الصفحة 359
وقد اشتهر أبو هريرة في حياته من بين الصحابة بالكذب والتدليس، والإكثار من الأحاديث الموضوعة، حتّى إنّ بعضهم كان يستهزئ به ويطلب منه وضع الأحاديث لما يريد.

فقد رُوِيَ أنّ رجلا من قريش لبسَ جبّةً جديدة وأخذ يتبخترُ فيها، ومرّ بأبي هريرة فقال له: يا أبا هريرة إنّك تكثر الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئاً؟

فقال أبو هريرة: سمعت أبا القاسم يقول: إنّ رجلا ممّن كان قبلكم بينما كان يتبختَرُ في حُلّته إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجلُ فيها حتى تقوم الساعة، فوالله ما أدري لعلّه كان من قومك ورهطك(1).

وكيف لا يشكّ الناسُ في روايات أبي هريرة إذا كانت متناقضة، فقد يروي حديثاً ثمّ يروي نقيضه، وإذا عارضوه واحتجّوا عليه بما رواه سابقاً، يعرضُ عنهم أو يَرطن بالحبشيّة(2).

وكيف لا يتّهمونه بالكذب والوضع، وقد شهد هو على نفسه بأنّه يُحدِّث من جُعبته وينسبه للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

أخرج البخاري في صحيحه أنّ أبا هريرة قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: إمّا أن تُطعمني وإمّا أن تُطلِّقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني إلى من تدَعُني، فقالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من

____________

1- البداية والنهاية 8: 116، صحيح ابن حبان 12: 497.

2- صحيح البخاري 7: 31 (كتاب الطب، باب لا هامة).


الصفحة 360
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

فقال: لا، هذا من كيس أبي هريرة(1).

أُنظر كيف يبدأ الحديث بقوله: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ بعد ذلك عندما يُنكرُون عليه ويستفهمونه يعترف بوضعه ويقول: هو من كيس أبي هريرة!

فهنيئاً لأبي هريرة بهذا الكيس المليء بالأكاذيب والأساطير، والذي وجد له رواجاً عند معاوية وبني أُميّة، واكتسب من ورائه الجاه والسلطان، والأموال والقصور، فقد ولاّه معاوية ولاية المدينة المنوّرة، وبنى له قصر العقيق، وزوّجه من المرأة الشريفة التي كان أبو هريرة يخدمها.

وإذا كان أبو هريرة وزير معاوية المقرّب، فليس ذلك لفضله ولا لشرفه أو علمه، ولكنّه كان يجد عنده الأحاديث التي يريدها ويروّجها، وإذا كان بعض الصحابة يتلكّأون في لعن أبي تراب ويجدون في ذلك حرجاً، فإنّ أبا هريرة لعن علياً في عقر داره وعلى مسمع من شيعته.

روى أبن ابي الحديد قال: لمّا قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلمّا رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه، ثمّ ضربَ صلعتَه وقال: يا أهل العراق أتزعمون أنّي أكذب على رسول الله وأُحرق نفسي بالنّار، والله لقد سمعتُ رسول الله يقول: إن لكلّ نبي حرماً وإنّ حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأشهد أنّ عليّاً قد أحدثَ

____________

1- صحيح البخاري 6: 190 (كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال).


الصفحة 361
فيها.

فلمّا بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاّه المدينة(1).

ويكفينا دليلا أنّه كان والياً على المدينة من قبل معاوية، ولا شكّ في أنّ المحقّقين والباحثين الأحرار سيشكّون في كلّ من تولّى عدوّ الله ورسوله وعادى وليّ الله ورسوله.

ولا شكّ في أنّ أبا هريرة لم يصل إلى ذلك المنصب الرفيع ـ وهو ولاية المدينة عاصمة الإسلام ـ إلاّ للخدمات التي أسداها لمعاوية وحكّام بني أُميّة.

وسبحان مقلّب الأحوال فقد جاء أبو هريرة إلى المدينة عُرياناً ليس له إلاّ نمرة يسترُ بها عورتَه، ويستجدي المارّة ليسدّوا رمقه، والقمل يجري فوق جلده، وإذا به فجأة يُصبح والي المدينة المنورة، يسكن قصر العقيق، وعنده الأموال والخدم والعبيد، ولا يتكلّم الناس إلاّ بإذنه!!

