الصفحة 5

الحمد لله رب العالمين، الرحمان الرحيم، قاهر الجبارين والمتكبرين ناصر المظلومين والمستضعفين، المتفضل على عباده أجمعين من المؤمنين والكافرين والمشركين والملحدين، المنعم علي خلقه كلهم بالهداية والرعاية والتكريم، فقال جل علا: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مممن خلقنا تفضيلا» (الإسراء: 70).

والحمد لله الذي اسجد لنا ملائكته المقربين ومن أبى أصبح من الملاعين، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي عبد لنا الطريق ومهد لنا السبيل لنصل بعنايته وتحت ظل عبادته إلى مراتب الكمال العلية، وأنار لنا الظلام وأوضح لنا الحقيقة بالحجج القوية والبراهين الجلية، وأرسل لنا رسلا منا تتلو علينا آياته وتخرجنا من الظلمات إلى النور وتنقذنا من الضلالة العمية وجعل لنا العقل إماما قائما نهتدي به كلما شكت حواسنا في أمر مبهم أو قضية.

والصلاة والسلام، والبركات والتحيات على المبعوث رحمة للإنسانية، سيدنا ومولانا وقائدنا محمد بن عبد الله خاتم الرسل وسيد البشرية، صاحب الفضيلة والوسيلة والدرجة الرفيعة، صاحب المقام المحمود واليوم الموعود والشفاعة المقبولة والخلق العظيم وعلى آل بيته الطاهرين الذين أعلى الله مقامهم

الصفحة 6
وجعلهم أمان الأمة من الهلكة ومنقذي الملة من الضلالة ونجاة المؤمنين من الغرق، المتمسك بحبل ولائهم مؤمن طيب الولادة، والناكب عن صراطهم منافق رديء الولادة محبهم ينتظر الرحمة ومبغضهم ليس له إلا النقمة، لا يصل العبد إلى ربه إلا من طريقهم ولا يدخل إلا من بابهم.

ثم الراضون على شيعتهم ومحبيهم من الصحابة الأولين الذين بايعوهم على نصرة الدين، وثبتوا معهم على العهد وكانوا من الشاكرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

رب أشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل كل من يقرأ كتابي يميل إلى الحق بإذنك، ويترك التعصب بمنك وإحسانك، فإنك أنت الوحيد القادر على ذلك ولا يقدر عليه سواك.

فبعزتك وجلالك وبقدرتك وكمالك، وبمحبك لعبادك افتح بصائر المؤمنين الموحدين الذين آمنوا برسالة حبيبك محمد على الحق الذي لا شك فيه، حتى يهتدوا إليه بفضلك ويعرفوا قيمة الأئمة من آل بيت نبيك، ويتوحدوا لإعلاء كلمة الدين بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة والأخوة الصادقة، فلقد عم الفساد في البر والبحر.

ولولا الصبر الذي خلقته وألهمتنا إياه، لدب اليأس إلى قلوبنا ولأصبحنا من الخاسرين، لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. فاجعلنا اللهم من الصابرين ولا تجعلنا من اليائسين.

اللهم، كن لوليك الحجة ابن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه

الصفحة 7
الساعة وفي كل ساعة، وليا وحافظا وقائدا وناصرا، ودليلا وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا، واجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه في طاعتك وسبيلك، إنك أنت السميع العليم.

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، للهم صل على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

الصفحة 8

الصفحة 9

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد.

لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «مداد العلماء أفضل عند الله من دماء الشهداء».

كان لزاما على كل عالم أو كاتب أن يكتب للناس ما يراه صالحا لهدايتهم وإصلاح ذات بينهم وجمع كلمتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، لأن الإنسان إذا ما استشهد في سبيل الله وهي دعوة الحق من أجل إقامة العدل، فقد لا يتأثر به إلا الذي حضره، ولكن العالم الذي يعلم الناس ويكتب قد يتأثر بعلمه كثير من القراء من أبناء جيله ويبقى كتابه مناراً للأجيال اللاحقة جيلا بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكل شيء تنقصه النفقة إلا العلم فإنه يزكو بالإنفاق.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لئن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس، أو خير لك من الدنيا وما فيها». فكم من كاتب توفي منذ قرون عديدة وأصبحت عظامه رميما ولكن أفكاره وعلومه بقيت من خلال كتابه الذي قد يطبع مئات المرات عبر الأجيال فستلهم الناس منه الهداية والتوفيق.

وإذا كان الشهيد حيا عند ربه يرزق فكذلك العالم الذي كان سببا في هداية الناس فهو حي عند ربه وعند العباد يذكرونه بأحسن ذكر ويدعون له ويستغفرون.

الصفحة 10

أما أنا فلست من العلماء ولا أدعي ذلك لنفسي وأعوذ بالله من الأنانية، بل أنا من خدام العلماء والباحثين في فضلاتهم واللاحسين من بقاياهم والمتبعين خطاهم كما يتبع الخادم سيده.

ولما ألهمني الله لكتابه «ثم أهتديت» ولقيت تشجيعاً من عديد من القراء والباحثين، ثم أردفته بالكتاب الثاني «لأكون مع الصادقين» والذي لقي هو الآخر قبولاً حسناً، مما شجعني على مواصلة البحث والتنقيب فكتبت الجزء الثالث «فاسألوا أهل الذكر» دفاعاً عن الإسلام وعن نبي الإسلام لإزالة الشبهات التي ألصقت بحضرته المقدسة وكشف المؤامرة التي دبرت ضده وضد أهل بيته الأطهار.

وتلقيت رسائل كثيرة من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي تحمل في طياتها عبارات الود والولاء والمحبة والإخاء، كما دعيت لحضور العديد من المؤتمرات الفكرية في أنحاء العالم والتي تقيمها المؤسسات الإسلامية، فحضرتها في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الجمهورية الإسلامية وفي بريطانيا وفي الهند والباكستان وفي كينيا وغرب إفريقيا والسويد.

وكلما التقيت مجموعة من الشباب المثقف ومن رجال الفكر وجدت لديهم إعجابا وتعطشا لمزيد من المعرفة فيسألون هل من مزيد وهل هناك كتاب جديد؟

فحمدت الله وشكرته على هذا التوفيق وطلبت منه مزيداً من العناية والهداية، واستعنت به على هذا الكتاب الذي أضعه بين يدي المسلمين الباحثين، والذي يدور في فلك الكتب الثلاثة السابقة عسى أن ينتفع به بعض المثقفين والباحثين عن الحق ليعلموا أن الفرقة المستهدفة والتي تسمى بـ «الشيعة الإمامية» هي الفرقة الناجية، وأنهم ـ أي الشيعة ـ هم أهل السنة الحقيقية، وأقصد بالسنة الحقيقية السنة المحمدية التي صدع بها نبي الإسلام بوحي من رب العالمين.

فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وسأبين للقراء الكرام بأن

الصفحة 11

الاصطلاح الذي اتفق عليه مناوئو الشيعة وخصومهم وتسموا ب «أهل السنة والجماعة» ما هي في الحقيقة إلا سنة مزعومة سموها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من سلطان والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلممنها بريء.

فكم كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكم منعت أحاديثه وأقواله وأفعاله أن تصل إلى المسلمين بحجة الخوف من اختلاطها بكلام الله وهي حجة واهية كبيت العنكبوت، وكم من أحاديث صحيحة أصبحت في سلة المهملات ولا يقام لها وزن ولا يعبأ بها، وكم من أوهام وخزعبلات أصبحت من بعده أحكاماً تنسب إليه صلى الله عليه وآله وسلم.

