الصفحة 328
أبي وقّاص، وذكر أنّ معاوية قال لسعد بعدما حدَّث بحديث المنزلة: ما كنتَ عندي قطّ ألأمَ منك الآن، فهلاّ نصرته؟ ولِمَ قعدت عن بيعته؟ فإنّي لو سمعتُ من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل الذي سمعتَ فيه، لكنت خادماً لعلي ما عشت(1).

وما رواه سعد بن أبي وقّاص لمعاوية في فضل علي هو حديث واحدٌ من بين مئات الأحاديث التي تصبّ كلّها في مصبّ واحد، وتهدف كلّها إلى هدف واحد، ألا هو أنّ علي بن أبي طالب هو الشخص الوحيد الذي يمثّل الرسالة الإسلامية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يقدرُ عليها غيره، وما دام الأمر كذلك فجدير بكلّ المؤمنين الصالحين أن يخدموه طيلة حياتهم.

فليس قول معاوية بأنّه لو سمع مثل هذا الحديث قبل اليوم لكان خادماً لعلي ما عاش، إلاّ حقّاً يفتخر به كلّ مؤمن ومؤمنة.

ولكن معاوية لم يقل ذلك إلاّ استهزاءً وسخريةً من سعد بن أبي وقّاص كي يشتمه باللؤم ويهينَه; لأنّه أمتنع عن سبّ علي ولعنه ولن ينفّذ رغبته في ذلك.

وإلاّ فإنّ معاوية يعرف أكثر من حديث المنزلة في فضل ابن أبي طالب، ويعرف أيضاً بأنّه أولى الناس بعد الرسول، وذلك ما صرّح به في الرسالة التي بعث بها إلى محمّد بن أبي بكر، والتي سيأتي ذكرها إن شاء الله قريباً.

وهل امتنع معاوية عن سب ولعن أمير المؤمنين عندما علم من سعد بذلك الحديث، وأكّدته له أُمّ سلمة عندما سألها؟

كلاّ، إنّه تمادى في غيّه أكثر، وأخذته العزّة بالإثمّ، فأصبح يلعن علياً

____________

1- مروج الذهب 3: 15، في ذكر معاوية وأخباره.


الصفحة 329
وكلّ أهل بيته، وحمل الناس على ذلك حتى شبّ عليه الصغير وهَرُمَ عليه الكبير، وتواصل ذلك ثمانين عاماً أو أكثر.

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(1).

صدق الله العلي العظيم         

7 ـ عبد الرحمان بن عوف

كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسمّاه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الرحمان، وهو من بني زهرة، وهو ابن عمّ سعد بن أبي وقّاص.

هو من كبار الصحابة ومن المهاجرين الأوّلين، وشهد مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المشاهد كلّها، وهو أيضاً من الستّة الذين رشّحهم عمر بن الخطّاب للخلافة، بل جعله رئيساً على مجلس الشورى والمقدّم عليهم جميعاً، إذ قال: "وإذا اختلفتم فكونوا في الشقّ الذي فيه عبد الرحمان بن عوف".

وهو أيضاً من العشرة المبشَّرين بالجنّة في اعتقاد "أهل السنّة والجماعة".

وعبد الرحمان بن عوف كما هو مشهورٌ من التجّار الكبار في قريش، والذي ترك ثروة ضخمة وأموالا طائلة بلغت حسب نقل المؤرخين: ألف بعير ومائة فرس وعشرة آلاف شاة، وأرضاً كانت تزرع على عشرين ناضحاً، وخرجت كلّ واحدة من نسائه الأربع بنصيبها من المال الذي تركه،

____________

1- آل عمران: 61.


الصفحة 330
فكان أربعة وثمانين ألفاً(1).

وعبد الرحمان بن عوف هو صهر عثمان بن عفّان; لأنّه تزوّج أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أُخت عثمان لأُمّه.