كلّ ذلك من بركات كيسه، فلا تنسَ ولا تتعجَب، فإنّك ترى اليومَ نفس المسرحيّات تتكرّر والتاريخ يعيد نفسه، فكم من مُعدم جاهل تقرّب إلى الحاكم وانخرط في الحزب، فأصبح سيّداً مُهاباً يُقيم الدّنيا ويُقعِدُها، يصول ويجولُ، وتحت تصرّفه الأموال التي لا تخضع للحساب، والسيّارات التي لا تخضعُ للرّقابة، والمأكولات التي لا تُباع في الأسواق، ومع كلّ ذلك فهو لا يُحسن الكلام حتى بلغته، ولا يفهم من معاني الحياة غير بطنه وفرجه، غاية ما هنالك أنّ له كيساً مثل كيس أبي هريرة مع وجود الفارق طبعاً، ولكنّ

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 67.


الصفحة 362
الهدف واحد هو إرضاء الحاكم، والترويج له لدعم ملكه، وتثبيت عرشه، والقضاء على أعدائه.

وقد كان أبو هريرة يحبّ الأمويّين ويحبّونه من زمن عثمان بن عفّان زعيمهم، فكان رأيه في عثمان مخالف لكلّ الصحابة من المهاجرين والأنصار، فهو يكفّر الصحابة الذين شاركوا في قتل عثمان وألّبوا عليه.

ولا شكّ بأنّه كان يتّهم علي بن أبي طالب بقتل عثمان، ونفهم ذلك من حديثه في مسجد الكوفة، وقوله بأنّ علياً أحدث في المدينة، ويلعنه على لسان النبيّ والملائكة والناس أجمعين.

ولذلك ينقلُ ابن سعد في طبقاته أنّه لما ماتَ أبو هريرة سنة 59 كان ولد عثمان بن عفان يحملون سَريره حتّى بلغوا البقيع حفظاً بما كان من رأيه في عثمان(1).

وإنّ لله في خلقه شؤوناً، إذ يموت عثمان بن عفّان سيّد قريش وعظيمها مقتولا ويذبح ذبح النعاج وهو خليفة المسلمين الذي لقّبوه بذي النورين، والذي تستحي منه الملائكة كما يزعمون، ولا يُغسّل ولا يكفّن، ويعطّل دفنه ثلاثة أيام ثمّ يدفن في مقبرة اليهود، ويموت أبو هريرة الدّوسي في العزّ والجاه، وقد كان مُعدماً ولا يعرف أحدٌ قومَه ولا عشيرته، وليس له في قريش قرابة، فيحمله أولاد الخليفة الذين أصبحوا في عهد معاوية ولاة الأُمور ويدفنونه في بقيع رسول الله!!

وهلمّ بنا الآن إلى أبي هريرة لنعرف موقفه من السنّة النبويّة.

____________

1- طبقات ابن سعد 4: 340.


الصفحة 363
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: حفظتُ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعاءين، فأمّا أحدُهما فبثثتهُ، وأمّا الآخر فلو بثثته قُطِعَ هذا البلعوم(1).

وإذا قلنا في الأبحاث السابقة: إنّ أبا بكر وعمر قد أحرقا السنّة النبويّة المكتوبة، ومنعا المتحدّثين من نقلها، فها هو أبو هريرة يفصِحُ بهذا الحديث عن المكنون ويؤكّد ما ذهبنا إليه، ويعترف بأنّه ما كان يحدّث إلاّ بما يروق الخلفاء الحاكمين.

وعلى هذا الأساس فإنّ أبا هريرة كان يملكُ كيسين أو وعاءين، أحدهما كان يبثّه وهو الذي تحدّثنا عنه وفيه ما يشتهيه الحاكمون.