وكم من شخصيات وضيعة يشهد التاريخ بخستها وحقارتها، أصبحت بعده سادة وقادة تقود الأمة ويلتمس لأخطائها الأعذار والتأويلات.

وكم من شخصيات رفيعة يشهد التاريخ بسموها وشرف منبتها، أصبحت بعده مهملة لا يعبأ بها ولا يتلفت إليها، بل تكفر وتلعن من أجل مواقفها النبيلة، وكم من أسماء براقة جذابة تخفي وراءها الكفر والضلال، وكم من قبور تزار وأصحابها من أهل النار.

وقد عبر رب العزة والجلالة عن كل ذلك بأحسن تعبير فقال: «ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له إتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد» (البقرة: 207 ـ 206).

ولعلي لست مبالغاً إذا عملت بالحكة القائلة: «لو عكست لأصبت» وعلى الباحث المحقق أن لا يأخذ الأشياء على ما هي عليه بأنها من المسلمات، بل عليه أن يعكسها ويشكك فيها في أغلب الأحيان ليصل إلى الحقيقة المطموسة التي لعبت فيها السياسة كل أدوارها، وعليه أن لا يغتر بالمظاهر ولا بكثرة العدد فقد قال تعالى في كتابه العزيز: «وإن نطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون» (الأنعام: 116).

الصفحة 12

فقد يلبس الباطل لباس الحق للتمويه والتضليل وقد ينجح في أغلب الأحيان لبساطة عقول الناس أو لحسن ظنهم به وقد ينتصر الباطل أحيانا لوجود أنصار مؤيدين له فما على الحق إلا الصبر وانتظار وعد الله بأن يزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.

وأكبر مثل على ذلك ما حكاه القرآن الكريم في قصة يعقوب وأولاده، إذ {جاؤوا أباهم عشاء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين» (يوسف: 16 ـ 17).

وكان من المفروض لو كانوا أهل الصدق أن يقولوا: «وما أنت بمؤمن لنا لأنا كاذبون».

فما كان من سيدنا يعقوب وهو نبي الله يوحي إليه إلا أن استسلم إلى باطلهم واستعان بالله على الصبر الجميل رغم علمه بأنهم كاذبون، قال: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» (يوسف: 18).

وماذا عساه أن يفعل أكثر من ذلك، وهو يواجه أحد عشر رجلاً اتفقوا كلهم على كلمة واحدة ومثلوا مسرحية القميص والدم وكلهم يبكون على أخيهم المفقود.

فهل يكشف يعقوب كذبهم ويدحض باطلهم ويسارع إلى الجب ليخرج ابنه الصغير الحبيب لقلبه، ثم يعاقبهم على فعلتهم الشنيعة ؟

كلا، إن ذلك فعل الجاهلين الذين لا يهتدون بحكمة الله أما يعقوب فهو نبي يتصرف تصرف الحكماء العلماء وقد قال الله في شأنه: «وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون» (يوسف: 68) فما كان من علمه وحكمته إلا أن تولى عنهم وقال ك «يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» (يوسف: 84).

ولو تصرف يعقوب مع أبنائه كما قدمنا بأن أخرج ابنه من الجب وعنفهم على كذبهم وعاقيهم على جريمتهم لاشتد بغضهم لأخيهم ولوصل بهم الأمر إلى

الصفحة 13
اغتيال أبيهم وربما عبروا عن ذلك بقولهم لأبيهم: «تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين» (يوسف: 85).

ومن كل هذا نستنتج بأن السكوت في بعض الأوقات مستحب إذا كان في معارضة الباطل مفسدة أو هلاك أو كان في السكوت عن الحق مصلحة عامة ولو آجلة.

ولابد أن يفهم من الحديث النبوي الشريف القائل: «الساكت عن الحق شيطان أخرس» هذا المدلول الذي يتفق مع العقل ومع كتاب الله المجيد.

ولو تتبعنا حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلملوجدناه يسكت في كثير من الأوقات لمصلحة الإسلام والمسلمين حسبما يروى في الصحاح من السيرة النبوية كصلح الحديبية وغيرها.

ورحم الله أمير المؤمنين عليا الذي سكت بعد وفاة ابن عمه بأبي هو وأمي، وقال في ذلك قولته المشهورة: «وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدج فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتين أحجى فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا …».

ولو لم يسكت أبو الحسن عن حقه في الخلافة، وقدم في ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين، لما كان للإسلام بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلمأن يعيش أبدا على ما رسمه الله ورسوله.

وهذه هي الحقيقية التي يجهلها أكثر الناس الذين يحتجون علينا دائماً بصحة خلافة أبي بكر وعمر لأن علياً سكت عنهما، ويضيفون كما يحلو لهم: «لو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلمعين عليا للخلافة بعده لما جاز له أن يسكت عنها، لأنها من حقه والساكت عن الحق شيطان أخرس. هذا ما يقولونه ويرددونه.

وهذا لعمري هو الفهم الخاطئ الذي لا يعرف من الحق إلا الذي يتماشى مع ميوله وهواه، ولا يدرك الحكمة التي تتمخض عن ذلك السكوت والمصالح

الصفحة 14
الآجلة التي لا تقدر بقيمة إذا ما قيست بالمصلحة العاجلة نتيجة الثورة على الباطل الذي له أنصار ومؤيدون كثيرون.

وإذا كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلميوم الحديبية على الحق وقبوله بشروط قريش وباطل المشركين، حتى ثارت ثورة عمر بن الخطاب فقال للرسول: أو لست نبي الله حقا ؟ ! أولسنا على الحق وهم على الباطل ؟ فلماذا نعطي الدنية في ديننا ؟.

أقول: إذا كان سكوته صلى الله عليه وآله وسلمسلبيا بنظر عمر بن الخطاب وأغلب الصحابة الذين حضروه، فإن الواقع يثبت بلا شك أنه إيجابي لمصلحة الإسلام والمسلمين وإن لم تكن تلك المصلحة عاجلة فقد ظهرت نتائجه الإيجابية بعد عام واحد عند ما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلممكة المكرمة بدون حرب ولا مقاومة ودخل الناس في دين الله أفواجاً عند ذلك استدعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب وأطلعه على نتائج سكوته على الحق والحكمة من وراء ذلك.

ونحن إذ نقدم هذه الاستدلالات للتعبير عن الواقع الذي لا مفر منه ألا وهو انتصار الباطل على الحق إذا وجد له أنصار ومؤيدون، فبالرغم من أن عليا مع الحق والحق معه يدور حيث دار إلا أنه لم يجد له أنصاراً ومؤيدون لمقاومة معاوية وباطله ولأن هذا الأخير وجد أنصاراً كثيرين لمقاومة الحق ودحضه، فالناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم فهم لا يحبون الحق ويميلون مع الباطل فالحق مر وصعب والباطل سهل ميسور.

وصدق الله العظيم إذ يقول: «بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون» (المؤمنون: 70).

وانتصر باطل يزيد على حق الحسين لنفس الأسباب كما انتصر باطل الحكام الأمويين والعباسيين على حق الأئمة من أهل البيت الذين استشهدوا كلهم ساكتين لمصلحة الإسلام والمسلمين.

