الصفحة 40

بقي أن نعترف لأبي حفص باعترافه بالجهل عندما يواجه من قبل بعض الصحابة بالحجة والدليل، فيقول مرة: كل الناس أفقه منك يا عمر حتى ربات الحجال، ومرة يقول: لولا علي لهلك عمر، وأخرى يقول: لقد أهالني عن أحاديث النبي الصفق بالأسواق.

وإذا كان عمر يتلهى عن السنة النبوية بالصفق في الأسواق فإنه عن القرآن أكثر لهواً، فقد اختلف مرة مع أبي بن كعب وهو من أشهر الحفاظ وأنكر عليه قراءته وقال بأنه لم يسمع بها من قبل، فقال له أبي: يا عمر إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق(1) .

فشغله بالتجارة ولهوه بالصفق في الأسواق يعرفه الخاص والعام وليس هو بالأمر الخفي عن الصحابة وخصوصاً منهم العارفين بكاب الله وسنة رسوله.

لذلك اعتقد بأنه كان يعيش عقدة نفسية كبيرة، وهي عقدة الجهل المركب، إذ يرى أصغر المسلمين يعرف ما لا يعرف هو ويحفظ ما لا يحفظ هو، ويرى إلى جانبه عليا وهو شاب لم يبلغ الثلاثين يصوب رأيه بما حفظه من الكتاب والسنة وبمحضر من الصحابة، حتى يضطر للقول: «لولا علي لهلك عمر».

ويرى أمرأة تقوم في آخر المسجد فتعترض عليه وهو فوق المنبر وتحاججه بكتاب الله في قضية مهور النساء على مشهد ومسمع من كل المصلين، فيقول عند ذلك: كل الناس أفقه منك يا عمر حتى ربات الحجال ‍.

وفي الحقيقة لم يكن ذلك قناعة منه بقدر ما هو تغطية على جهله وكسب الموقف لصالحه ليقول الناس عنه بأنه متواضع كما نسمع اليوم الكثير من الناس يرددون ذلك.

ومن أجل هذه العقدة عمل عمر على محق السنة النبوية ما استطاع لذلك سبيلاً، واجتهد برأيه معارضاً للكتاب والسنة، والشواهد على ذلك كثيرة جداً(2) .

____________

(1) تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 228 وروى مثل هذا الحاكم في مستدركه وأبو داود في سننه وابن الأثير في جامع الأصول.

(2) ذكرت بعضها في كتاب (مع الصادقين) وكتاب (فاسألوا أهل الذكر).

الصفحة 41

والمتتبع لسيرة عمر يكتشف بأنه لم يعش مع النبي بعد إسلامه إلا نصف عمر الرسالة أو أقل من ذلك بكثير.

فها هو يحدث عن نفسه في هذا الصدد فيقول:

«كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته يخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك(1) .

فقوله: كنا نتناوب النزول على رسول الله ينزل يوماً وأنزل يوماً، فيه دلالة واضحة على أنه كان بعيد المسكن عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك قسم عمر حياته إلى يومين يوم ينزل لرؤية النبي، ويوم لا ينزل ولا يكلف نفسه عناء النزول لبعد المسافة.

أو أن المسافة لم تكن بعيدة ولكنه ينزل إلى الأسواق ويشتغل فيها بالصفق والتجارة.

وإذا أضفنا هذا إلى قوله: «ألهاني الصفق بالأسواق عن أحاديث النبي» في قضية أبي موسى الأشعري المتقدم ذكرها ثم أردفنا بقول أبي بن كعب له: «يا عمر إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق»، كما مر علينا، تأكدنا بأنه لم يقض وقتا طويلاً مع صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلم.

ولعله كان يغيب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى في المناسبات الكبرى التي يجتمع فيها المسلمون كافة كيوم عيد الفطر وعيد الأضحى، ولذلك نراه يسأل بعض الصحابة الذين لم تشغلهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة يسألهم عما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عيد الفطر وعيد الأضحى.

