الصفحة 391

السنّة النبويّة لا تخالف القرآن عند الشيعة


بعد البحث والتنقيب في عقيدة الطرفين من الشيعة و"أهل السنّة والجماعة" وجدنا بأنّ الشيعة يرجعون في كلّ أحكامهم الفقهيّة إلى كتاب الله والسنّة النبويّة لا غير.

ثمّ هم يرتّبون القرآن في المرتبة الأُولى، والسنّة النبويّة في المرتبة الثانية، ونعني بذلك أنّهم يخضعون السنّة للمراقبة ويعرضونها على كتاب الله العزيز، فما وافق منها كتاب الله قبلوه وعملوا به، وما خالف كتاب الله تركوه ولم يقيموا له وزناً(1).

والشيعة يرجعون في ذلك إلى ما قرَّره أئمة أهل البيت (عليهم السلام) رواية عن جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال: "إذا جاءكم حديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاعملوا به، وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار"(2).

وقد قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عدّة مرّات: "ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف"(3).

____________

1- هذا هو لعمري المنطق السليم الذي يقطعُ الطّريق على كلّ المحدّثين الذين اشتهروا بتدليس الحديث ونسبته للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو منه بريء (المؤلّف).

2- تفسير أبي الفتوح 3: 392 باختلاف يسير.

3- الكافي 1: 69 ح4.


الصفحة 392
وقال في أصول الكافي بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب الناس بمنى فقال: "أيّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم عنّي يخالف كتاب الله فلم أقله"(1).

وعلى هذا الأساس المتين بنى الشيعة الإماميّة فقههم وعقائدهم، فمهما بلغ الحديث من صحّة الإسناد، فلابدّ أن يزنوه بهذا الميزان، ويعرضوه على الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والشيعة الإماميّة هي الفرقة الوحيدة بين الفرق الإسلامية الأُخرى التي اشترطت هذا الشرط، وبالخصوص في باب تتعارض فيه الروايات والأخبار.

قال الشيخ المفيد في كتابه المسمّى بـ "تصحيح الاعتقاد": "وكتاب الله تعالى مقدَّم على الأحاديث والروايات، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها، فما قضى به فهو الحقّ دون سواه"(2).

وبناءً على هذا الشرط، وهو عرض الحديث على كتاب الله تعالى، تميّز الشيعة عن "أهل السنّة والجماعة" في كثير من الأحكام الفقهية، وكذلك في كثير من العقائد.

والباحث يجد في كلّ أحكام الشيعة وعقائدهم مصداقاً في كتاب الله، خلافاً لما هو عند "أهل السنّة والجماعة" فالمتتبع قد يجد عندهم عقائد وأحكاماً تخالف صريح القرآن الكريم، ستعرف ذلك وسنوافيك ببعض

____________

1- الكافي 1: 69 ح5.

2- تصحيح الاعتقاد: 44.


الصفحة 393
الأدلّة على ذلك قريباً إن شاء الله.

وبناءً على ذلك يفهم المتتبع أيضاً بأنّ الشيعة لم يصحِّحوا أيّ كتاب من كتب الحديث عندهم، أو يعطوه قدسية تجعله بمثابة القرآن، كما هو الحال عند "أهل السنّة والجماعة" الذين يصحّحون كلّ الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم، رغم أنّ فيهما مئات الأحاديث التي تتناقض مع كتاب الله.

ويكفيك أن تعرف بأنّ كتاب الكافي عند الشيعة رغم جلالة قدر مؤلّفه محمّد بن يعقوب الكليني وتبحّره في علم الحديث، إلاّ أن علماء الشيعة لم يدّعوا يوماً بأنّ ما جمعه كلّه صحيح(1)، بل هناك من علمائهم من طرح أكثر من نصفه وقال بعدم صحتها، بل إنّ مؤلّف (الكافي) لا يقول بصحّة كلّ الأحاديث التي جمعها في الكتاب(2).

____________

1- سوى شرذمة من الإخباريين المتعبدين بحرفية النصوص من غير فحص وتدقيق.