كما غاب الإمام الثاني عشر واختفى خوفا من الباطل وسكت حتى يجد لنصره الحق أعوانا ومؤيدين، عند ذلك يأذن الله له بالخروج لتكون ثورة الحق

الصفحة 15
ضد الباطل عالمية، فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلما وجوراً وبتعبير آخر يملأها حقا بعد ما ملئت بالباطل.

وبما أن أكثر الناس للحق كارهون فهم أنصار الباطل ويبقى في الناس عدد قليل محب للحق فلا ينتصرون على أهل الباطل إلا بإعانة الله لهم عن طريق المعجزات، وذلك ما سجله كتاب الله الكريم في كل المعارك والحروب التي جمعت أهل الحق ضد أهل الباطل «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين» (البقرة: 249).

فالذين يصبرون على الحق رغم قلة أعوانه ينصرهم الله سبحانه بالمعجزات فيبعث الملائكة المسومين يقاتلون معهم، ولولا تدخل الله مباشرة لما انتصر الحق على الباطل أبداً.

وها نحن نعيش اليوم هذه الحقيقة المؤلمة، والمؤمنون الصادقون أنصار الحق مغلوبون على أمرهم ومقهورون مشردون ومنكوبون، بينما أنصار الباطل الذين يكفرون بالله يحكمون ويلعبون بمصير الشعوب وبأرواحهم ولا يمكن للمؤمنين المستضعفين أن ينتصروا في معركتهم ضد الكافرين المستكبرين إلا بإعانة الله تعالى، ولذلك وردت الروايات بأن المعجزات ستظهر بظهور المهدي (ع).

وليست هذه دعوة للركود والانتظار، كيف يضح ذلك وقد قدمت آنفاً بأنه لا يظهر إلا بوجود الأنصار والأعوان، ويكفي المؤمنين الصادقين أن يحملوا فكر الإسلام الصحيح المتمثل في ولاية أهل البيت ـ أعني بذلك التمسك بالثقلين كتاب الله وعثرة النبي ـ ليكونوا من أنصار وأعوان المهدي المنتظر (عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة وأزكى السلام).

أقول قولي هذا واستغفر الله إن كنت مخطئا على رأي الأكثرية من الناس، ومصيباً على رأي الأقلية منهم، فلا أبالي بلوم الأكثرية ولا أباهي بمدح الأقلية ما دمت أبتغي رضا الله ورسوله ورضا الأئمة من أهل البيت (ع).

أما رضا الناس فهو غاية لا تدرك، لأن الناس لا يرضون إلا عما يعجبهم ولا

الصفحة 16

يميلون إلا مع أهوائهم، وأهواؤهم شتى «ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن …» (المؤمنون: 71).

وإذا كان أغلب الناس معرضين عن الحق حتى وصل بهم الأمر إلى قتل رسل الله معاندة للحق الذي لا يتماشى مع أهوائهم قال تعالى: «أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون» (البقرة: 87).

فلا غضاضة علي إن أهنت أو لعنت على لسان البعض منهم الذين لم يتحملوا الحق الذي صدعت به في كتبي السابقة وقد أعيتهم الحيلة في الرد علي بالحجة والدليل العلمي فلجأوا للسب والشتم كما هي عادة الجاهلين.

فلا ولن اخضع للمساومات ولا للترهيب والترغيب وسأكون المدافع بلساني وقلمي عن رسول الله وأهل بيت (صلوات الله عليهم أجمعين)، عسى أن أحظى لديهم بالقبول فأكون من الفائزين، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

محمد التيجاني السماوي التونسي


الصفحة 17

التعريف بالشيعة(1)

إذا أردنا الكلام عن الشيعة بدون تعصب ولا تكلف، قلنا: هي الطائفة الإسلامية التي توالي وتقلد الأئمة الاثني عشر من أهل بيت المصطفى عليا وبينه، وترجع إليهم في كل المسائل الفقهية من العبادات والمعاملات، ولا يفضلون عليهم أحد سوى جدهم صاحب الرسالة محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا هو التعريف الحقيقي للشيعة بكل اختصار، ودعك من أقوال المرجفين والمتعصبين من أن الشيعة هم أعداء الإسلام، أو أنهم يعتقدون بنبوة علي وأنه صاحب الرسالة أو أنهم ينتمون إلى عبد الله بن سبأ اليهودي.

وقد قرأت كتبا ومقالات عديدة يحاول أصحابها بكل جهودهم تكفير الشيعة وإخراجهم من الملة الإسلامية.

ولكن أقوالهم كلها محض افتراء وكذب صريح لم يأتوا عليه بحجة ولا بدليل سوى أنهم يعيدون ما قاله أسلافهم من أعداء أهل البيت، والنواصب الذين تسلطوا على الأمة وحكموها بالقوة والقهر، وتتبعوا عثرة النبي ومن تشيع لهم فقتلوهم وشردوهم ونبزوهم بكل الألقاب.

ومن هذه الألقاب التي تتردد كثيرا في كتب أعداء الشيعة لقب الرافضة، أو الروافض. فيخيل للقارئ لأول وهلة أن هؤلاء رفضوا قواعد الإسلام ولم يعملوا بها، أو أنهم رفضوا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلمولم يقبلوا بها.

____________

(1) ونقصد بالشيعة هنا، (الإمامية الاثني عشرية) والمسماة أيضاً بالجعفرية نسبة للإمام جعفر الصادق، ولا يتعلق بحثنا بالفرق الأخرى كالإسماعيلية والزيدية ولا يهمنا من أمر هؤلاء ما دمنا نعتقد بأنهم كسائر الفرق الأخرى التي لم تتمسك بحديث الثقلين، ولا ينفع اعتقادهم بإمامة علي بعد رسول الله مباشرة.

الصفحة 18

ولكن الواقع على غير هذا، إنما لقبوا بالروافض لأن الحكام الأولين من بني أمية وبني العباس ومن يتزلف إليهم من علماء السوء أرادوا تشويههم بهاذ اللقب، لأن الشيعة والوا عليا ورفضوا خلافة أبي بكر وعمر وعثمان أولا، كما رفضوا خلافة كل الحكام من بني أمية وبني العباس ولم يقبلوا بها ثانيا.

ولعل هؤلاء كانوا يموهون على الأمة بإعانة بعض الوضاعين من الصحابة بأن خلافتهم شرعية لأنها بأمر الله سبحانه، فكانوا يروجون بأن قوله تعالى: {با أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» (النساء: 59) تخصهم ونازلة في حقهم، فهم أولو الأمر الواجبة طاعتهم على كل المسلمين، وقد استأجروا من يروي لهم كذبا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمقول: «ليس أحد خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية» فليس من حق أي مسلم أن يخرج عن طاعة السلطان.

وبهذا نفهم بأن الشيعة إنما استهدفوا من قبل الحكام لأنهم رفضوا بيعتهم ولم يقبلوا بها واعتبروها اغتصابا لحق أهل البيت، فكان الحكام وعلى مر العصور يوهمون العامة بأن الشيعة رافضون للإسلام بل يريدون هدمه والقضاء عليه، كما عبر عن ذلك بعض الكتاب والمؤرخين ممن يدعي العلم من السابقين واللاحقين.

وإذا رجعنا إلى لعبة تلبيس الحق بالباطل فسندرك بأن هناك فرقا بين من يريد هدم الإسلام وبين من يريد هدم الحكومة الجائرة الفاسقة التي تعمل ضد الإسلام.