فقد أخرج مسلم في صحيحه في كتاب صلاة العيدين، عن عبيد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا وافد الليثي، ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأضحى والفطر فقال: كان يقرأ فيهما بـ «ق والقرآن المجيد» و «اقتربت الساعة وانشق القمر» .

____________

(1) صحيح البخاري ج 1 ص 31 من كتاب العلم باب التناوب في العلم.

(2) صحيح مسلم ج 3، ص 61 كتاب الصلاة باب ما يقرأ به في صلاة العيدين.

الصفحة 42

وعن أبي واقد الليثي أنه قال: سألني عمر بن الخطاب عما قرأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم العيد فقلت: بـ «اقتربت الساعة» و «ق والقرآن المجيد» (1) .

فشهادة عبيد الله وأبو واقد الليثي على عمر بأنه لم يكن يعرف قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العيدين، إذا أضفنا إليها شهادة أبي بن كعب وشهادته هو على نفسه بأنه كان يشغله عن القرآن والسنة الصفق بالأسواق عرفنا الأسرار والألغاز التي بقيت حتى الآن محيرة للعلماء كفتواه بترك الصلاة للمجنب الذي لا يجد الماء وجهله بأحكام التيمم التي جاء بها القرآن والسنة، وكحكمه في الكلالة التي قضى فيها بعدة أحكام متناقضة، رغم نزولها في كتاب الله ورغم ما جاء فيها من التفصيل والبيان في السنة النبوية فإن عمر لم يفهمها إلى أن فارق الحياة(2) .

ولو وقف عمر عند حده وحاول التعلم للقضاء على جهله لكان خيرا له وللمسلمين، ولكنه أخذته العزة بالإثم فراح يحرم ما أحل الله ورسوله كمتعة الحج ومتعة النساء وسهم المؤلفة قلوبهم، ويحلل ما حرم الله ورسوله كإمضائه الطلاق الثلاث والتجسس على المسلمين وغير ذلك(3) .

ومن أجل ذلك عمل هو وصاحبه أبو بكر من أول يوم على منع أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنع تدوينها وكتابتها حتى وصل الأمر بهما إلى حرق كل ما جمعه الصحابة من الأحاديث والسنن النبوية، أولا لطمس حقائق علي وأهل البيت التي نطق بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وثانيا لكي لا يجدوا في النصوص النبوية معارضة للسياسة التي تبنوها والأحكام التي اجتهدوا بها بآرائهم وثالثاً لأن عمر بن الخطاب ما كان يعرف من سنة النبي إلا القليل.

فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس أن عمر بن

____________

(1) صحيح مسلم ج 3 ص 61 كتاب الصلاة باب ما يقرأ به في صلاة العيدين.

(2) أخرج البيهقي في سننه أن عمر سأل النبي عن ميراث الجد مع الاخوة، فقال له النبي: ما سؤالك عن هذا يا عمر ؟ إني أظنك تموت قبل أن تعلمه، قال سعيد بن المسيب: فمات عمر قبل أن يعلمه.

(3) إقرأ كتاب النص والاجتهاد لشرف الدين الموسوي.

الصفحة 43
الخطاب تحير في حكم الشك في الصلاة، فقال له: يا غلام هل سمعت من رسول الله أو من أحد أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع(1) ؟

عجبت والله أمر عمر بن الخطاب خليفة المسلمين لا يعرف كيف يرقع صلاته فيسأل عن ذلك صبيان الصحابة وهو أمر يعرفه عامة المسلمين والأميون منهم حتى في يومنا الحاضر والأعجب من ذلك قول «أهل السنة والجماعة» بأن عمر كان أعلم الصحابة فإذا كان أعلمهم على هذا النمط فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.