2- ولذا لما شكى إليه بعض إخوانه ـ في رسالة كتبها ـ أشكل عليه من الحقائق لاختلاف الأخبار، وطلب منه تدوين كتاب يجمع فيه جميع فنون علم الدين بالآثار الصحيحة، لم يقل في جوابه بأنّي دوّنت لك ذلك وكلّ ما أوردته صحيح لا مرية فيه، بل ذكر له بأنّ الأئمة (عليهم السلام) وضعوا قواعد لحلّ اختلاف الأخبار كالعرض على القرآن، وأنّه سيعمل على هذا المنهاج، لكن مع هذا لم يدّع توفيقه مائة بالمائة لتدوين الآثار الصحيحة فقط، ولذا اعترف بالتقصير وقال له: "وقد يسّر الله تأليف ما سألت وأرجو أن يكون بحيث توخّيت، فمهما كان من تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة..."، مضافاً إلى أنّ الشيخ الكليني في كتابه (الكافي) عقد باباً بعنوان (الأخبار المتعارضة) أو (الأخبار المختلفة) وبيّن فيه أن الأئمة (عليهم السلام) أمروا بالرجوع في هذه الحالة إلى القرآن أو المشهور أو غير ذلك.

وهذا دليل على أنّه لا يشهد بصحة كتابه ولا يؤمن به، إذ لو كان كلّ ما في الكتاب صحيحاً فلا معنى لعقد باب التعارض والاختلاف بين الأخبار، فهذا شاهد آخر على عدم اعتقاد المؤلّف بصحة جميع ما في الكتاب.

ثمّ لو سلّمنا جدلا بأنّ الكليني اعترف بصحّة جميع ما أورده في الكافي، لكن يبقى شيء واحد وهو أنّ اصطلاح الصحيح يختلف عند المتقدّمين والمتأخّرين من علمائنا، فعند المتقدّمين هو كلّ حديث حصل الوثوق بصدوره عن المعصوم وإن لم يكن الراوي عدلا إمامياً، فلذا نرى الكليني كثيراً ما يروي عن الفطحية والزيدية والواقفية، وأمّا الصحيح عند المتأخّرين ما رواه العدل الإمامي عن العدل الإمامي.


الصفحة 394
ولعلّ كلّ ذلك ناتج عن سيرة الخلفاء عند كلّ فرقة منهم، فـ "أهل السنّة والجماعة" اقتدوا بأئمة يجهلون أحكام القرآن والسنّة، أو يعرفونها ولكنّهم اجتهدوا بآرائهم، وخالفوا تلك النصوص لعدّة أسباب أوضحنا البعض منها في أبحاث سابقة.

أمّا الشيعة فإنّهم اقتدوا بأئمة العترة الطاهرة الذين هم عدل القرآن وترجمانه، لا يخالفونه ولا يختلفون فيه.

{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَة مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}(1).

صدق الله العلي العظيم         

____________

1- هود: 17.


الصفحة 395

السنّة والقرآن عند "أهل السنّة والجماعة"


بعد ما عرفنا بأنّ الشيعة الإمامية يقدِّمون القرآن على السنّة، ويجعلونه القاضي عليها والمهيمن، فـ "أهل السنّة والجماعة" على العكس تماماً يقدِّمون السنّة على القرآن، ويجعلونها قاضية ومهيمنة عليه.

ونستنتح من هذا بأنّهم سمّوا أنفسهم بـ "أهل السنّة" من أجل هذا المبدأ الذي ارتأوه، و إلاّ لماذا لم يقولوا بأنّهم أهل القرآن والسنّة، وخصوصاً أنّهم يروون في كتبهم بأنّ النبيّ قال: "تركت فيكم كتاب الله وسنّتي"؟

ولأنّهم أهملوا القرآن وجعلوه في المرتبة الثانية، وتمسكوا بالسنّة المزعومة وجعلوها في المرتبة الأُولي، فهمنا من ذلك السبب الرئيسي لقولهم بأنّ السنّة قاضية على القرآن.