وأمّا الوعاء الثاني الذي كتمهُ أبو هريرة، ولم يحدّث به خوفاً من أن يقطع بلعومه، فهو الذي يحوي الأحاديث الصحيحة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولو كان أبو هريرة ثقةً ما كان ليكتُمَ الأحاديث الحقيقية، ويبثّ الأوهام والأكاذيب لتأييد الظّالمين، وهو يعلم بأنّ الله لعن من يكتم البيّنات.

فقد أخرج له البخاري قوله: إنّ الناس يقولون: أكثرَ أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدّثت حديثاً، ثمّ يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ ـ إلى قوله ـ الرَّحِيمُ}(2)، وإنّ إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم،

____________

1- صحيح البخاري 1: 38 (كتاب العلم، باب حفظ العلم).

2- البقرة: 159 ـ 160.


الصفحة 364
وإنّ أبا هريرة كان يلزم النبيّ بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون(1).

فكيف يقول أبو هريرة: لولا آيتان في كتاب الله ما حدّثتُ حديثاً، ثمّ يقول هنا حفظت عن رسول الله وعاءين، فأمّا أحدُهما فبثثته وأمّا الوعاء الثاني لو بثثتُه قُطِعَ هذا البلعوم! وهل هذه إلاّ شهادة منه بأنّه كتم الحقّ رغم الآيتين في كتاب الله؟!

وإذا كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه: "ارجعوا إلى أهليكم فعلّموهم"(2)، وقال: "ربّ مُبلّغ أوعى من سامع"(3)، وأخرج البخاري أنّ النبيّ حرّض وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم، ويخبروا به مَن ورائهم(4).

فهل لنا أن نتساءل، وهل للباحثين أن يتساءلوا: لماذا يُقتلُ الصحابي عندما يتحدّث بحديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويُقطع منه البلعوم؟!

فلابدّ أنّ هناك سرّاً لا يُحبُّ الخلفاء إفشاءَهُ، وقد أشرنا إلى ذلك السرّ في الأبحاث السابقة من كتاب "فاسألوا أهل الذكر"، ونوجز هنا بأنّه يتعلّق بالنّص على خلافة علي.

وليس اللّوم على أبي هريرة، فقد عرف قدره وشهد على نفسه بأنّ الله لعنه ولعنه اللاّعنون إذ كتم حديث النبيّ.

ولكنّ اللّوم على "أهل السنّة والجماعة" الذي يجعلون من أبي هريرة

____________

1- صحيح البخاري 1: 38 (كتاب العلم، باب حفظ العلم).

2- صحيح البخاري 1: 30 (كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد).

3- صحيح البخاري 1: 24 (كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس).

4- صحيح البخاري 1: 19 (كتاب الخمس، باب أداء الخمس من الإيمان).


الصفحة 365
راوية السنّة، وهو يشهد بأنّه كتمها، ويشهد بأنّه دلّسها وكذب عليها، ويشهد أيضاً بأنّها اختلطتْ عليه، فلم يعرف حديث النبيّ من حديث غيره.

وهذا كلّه من أحاديث واعترافات صحيحة جاءت في صحيح البخاري وغيره من صحاح "أهل السنّة والجماعة".

كيف يطمئنُّون لرجل طعن في عدالته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأتّهمه بالكذب فقال: "إنّه أكذب الأحياء على النبيّ"(1)، واتّهمه عمر بن الخطّاب وضربه وهدّده بالنّفي، كما طعنتْ فيه عائشة وكذّبته عدّة مرّات، وطعن فيه كثير من الصحابة وردّوا أحاديثه المتناقضة، فكان يعترف مرّة، ويرطن بالحبشيّة أُخرى، وطعن فيه كثير من علماء الإسلام، واتّهموه بالكذب والتدليس والتكالب على موائد معاوية وذهبه وفضّته.

فكيف يصحّ بعد كلّ هذا أن يصبح أبو هريرة راوية الإسلام، ويأخذون عنه أحكام الدّين؟!

وقد أكّد بعض العلماء المحقّقين بأنّ أبا هريرة هو الذي أدخل في الإسلام عقائد اليهود والإسرائيليات التي ملأت كتب الحديث، أو أنّ كعب الأحبار اليهودي هو الذي أدخلها عن طريقه وبواسطته، فجاءت روايات تشبيه الله وتجسيمه ونظرية الحلول، والأقوال المنكرة في الأنبياء كلّها عن أبي هريرة.