وقد عرفنا من خلال كتب التاريخ أنّه لعب دوراً كبيراً لإبعاد علي عن الخلافة بشرطه الذي اشترطه عليه في تحكيم سنّة الخليفتين أبي بكر وعمر، لعلمه مسبقاً بأنّ عليّاً لا يقبلُ بذلك الشرط أبداً لأنّ سنّتهما مُخالفة للكتاب والسنّة النبويّة.

وهذا وحده يكفينا دليلا على تعصُّب عبد الرحمان للبدع الجاهلية، وبُعده عن السنّة المحمّدية، ومشاركته الفعّالة في المؤامرة الكبرى للقضاء على العترة الطّاهرة، وإبقاء الخلافة في حوزة قريش تتحكّم فيها كيف شاءتْ.

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الأحكام، باب كيف يُبايع الإمام الناس، قال المسور: طرقني عبد الرحمان بعد هجيع من اللّيل، فضرب الباب حتى استيقظتُ، فقال: أراك نائماً فوالله ما اكتحلت هذه اللّيلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً فدعوتهما له فشاورهُما، ثمّ دعاني فقال: أدع لي عليّاً فدعوته فناجاه حتّى ابهارّ اللّيل، ثمّ قام عليٌّ من عنده وهو على مطمع، وقد كان عبد الرحمان يخشى من علي شيئاً، ثمّ قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتّى فرّق بينهما المؤذّنُ بالصبح.

فلمّا صلّى للنّاس من الصبح، واجتمع أُولئك الرهطُ عند المنبر، فأرسل

____________

1- راجع الطبقات الكبرى 3: 136، مروج الذهب 2: 350.


الصفحة 331
إلى مَن كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أُمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجّة مع عمر، فلمّا اجتمعوا تشهّد عبد الرحمان ثمّ قال: أمّا بعد يا علي إنّي قد نظرت في أمر الناس فلم أرَهم يَعدلونَ بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، ثمّ قال مخاطباً لعثمان: أُبايعك على سنّة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمان وبايعه الناسُ المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون(1).

والباحث يفهم من هذه الرواية التي أخرجها البخاري بأنّ المؤامرة قد دُبِّرَتُ بليل، ويفهم أيضاً الدّهاء الذي يتمتّع به عبد الرحمان بن عوف، وأن اختيار عمر له لم يكن عفوياً.

تأمّل في قول الراوي وهو المسور: فدعوت له عليّاً فناجاه ثمّ قام عليّ من عنده وهو على مطمع.

وهذا يدلّنا على أنّ عبد الرحمان بن عوف هو الذي أطمع علياً في الخلافة، حتّى لا ينسحبَ عليٌّ من الشورى المزيّفة، ويتسبّب لهم في انقسام الأُمّة مرّة أُخرى، كما وقع عقيب بيعة أبي بكر في السقيفة. ويؤكّد صحّة هذا الاحتمال قول المسور: "وقد كان عبد الرحمان يخشى من عليّ شيئاً".

من أجل ذلك لعبَ عبد الرحمان دور المُراوغ المُخادع، فطمأن عليّاً في اللّيل وهنّأه بالخلافة، ولمّا أصبح وحشر أُمراء الأجناد وحضر رؤوس القبائل وزعماء قريش، عند ذلك انقلب عبد الرحمان ليفاجئ علياً بأنّ الناس لا يعدلُون بعثمان، وأنّ عليه أن يقبل، وإلاّ سيجعل على نفسه سبيلا

____________

1- صحيح البخاري 8: 123 (كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس).


الصفحة 332
(يعني يقتلونه إنْ رفض البيعة لمن اختاروه وهو عثمان بن عفان).

وإنّ الباحث ليفهم ذلك بوضوح خصوصاً عندما يقرأ هذه الفقرة الأخيرة من الرواية، يقول المسور: "فلمّا اجتمعوا تشهّد عبد الرحمان ثمّ قال: أمّا بعد يا علي إنّي نظرتُ في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلا".

فلماذا يوجّه عبد الرحمان خطابه إلى علي وحده من بين الحاضرين، ولماذا لم يقل مثلا: أما بعد يا علي ويا طلحة ويا زبير؟!