وهذا منهم أمر عجيب، وأعتقد بأنّهم اضطروا إلى ذلك اضطراراً عندما وجدوا أنفسهم يقومون بأعمال مخالفة لما جاء في القرآن، وقد ألفوها بعدما فرضها عليهم الحكَّام الذين أطاعوهم، ولتبرير تلك الأعمال وضعوا لها أحاديث نسبوها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذباً، ولما كانت تلك الأحاديث تتعارض مع أحكام القرآن، قالوا بأن السنّة قاضية على القرآن، أو أنّها تنسخ القرآن.

وأضرب لذلك مثلا واضحاً يفعله المسلم مرّات عديدة في كلّ يوم، ألا وهو الوضوء قبل الصلاة، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا

الصفحة 396
بِرُؤُوسِكُم وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}(1).

ومهما قيل، وبقطع النظر عن قراءة النصب والجر، وقد قدمنا بأنّ الفخر الرازي ـ وهو من أشهر علماء "أهل السنّة والجماعة" في اللغة العربية ـ قال بوجوب المسح في القراءتين(2).

وقال ابن حزم أيضاً: سواء قُرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كلّ حال عطف على الرؤوس، إمّا على اللفظ وإمّا على الوضع، ولا يجوز غير ذلك(3).

ولكن الفخر الرازي بعد اعترافه بأنّ القرآن نزل بوجوب المسح في القراءتين، نراه يتعصَّب لمذهبه السنّي، فقال: ولكنّ السنّة جاءت بالمسح ناسخة للقرآن(4).

وهذا المثل من السنّة المزعومة القاضية على القرآن أو الناسخة له، يوجد له أمثلة كثيرة عند "أهل السنّة والجماعة" فكم من حديث موضوع يُبطلون به حكماً من أحكام الله بدعوى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نسخه.

ونحن لو تمعنَّا قي آية الوضوء التي نزلت في سورة المائدة، وإجماع المسلمين على أنّ سورة المائدة هي آخر ما نزل من القرآن، ويقال: إنّها نزلت قبيل وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهرين فقط، فكيف ومتى نسخ النبيّ حكم

____________

1- المائدة: 6.

2- التفسير الكبير للفخر الرازي 4: 350، سورة المائدة: 6.

3- المحلّى لابن حزم 2: 56.

4- التفسير الكبير للفخر الرازي 4: 306 باختلاف.


الصفحة 397
الوضوء يا ترى؟! وقد قضى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة وعشرين سنة وهو يتوضّأ بالمسح ويفعل ذلك مرّات في كلّ يوم، فهل يعقل أنّه وقبل شهرين من وفاته عندما نزل عليه قوله سبحانه: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}عمد إلى غسل رجليه معارضة لكتاب الله؟! إنّه كلام لا يصدّق.

ثمّ كيف يُصدّق الناس هذا النبيّ الذي يدعوهم لكتاب الله والعمل به قائلا لهم: إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ثمّ يعمل هو بعكسه؟! فهل هذا معقول أو يقبله العقلاء؟ أم سيقول له المعارضون والمشركون والمنافقون: إذا كنت أنت تعمل بخلافه، فكيف تأمرنا نحن باتباعه؟! وسوف يجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ذلك نفسه محرجاً ولا يقدر على دفع حجّتهم، ولذلك نحن لا نصدّق بهذا الادعاء الذي يرفضه النقل والعقل، وكلّ من له دراية بالكتاب والسنّة لا يصدّقه.

ولكن "أهل السنّة والجماعة" ـ والذين هم في الحقيقة حكّام بني أُميّة ومن جرى وراءهم، كما عرفنا بذلك في أبحاث سابقة ـ عمدوا لوضع الأحاديث على لسان النبيّ ليصححوا بذلك آراء واجتهادات أئمة الضلالة، ويكسبوها شرعيّة دينية أولا، وليعللوا اجتهادات هؤلاء في مقابل النصوص، بأنّ النبيّ نفسه قد اجتهد مقابل النصوص القرآنية ونسخ منها ما شاء، فيصبح بذلك أهل البدع يستمدّون شرعيّة مخالفتهم للنصوص اقتداء بالرسول كذباً وبهتاناً.