فهل يثوب "أهل السنّة والجماعة" إلى رشدهم ليعرفوا عمّن يأخذون السنّة الحقيقيّة، وإذا ما سألوا فنقول لهم: تعالوا إلى باب مدينة العلم والأئمّة

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 68.


الصفحة 366
من بنيه، فهم حفظة السنّة، وهم أمان الأُمّة، وهم سفينة النجاة، وهم أئمّة الهدى ومصابيح الدّجى، وهم العروة الوثقى وحبل الله المتين.

11 ـ عبد الله بن عمر:

هو من مشاهير الصحابة الذين كان لهم دورٌ كبير في سير الأحداث التي وقعت في زمن الخلفاء الثلاثة وفي عهد بني أُميّة، ويكفي أنّ أباه عمر بن الخطّاب ليكون عند "أهل السنّة والجماعة" معظّماً ومحبوباً، فهم يعدّونه من أكبر الفقهاء ومن حفّاظ "الأحاديث النبويّة"، حتّى إنّ الإمام مالكاً اعتمد عليه في أكثر أحكامه، كما أنّه أشبع كتاب الموطّأ من أحاديثه.

وإذا تصفّحنا كتب "أهل السنّة والجماعة" وجدناها حافلة بذكره والثناء عليه.

غير أنّنا عندما نقرأ ذلك بعين الباحث البصير يتبيّن لنا بأنّه كان بعيداً عن العدالة، وعن الصدق، وعن السنّة النبويّة، وعن الفقه وعلوم الشريعة.

وأوّل ما يُلفتُ انتباهنا هُو عداؤه الشديد وبغضُه لسيّد العترة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وصل به إلى حدّ الوقيعة فيه واعتباره من سوقة الناس.

وقد قدّمنا فيما سبقَ بأنّه روّج أحاديث مكذوبة، مفادُها أنّهم كانوا يُفاضلون على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى مسمع منه بأنّ أفضل الناس أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ الناس بعد ذلك سواء، فسمع ذلك النبيّ ولا ينكره(1).

____________

1- صحيح البخاري 4: 203 (كتاب بدء الخلق، باب فضائل أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)).


الصفحة 367
وهو كما ترى كذبٌ مفضوح يضحك منه العقلاء، وقد بحثنا عن حياة عبد الله بن عمر في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجدناه شاباً صغيراً لم يبلغ الحلم، ولم يكن له مع أهل الحلّ والعقد شأنٌ يذكر ولا رأيٌ يُسمع، وقد تُوفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعبد الله بن عمر في التاسعة عشر من عمره على أحسن التقادير.

فكيف يقول والحالُ هذه: كنّا نُفاضِلُ في عهد النبيّ؟ اللّهمّ إلاّ إذا كان ذلك حديث الصبيان فيما بينهم من أولاد أبي بكر وعثمان وإخوته هو، ومع ذلك فلا يصحّ أن يُقال كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمع ذلك فلا ينكرهُ! فدلّ ذلك على كذب الحديث وسوء النوايا.

أضف إلى ذلك أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأذن لعبد الله بن عمر بالخروج معه إلاّ في غزوة الخندق، وما بعدها من الغزوات إذ بلغ عمره خمسة عشر عاماً(1).

فلا شكّ أنّه حضر غزوة خيبر التي وقعتْ في السنة السابعة للهجرة النبويّة، ورأى بعينيه هزيمة أبي بكر، وكذلك هزيمة أبيه عمر، وسمع بلا شكّ قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ذلك: "لأعطين الراية غداً إلى رجل يحبُّ الله ورسولَه، ويُحبّهُ الله ورسوله، كرّاراً ليس فرّاراً، امتحن الله قلبه للإيمان"، ولما أصبح أعطاها لقاطع اللذّات، ومفرّق الجماعات، ومُفرّج الكُربات، وصاحب الكرامات، أسد الله الغالب علي بن أبي طالب(2).