نعم تبقى فقط بعض المعارضة الطفيفة التي لاتغير من أحكامهم واجتهاداتهم شيئاً ولا تهدد مصالح الخلافة، كقضية استئذان أبي موسى أو استدلال أبي بن كعب بقراءة لا يعرفها عمر، عند ذلك يفتخر عمر بالرجوع إلى الاعتراف وهو فضيلة فيقول: لقد ألهاني عن ذلك الصفق بالأسواق.

فأين هذا من قول علي بن أبي طالب الذي يقول:

«كان لي مدخل خاص على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل يوم مرتين مرة في الصباح وأخرى في المساء» ؟

فهذه المجالس كانت خاصة بعلي في كل صباح ومساء أضف إلى ذلك حضوره دائماً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجالسه العامة.

فكان علي أقرب الناس للنبي وأشدهم لصوقا به وأخصهم لديه من يوم ولادته، فقد تربى في حجره حتى شب فكان يتبعه اتباع الفصيل إثر أمه في كل مكان، وفي غار حراء عند نزول الوحي عليه وقد رضع حليب الرسالة وترعرع على معارف السنة النبوية من أول مهدها.

فمن أولى بالسنة منه، وهل لأحد غيره أن يدعيها لو أنصف المنصفون ورجع إلى الحق المعاندون ؟

وهذا أكبر دليل على أنه (سلام الله عليه) وشيعته الذين اتبعوه هم رمز السنة المحمدية

____________

(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 1 ص 190.

الصفحة 44
وأعلامها. أما غيرهم ممن لم يهتدوا بهديه ويسيروا على دربه فهم أبعد ما يكونون عن السنة النبوية، ولو أنهم سموا أنفسهم «بأهل السنة» غفلة وتقليداً.

وسنبين ذلك بنحو أكثر وضوحاً في ما يأتي من أبحاث في مضمون هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

«يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً» (الأحزاب: 70 ـ 71).

الصفحة 45

أهل السنة لا يعرفون السنة النبوية

أيها القاريء العزيز، لا يستفزك هذا العنوان، فأنت بحمد الله تمشي على طريق الحق لتصل في النهاية إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. فلا تدع وساوس الشيطان، ولا الغرور بالنفس، ولا التعصب المقيت يستولي عليك ويصدك عن الوصول إلى الهدف المنشود والحق المفقود وجنة الخلود.

وكما قدمنا في ما سبق بأن المتسمين «بأهل السنة والجماعة» هم القائلون بخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. هذا ما يعرفه الناس اليوم.

ولكن الحقيقة المؤلمة هي أن علي بن أبي طالب لم يكن معدوداً عند «أهل السنة» من الخلفاء الراشدين، لا ولم يعترفوا حتى بشرعية خلافته.

وإنما ألحق علي بالخلفاء الثلاثة في زمن متأخر جداً، وذلك في سنة ثلاثين ومائتين للهجرة في زمن أحمد بن حنبل.

أما الصحابة من غير الشيعة والخلفاء والملوك والأمراء الذين حكموا المسلمين من عهد أبي بكر وحتى عهد الخليفة العباسي محمد بن الرشيد المعتصم، لم يكونوا يعترفون بخلافة علي بن أبي طالب أبداً، بل منهم من كان يلعنه ولا يعتبره حتى من المسلمين وإلا كيف يجوز لهم سبه ولعنه على المنابر ؟ ‍ وقد عرفنا سياسة أبي بكر وعمر في إقصائه وعزله كما قدمنا، ثم جاء عثمان بعدهما فأمعن في احتقاره أكثر من صاحبيه والتقليل من شأنه حتى هدده مرة بالنفي كما نفى أبا ذر الغفاري. ولما ولي معاوية أمعن في سبه ولعنه وحمل

الصفحة 46
الناس على ذلك فدأب حكام بني أمية على ذلك في كل مدينة وقرية ودام ذلك ثمانين عاماً(1) .