من أجل ذلك فهمنا بأنّ الأمر دُبّر بليل، وأن الجماعة كانوا متّفقين من البداية على عثمان وإبعاد علي عنها.

ولنا أنْ نجزم بأنّهم جميعاً كانوا يخشون من عليّ لو وصل إلى الخلافة أن يعود بهم إلى العدالة والمساواة، ويحيي لهم سنّة النبيّ، ويُميت بدعة ابن الخطّاب في المفاضلة، خصوصاً وأنّ عمر بن الخطّاب قد أشار قبل موته إلى ذلك وحذّرهم من خطر علي عليهم، فقال: "لو ولّوها الأجلح لحملهم على الجادة"(1)، والجادة هي السنّة النبويّة التي لا يحبّها عمر ولا تحبّها قريش عامّةً، ولو كانوا يحبّون سنّة النبيّ لولّوا علياً، ولحملهم عليها ولردّهم إليها، فهو نائبها والقائم عليها.

وكما قدّمنا في بحث طلحة والزبير وسعد بأنّهم زرعوا الشوك وحصدوا الخسران والندامة.

____________

1- الطبقات الكبرى 3: 342، كنز العمال 12: 680 ح36044 وصحّحه عن اللالكائي في السنّة.


الصفحة 333
فلننظر إلى عبد الرحمان بن عوف وما آل إليه تدبيره، يقول المؤرخون بأنّ عبد الرحمان بن عوف ندم أشدّ الندم لمّا رأى عثمان خالفَ سنّة الشيخين، وأعطى المناصب والولايات إلى أقاربه وحاباهم بالأموال الطّائلة، فدخل عليه وعاتبهُ وقال: إنّما قدّمتُك(1) على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، فخالفتهما وحابيتَ أهل بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين.

فقال عثمان: إنّ عمر كان يقطع قرابته في الله وأنا أصل قرابتي في الله، قال عبد الرحمان: لله عليَّ أن لا أكلّمك أبداً، فلم يكلمه حتّى ماتَ وهو هاجر لعثمان، ودخل عليه عثمان عائداً له في مرضه، فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يكلّمه(2).

وبهذا يكون الله سبحانه قد استجاب دعاء الإمام علي في عبد الرحمان، كما استجابه في طلحة والزبير فقتلا من يومهما.

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: إن علياً غضب يوم الشورى، وعرف ما دبّره عبد الرحمان بن عوف فقال له:

"والله ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوتَ منه ما رجَا صاحبكما من صاحبه، دقَّ الله بينكما عطر منشم"(3).

ويقصد الإمام علي بأنّ عبد الرحمان طمع أن يستخلفه عثمان من بعده

____________

1- قوله إنّما قدّمتك يدلّ على الاستبداد برأيه ولم يكن عن مشورة ولا عن اختيار النّاس له كما يزعمون.

2- تاريخ أبي الفداء 1: 332، في مقتل عمر، العقد الفريد لابن عبد ربه المالكي 5: 55 ما نقم الناس على عثمان.

3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 188.


الصفحة 334
كما فعل أبو بكر بعمر، وقد قال له علي: "أحلب حلباً لك شطره واشدد له اليوم ليردّه عليك غداً"(1).

أما عطر منشم الذي دعا به علي عليهما فهو مَثلٌ سائر يقال: أشأم من عطر منشم، وهو يدلّ على النفور والمقاتلة.

واستجاب الله دعاء الإمام، فلم تمض سنوات قليلة حتّى ضرب الله بينهم العداوة والبغضاء، وإذا بعبد الرحمان يُعادي صهره، ولا يكلّمه حتّى الموت، ولا يأذن له بالصّلاة على جنازته.

ويتجلّى لنا أيضاً من هذا البحث الوجيز أنّ عبد الرحمان بن عوف هو رأس من رؤوس قريش الذين عملوا على طمس السنّة النبويّة وإبدالها ببدع الخليفتين.