____________

1- صحيح البخاري 3: 158 (كتاب الشهادات باب بلوغ الصبيان)، وكذلك صحيح مسلم (كتاب الإمارة، باب سن البلوغ).

2- ذكر حديث الراية كلّ من البخاري في صحيحه 5: 76 (كتاب المغازي، باب غزوة خيبر)، ومسلم في صحيحه 5: 195 (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي (رضي الله عنه))، وابن ماجة في سننه 1: 45 ح121، وأحمد في مسنده 1: 99، والترمذي في سننه 5: 302.


الصفحة 368
وقد أبانَ حديث الراية هذا فضل علي، وفضائله على سائر الصحابة، وعلوّ مقامه عند الله ورسوله، وفوزَه بمحبّة الله ورسوله، ولكنّ بغض عبد الله ابن عمر شاء أن يجعل عليّاً من سوقة الناس!

وقد قدّمنا بأنّ "أهل السنّة والجماعة" عملوا بهذا الحديث الذي أوحاه إليهم سيّدهم عبد الله بن عمر، فلم يعدّوا علي بن أبي طالب ضمن الخلفاء الراشدين، كلاّ ولم يعترفوا بخلافته إلاّ في زمن أحمد بن حنبل كما أثبتناه، عندما افتضحوا في عهد كثُر فيه الحديث والمحدّثون، وبدأت أصابع الاتّهام تتوجّه إليهم، وتُوصمهم بالنّصْبِ والبغض لأهل البيت النبوي، وقد عرف المسلمون كلّهم بأنّ بغض علي من أكبر علامات النفاق.

عند ذلك اضطرّوا للقول بخلافة علي، وألحقوه بركب الراشدين، وتظاهروا بمحبّة أهل البيت زوراً وبهتاناً.

وهل من سائل يسأل ابن عمر: لماذا اختلف المسلمونَ كلّهم أو جلّهم بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في من يستحقّ الخلافة ومن هو أولى بها، فاختلفوا في علي وأبي بكر فقط، ولم يكن لأبيه عمر ولا لابن عفّان سوق رائجة في ذلك العهد؟

وهل من سائل يسأل ابن عمر: إذا كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرّك على رأيك، فلا يعدل بأبي بكر أحداً ثمّ عمر ثمّ عثمان، فلماذا ولّى عليهم قبل وفاته بيومين

الصفحة 369
شابّاً لا نبات بعارضيه أصغر منك سنّاً، وأمرهم بالسّير تحت امرته وقيادته؟ أتراه يهجُر كما قال أبُوك؟

وهل من سائل يسأل ابن عمر: لماذا قال المُهاجرون والأنصار غداة بيعة أبي بكر لفاطمة الزهراء: "والله لو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما كنّا نعدل به أحداً"(1)، وهو اعتراف من كبار الصحابة بأنّهم لا يعدلون بعلي أحداً، لولا ما سبقت بيعتهم التي سمّوها فلتةً، فما هي قيمة رأي عبد الله بن عمر المراهق المغرور الذي لا يعرف كيف يطلّق زوجته من آراء كبار الصحابة؟

وأخيراً هل من سائل يسأل عبد الله بن عمر: لماذا اختار جلّ الصحابة علي بن أبي طالب للخلافة بعد مقتل عمر وقدّموه على عثمان، لولا رفضه شرط ابن عوف في الحكم بسنّة الشيخين(2).

ولكنّ عبد الله بن عمر تأثّر بأبيه، فقد عاش خلافة أبي بكر، وخلافة عمر وخلافة عثمان، وهو يرى علي بن أبي طالب مُبعداً، ليس له في الجماعة مجلسٌ، ولا في الحكومة منصبٌ، وقد تحوّلتْ عنه وجوه الناس بعد وفاة ابن عمّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجته سيّدة النساء، وليس عنده ما يطمع الناس فيه.

ولا شكّ في أنّ عبد الله بن عمر كان أقرب الناس لأبيه، فكان يسمع آراءه، ويعرف أصدقاءه وأعداءه، فشبّ على ذلك البغض والحقد والكراهية

____________

1- الإمامة والسياسة 1: 29.