وقد قدّمنا في بحث سابق بالأدلّة والحجج القويّة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قال يوماً برأي ولا بقياس، وإنّما كان ينتظر نزول الوحي لقوله تعالى:


الصفحة 398
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ}(1).

أليس هو القائل مبلّغاً عن ربّه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآن غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم }(2).

أوَلم يهدِّده ربّه بأشدّ التهديد لو حاول أن يتقوَّل على الله كلمة واحدة، فقال جلّ وعلا: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ }(3).

فهذا هو القرآن، و هذا هو النبيّ الذي كان خلقه القرآن، ولكن "أهل السنّة والجماعة"(4)، ولشدّة عداوتهم لعليّ بن أبي طالب وأهل البيت (عليهم السلام)، كانوا يخالفونهم في كلّ شيء، حتى أصبح شعارهم هو مخالفة عليّ وشيعته في كلّ شيء، حتى لو كانت سنّة نبوية ثابتة عندهم(5).

ولمّا كان المشهور عن الإمام عليّ (عليه السلام) الجهر بالبسملة حتى في الصلاة السريّة من أجل إحياء السنّة النبويّة، فقد عمل بعضهم على القول بكراهتها في الصلاة، وكذلك بالنسبة للقبض والسدل، ودعاء القنوت، وغير ذلك من

____________

1- صحيح البخاري 8: 148 (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب ما كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل ممّا لم ينزل عليه الوحي فيقول لا أدري). النساء: 105.

2- يونس: 15.

3- الحاقة: 44 ـ 47.

4- ونقصد بهم الأوائل الذين عادوا علياً وأولاده من بعده والذين أسّسوا مذهب "أهل السنّة والجماعة" (المؤلّف).

5- قد فصّلنا في ذلك وأخرجنا تصريحاتهم من كتبهم وأقوال أئمّتهم في كتاب "مع الصادقين" فليراجع (المؤلّف).


الصفحة 399
الأُمور التي تخصّ الصلاة اليومية.

ولذلك كان أنس بن مالك يبكي ويقول: والله ما أجد شيئاً ممّا أدركت عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالوا: وهذه الصلاة؟ قال: لقد غيرتم فيها ما غيرتم(1).

والغريب أنّ "أهل السنّة والجماعة" يسكتون عن هذه الاختلافات; لأنّ مذاهبهم الأربعة يختلفون فيما بينهم، فلا يرون بذلك بأساً، بل يقولون بأنّ اختلافهم رحمة.

ولكنّهم يشنِّعون على الشيعة إذا خالفوهم في أية مسألة، فتصبح تلك الرحمة نقمة، ولا يقبلون إلاّ آراء أئمتهم، مع أنّ أئمتهم لا يساوون أئمة العترة الطاهرة في علم، ولا في عمل، ولا في فضل، ولا في شرف.

وكما ذكرنا في "غسل الرجلين" ورغم أنّ كتبهم تشهد بأنّ المسح هو الذي نزل به القرآن، وهو أيضاً سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(2)، ولكنّهم لا يقبلون من الشيعة شيئاً من ذلك، ويتهمونهم بتأويل القرآن والخروج عن الدين!!

والمثل الثاني الذي لابدّ من ذكره أيضاً، هو نكاح المتعة الذي نزل به القرآن وأقرّته السنّة النبويّة، ولكنّهم لتبرير اجتهاد عمر بن الخطّاب الذي حرَّمه، اختلقوا حديثاً مكذوباً نسبوه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخذوا يشنِّعون على الشيعة لإباحتهم هذا النكاح، استناداً لما رواه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أضف إلى ذلك أنّ صحاحهم تشهد بأنّ الصحابة فعلوه في عهد رسول الله،

____________

1- صحيح البخاري 1: 134 (كتاب الصلاة، أبواب سترة المصلي)، ولفظه: أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها؟

2- الطّبقات الكبرى لابن سعد 6: 274، عن ابراهيم النخعي، وانظر المعجم الكبير للطبراني 10: 71 ح9982.


الصفحة 400
وعهد أبي بكر، وشطر من عهد عمر قبل أن يحرمه، ويشهدون أيضاً بأنّ الصحابة اختلفوا فيه بين محلِّل ومحرِّم.