كما يتجلّى لنا بأنّ الإمام علياً (عليه السلام) هو الوحيد الذي ضحّى بالخلافة وما فيها، من أجل الحفاظ على السنّة المحمّدية التي جاء بها أخوه وابن عمّه محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وأنتَ أيّها القارئ الكريم لا شكّ بأنّك عرفت "أهل السنّة والجماعة" على حقيقتهم، كما عرفت بنفسك من هم أهل السنّة، فالمؤمن غرّ كريم، ولكنّه لا يُلدغ من جحر مرّتين.

8 ـ عائشة بنت أبي بكر (أُمّ المؤمنين):

هي زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأُمّ المؤمنين، تزوّجها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنة الثانية

____________

1- المصدر السابق 6: 11، الإمامة والسياسة 1: 29.


الصفحة 335
أو الثالثة للهجرة، وتوفّي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة على أشهر الأقوال المرويّة.

وتجدر الإشارة بأنّ كلّ امرأة تزوّجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمل هذا اللّقب، فيقال أُمّ المؤمنين خديجة، أُمّ المؤمنين حفصة، وأُمّ المؤمنين مارية... إلخ.

أقول هذا لأنّي فوجئت خلال حديثي مع كثير من الناس بأنّهم لم يفهموا معنى الأُمومة التي لُقّبَ بها أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

وبما أنّ حديث "أهل السنّة" كلّه عن عائشة إذا تحدّثوا عن أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأغلب الأحاديث النبويّة ينقلونها عن عائشة، ونصف الدين يأخذونه عن الحميراء عائشة; فكأنّهم فهموا من كلمة "أُمّ المؤمنين" أنّها فضيلة تخصّها من بين سائر أزواجه عليه الصلاة والسلام وعلى آله.

والحال أنّ الله حرّم على المؤمنين الزواج بنساء النبيّ بعد وفاته بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماًً}(1) وقال أيضاً: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ... }(2).

وقد سبق أن أشرنا بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تأذّى من قول طلحة لمّا سمعه يقول: إذا مات محمّد تزوّجت عائشة بنت عمّي.

فأراد الله سبحانه أنْ يقول للمؤمنين بأنّ نساء النبيّ حرامٌ عليكم نكاحهنّ كحرمة أُمّهاتكم.

____________

1- الأحزاب: 53.

2- الأحزاب: 6.


الصفحة 336
مع العلم بأنّ عائشة كانت عقيماً فلم تحمل ولم تخلّف، وكانت من أكبر الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين، إذ إنّها لعبتْ أكبر الأدوار في تقريب البعض من الخلافة وإبعاد البعض عنها، وعملت على تزكية قوم وإقصاء آخرين.

وشاركت في الحروب، وقادت المعارك والرجال، وكانت تبعث بالرسائل لرؤساء القبائل، وتأمر وتنهى، وتعزل أُمراء الجيوش وتؤمّر آخرين، وكانت قطب الرحى في معركة الجَمَل، وعمل طلحة والزبير تحت قيادتها.

ونحن لا نريدُ الإطالة في سرد أدوار حياتها، فقد وافَيْنا البحث عنها في كتاب "فاسألوا أهل الذكر" فعلى الباحثين مراجعته إن أرادوا معرفة ذلك.

ولكنّ الذي يهمّنا في هذا البحث هو اجتهادها وتغييرها لسنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولابدّ من إبراز بعض الأمثلة لكي نفهم من خلال سلسلة هؤلاء "العظماء" الذين هم مفخرة "أهل السنّة والجماعة"، والذين يقتدون بهم ويقدّمونهم على الأئمّة الطاهرين من عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

وليس ذلك في الحقيقة إلاّ نزعة قبليّة عملتْ على محق السنّة النبويّة، وطمس معالمها وإطفاء نورها، لولا وقوف علي والأئمة من ولده لما وجدنا اليوم من سنّة النبيّ شيئاً يُذكر.