2- مسند أحمد 1: 75.


الصفحة 370
لعلي خاصّة ولأهل البيت عامّة، وترعرع وكبر على ذلك، حتّى إذا رأى يوماً عليّاً وقد بايعه المهاجرون والأنصار بعد مقتل عثمان، فكبر ذلك عليه ولم يتحمّله، وأظهر المكنون من حقده الدّفين، فرفض أن يُبايع إمام المتّقين ووليّ المؤمنين، ولم يتحمّل البقاء في المدينة فخرج إلى مكّة مدّعياً العمرة.

ونرى بعد ذلك عبد الله بن عمر يعمل كلّ ما في وسعه لتثبيط الناس، وفكّ عزائمهم ليحجموا عن نصرة الحقّ، ومقاتلة الفئة الباغية التي أمر الله بمقاتلتها حتّى تفيء إلى أمر الله، فكان من الخاذلين الأوّلين لإمام زمانه المفترض الطّاعة.

وبعد مقتل الإمام علي وتغلّب معاوية على الإمام الحسن بن علي وانتزاع الخلافة منه، خطب معاوية في الناس قائلا: "إنّي لم أقاتلكم لتصلّوا أو تصوموا وتحجّوا، ولكنْ قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك".

نرى عبد الله بن عمر يُسارع عند ذلك إلى بيعة معاوية بدعوى أنّ الناس اجتمعوا عليه بعد ما كانوا متفرّقين!

وأنا أعتقد بأنّه هو الذي سمّى ذلك العام بعام الجماعة، فهو وأتباعه من بني أُميّة أصبحوا "أهل السنّة والجماعة" من ذلك الوقت وحتّى قيام الساعة.

وهل من سائل يسأل ابن عمر، ومن يقول بمقالته من "أهل السنّة والجماعة" متى حصل الإجماع على خليفة في التاريخ كالذي حصل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟

فخلافة أبي بكر كانت فلتةً وقى الله شرّها، وقد تخلّف عنها كثير من

الصفحة 371
الصحابة.

وخلافة عمر كانت بدون مشورة بل بعهد من أبي بكر، ولم يكن للصّحابة فيها رأي ولا قولٌ ولا عمل.

وخلافة عثمان كانت بالثّلاثة الذين اختارهم عمر، بل تمّتْ باستبداد عبد الرحمان بن عوف وحده.

أمّا خلافة علي فكانت ببيعة المهاجرين والأنصار له بدون فرض ولا إكراه، وكتب ببيعته إلى الآفاق، فاذعنوا كلّهم إلاّ معاوية من الشام(1).

____________

1- ابن حجر في فتح الباري 7: 58. وقد وقع الدكتور إبراهيم الرحيلي في كتابه الانتصار للصحب والآل من افتراءات السماوي الضال: 170 في خطأ جسيم بسببه العمى المقيت الذي يصم الآذان ويعمي العيون إذ قال: "ونحن لا نعلم أي أقواله نصدّق، دعواه بأنّ أهل السنّة لم يعترفوا بخلافة علي حتّى زمن أحمد بن حنبل، أم القول بأنّهم أجمعوا على خلافته وأذعنوا لها من أوّل يوم بدون فرض ولا إكراه؟!".

وفي الواقع لا يوجد تضارب في كلام المؤلّف، بل كلامه مستقيم غاية الاستقامة، حيث ذكر في الصفحات السابقة أنّ بيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) قبلها الجمع حتّى طلحة والزبير ـ وإن نكثا بعد ذلك ـ ولم يقبلها إلاّ نزر يسير من الصحابة العثمانيين والطلقاء الذين في الشام، وهي أعظم بيعة في التاريخ الإسلامي، إذ لم تحصل لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان وإنما حصلت لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) فقط، وأمّا رفض بعض الصحابة العثمانيين لها فهذا لا يؤثّر في المقام ولا يجعل كلام المؤلّف متناقضاً; لأنّ بيعة أبي بكر وعمر وعثمان واجهت معارضة كبيرة من أجلاّء الصحابة، ووقع بسببها القتال وإراقة الدماء، وأمّا رفض الخلفاء والملوك والأُمراء من بني أُميّة وبني العباس لبيعة علي بن أبي طالب ورفضهم تسميته بالخليفة فهذا لا يؤثر ولا يجعل كلام المؤلّف متناقضاً، لأنّ هؤلاء الأمراء والملوك جاءوا بعد شهادة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فرفضهم متأخر لا يؤثر على خلافته وبيعته المتقدّمة ولا يجعل كلام المؤلّف متناقضاً لمن تدبّر قليلا.


