام مسلم في صحيحيهما:

قال سعد: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في علي خصالا ثلاثاً; لئن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليَّ من حمر النعم، سمعته يقول: "إنّه منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"، وسمعته يقول: "لأعطينّ الراية غداً رجلا يحبّ الله ورسولَه ويُحبّهُ الله ورسولُه"، وسمعته يقول: "أيّها الناس من وليّكم"؟ قالوا: الله ورسوله ثلاثاً، ثمّ أخذ بيد علي فأقامه ثمّ قال: "من كان الله ورسوله وليّهُ فهذا وليه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه"(2).

____________

1- تاريخ الخلفاء لابن قتيبة 1: 67.

2- خصائص الإمام النسائي، ط / القاهرة: 23 ح12، و63 ح96 والمؤلّف لفّق بين الحديثين، وورد الحديث في صحيح مسلم 4: 30 ـ 32 باب فضائل علي بن أبي طالب ولكن ليس فيه (أيها الناس من وليكم..)، وورد الحديث في سنن ابن ماجة 1: 56 عن سعد بن أبي وقاص قال: (قدم معاوية في بعض حجّاته فدخل عليه سعد، فذكروا علياً، فنال منه، فغضب سعد وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، وسمعته يقول: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"، وسمعته يقول: "لأعطين الراية اليوم رجلا يحب اللّه ورسوله". وصرّح الشيخ الألباني في صحيحته 4: 335 ح1750 بصحّته.

فهذه المناقب مروية عن سعد بن أبي وقاص منفردة كما في خصائص النسائي، ومجتمعة كما في سنن ابن ماجة وغيره، وعليه فكلام عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني: 184 عار عن الصحّة، وإنكار للواضحات نتيجة التسرّع في ردّ فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، والتي تعتريه حدّة عند سماعها كما اعترت إمامه ابن تيمية من قبله.


الصفحة 321
وفي صحيح مسلم قال سعد بن أبي وقاص: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي: "أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي"، وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطينّ الراية رجلا يحبّ الله ورسولَه، ويُحبّه الله ورسولُه"، قال: فتطاولنا لها، فقال: "ادعوا علياً.." ولمّا نزلتْ هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ}(1) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: "اللّهمّ هؤلاء أهلي"(2).

فكيف يعرف سعد بن أبي وقّاص كلّ هذه الحقائق ثمّ يمتنع عن بيعته؟!

كيف يسمع سعد قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "من كان الله ورسوله وليه فعليٌّ وليُّه، اللّهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه" والذي رواه هو بنفسه ثمّ لا يواليه لا ينصره؟!

كيف يغيب على سعد بن أبي وقّاص حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) "مَن ماتَ وليستْ في عنقه بيعة ماتَ ميتة جاهليّة"(3) الذي رواه عبد الله بن عمر،

____________

1- آل عمران: 61.

2- صحيح مسلم 7: 120، (كتاب الفضائل، باب فضائل علي بن أبي طالب).

3- صحيح مسلم 6: 22 (كتاب الامارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن).


الصفحة 322
فيموت سعد ميته جاهلية ناكباً عن بيعة أمير المؤمنين، وسيّد الوصيّين، وقائد الغرّ المحجلين؟!

يذكر المؤرخون بأنّ سعداً جاء إلى الإمام علي معتذراً فقال: والله يا أمير المؤمنين لاَ ريب لي في أنّك أحقَّ الناس بالخلافة، وأنت أمينٌ على الدين والدّنيا، غير أنّه سينازعك على هذا الأمر أُناسٌ، فلو رغبت في بيعتي لك أعطني سيفاً له لسانٌ يقول لي: خذ هذا ودع هذا!

فقال له علي: "أترى أحداً خالف القرآن في القول أو العمل؟ لقد بايعني المهاجرون والأنصار على أن أعمل فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه، فإن رغبتَ بايعتَ وإلاّ جلستَ في دارك، فإنّي لستُ مكرهكَ عليه"(1).

أليس موقف سعد بن أبي وقاص غريباً؟! فهو يشهدُ بأن عليّاً لا ريب فيه، وأنّه أحقّ الناس بالخلافة، وأنّه أمينٌ على الدّين والدّنيا، ثمّ بعد هذا يُطالبه بسيف ناطق كشرط على بيعته حتّى يعرف به الحقّ من الباطل؟!

أليس هذا تناقضاً يرفُضه العقلاء؟ وهل هذا إلاّ المُحال الذي يطلبه مكابرٌ عرف الحقَّ من صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم) في أكثر من حديث روى هو بنفسه منها أكثر من خمسة؟!