وكما عرفنا بأنّ عائشة لم تمتثل لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تقم لها وزناً، وقد سمعتْ من زوجها أحاديث كثيرة في حقّ علي إلاّ أنّها أنكرتها وعملتْ بعكسها.

وعصتْ أمر الله وأمر رسوله لها بالذّات، وخرجت فقادتْ حرب الجمل

الصفحة 337
المشؤومة التي انتهكت فيها المحارم، وقتلت الأبرياء، وخانت العهد في الكتاب الذي كتبتهُ مع عثمان بن حنيف، وعندما جاؤوها بالرّجال مكتّفين أمرتْ بضرب أعناقهم صبراً، وكأنّها لم تسمع قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(1).

ودعنا من الحروب والفِتن التي أشعلت نارها أُمّ المؤمنين، وأهلكت بها الحرث والنسلَ، وهيا بنا إلى تأوّلها هي الأُخرى والقول برأيها في دين الله، وإذا كان مجرّد الصحابي له رأي وقوله حجّة، فكيف بمن يؤخذ نصف الدّين عنها؟!

أخرج البخاري في صحيحه من أبواب صلاة التطوع عن الزهري، عن عروة، عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: الصلاة أوّل ما فرضتْ ركعتان، فأُقرّتْ صلاة السفر وأُتمّتْ صلاة الحضر، قال الزهري: فقلتُ لعروة: ما بالُ عائشة تتمّ؟

قال: تأوّلتْ ما تأوّل عثمان(2).

أفلا تعجب كيف تترك أُمّ المؤمنين زوجة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سنّة رسول الله التي روتها بنفسها وصحّحتها، ثمّ تتبع بدعة عثمان بن عفّان، والتي كانت تحرّض على قتله بدعوى أنّه غيّر سنّة النبيّ وأبلاها قبل أن يُبلى قميصه؟!

نعم، ذلك ما وقع في عهد عثمان، ولكنّها غيّرت رأيها في عهد معاوية بن

____________

1- صحيح البخاري 8: 91 (كتاب الفتن، باب ظهور الفتن). وصحيح مسلم 1: 58 (كتاب الإيمان، باب لا ترجعوا بعدي كفاراً).

2- صحيح البخاري 2: 36 (كتاب الكسوف، باب صلاة التطوع)، صحيح مسلم 2: 143 (كتاب صلاة المسافر).


الصفحة 338
أبي سفيان، وما أسرع أن تغيّر أُمّ المؤمينن رأيها، فقد حرّضتْ على قتل عثمان، ولكنّها لمّا عرفتْ بأنّهم قتلوه وبايعوا عليّاً، غيّرت رأيها وبكتْ على عثمان بكاءً شديداً، وخرجتْ للطلب بدمه هي أيضاً.

والمفهوم من الرواية أنّها أتمّت صلاة السفر، وجعلتها أربع ركعات بدلا من ركعتين في زمن معاوية الذي كان حريصاً على إحياء بدع ابن عمّه ووليّ نعمته عثمان بن عفان.

والناس على دين ملوكهم، وكانت عائشة من أُولئك الناس الذين صالحوا معاوية بعد العداء، فهو الذي قتل أخاها محمّد بن أبي بكر، ومثّل به أشنع مثلة.

ومع ذلك فإنّ المصالح الدنيوية المشتركة تجمع الأعداء وتوحّد الأضداد، لذلك تقرّب إليها معاوية وتقرّبتْ إليه، وأصبح يبعث لها بالهدايا والعطايا والأموال الطائلة.

يقول المؤرّخون: إنّ معاوية لمّا قدم المدينة دخل على عائشة لزيارتها، فلمّا قعد قالتْ له: يا معاوية أَأَمنتَ أنّ أُخبّئ لك من يقتلُك بأخي محمّد بن أبي بكر؟

فقال معاوية: إنّما دخلتُ بيت الأمان.

فقالت: أما خشيتَ الله في قتل حجر بن عدي وأصحابه؟

فقال: إنّما قتلهم من شهد عليهم(1).