الصفحة 372
وكان من المفروض على ابن عمر و"أهل السنّة والجماعة" أن يقتلوا معاوية بن أبي سفيان الذي شقّ عصا الطاعة وطلب الخلافة لنفسه، وذلك حسب الروايات التي أخرجوها في صحاحهم من أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما(1).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) كما جاء في صحيح مسلم وغيره: "مَن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليعطِه إن استطاع، فإنْ جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"(2).

ولكنّ عبد الله بن عمر عكس الآية تماماً، وبدلا من الامتثال لحديث النبيّ وأوامره، ومقاتلة معاوية وقتله لأنّه نازع خليفة المسلمين وأشعل نار الفتنة، نراه يمتنع عن بيعة علي التي أجمع عليها المسلمون، ويبايع معاوية الذي شقّ عصا الطّاعة، ونازع الإمام، وقتل الأبرياء، وتسبّب في فتنة بقيت آثارها إلى اليوم.

ولذلك أعتقد بأنّ عبد الله بن عمر قد شارك معاوية في كلّ ما ارتكبه من جرائم وموبقات وآثام، لأنّه شيّد ملكه، وأعانه على التسلّط والاستيلاء على الخلافة التي حرّمها الله ورسوله على الطلقاء وأبناء الطّلقاء، كما ورد

____________

1- صحيح مسلم 6: 23 (كتاب الامارة، باب إذا بويع لخليفتين)، سنن البيهقي 8: 144.

2- مسند أحمد 2: 161، صحيح مسلم 6: 18 (كتاب الامارة، باب إذا بويع الخليفتان)، سنن أبي داود 2: 301.


الصفحة 373
ذلك في الحديث الشريف.

ولم يكتفِ عبد الله بن عمر بذلك فحسب، بل سارع لبيعة يزيد بن معاوية، يزيد الخمور والفجور، والكفر والفسوق، الطّليق ابن الطّليق، واللّعين ابن اللّعين.

وإذا كان عمر بن الخطّاب كما ذكره ابن سعد في طبقاته يقول: "لا تصلح الخلافة لطليق، ولا لولد طليق، ولا لمسلمة الفتح"(1)، فكيف يخالف عبد الله أباه في هذا المبدأ الذي سطّره من قبل؟! وإذا كان عبد الله بن عمر يخالف كتاب الله وسنّة رسوله في أمر الخلافة، فلا نستغربُ أن يعمل بعكس رأي أبيه.

ثمّ هل لنا أن نسأل عبد الله بن عمر: أيّ إجماع وقع على بيعة يزيد بن معاوية، وقد نبذه صلحاء الأُمّة وبقيّة المهاجرين والأنصار، ومنهم سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عبّاس، وكلّ من سار معهم ورأى رأيهم؟

والمعروف أنّه هو نفسه كان من المعارضين لبيعة يزيد في البداية، ولكنّ معاوية عرف كيف يستميلهُ، فأرسل إليه مائة ألف درهم فقبلها، فلمّا ذكر له البيعة لابنه يزيد قال ابن عمر: هذا ما أراد؟ إنّ ديني إذن عليّ لرخيص(2).

نعم، لقد باع عبد الله بن عمر دينه بثمن رخيص، كما شهد بذلك على

____________

1- الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 342، تاريخ دمشق 59: 145، أُسد الغابة 4: 387.

2- الغدير 10: 230 عن الطبري 6: 169، والكامل لابن الأثير 3: 214 وفي البداية والنهاية 9: 5 مختصراً.