ألم يكن سعد حاضراً بيعة أبي بكر وعمر وعثمان، والتي حكموا في كلّ منها بقتل مَن يتخلّف عنها خوفاً من الفتنة؟

وقد بايع سعدٌ لعثمان وانحاز إليه بدون شرط، وسمع عبد الرحمان بن عوف يُهدّد علياً مسلِّطاً السيف فوق رأسه قائلا: فلا تجعل على نفسك

____________

1- الفتوح لابن أعثم 1: 440، ذكر من فشل عن البيعة وقعد عنها.


الصفحة 323
سبيلا فإنّه السيف لا غير(1).

وكان حاضراً لما امتنع عليّ عن بيعة أبي بكر، فهدّده عمر بن الخطّاب وقال له: بايع وإلاّ والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك(2).

وهل جرّأ المتخلّفين عن البيعة، والذين تطاولوا على وصيّ النبيّ أمثال عبد الله بن عمر، وأُسامة بن زيد، ومحمّد بن مسلمة، إلاّ تخلّف سعد بن أبي وقّاص؟

وإنّك تلاحظ أنّ الاشخاص الخمسة الذين عيّنهم عمر بن الخطّاب لمنافسة علي في الخلافة قد لعبوا بالضبط الدور الذي رسمه لهم ابن الخطّاب، وهو منع علي من الوصول إليها، فهذا عبد الرحمان يختار للخلافة صهره عثمان، ويهدّد عليّاً بالقتل إن لم يُبايع، كلّ ذلك لأنّ عمر رجّح كفّة عبد الرحمان على الباقين، وبعد موت عبد الرحمان بن عوف ومقتل عثمان ابن عفّان لم يبق من المنافسين لعلي في الخلافة إلاّ ثلاثة طلحة والزبير وسعد.

ولمّا رأى هؤلاء بأنّ المهاجرين والأنصار هرعوا للإمام علي وبايعوه ولم يلتفتوا لأيّ واحد منهم، عند ذلك أضمروا له الشرّ وأرادوا به الهموم، فحاربه طلحة والزبير، وخذله سعد.

ولا تنسَ بأنّ عثمان بن عفّان لم يمت حتّى كوّنَ لعلي مُنافساً جديداً هو أخطر منهم جميعاً، وأشدّ مكراً ودَهاء، وأكثرهم عدّة وعدداً، فقد مهّد له

____________

1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 45 في بيعة عثمان.

2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 30 في بيعة عليّ (عليه السلام).


الصفحة 324
عثمان للاستيلاء على الخلافة بأنْ ضمّ له تحت ولايته التي دامت عشرين عاماً أهمّ الولايات، والتي تجمع أكثر من ثلثي العائدات للدولة الإسلامية بأسرها.

وهذا المنافس هو معاوية الذي لم يكنْ له دينٌ ولا خلقٌ، وليس له شغلٌ إلاّ الوصول إلى الخلافة بأيّ ثمن وعن أيّ طريق.

ومع ذلك فإنّ أمير المؤمنين عليّاً لم يجبر الناس على البيعة بالقوّة والإكراه، كما فعل الخلفاء من قبله، ولكنّه تقيّد (سلام الله عليه) بأحكام القرآن والسنّة، ولم يغيّر ولم يبدّل أبداً، ألم تقرأ قوله لسعد: "لقد بايعني المهاجرون والأنصار على أن أعمل فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه، فإن رغبتَ بايعتَ وإلاّ جلست في دارك، فإنّي لستُ مكرهك عليه".

هنيئاً لك يابن أبي طالب، يا من أحييتَ القرآن والسنّة بعدما أماتهما غيرك من قبلك، فهذا كتاب الله ينادي: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }(1).

وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(2).

فلا إكراه في الدّين، ولا بيعة بالإكراه في الإسلام، ولم يأمر الله نبيّه أن يقاتل الناس ليبايعوه.

وهذه سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته الشريفة تحدّثنا بأنّه لم يكره أحداً من

____________

1- الفتح: 10.

2- يونس: 99.


الصفحة 325
الناس على بيعته أبداً، ولكنّ الخلفاء والصحابة هم الذين سنّوا تلك البدعة، وهدّدوا الناس بالقتل إنْ لم يدخلوا في بيعتهم!!

وإذا كانت فاطمة نفسها هُدِّدَتْ بالحرق إنْ لم يخرج المتخلّفون في بيتها للبيعة! وإذا كان علي نفسه وهو الذي نصّبه رسول الله للخلافة يسلِّطون عليه السيف، ويقسمون باللّه ليقتلنّه إن لم يُبايع، فلا تسأل عن بقية الصحابة المستضعفين، أمثال عمّار وسلمان وبلال وغيرهم.