فالشيعة لم يخرجوا على الإسلام، إنما خرجوا على الحكام الجائرين وهدفهم إرجاع الحق إلى أهله لإقامة قواعد الإسلام بالحاكم العادل. وعلى كل حال فالذي عرفناه خلال البحوث السابقة من كتاب «ثم اهتديت» و «مع الصادقين» و «أهل الذكر» أن الشيعة هم الفرقة الناجية لأنهم تمسكوا بالثقلين كتاب الله وعترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وإذا أنصفنا المنصفين، فإن البعض من علماء «أهل السنة» يعترف بهذه الحقيقة، فقد قال ابن منظور في كتابه «لسان العرب» في تعريف الشيعة.

الصفحة 19

«والشيعة هم قوم يهوون هوى عثرة النبي ويوالونهم» كما يقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور بعد استعراض هذا المقطع من الكتاب المذكور:

«وإذا كان الشيعة هم الذين يهوون هوى عثرة النبي ويوالونهم فمن من المسلمين يرفض أن يكون شيعيا ؟ !».

هذا وقد ولى عصر التعصب والعداوة الوراثية، وأقبل عهد النور والحرية الفكرية، فعلى الشباب المثقف أن يفتح عينيه، وعليه أن يقرأ كتب الشيعة ويتصل بهم ويتكلم مع علمائهم كي يعرف الحق من بابه، فكم خدعنا بالكلام المعسول وبالأراجيف التي لا تثبت أمام الحجة والدليل.

والعالم اليوم في متناول الجميع، والشيعة موجودون في كل بقاع الدنيا من هذه الأرض، وليس من الحق أن يسأل الباحث عن الشيعة أعداء الشيعة وخصومهم الذين يخالفونهم في العقيدة، وماذا ينتظر السائل من هؤلاء أن يقولوا في خصومهم منذ بداية التاريخ ؟

فليست الشيعة فرقة سرية لا تطلع على عقائدها إلا من ينتمي إليها، بل كتبها وعقائدها منشورة في العالم، ومدارسها وحوزاتها العلمية مفتوحة لكل طلاب العلم، وعلماؤهم يقيمون الندوات والمحاضرات والمناظرات والمؤتمرات، ويندون إلى كلمة سواء وإلى توحيد الأمة الإسلامية.

وأنا على يقين بأن المنصفين من الأمة الإسلامية إذا ما بحثوا في الموضوع بجد سوف يستبصرون إلى الحق الذي ليس بعده إلا الضلال لأن مانعهم من الوصول هو فقط وسائل الدعاية المغرضة والإشاعة الكاذبة من أعداء الشيعة أو تصرف خاطئ من بعض عوام الشيعة(1) .

ويكفي في أغلب الأحيان أن تزاح شبهة واحدة أو تنمحي خرافة باطلة حتى ترى من كان عدوا للشيعة يصبح منهم.

____________

(1) ستعرف في آخر الكتاب بأن أعمال بعض العوام من الشيعة ينفر الشباب المثقف من أهل السنة ولا يشجعهم على مواصلة البحث للوصول إلى الحقيقة.

الصفحة 20

ويحضرني في هذا الصدد قصة الشامي الذي ضللته وسائل الإعلام في ذلك العهد، عندما دخل المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلموجد رجلاً يركب فرسه عليه هيبة ووقار وحوله كوكبة من أصحابه يحوطونه من كل جانب وهم طوع إشارته.

استعرب الشامي وتعجب أن يكون في الدنيا رجل له من الهالة والتعظيم أكثر من معاوية في الشام فسأل عن الرجل، فقيل له: إنه الحسن بن علي بن أبي طالب، قال: هذا هو ابن أبي تراب الخارجي ؟ ثم أولغ سبا وشتما في الحسن وأبيه وأهل بيته.

وشهر أصحاب الحسن سيوفهم كل يريد قتله، ومنعهم الإمام الحسن ونزل عن جواده فرحب به ولاطفه قائلا له:

يبدو أنك غريب عن هذه الديار يا أخا العرب ؟ قال الشامي: نعم أنا من الشام من شيعة أمير المؤمنين وسيد المسلمين معاوية بن أبي سفيان، فرحب به الإمام من جديد وقال له: أنت من ضيوفي وامتنع الشامي ولكن الحسن لم يتركه حتى قبل النزول عنده وبقي الإمام يخدمه بنفسه طيلة أيام الضيافة ويلاطفه، فلما كان اليوم الرابع بدا على الشامي الندم والتوبة مما صدر منه تجاه الحسن بن علي وكيف يسبه ويشتمه فيقابله بالإحسان والعفو وحسن الضيافة، فطلب من الحسن ورجاه أن يسامحه على ما صدر منه وكان بينهما الحوار التالي بمحضر من أصحاب الحسن:

الحسن: أقرأت القرآن يا أخا العرب ؟

الشامي: أنا أحفظ القرآن كله.

الحسن: هل تعرف من هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم ؟

الشامي: إنهم معاوية وآل أبي سفيان.

استغرب الحاضرون وتعجبوا وابتسم له الحسن قائلا: أنا الحسن بن علي وأبي

الصفحة 21
هو ابن عم رسول الله وأخوه، وأمي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وجدي رسول الله سيد الأنبياء والمرسلين وعمي حمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار، ونحن أهل البيت الذي طهرنا الله سبحانه وافترض مودتنا على كل المسلمين ونحن الذين صلى الله وملائكته علينا وأمر المسلمين بالصلاة علينا، وأنا وأخي الحسين سيدا شباب أهل الجنة.

وعدد له الإمام الحسن بعض فضائل أهل البيت وعرفه حقيقة الأمر فاستبصر الشامي وبكى وأخذ يقبل أنامل الحسن ويلثم وجهه معتذرا عما صدر منه في حقه قائلا:

والله الذي لا إله إلا هو إني دخلت المدينة وليس لي على وجه الأرض أبغض منكم، وها أنا أخرج منها وليس على وجه الأرض أحب إلي منكم، وإني أتقرب إلى الله سبحانه بحيكم ومودتكم وموالاتكم والبراءة من أعدائكم.

التفت الإمام الحسن إلى أصحابه قائلا:

لقد أردتم قتله وهو بريء لأنه لو عرف الحق ما كان ليعانده وإن أكثر المسلمين في الشام مثله لو عرفوا الحق لاتبعوه.

ثم قرأ قول الله تعالى: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (فصلت: 34).

نعم هذا هو الواقع الذي يجهله أكثر الناس مع الأسف فكم من إنسان يعادي الحق ويعانده ردحا من عمره، حتى يكتشف في يوم من الأيام أنه على خطأ فيسارع بالتوبة والاستغفار وهذا هو واجب كل إنسان فقد قيل: «الرجوع للحق فضيلة».

وإنما المصيبة في الذين يرون الحق عيانا ويلمسونه بأيديهم ثم يقفون ضده ويحاربونه من أجل أغراض خسيسة ودنيا دنيئة وأحقاد دفينة.

وهذا النمط من الناس، قال في حقهم رب العزة والجلالة: «وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون» (يس: 10) فلا فائدة في تضييع الوقت معهم وحرق الأعصاب من أجلهم، وإنما الواجب علينا أن نضحي بكل شيء

الصفحة 22
مع أولئك المنصفين الذين يبحثون عن الحق ويبذلون جهدهم للوصل إليه والذين قال في حقهم رب العزة والجلالة: «إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم» (يس: 11).