الصفحة 374
نفسه، وهرب من بيعة إمام المتّقين، وأسرع لبيعة إمام الباغين معاوية، وإمام الفاسقين يزيد، وكما تحمّل أوزار تلك الجرائم التي سبّبها حكم معاوية الظّالم، فإنّه يتحمّل بلا شكّ أوزار جرائم يزيد، وعلى رأسها انتهاك حُرمة رسول الله، وقتل ريحانته سيّد شباب أهل الجنّة، وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والصالحين من أبناء الأُمّة الذين قتلهم في كربلاء وفي وقعة الحرّة.

ولم يكتفِ عبد الله بن عمر بهذا الحدّ من البيعة إلى يزيد فحسب، بل عمل على حمل الناس عليها وردّهم إليها، وخوّف كلّ من تحدّثه نفسه بالخروج عليها.

فقد أخرج البخاري في صحيحه وغيره من المحدّثين، بأنّ عبد الله بن عمر جمع ولده وحشمه ومواليه، وذلك عندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية فقال لهم: إنّا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله(1)، وإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّ الغادر ينصبُ له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان، وإنّ من أعظم الغدر بعد الإشراك بالله أن يبايع رجلٌ رجلا على بيع الله ورسوله ثمّ ينكث بيعته(2)، ولا يخلعنّ أحدٌ منكم يزيد، ولا يشرفنّ أحدٌ

____________

1- هل أمر الله ورسوله ببيعة الفسّاق والمجرمين؟ أمّ أنّه أمر ببيعة أوليائه الصالحين فقال: (إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (المؤلّف).

2- ليت ابن عمر قال هذا لطلحة والزبير اللذين نكثا بيعتهما لعلي وحارباه، وليت "أهل السنّة والجماعة" عملوا بهذا الحديث في تقسيم الرجال! وإذا كان نكث البيعة من أعظم الكبائر الذي تأتي بعد الإشراك، فما هو مصير طلحة والزبير اللذين لم ينكثا البيعة فقط ولكنّهما هتكا الأعراض وقتلا الأبرياء ونهبا الأموال وخانا العهد؟؟؟ (المؤلّف).


الصفحة 375
منكم في هذا الأمر فيكون صيلماً بيني وبينه(1).

ولقد قوي بطش يزيد بموالاة عبد الله بن عمر له، وتحريضه الناس على بيعته، فجهّز جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة من أكابر الفاسقين، وأمره بالسّير إلى مدينة الرسول، وأباح له أن يفعل فيها ما يشاء، فقتل عشرة آلاف من الصحابة، وسبى نساءهم وأموالهم، وقتل سبعمائة من حفاظ القرآن على ما يذكره البلاذري، وهتك الحرمات من الحرائر المسلمات، حتى ولدن من سفاح أكثر من ألف مولود، وأخذ منهم البيعة على أنّهم كلّهم عبيد لسيّده يزيد.

أفلم يكن عبد الله بن عمر شريكه في كلّ ذلك إذ عمل على دعمه وتأييده؟ أترك الاستنتاج في ذلك إلى الباحثين!

ولم يقف عبد الله بن عمر عند هذا الحدّ، بل تعدّاهُ إلى بيعة مروان بن الحكم الوزغ اللّعين، والطّليق الفاجر الذي حارب عليّاً، وقتل طلحة، وفعل الأفاعيل، من حرق بيت الله الحرام ورميها بالمنجنيق حتّى هدم ركنها، وقتل فيها عبد الله بن الزبير، وأعمال أخرى يندى لذكرها الجبين.

ثمّ يذهب ابن عمر في البيعة أشواطاً، ويذهب إلى بيعة الحجّاج بن يوسف الثقفي الزنديق الأكبر، الذي كان يستهزئ بالقرآن، ويقول: ما هو إلاّ رجز الأعراب، ويفضّل على رسول الله سيّده عبد الملك بن مروان!! الحجّاج الذي عرف بوائقهُ الخاص والعام، حتّى قال المؤرّخون بأنّه انتقض كلّ أركان

____________

1- صحيح البخاري 8: 99 (كتاب الفتن، باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه)، مسند أحمد 2: 96، سنن البيهقي 8: 159.