والأمثلة في هذه المواضيع ـ التي ينسخون فيها النصّ القرآني بحديث مكذوب ـ كثيرة جدّاً، وقد ضربنا منها مثلين، والقصد هو رفع الستار عن مذهب "أهل السنّة والجماعة"، وإطلاع القارئ بأنّهم يقدِّمون الحديث على القرآن، ويقولون صراحة بأنّ السنّة قاضية على القرآن.

فهذا الإمام الفقيه عبد الله بن مسلم بن قتيبة محدّث وفقيه "أهل السنّة والجماعة" متوفّى سنة 276 هجرية يقول بصراحة: "السنّة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنّة"(1).

كما ذكر صاحب كتاب مقالات الإسلاميين الإمام الأشعري، وهو إمام "أهل السنّة والجماعة" في الأصول(2): "إن السنّة تنسخ القرآن وتقضي عليه، وأن القرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي عليها"(3).

وذكر ابن عبد البر بأنّ الإمام الأوزاعي، وهو من كبار أئمة "أهل السنّة والجماعة"، قال: "إنّ القرآن أحوج إلى السنّة من السنّة إلى القرآن..."(4).

____________

1- سنن الدارمي 1: 145.

2- كيف لا يكون إمامهم وهو الذي أطاح بالمعتزلة ألدّ أعداء أهل السنّة، وفي ذلك يقول ابن الصيرفي من كبار الأئمة الشافعية: "كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم" (تاريخ الإسلام للذهبي 24: 155).

3- مقالات الإسلاميين: 479، وقد ذكر اختلاف أهل السنّة في نسخ القرآن بالسنّة إلى ثلاثة أقوال، أحدها ما ذكره المؤلّف في المتن.

4- جامع بيان العلم: 429 (باب 65، موضع السنّة من الكتاب).


الصفحة 401
فإذا كانت هذه أقوالهم تشهد على عقيدتهم، فمن الطبيعي جدّاً أن يتناقض هؤلاء مع ما يقوله أهل البيت من عرض كلّ حديث على كتاب الله ووزنه عليه; لأنّ القرآن هو القاضي على السنّة، ومن الطبيعي أيضاً أن يرفضوا هذه الأحاديث، ولا يعترفوا بها ولو رواها أئمة أهل البيت; لأنّها تنسف مذهبهم نسفاً.

فقد ذكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة بأنّ الحديث الذي رُوي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قوله: "إذا جاءكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله"، قال البيهقي: هذا حديث باطل لا يصحّ، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن(1).

وصرّح ابن عبد البر نقلا عن عبد الرحمان بن مهدي بأنّ الحديث الذي روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "ما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله"، هذه الألفاظ لا تصحّ عنه عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقال بأنّ هذا الحديث وضعه الزنادقة والخوارج(2).

أُنظر إلى هذا التعصّب الأعمى الذي لم يترك لهم سبيلا للتحقيق العلمي والخضوع للحقّ، فأصبحوا يسمون رواة هذا الحديث ـ وهم أئمة الهدى من العترة الطاهرة ـ بالزنادقة والخوارج، ويتهمونهم بوضع الحديث!

وهل لنا أن نسألهم: ما هو هدف الزنادقة والخوارج من وضع هذا

____________

1- دلائل النبوة 1: 27، فصل في قبول الأخبار.

2- جامع بيان العلم: 428، (باب 65، موضع السنّة من الكتاب).


الصفحة 402
الحديث الذي يجعل كتاب الله ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ مرجعاً لكلّ شيء؟

والعاقل المنصف يميل إلى هؤلاء الزنادقة والخوارج الذين يُعظّمون كتاب الله، ويجعلونه في المرتبة الأُولى للتشريع، أحسن له من الميل إلى "أهل السنّة والجماعة" الذين يقضون على كتاب الله بأحاديث مكذوبة، وينسخون أحكامه ببدع مزعومة.

{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }(1).