بل وتواصل ذلك اللعن والطعن والبراءة منه ومن شيعته أكثر من ذلك بكثير، فهذا المتوكل الخليفة العباسي يصل به الحقد إلى نبش قبر علي وقبر الحسين بن علي وذلك سنة أربعين ومائتين للهجرة.

وهذا الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين في عهده، يخطب الناس يوم الجمعة فيقول لهم من فوق المنبر: «إن الحديث الذي روي عن رسول الله أنت مني بمنزلة هارون من موسى صحيح ولكنه محرف لأن رسول الله قال له: أنت مني بمنزلة قارون من موسى» فاشتبه على السامع(2) .

ولما كان عهد المعتصم الذي كثر فيه الزنادقة والملحدون والمتكلمون وولى عهد الخلافة الراشدة واشتغل الناس بمشاكل هامشية وكانت محنة أحمد بن حنبل في قوله بقدم القرآن وأصبح الناس يدينون بدين ملوكهم وبأن القرآن مخلوق.

ولما تراجع أحمد بن حنبل عن قوله الأول خوفاً من المعتصم وخرج من محنته واشتهر بعد ذلك ولمع نجمه في عهد المتوكل بين أهل الحديث(3) عند ذلك ألحق علي بن أبي طالب بالخلفاء الثلاثة.

ولعل أحمد بن حنبل بهرته الأحاديث الصحيحة الواردة في فضائل علي والتي ظهرت رغم أنف الحكام، فهو القائل: «لم يرد في أحد من الناس من الفضائل بالأحاديث الحسان مثل ما ورد في علي بن أبي طالب».

عند ذلك ربع بخلافته واعتبرها صحيحة بعد ما كانت عندهم منكورة.

الدليل على ذلك:

جاء في طبقات الحنابلة ـ وهو الكتاب الصحيح والمشهور عندهم ـ: عن ابن أبي يعلى بالإسناد عن وديزة الحمصي قال:

____________

(1) كلهم باستثناء عمر بن عبد العزيز (رحمه الله).

(2) تاريخ بغداد ج 8 ص 266.

(3) أهل الحديث هم أنفسهم أهل السنة والجماعة.

الصفحة 47

دخلت على أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي (رضي الله عنه)(1) فقلت له: يا أبا عبد الله إن هذا الطعن على طلحة و الزبير فقال: بئسما قلت، وما نحن وحرب الجمل وذكرها ؟ أصلحك الله إنما ذكرناها حين ربعت بعلي وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمة قبله !

فقال لي: وما يمنعني من ذلك ؟ ! قلت: حديث ابن عمر فقال لي: عمر خير من ابنه فقد رضي علياً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى، وعلي قد سمى نفسه أمير المؤمنين، فأقول أنا ليس للمؤمنين بأمير ؟ ! قال: فانصرفت عنه(2) .

ومن هذه القصة يتبين لنا بأن «أهل السنة» لم يقبلوا بخلافة علي ويقولوا بصحتها إلا بعد أحمد بن حنبل بكثير كما لا يخفى.

ويظهر جليا من هذا المحدث أنه زعيم «أهل السنة والجماعة» ومتكلمهم، لأنهم يرفضون خلافة علي محتجين على ذلك بحديث عبد الله بن عمر ـ ففيه أهل السنة ـ والذي أخرجه البخاري في صحيحه وبما أنهم يقولون بأن البخاري هو أصح الكتب بعد كتاب الله، فكان لزاماً عليهم رفض خلافة علي وعدم الاعتراف بها.

وقد ذكرنا هذا الحديث في كتاب «فاسألوا أهل الذكر» ولا بأس بإعاته لتعميم الفائدة، فإن في الإعادة إفادة. أخرج البخاري في صحيحة عن عبد الله ابن عمر، قال: «كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان (رضي الله عنهم)(3) .