فعلى المستبصرين من الشيعة في كل مكان أن ينفقوا من أوقاتهم ومن أموالهم في سبيل التعريف بالحق لكل أبناء الأمة الإسلامية، فلم يكن أئمة أهل البيت حكرة على الشيعة وحدهم، إنما هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى لكل المسلمين.

وإذا بقي الأئمة من أهل البيت مجهولين لدى عامة المسلمين وخصوصا منهم المثقفين من أبناء «أهل السنة والجماعة» فإن الشيعة يتحملون مسؤولية ذلك عند الله.

كما إذا بقي الناس كفارا وملحدين لا يعرفون دين الله القويم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلمسيد المرسلين، فالمسؤولية على كل المسلمين.

الصفحة 23

التعريف بأهل السنة

هم الطائفة الإسلامية الكبرى التي تمثل ثلاثة أرباع المسلمين في العالم، وهم الذين يرجعون في الفتوى والتقليد إلى أئمة المذاهب الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل.

وقد تفرع عنها فيما بعد ما يسمى بالسلفية التي جدد معالمها ابن تيمية الذي يسمونه مجدد السنة، ثم الوهابية التي ابتدعها محمد بن عبد الوهاب، وهو مذهب السعودية.

وكل هؤلاء يسمون أنفسهم «بأهل السنة» وفي بعض الأحيان يضيفون كلمة الجماعة، فيقال «أهل السنة والجماعة».

ويتبين لنا من خلال البحث التاريخي أن كل من انتمى إلى ما يسمى عندهم بالخلافة الراشدة، أو الخلفاء الراشدين وهم «أبو بكر وعمر وعثمان وعلي» واعترف بإمامتهم سواء في عهدهم أو في عصرنا فهو سني من «أهل السنة والجماعة».

وكل من رفض تلك الخلافة واعتبرها غير شرعية، وقال بثبوت النص على علي بن أبي طالب فهو شيعي من أهل الرفض.

ويتبين لنا أيضاً أن كل الحكام، من أبي بكر وإلى آخر خلفاء بني العباس

____________

(1) سيتبين لنا في أبحاث لاحقة بأن «أهل السنة والجماعة» لم يلحقوا علي بن أبي طالب بالخلفاء الراشدين الثلاثة إلا في زمن متأخر جدا.

الصفحة 24
هم راضون على أهل السنة ومتفقون تماما معهم، وغاضبون ومنتقمون من الذين تشيعوا لعلي بن أبي طالب وبايعوه بالخلافة كما بايعوا أولاده من بعده.

وعلى هذا الأساس فإن علي بن أبي طالب وشيعته لم يكونوا معدودين عندهم من «أهل السنة والجماعة» وكأن هذا الاصطلاح ـ يعني «أهل السنة والجماعة» قد وضع في مقابل علي وشيعته، وهو حسب أعتقادي السبب الرئيسي في تقسيم الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول إلى سنة وشيعة.

وإذا رجعنا لتحليل الأسباب وكشف الأستار حسب المصادر التاريخية الموثوقة لوجدنا أن هذا التقسيم ظهر عقيب وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلممباشرة وبدون فصل، إذ أن الأمر استتب لأبي بكر باعتلائه منصة الخلافة وايدته الأغلبية الساحقة من الصحابة، وعارضه علي بن أبي طالب وبنو هاشم وقلة قليلة من الصحابة الذين كانوا في أغلبهم من الموالي.

وبديهي أن السلطة الحاكمة أقصت هؤلاء وأبعدتهم واعتبرتهم خارجين من الصف الإسلامي، وعملت كل جهودها على شل معارضتهم بكل الأساليب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ومن المعلوم أن «أهل السنة والجماعة» اليوم، لا يدركون الأبعاد السياسية التي لعبت في تلك العصور، ومدى العداوة والبغضاء التي أولدتها تلك الأدوار الخبيثة في عزل وإبعاد أعظم شخصية عرفها تاريخ البشرية بعد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، و «أهل السنة والجماعة» في هذا العصر يظنون أو يعتقدون بأن الأمور كانت على أحسن ما يرام وأنها تدور وفق الكتاب والسنة في زمن الخلفاء الراشدين وأن هؤلاء كانوا يتشبهون بالملائكة فكانوا يحترمون بعضهم ولم تكن بينهم أحقاد ولا مطامع ولا نوايا سيئة.

ولكل ذلك تراهم يرفضون كل ما يقوله الشيعة في الصحابة عامة وفي الخلفاء الراشدين منهم خاصة.

وكأن «أهل السنة والجماعة» لم يقرأوا كتب التاريخ التي سجلها علماؤهم، واكتفوا فقط بما يسمعونه من أسلافهم من مديح وإطراء وإعجاب بعامة

الصفحة 25
الصحابة وخصوصاً منهم الخلفاء الراشدين، ولو فتحوا قلوبهم وأبصارهم وتصفحوا تاريخهم وكتب الحديث عندهم طلبا للحق ومعرفة الصواب لغيروا عقيدتهم ليس في الصحابة فحسب ولكن في كثير من الأحكام التي يعتبرونها صحيحة وما هي كذلك.

وإني أحاول بهذا المجهود المتواضع أن أبين لإخواني من «أهل السنة والجمعة» بعض الحقائق التي طفحت بها كتب التاريخ، وأخرج لهم باختصار وجيز النصوص الجلية التي تدحض الباطل وتظهر الحق، عسى أن يكون في ذلك الدواء الناجع لتشتت المسلمين واختلافهم ويعمل على توحيدهم وجمع كلمتهم.

وإن «أهل السنة والجماعة» كما أعرفهم اليوم ليسوا متعصبين، وليسوا ضد الإمام علي وأهل البيت، بل إنهم يحبونهم ويحترمونهم ولكنهم في نفس الوقت يحبون ويحترمون أعداء أهل البيت ويقتدون بهم باعتبار «كلهم من رسول الله ملتمس».

و «أهل السنة والجماعة» لا يعملون بقاعدة الولاء لأولياء الله والبراءة من أعداء الله، بل يلقون بالمودة للجميع ويترضون على معاوية بن أبي سفيان كما يترضون على علي بن أبي طالب.

وقد بهرتهم هذه التسمية البراقة (أهل السنة والجماعة) ولم يعرفوا خفاياها ودسائسها التي وضعها دهاة العرب ولو علموا يوماً بأن علي بن أبي طالب هو مخض السنة المحمدية وهو بابها الذي يؤتى منه للدخول إليها، قد خالفوه في كل شيء وخالفهم، لتراجعوا عن موقفهم ولبحثوا الموضوع بجد، ولما وجدت «أهل السنة» إلا شيعة لعلي وللرسول صلى الله عليه وآله وسلمولكل ذلك لابد من كشف حقيقي لتلك المؤامرة الكبرى التي لعبت أخطر الأدوار في إقصاء السنة المحمدية، وإبدالها ببدع جاهلية سببت نكسة المسلمين وارتدادهم عن الصراط المستقيم وتفرقهم واختلافهم ثم تكفير ومقاتلة بعضهم البعض، الشيء الذي سبب تخلفهم العلمي والتقني مما أدى إلى احتلالهم وغزوهم ثم إذلالهم وتحقيرهم وتذويبهم.