وروي أيضاً أنّ معاوية كان يبعث لها بالهدايا والثياب وأشياء توضع في

____________

1- تاريخ الطبري 4: 208، ونحوه البداية والنهاية 8: 60.


الصفحة 339
أسطوانها، وبعث لها مرّة بمائة ألف دفعة واحدة(1).

كما بعث لها مرّة أُخرى وهي بمكّة طوقاً قيمته مائة ألف، كما قضى معاوية كلّ ديون عائشة التي بلغتْ ثمانية عشر ألف دينار، وكلّ ما كانت تعطيه للنّاس(2).

وقد قدّمنا في كتاب "فاسألوا أهل الذكر" أنها أعتقت في يوم واحد أربعين رقبة تكفيراً عن نذرها(3).

كما أنّ الولاة والأمراء من بني أُميّة كانوا يوصلونها، ويبعثون لها بالهدايا والأموال أيضاً(4).

وإذا بحثنا عن هذا التقارب بين عائشة ومعاوية قلنا: متى كان البعد والعداء حتّى نقول بالتّقارب، فأبو بكر هو الذي شارك معاوية في الحكم وولاّه على الشام بعد موت أخيه، ومعاوية يشعر دائماً بفضل أبي بكر عليه، فلولاه لم يكن معاوية يحلم يوماً بالوصول إلى الخلافة.

ثمّ إنّ معاوية يلتقي مع الجماعة في مؤامراتهم الكبرى لمحق السنّة والقضاء على العترة، وقد تقاسموا تلك المهمّة فأحرقوا السنّة وتركوا له القضاء على العترة، فأتمّ معاوية ما أوكل إليه حتّى أجبر الناس على لعن العترة، وبمؤامرته خرج الخوارج على الإمام علي، وبمؤامرته قُتِل علي، وبمؤامرته قتل الحسن بن علي وقد دَسّ له السمّ، وقضى يزيد ابنه من بعده

____________

1- تاريخ ابن كثير 8: 145.

2- تاريخ ابن كثير 8: 145.

3- صحيح البخاري 7: 90 من (كتاب الآداب، باب الهجرة).

4- مسند الإمام أحمد بن حنبل 6: 77.


الصفحة 340
على بقية العترة.

فليس بين معاوية وعائشة عداء، حتى قولها: (أأمنتَ أن أُخبئ لك من يقتلك بأخي محمّد بن أبي بكر) لم يكن إلاّ مداعبة، وإلاّ فإنّها لا تحبّ ابن الخثعمية محمّد بن أبي بكر، والذي كان يحارب ضدّها مع علي ويستحلّ قَتْلها.

ثمّ هي تلتقي مع معاوية في بغض أبي تراب إلى أبعد الحدود، وبحقد يفوق التصوّر والخيال.

ولا أدري أيّهما المتفوّق في ذلك، أهو الذي حاربه وسبّه ولعنه وعمل على إطفاء نوره، أم هي التي عملت على إبعاده عن الخلافة، وحاربتْه وعملتْ على محو اسمه، فكانت لا تذكر اسمه، ولمّا بلغها خبر قتله سَجدتْ شكراً لله؟(1)

وقد بقيَ بغضها لولده من بعده إلى أن منعتْ أن يُدفن الإمام الحسن بجانب جدّه، وخرجتْ تصيحُ راكبة على بغلة تستنفر بني أُميّة وتستعين بهم على بني هاشم قائلة: لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ، وأرادتْ أنْ تشعل حرباً

____________

1- ورد في مقاتل الطالبيين لأبي الفرج: 55: "لمّا أن جاء عائشة قتل عليّ سجدت"، وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس 6: 228: (ولكن عائشة لا تطيب له نفساً) بعدما ذكرت مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وخروجه متوكّئاً على شخصين أحدهما الفضل وقد ذكرته عائشة والآخر لم تذكره، فقال ابن عباس بأن الشخص الآخر هو علي بن أبي طالب، لكن عائشة لا تحبّ ذكره; لأنّها لا تطيب له نفساً. والحديث صحيح الإسناد، وخرجّه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 1: 177 معلّقاً عليه بقوله: (وسنده صحيح).