فالذين يسمّونهم زنادقة وخوارج هم أهل بيت النبوة، أئمة الهدى ومصابيح الدجى، الذين وصفهم جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّهم أمان الأُمّة من الاختلاف، فإذا خالفتهم قبيلة صارت حزب إبليس، وذنبهم الوحيد هو أنّهم تمسّكوا بسنّة جدّهم، ورفضوا ما سواها من البدع البكرية، والعمرية، والعثمانية، والمعاوية، واليزيدية، والمروانية، والأموية، وبما أنّ السلطة الحاكمة بيد هؤلاء المذكورين، فمن الطبيعي أن يشتموا المعارضين لهم بأنّهم خوارج كانت وزنادقة، وأن يحاربوهم وينبذوهم، ألم يُلعن علي وأهل البيت على منابرهم ثمانين عاماً؟ ألم يُقتل الحسن بسمّهم، والحسين وذريته بسيوفهم؟

ودعنا من الرجوع إلى مأساة أهل البيت الذين لم تنته مظلمتهم بعد، ولنعد إلى هؤلاء الذين يسمّون أنفسهم "أهل السنّة والجماعة"، والذين ينكرون حديث عرض السنّة على القرآن، فلماذا لم يسمّوا أبا بكر

____________

1- الكهف: 5.


الصفحة 403
"الصديق" من الخوارج أو من الزنادقة؟ وهو الذي أحرق الأحاديث وخطب في الناس قائلا: "أنّكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه"(1).

ألم يُقدّم أبو بكر القرآن علي السنّة؟ بل جعله المصدر الوحيد، ورفض السنّة بدعوى أنّ الناس يختلفون فيها؟!

ولماذا لم يسمّوا عمر بن الخطّاب من الخوارج أو من الزنادقة، وهو الذي رفض السنّة النبويّة من أوّل يوم عندما قال: حسبنا كتاب الله، يكفينا! وقد أحرق هو أيضاً كلّ ما جمعه الصحابة من الأحاديث والسنن على عهده(2)، ولم يقف عند ذلك الحدّ حتى نهى الصحابة عن إفشاء الحديث(3).

ولماذا لم يسمّوا أُمّ المؤمنين عائشة ـ التي يؤخذ عنها نصف الدين ـ بأنّها من الخوارج ومن الزنادقة، فهي التي اشتهرت بعرض الحديث على القرآن، فكانت كلّما بلغها حديث لا تعرفه عرضته على كتاب الله وأنكرته إذا عارض القرآن، فقد أنكرت على عمر بن الخطّاب حديث: إنّ الميّت يُعذّب في قبره ببكاء أهله عليه، وقالت: حسبكم القرآن، فإنّه يقول: ولا تزرُ وازرة وزرَ أخرى(4).

____________

1- الذهبي في تذكرة الحفّاظ 1: 3 وهو مرسل صحيح من مراسيل أبي مليكة.

2- الطبقات الكبرى 5: 188، سير أعلام النبلاء 5: 59.

3- الذهبي في تذكرة الحفاظ 1: 6.

4- صحيح البخاري 2: 81 (كتاب الجنائز، باب قول النبيّ: يعذّب الميّت ببعض بكاء أهله عليه)، وكذلك صحيح مسلم 3: 43، (كتاب الجنائز، باب الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه).


الصفحة 404
كما أنكرت حديث عبد الله بن عمر الذي روى بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين، فقال لهم ما قال، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: "إنّهم ليسمعون ما أقول".

فكذَّبت عائشة أن يكون الأموات يسمعون وقالت: إنّما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حقّ"، ثمّ استشهدت على كذب الحديث بعرضه على القرآن، فقرأت قوله سبحانه: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى }(1)، { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَنْ فِي الْقُبُورِ }(2)(3).

وأنكرت أحاديث كثيرة كانت في كلّ مرّة تعرضها على كتاب الله، فقالت لمن حدَّث بأنّ محمّداً رأى ربّه: لقد قفَّ شعري ممّا قلت، أين أنت من ثلاث من حدّثكهنّ بها فقد كذب: من حدّثك أنّ محمّداً رأى ربّه فقد كذب، ثمّ قرأت قوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }(4)، وقرأت: { وَمَا كَانَ لِبَشَر أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَاب }(5).