الصفحة 26

وبعد هذا الاستعراض الوجيز للتعريف بالشيعة وبالسنة لابد من الملاحظة بأن اسم الشيعة لا يعني معارضة السنة كما يتوهم عامة الناس عندما يتباهون بقولهم: نحن أهل السنة، ويقصدون بأن غيرهم ضد السنة، فهذا لا يوافق عليه الشيعة أبداً، بل إن الشيعة يعتقدون بأنهم وحدهم المتمسكين بسنة النبي الصحيحة لأنهم أتوها من بابها وهو علي بن أبي طالب ولا باب سواه وعلى رأيهم لا يمكن الوصول إلى الرسول إلا عن طريقه.

ونحن كالعادة في توخي الحياد للوصول إلى الحق لابد أن نتدرج بالقارئ العزيز، ونستعرض معه بعض الأحداث التاريخية ونقدم إليه الدليل والبرهان على أن الشيعة هم أهل السنة كما جاء عنوان الكتاب.

ونترك له بعد ذلك حرية الاختيار والتعليق.

الصفحة 27

أول حادث فرق المسلمين إلى شيعة وسنة

ذلك هو الموقف الرهيب والخطير الذي وقفه عمر بن الخطاب وأكثر الصحابة تجاه أمر سول الله صلى الله عليه وآله وسلمعندما أراد أن يكتب لهم ذلك الكتاب الذي يعصم المسلمين من الضلالة(1) .

وعارضوه بشدة وقساوة وعدم احترام لمقامه السامي حتى اتهموه بالهجر والهذيان، مدعين بأن كتاب الله يكفيهم فلا حاجة لكتابة الرسول. ومن خلال هذه الحادثة التي سماها ابن عباس رزية المسلمين يتبين لنا بأن الأكثرية من الصحابة يرفضون السنة النبوية ويقولون: «حسبنا كتاب الله».

أما علي وأتباعه من الصحابة وهم الأقلية والذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشيعة علي، فكانوا يمتثلون أوامر الرسول بدون اعتراض ولا نقاش ويعتبرون كل أقواله وأفعاله سنة واجبة الاتباع تماما ككتاب الله، ألم يقل كتاب الله:

«يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» (النساء: 59)

وسيرة عمر بن الخطاب معروفة عند كل المسلمين ومواقفه المعارضة للنبي في كل أدوار حياته مشهورة(2) .

وبطبيعة الحال فإن عمر بن الخطاب كان يرى عدم التقيد بالسنة النبوية، ويظهر ذلك جليا من خلال أحكامه عندما أصبح للمؤمنين فكان يجتهد

____________

(1) رزية يوم الخميس مشهورة في صحيح البخاري وصحيح مسلم.

(2) لقد وافينا البحث لمعارضة عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلمفي كتابنا «فاسألوا أهل الذكر».

الصفحة 28
برأيه مقابل النصوص النبوية بل كان يجتهد برأيه مقابل النصوص الإلهية الجلية فيحرم ما أحل الله ويحلل ما حرم الله(1) .

وبطبيعة الحال إن أنصاره ومؤيديه من الصحابة كانوا على شاكلته، وإن محبيه والمعجبين به من السلف والخلف يقتدون به وببدعه الحسنة كما يسمونها.

وسيأتي خلال الأبحاث القادمة بأنهم يتركون سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلمويتبعون سنة عمر بن الخطاب.

____________

(1) كتحريمه سهم المؤلفة قلوبهم ومتعة الحج ومتعة النساء التي حلّلها الله وتحليله طلاق الثلاث بطلقة واحدة وقد حرّم الله ذلك.

الصفحة 29

الحادث الثاني في مخالفتهم للسنة النبوية

ذلك هو رفضهم الالتحاق بجيش أسامة الذي عبأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمبنفسه وأمرهم بالسير تحت قيادته، يومين قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.

ووصل الأمر بهم إلى الطعن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلموانتقاده إذ ولى عليهم شابا صغيراً لا نبات بعارضيه عمره سبعة عشر عاماً.

وتخلف عن السير أبو بكر وعمر وبعض الصحابة ولم يلتحقوا بالجيش بدعوى إدارة أمر الخلافة رغم لعن الرسول لمن تخلف عن أسامة(1) .

أما علي وأتباعه فلم يعينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفي الجيش وذلك لحسم الخلاف، وليصفوا الجو ويخلو من أولئك المعاندين والمعارضين لأمر الله، فلا يرجعوا من مؤتة إلا والأمر قد استتب لعلي كما يريده الله ورسوله في خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

لكن دهاة العرب من القريشيين عرفوا ذلك منه، فرفضوا الخروج من المدينة وتباطأوا حتى لحق الرسول بربه، فأبرموا أمرهم كما خططوا له من قبل، وأبعدوا ما أراده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو بعبارة أخرى رفضوا السنة النبوية.

وبهذا يتبين لنا ولكل باحث أن أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمان بن عوف وأبا عبيدة عامر بن الجراح كانوا يرفضون السنة النبوية ويجتهدون بآرائهم جريا وراء المصالح الدنيوية ومن أجل الخلافة ولو كلفهم ذلك معصية الله ورسوله.

____________

(1) إقرأ كتاب الملل والنحل للشهرستاني قول النبي: لعن الله من تخلف عن جيش أسامة ج 1 ص 29.

الصفحة 30

أما علي والصحابة الذين اتبعوه فكانوا يتقيدون بالسنة النبوية ويعملون على تنفيذها حرفياً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وقد رأينا علياً (ع) في تلك المحنة كيف أنه تقيد بوصية النبي له على أن يقوم بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ومواراته في قبره، فنفذ علي كل أوامره ولم يشغله عن ذلك شاغل، ورغم علمه المسبق بأن الجماعة تسابقوا إلى السقيفة لاختيار أحدهم للخلافة، وكان بإمكانه أن يسارع إليها هو الآخر ويفسد عليهم تخطيطهم ولكن احترامه للسنة النبوية والعمل على تطبيقها يحتم عليه البقاء بجانب ابن عمه ولو كلفه ذلك ضياع الخلافة.

ولابد لنا هنا من وقفة ولو قصيرة، لنلاحظ الخلق العظيم الذي ورثه علي من المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ففي حين يزهد علي في الخلافة من أجل تنفيذ السنة نرى الآخرين يرفضون السنة من أجل الخلافة.

الصفحة 31

الحادث الثالث الذي أبرز الشيعة في مقابل «أهل السنة»

ذلك هو الموقف الخطير الذي وقفه أغلب الصحابة في السقيفة ليخالفوا صراحة النصوص النبوية التي نصبت علياً للخلافة وقد حضروها كلهم يوم الغدير بعد حجة الوداع.

ورغم اختلاف المهاجرين والأنصار في أمر الخلافة إلا أنهم تصافقوا في الأخير على ترك النصوص النبوية وتقديم أبي بكر للخلافة ولو كلفهم ذلك زهق النفوس، وشمروا على سواعدهم لقتل كل من تحدثه نفسه بمخالفتهم ولو كان من أقرب الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم(1) .

وهذا الحادث أبرز أيضاً أن الأغلبية الساحقة من الصحابة عاضدوا أبا بكر وعمر في رفض سنة نبيهم وإبدالها باجتهاداتهم، فهم أنصار الاجتهاد.

كما أبرز في المقابل الأقلية من المسلمين الذين تمسكوا بالنصوص النبوية وتخلفوا عن البيعة لأبي بكر وهم علي وشيعته.