والمهم أنّ سعد بن أبي وقّاص امتنع عن بيعة عليّ، كما امتنع عن سبّه لما أمره معاوية بذلك، كما جاء في صحيح مسلم.

ولكن هذا لا يكفي سعداً ولا يضمن له الجنّة; لأنّ مذهب الاعتزال الذي أسّسه تحت شعار: "أنا لستُ معك ولستُ ضدّك" لا يقبله الإسلام ولا يعترف به، لأنّ الإسلام يقول: ليس بعد الحقّ إلاّ الضلال.

ولأنّ كتاب الله وسنّة رسوله قد رسما معالم الفتنة وأخبرا بها ووضعا لها حدوداً، ليهلك مَن هلك عن بيّنة وينجوَ مَن نجا عن بيّنة.

وقد بيّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ شيء بقوله في علي: "اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر من نصره، واخذل مَن خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار"(1).

وقد بيّن الإمام علي الأسباب والدّوافع التي منعت سعداً من الانضمام إليه، ورفضه بيعته عندما قال في الخطبة الشقشقية: "فصغى رجلٌ منهم

____________

1- الملل والنحل للشهرستاني 1: 163، الصواعق المحرقة 1: 106، السيرة الحلبية 3: 384 وفي ملحقات إحقاق الحقّ 6: 292 عن إسعاف الراغبين والعقد الفريد، وقد تقدّم ذكر مصادر الحديث سابقاً.


الصفحة 326
لضغنه".

ويقول الشيخ محمّد عبده في شرح هذا المقطع:

"كان سعد بن أبي وقّاص في نفسه شيء من علي (كرّم الله وجهه) من قبل أخواله; لأنّ أُمّه حمنة بنت سفيان بن أُميّة بن عبد شمس، ولعلي في قتل صناديدهم ما هو معروف ومشهور"(1).

فالحقد الدّفين والحسد أعمى بصيرة سعد، فلم يعد يرى لعلي ما يراه لخصومه، فقد نُقِلَ عنه أنّه لمّا ولاّه عثمان ولاية الكوفة خطب فيهم قائلا: "أطيعوا خير الناس أمير المؤمنين عثمان".

فسعد بن أبي وقّاص كان هواه مع عثمان في حياته وحتى بعد مقتله، وبذلك نفهمُ اتّهامه بالمشاركة في قتل عثمان عندما كتب لعمرو بن العاص بقوله: "إنّ عثمان قُتِلَ بسيف سلّتهُ عائشة وسمّه ابن أبي طالب".

إنّه اتّهام باطلٌ يشهد التاريخ على كذبه، فلم يكن لعثمان في محنته أكثر نُصحاً ومواساةً من علي، لو كان له رأيٌ يُطاع.

والذي نستخلصه من مواقف سعد المتخاذلة، هو بالضّبط ما وصفه به الإمام علي بأنّه صاحب ضغينة، فهو رغم معرفته بحقّ علي إلاّ أن الضغينة والحقد وقفا حائلا بينه وبين الحقّ، فبقي حائراً مُتحيّراً بين ضمير يوبّخه ويوقظ فيه شعلة الإيمان، وبين نفس مريضة أقعدتها عاداتُ الجاهلية فصغتْ لضغنها، وتغلّبتْ نفس سعد الأمّارة بالسّوء على ضميره، فتردّتْ به وأقعدته عن نصرة الحقّ.

____________

1- شرح نهج البلاغة للشيخ محمّد عبده 1: 34.


الصفحة 327
والدّليل على ذلك ما أخرجه المؤرّخون عن مواقفه المحيّرة، ذكر ابن كثير في تاريخه قال:

"دخل سعد بن أبي وقّاص على معاوية بن أبي سفيان فقال له: مالك لم تُقاتل عليّاً؟

قال سعد: إنّي مرّتْ بي ريحٌ مظلمة فقلت: أخ، أخ وانخت راحلتي حتّى انجلتْ عنّي، ثمّ عرفتُ الطّريق فسرتُ.

فقال معاوية: ليسَ في كتاب الله أخ، أخ، ولكن قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}(1)، فوالله ما كنتَ مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية.

فقال سعد: ما كنت لأقاتل رجُلا قال له رسول الله: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي".

فقال معاوية: مَن سمع هذا معك؟!

فقال: فلان وفلان وأُمّ سلمة، فقام معاوية فسأل أُم سلمة، فحدّثتهُ بما حدّث سعد، فقال معاوية:

"لو سمعتُ هذا قبل هذا اليوم لكنتُ خادماً لعلي حتى يموت أو أموتُ"(2).

ونقل المسعودي في تاريخه مثل هذه المحاورة بين معاوية وسعد بن

____________

1- الحجرات: 9.

2- تاريخ ابن كثير 8: 83.