ومن حدّثك أنّه يعلم ما في غد فقد كذب، ثمّ قرأت قول الله: { وَمَا

____________

1- النمل: 80.

2- فاطر: 22.

3- صحيح البخاري 5: 9 باب دعاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على كفّار قريش، وكذلك صحيح مسلم 3: 44 باب الميت يعذب ببكاء أهله.

4- الأنعام: 103.

5- الشورى: 51.


الصفحة 405
تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً }(1).

ومن حدَّثك أنّه كتم فقد كذب، ثمّ قرأت قوله تعالى: { بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ }(2)(3).

كذلك كان أبو هريرة راوية أهل السنّة عندهم، كان كثيراً ما يحدّث الحديث ثمّ يقول: فاقرأوا إن شئتم قوله تعالى، فيعرض حديثه على كتاب الله حتى يصدّقه المستمعون.

فلماذا لا يسمّي "أهل السنّة والجماعة" كلّ هؤلاء من الخوارج والزنادقة، فهم يعرضون الأحاديث التي يسمعونها على كتاب الله، ويكذّبون ما خالف منها القرآن؟! إنّهم لا يجرأون علي ذلك.

أمّا إذا تعلّق الأمر بأئمة أهل البيت، فإنّهم لا يتورّعون بأن يشتموهم بكلّ نقيصة، ولا ذنب لهم سوى عرض الحديث على كتاب الله، كي يفتضح أُولئك الوضَّاعون والمدلّسون الذين يسعون لتعطيل أحكام الله وإبطالها بأحاديث مكذوبة.

لأنّهم يدركون تماماً أنّه لو عرضت أحاديثهم على كتاب الله، فسوف لن يوافق كتاب الله على تسعة أعشار منها، والعشر العاشر الذي يؤيّده كتاب الله لأنّه من أقوال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، يؤولون بعضه على غير ما أراده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

____________

1- لقمان: 34.

2- المائدة: 67.

3- صحيح البخاري 6: 50 (كتاب التفسير، تفسير سورة النجم)، صحيح مسلم 1: 110 (كتاب التفسير، باب معنى قوله اللّه عزّ وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى})، مسند أحمد 6: 49.


الصفحة 406
كتأويلهم حديث: "الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش"، وحديث: "تمسّكوا بسنّة الخلفاء الراشدين بعدي"، وكقوله: "اختلاف أُمّتي رحمة"، وغيرها من الأحاديث الشريفة والتي يقصد بها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أئمة العترة الطاهرة، ولكنّهم صرفوها إلى خلفائهم الغاصبين، وإلى بعض الصحابة المنقلبين.

وحتى الألقاب التي يضفونها على الصحابة كتسمية أبي بكر بـ "الصديق"، وعمر بـ "الفاروق"، وعثمان بـ "ذي النورين"، وخالد بـ "سيف الله"، والحال أنّ كلّ هذه الألقاب هي لعليّ على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو أفضلهم"(1).

وعليّ نفسه كان يقول: "أنا الصدّيق الأكبر، ولا يقولها بعدي إلاّ كذّاب"(2)،

____________

1- الجامع الصغير للسيوطي 2: 115 ح5149، كنز العمال 11: 601 ح32897، الدر المنثور 5: 262، تاريخ دمشق 42: 313.

2- المستدرك للحاكم 3: 111، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 498 ح21، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 584 ح1324، السنن الكبرى للنسائي 5: 107، أمّا عباد بن عباد لله راوي الحديث فقد أورده العجلي في معرفة الثقات 2: 17 ووثّقه، وكذلك ذكره ابن حبان في كتابه الثقات 5: 141. وابن ماجة في سننه 1: 55، وعلّق العلاّمة البوصيري في كفاية الحاجة بقوله: (انفرد به ابن ماجة عن الكتب التسعة، قال في الزوائد: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات).

ومع وجود هؤلاء العلماء المصحّحين لهذا الحديث تجد عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني:190 يصف الحديث بالوضع معتمداً على ابن الجوزي، في كتابه الموضوعات!!

=>