نعم، لقد ظهر في المجتمع الإسلامي بعد الأحداث الثلاثة المذكورة، هوية الفريقين أو الحزبين المتعارضين، يعمل أحدهما على احترام السنة النبوية وتنفيذها، ويعمل الثاني على دحض السنة النبوية وطمسها وإبدالها بالاجتهاد الذي يطمع الأكثرية ويمنيهم بالوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه.

____________

(1) وأكبر دليل على ذلك تهديد عمر بن الخطاب بحرق بيت فاطمة الزهراء بمن فيها، والقصة مشهورة في كتب التاريخ.

الصفحة 32

برز على رأس الحزب الأول السني علي بن أبي طالب وشيعته، وبرز على رأس الحزب الثاني الاجتهادي أبو بكر وعمر وأغلب الصحابة.

وعمل الحزب الثاني بقيادة أبي بكر وعمر على تحطيم وكسر شوكة الحزب الأول ودبروا لذلك عدة تدابير للقضاء على الحزب المعارض، من ذلك:

أولاً: عزل المعارضة وشلها اقتصادياً

أول مبادرة بادر بها الحزب الحاكم هو إقصاء المعارضين عن كل موارد الرزق والمال، وقد عمد أبو بكر وعمر على طرد فلاحي فاطمة من فدك(1) واعتبرا تلك الأرض ملكاً للمسلمين، وليست خالصة لفاطمة كما أقر بذلك أبوها صلى الله عليه وآله وسلم.

كما حرماها من ميراث أيها بدعوى أن الأنبياء لا يورثون، وقطعا عنها سهم الخمس الذي كان رسول الله يخص به نفسه وأهل بيته لأن الصدقات محرمة عليهم.

وبذلك أصبح علي مشلولاً اقتصادياً فقد اغتصبت منه أرض فدك التي كانت تدر عليه أرباحاً هائلة، وكذلك حرم من ميراث ابن عمه والذي هو حق من حقوق زوجته، وقطع عنه سهم الخمس، فأصبح علي وزوجته وأولاده في حاجة لمن يسد رمقهم ويكسو أجسامهم، وهو بالضبط ما عبر عنه أبو بكر عندما قال للزهراء: نعم أنت لك الحق في الخمس ولكني سوف أعمل فيه عمل رسول الله، فلا أتركك تجوعين ولا تعرين.

وكما قدمنا فإن الصحابة الذين تشيعوا لعلي أغلبهم من الموالي الذين لا ثراء لهم، فلا يخشى الحزب الحاكم منهم ولا من تأثيرهم، فالناس يميلون للغني ويحتقرون الفقير.

____________

(1) قصة فدك معروفة في كتب التاريخ، وخصام الزهراء لأبي بكر حتى ماتت وهي غاضبة عليه مشهورة ذكرها البخاري ومسلم.

الصفحة 33

ثانياً: عزل المعارضة وشلها اجتماعياً

ولأجل اساقط الصف المعارض الذي يتزعمه علي بن أبي طالب فقد عمل الحزب الحاكم أيضاً على عزله اجتماعياً.

وأول شيء فعله أبو بكر وعمر هو تحطيم الحاجز النفسي والعاطفي الذي يحمل المسلمين كافة على احترام وتقدير قرابة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

وإذا كان علي هو ابن عم النبي وسيد العترة الطاهرة، قد وجد له مبغضون ضمن الصحابة الذين كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من فضله، فضلاً عن المنافقين الذين كانوا يتربصون به.

فإن فاطمة هي وحيدة النبي التي بقيت بعده في أمته وهي أم أبيها كما كان يسميها الرسول صلى الله عليه وآله وسلموسيدة نساء العالمين فكل المسلمين يحترمونها ويتعظمونها للمكانة التي حظيت بها عند أبيها وللأحاديث التي قالها في فضائلها وشرفها وطهارتها.

ولكن أبا بكر وعمر عمدا إلى إسقاط هذا الاحترام والتقدير من نفوس الناس، فجاء عمر بن الخطاب إلى بيت الزهراء وفي يده قبس من نار وطوق بيتها بالحطب وأقسم أن يحرقها بمن فيها إن لم يخرجوا لبيعة صاحبه.

يقول ابن عبد ربه في العقد الفريد(1) :

«وأما على والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة وقال له: إن أبوا قاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟

قال: نعم أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمة».

فإذا كانت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين كما جاء في صحاح «أهل السنة والجماعة»، وإذا كان ولداها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وريحانة

____________

(1) العقد الفريد لابن عبد ربه الجزء الرابع عند ذكر جماعة تخلفوا عن بيعة أبي بكر.

الصفحة 34
النبي في هذه الأمة يستهان بهم ويستصغر شأنهم حتى يقسم عمر أمام الملأ أن يحرق عليهم دارهم إن رفضوا البيعة لأبي بكر، فهل يبقى بعد هذا في نفوس الآخرين شيء من الاحترام أو التقدير لعلي بن أبي طالب الذي يبغضه أكثرهم ويحسدونه وقد أصبح بعد وفاة النبي زعيم الصف المعارض وليس عنده من حطام الدنيا ما يرغب الناس فيه ؟

فهذا البخاري يحدث في صحيحه بأن فاطمة طالبت أبا بكر بميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولو يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر(1) .

فقد نجح الحزب الحاكم نجاحاً كبيراً في عزل علي بن أبي طالب اقتصادياً واجتماعياً وأسقطه من أعين الناس، فلم يبق له بينهم احترام ولا تقدير وخصوصاً بعد وفاة الزهراء ولذلك استنكر علي وجوه الناس فاضطر لمصالحة أبي بكر ومبايعته حسب ما يرويه البخاري ومسلم.

وتعبير البخاري كلمة «استنكر على وجوه الناس» يدلنا دلالة واضحة على مدى الحقد والبغض الذي كان يواجهه أبو الحسن (سلام الله عليه) بعد وفاة ابن عمه وزوجته، ولعل بعض الصحابة كان إذا مشى بينهم يسبونه ويشتمونه ويستهزئون به، ولذلك استنكر وجوههم للمنكر الذي رآه.

ولا نقصد من هذا الفصل سرد التاريخ ومظلومية علي بقدر ما نريد إظهار الحقيقة المرة والمؤلمة، ألا وهي أن حامل لواء السنة النبوية وباب علم الرسول أصبح متروكاً، وفي المقابل أصبح أنصار الاجتهاد بالرأي الذين يرفضون السنة النبوية هم الحاكمون والمؤيدون أغلب الصحابة.

____________

(1) صحيح البخاري ج 5، ص 82 باب غزوة خيبر، صحيح مسلم كتاب الجهاد.

الصفحة 35

ثالثاً: عزل المعارضة سياسياً

رغم الحصار الشديد ومصادرة الحقوق المالية وعزلهم عن المجتمع الإسلامي حتى تحولت وجوه الناس عن علي بن أبي طالب كما مر علينا، فإن الحزب الحاكم لم يكتف بكل ذلك حتى عمد إلى عزله سياسياً وإبعاده عن كل أجهزة الدولة وعدم إشراكه في أي منصب حكومي أو إسناده أي مسؤولية. وبالرغم من تعيينهم الولاة من الطلقاء ومن فساق بني أمية الذين حاربوا الإسلام طوال حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد بقي الإمام علي بعيداً عن مسرح الحياة السياسية طيلة ربع قرن حياة أبي بكر وعمر وعثمان. وفي حين كان بعض الصحابة الولاة يجمع الأموال ويكنز الذهب والفضة على حساب المسلمين، كان علي بن أبي طالب يسقي نخيل اليهود كي يحصل على قوته بكد يمينه وعرق جبينه.