كما أخرج البخاري في صحيحه حديثا آخر لابن عمر أكثر صراحة من الأول إذ قال عبد الله بن عمر:

____________

(1) أنظر إلى هذا الحديث رغم أنه لا يسب عليا ولا يلعنه بل يقول: (رضي الله عنه) ولكنه لا يقبل بأ، يكون علي معدوداً من الخلفاء وينكر ذلك على أحمد بن حنبل، وقوله: إنما ذكرناها يدل على أنه يتكلم باسم الجماعة وهم أهل السنة الذين بعثوه إلى أحمد بن حنبل منكرين عليه.

(2) كتاب طبقات الحنابلة ج 1 ص 292.

(3) صحيح البخاري ج 4 ص 191 كتاب بدء الخلق، باب فضل أبي بكر بعد النبي.

الصفحة 48

«كنا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نفاضل بينهم»(1) .

ومن أجل هذا الحديث الذي ليس لرسول الله فيه رأي ولا عمل، إنما هو من خيال عبد الله بن عمر وآرائه الفاسدة وحقده وبغضه المعروف لعلي، بنى «أهل السنة والجماعة» مذهبهم على عدم الاعتراف بخلافة علي.

وبأمثال هذه الأحاديث استباح بنو أمية سب علي ولعنه وشتمه وانتقاصه، ودأب الحكام من عهد معاوية إلى أيام مروان بن محمد بن مروان سنة 132 للهجرة يلعنون علياً على المنابر ويقتلون من تشيع له أو من أنكر عليهم ذلك»(2) .

ثم قامت دولة العباسيين من عهد العباس السفاح سنة 132 للهجرة وإلى عهد المتوكل سنة 247 للهجرة، تواصلت خلالها البراءة من علي ومن تشيع له بأساليب مختلفة ومتعددة حسب الظروف والملابسات لأن دولة العباسيين قامت على أنقاض أهل البيت والمتشيعين لهم، فكان الحكام لا يجهرون بلعن علي عندما تقتضي مصلحة الدولة ولكنهم يعملون في الخفاء أكثر من عمل الأمويين وقد استفادوا من التجربة التاريخية التي أبرزت مظلومية أهل البيت وشيعتهم وعطف الناس عليهم، فعمل الحكام بدهاء لكسب الموقف لصالحهم وتقربوا إلى أئمة أهل البيت لا حباً فيهم ولا اعترافاً بحقهم وإنما لاحتواء الثورات الشعبية التي تقوم في أطراف الدولة وتهدد كيانها، ذلك ما فعله المأمون بن هارون الرشيد مع الإمام علي بن موسى الرضا، أما إذا سطرت الدولة وقضت على الثورات الداخلية فإنها تمعن في إهانة الأئمة وشيعتهم كما فعل المتوكل الخليفة العباسي الذي اشتهر ببغض علي وشتمه حتى نبش قبره وقبر الحسين.

ولكل ذلك قلنا بأن «أهل السنة والجماعة» لم يقبلوا بخلافة علي إلا بعد زمن أحمد بن حنبل بكثير.

____________

(1) صحيح البخاري ج 4 ص 203 باب مناقب عثمان بن عفان من كتاب بدء الخلق.

(2) باستثناء سنتين تولى خلالهما عمر بن عبد العزيز فأبطل اللعن، ولكن بعد قتله عادوا إلى اللعن وإلى أكثر من اللعن حتى نبشوا قبره وحرموا أن يتسمى أحد باسمه.

الصفحة 49

صحيح أن أحمد بن حنبل هو أول من قال بها، ولكنه لم يقنع بها أهل الحديث كما قدمنا، لاقتدائهم بعبد الله بن عمر.

فلابد لذلك من وقت طويل حتى يقتنع الناس ويقبلوا الفكرة التي ظهر بها أحمد بن حنبل، والتي قد يظهر الحنابلة بمظهر المنصفين والمتقربين لأهل البيت فتميزهم عن المذاهب السنية الأخرى من المالكية والحنفية والشافعية والذين كانوا يتنافسون لكسب المؤيدين. فلابد إذا من قبول الفكرة وتبنيها.