الصفحة 341
أُخرى، حتى قال لها بعض أقاربها: "ألا يكفينا يوم الجَمَل الأحمر حتّى يُقال يوم البغلة الشهباء"(1).

وهي بلا شكّ واكبتْ مسيرة كبيرة من حكم بني أُميّة، وسمعتهم يلعنون عليّاً وأهل البيت على المنابر، فما أنكرت ذلك ولا نهتْ عنه، ولعلّها كانتْ تشجّع على ذلك من طرف خفي.

فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده قال: جاء رجلٌ فوقع في علي وعمّار عند عائشة، فقالت: أمّا علي فلستْ قائلة لك فيه شيئاً، وأمّا عمّار فإنّي سمعتُ النبيّ يقول فيه: "لا يُخيّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما"(2).

فلا نستغرب إذاً من عائشة إذا أماتتْ سنّة النبيّ، وأحيتْ بدعة عثمان في إتمام الصلاة لإرضاء معاوية، وحكّام بني أُميّة الذين كانوا يتبعونها في حلّها وفي ترحالها، ويمجّدونها ويأخذون الدّين عنها.

كما أنّ عائشة كانتْ تفتي لهم برضاعة الكبير، وكانت ترى أنّ الرجال يمكنهم أن يرضعوا من النساء، فيصبحوا بذلك من محارمهنّ(3).

وما أخرجه الإمام مالك في موطّئه تقشعرّ منه جلود المؤمنين والمؤمنات، إذ يقول بأنّها كانتْ تبعث بالرّجال إلى أُختها أُمّ كلثوم وإلى بنات أخيها، فيرضعوا منهنّ وتستبيح أمّ المؤمنين عائشة بعد تلك الرضاعة

____________

1- تهذيب التهذيب 6: 10، تاريخ اليعقوبي 2: 225.

2- مسند الإمام أحمد بن حنبل 6: 113، تاريخ دمشق 43: 407.

3- قد وفينا البحث في هذه المهزلة في كتاب (لأكون مع الصادقين) في باب خلاف عائشة مع بقية أزواج النبيّ (المؤلّف).


الصفحة 342
مقابلتهم بدون حجاب(1)، لأنّهم على رأيها أصبحوا من مَحارمها!

وما علينا إلاّ أن نتصوّر أحد المسلمين يُفاجئ زوجته مع أحد الرجال، وهو يُداعب ثدييها بالرّضاعة فتقول زوجتُه: إنّي أرضعه لكي يُصبح ابني ويدخُل علينا بدون حرج.

وما على الزوج المسكين إلاّ أن يتحمّل بدعة عائشة، ولا يجد في نفسه حرجاً ممّا قضيت ويسلّم تسليماً.

وأنا أُلْفِتُ الباحثين والمحقّقين إلى هذه الطّامة، فهي وحدها كافيه للكشف عن الحقيقة ولمعرفة الحقّ من الباطل.

وبهذا يتبينُ لنا بأنّ "أهل السنّة والجماعة" يعبدون الله بنصوص ما أنزل بها من سلطان، بدون تمحيص ولا تثبيت، ولو تبيّنوا تلك البدع لنفرتْ نفوسهم منها وتركوها طائعين.

هذا ما لامسته شخصياً عند بعض "علماء السنّة" المتحرّرين الذين عندما اطّلعوا على حديث رضاعة الكبير، استغربوا وذهلوا وأكّدوا بأنّهم لم يسمعوا به أبداً.

وهذه ظاهرة سارية عند "أهل السنّة والجماعة" فكثير من الأحاديث التي يحتجّ بها الشيعة موجودة في صحاحهم، وهم يجهلونها ويكفّرون مَن يقول بها.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوح وَاِمْرَأَةَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ

____________

1- موطأ مالك 2: 606 باب رضاعة الكبير، ولفظه: "فكانت تأمر أُختها أُمّ كلثوم بنت أبي بكر وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال...".