وهكذا بقي باب العلم، حبر الأمة وحامل السنة حبيس داره ولا يعرف قدره إلا بعض المستضعفين الذين كانوا يعدون على الأصابع فكانوا يتشيعون له ويهتدون بهديه ويتمسكون بحبله.

وقد حاول الإمام علي زمن خلافته إرجاع الناس إلى القرآن والسنة النبوية بدون جدوى إذ أنهم تعصبوا لاجتهاد عمر بن الخطاب وصاح أكثرهم في المسجد: واسنه عمراه.

ونستنتج من كل هذا بأن عليا وشيعته تمسكوا بالسنة النبوية وعملوا على إحيائها ولم يحيدوا عنها أبداً بينما اتبعت بقية الأمة بدع أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وسموها بـ «البدع الحسنة»(1) .

وهذا ليس من الادعاء بل هي الحقيقة التي أجمع عليها المسلمون وسجلوها في صحاحهم وعرفها كل باحث ومنصف.

فقد كان الإمام علي يحفظ القرآن ويعرف كل أحكامه وهو أول من جمعه

____________

(1) صحيح البخاري ج 2، ص 252 باب صلاة التراويح وكذلك ج 7 ص 98.

الصفحة 36
بشهادة البخاري نفسه.

في حين لم يكن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان يحفظونه ولا يعرفون أحكامه(1) .

وقد أحصى المؤرخون على عمر قوله سبعين مرة: لولا علي لهلك عمر، وقول أبي بكر: لا عشت في زمن لست فيه يا أبا الحسن … أما عثمان فحدث ولا حرج.

____________

(1) جهل عمر بحكم الكلالة مشهور في كتب السنة، وكذلك جهله بأحكام التيمم معلوم لدى الجميع، ذكره البخاري في صحيحه ج 1 ص 90.

الصفحة 37

السنة النبوية بين الحقائق والأوهام

إذا كان عمر بن الخطاب المعدود عند «أهل السنة والجماعة» من الملهمين ومن أعلم الصحابة، إذا لم يكن أعلمهم على الإطلاق للرواية التي أخرجوها في صحاحهم أن النبي أعطاه فضل شرابه وتأول ذلك بالعلم، يشهد على نفسه بأنه يجهل الكثير من السنة النبوية وقد شغل عنها بالتجارة في الأسواق.

فهذا البخاري يروي في صحيحه في باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي كانت ظاهرة وما كان بعضهم يغيب عن مشاهدة النبي وأمور الإسلام، قال:

استأذن أبو موسى على عمر فكأنه وجده مشغولاً فرجع، فقال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له فدعي له فقال: ما حملك على ما صنعت ؟

فقال: إنا كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: فائتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك، فانطلق إلى مجلس الأنصار فقالوا: لا يشهد إلا أصاغرنا، فقام أبو سعيد الخدري فقال: قد كنا نؤمر بهذا فقال عمر: خفي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألهاني الصفق بالأسواق.

____________

(1) صحيح البخاري ج8 ص157 من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة صحيح مسلم ج6 ص179 في باب الاستئذان من كتاب الآداب.

الصفحة 38

تعليق: في هذه القصة طرائف لابد من ذكرها

أولاً:

إن قضية الاستئذان معروفة في الإسلام وهي سنة نبوية يعرفها الخاص والعام وقد كان الناس يستأذنون للدخول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذه من آداب الإسلام ومفاخره.

وتفيد هذه الرواية بأن عمر بن الخطاب كان له حراس وشرطة تمنع الناس من الدخول عليه إلا بالإستئذان، فقد استأن عليه أبو موسى ثلاث مرات ولم يأذن له فرجع ولكن أنصاره وأتباعه من بني أمية وكأنهم أرادوا تفضيله وتقديمه على النبي فقالوا بأنه كان ينام على حافة الطريق بدون حرس حتى قيل فيه: عدلت فنمت.

وكأنهم يقولون بأنه اعدل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن النبي كان عنده حراسة، وإلا لماذا يقال: مات العدل مع عمر ؟ !

ثانياً:

تفيدنا هذه الرواية على مدى الغلظة والشدة التي كان يعرف بها عمر بن الخطاب وكيف كان يعامل المسلمين بدون مبرر لذلك.

فهذا أبو موسى الأشعري وهو من أكابر الصحابة يستدل بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الاستئذان، فيقول له عمر: والله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا(1) .

فهناك مبرر لإهانة أبي موسى وتكذيبه أمام الناس وتهديده بالضرب الموجع لمجرد رواية رواها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قال أبي بن كعب ـ بعدما شهد بصحة الحديث ـ: يا أبن الخطاب لا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله(2) .

أما أنا فلا أرى من مبرر غير استبداد عمر برأيه في أكثر الأمور، وإذا ما عارضوه بكتاب الله أو بسنة النبي فتراه يغضب ويهدد، الشيء الذي جعل كثيراً من الصحابة يكتمون الحق وهم يعلمون كما وقع ذلك لعمار بن ياسر عندما

____________

(1) صحيح مسلم ج 6 ص 179 كتاب الآداب، باب الاستئذان.

(2) المصدر نفسه.

الصفحة 39
جابه عمر بالسنة النبوية في قضية التيمم، ولما هدده عمر قال عمار: إن شئت لم أحدث به(1) .

والشواهد كثيرة على منع عمر الصحابة من نقل الأحاديث النبوية وذلك من عهد أبي بكر وبالأخص في أيام خلافته التي امتدت أكثر من عشر سنوات أحرق خلالها كل ما جمع من الأحاديث النبوية ومنع الصحابة من نقلها وحبس بعضهم من أجلها(1) .

وقد فعل ذلك من قبله أبو بكر كما فعل ذلك عثمان من بعده.

فكيف يقال لنا بأن الخلفاء كانوا يعملون كلهم بالسنة النبوية في حين أن السنة النبوية لم تلق منهم إلا الحرق والمنع والتعتيم ؟ !

ثالثا:

تفيدنا هذه الرواية بأن عمر بن الخطاب كان كثيراً ما يتغيب عن مجالسة النبي والاستماع لأحاديثه ويشتغل عنه بالتجارة في الأسواق.

ولذلك غابت عنه أكثر الأحاديث النبوية التي عرفها الخاص والعام من الصحابة حتى صبيانهم، يشهد على ذلك قول الأنصار عندما فزع إليهم أبو موسى من تهديد عمر، قالوا: فو الله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا، فقام أبو سعيد الخدري، وكان أصغر القوم، فشهد أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحدث بذلك.

وهذا في حد ذاته توهين لشأن عمر الذي اعتلى منصة الخلافة وهو لا يعرف من السنة النبوية أبسط الأمور التي عرفها أصغر القوم سنا، واين هو من حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول: «إذا تولى وال أمر رعية وهو يعلم أن فيهم من هو أعلم منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين».

وأنى لعمر بن الخطاب أن يصغي قلبه لمثل هذه الأحاديث النبوية التي رفضها في حياة النبي ولم يقنع بها وجعل لنفسه حق الاجتهاد في مقابلها.

____________

(1) صحيح مسلم ج 1 ص 193 باب التيمم وكذلك صحيح البخاري.