وبمرور الزمن قال «أهل السنة والجماعة» كلهم بمقولة أحمد بن حنبل وقبلوا بتربيع الخلافة بعلي وأوجبوا له ما أوجبوه للخلفاء الثلاثة من الاحترام والترضي.

أليس هذا أكبر دليل على أن «أهل السنة والجماعة» كانوا من النواصب الذين يبغضون علياً ويعملون على انتقاصه وإسقاطه».

ولقائل أن يقول: كيف يصح ذلك ونحن نرى اليوم «أهل السنة والجماعة» يحبون الإمام علياً ويترضون عنه ؟

فنقول نعم، لما قدم العهد ومات الأئمة من أهل البيت ولم يعد هناك ما يخيف الحكام ويهدد ملكهم، وتلاشت هيبة الخلافة الإسلامية واستولى عليها المماليك والمغول والتتار، وضعف الدين وأصبح أكثر المسلمين يشغلهم الفن والطرب واللهو والمجون والخمر والجواري، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وأصبح المعروف عندهم منكراً والمنكر عندهم معروفاً وعم الفساد البر والبحر، عند ذلك بكى المسلمون على أسلافهم وتغنوا بأمجادهم وتذاكروا أيامهم فسموها بالعصور الذهبية وبما أن أفضل العصور عندهم هو عصر الصحابة فهم الذين فتحوا الأمصار ووسعوا المملكة الإسلامية شرقا وغربا ودان لهم الأكاسرة والقياصرة فترضوا على الصحابة جميعاً بما فيهم علي بن أبي طالب، وإذا كان «أهل السنة والجماعة» يقولون بعدالتهم جميعاً فلا يمكنهم عند ذلك أن يخرجوا علياً من بين الصحابة.

ولو قالوا بإخراجه لافتضحوا وكشف أمرهم عند كل عاقل وباحث، فموهوا

الصفحة 50
على العامة بأنه رابع الخلفاء الراشدين وهو باب مدينة العلم رضي الله عنه وكرم الله وجهه.

ونحن نقول لهم: فلماذا لا تقلدوه في أمور دينكم ودنياكم إن كان اعتقادكم فيه صحيحاً بأنه باب مدينة العلم ؟

لماذا تركتم الباب عمداً وقلدتم أبا حنيفة ومالكاً، والشافعي وابن حنبل وابن تيمية، الذين لا يدانوه في علم ولا عمل ولا فضل ولا شرف، فأين الثرى من الثريا وأين السيف من المنجل وأين معاوية من علي لو كنتم تعقلون؟

هذا بقطع النظر عن كل النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي توجب على كل المسلمين اتباع الإمام علي من بعده والاقتداء به، ولقائل من «أهل السنة» أن يقول: إن فضل علي وسابقته وجهاده في سبيل الإسلام وعلمه الغزير وشرفه العظيم وزهده الكبير يعرفه الناس جميعاً، بل إن أهل السنة يعرفون علياً ويحبونه أكثر من الشيعة (هذا ما يردده الكثير منهم اليوم).

فنقول هؤلاء: أين كنتم(1) وأين كان أسلافكم وعلماؤكم عندما كان علي يلعن على المنابر مئات السنين ؟ فلم نسمع ولم يحدثنا التاريخ أن أحداً منهم أنكر ذلك أو منع من ذلك أو قتل من أجل ولائه وحبه لعلي، فلا ولن نجد من علماء أهل السنة من فعل ذلك بل كانوا مقربين للسلاطين والأمراء والولاة لما اعطوهم من البيعة والرضا وأفتوا لهم بقتل الرافضة الذين يوالون علياً وذريته، وهؤلاء موجودون حتى في عصرنا الحاضر.

لقد دأب النصارى على معاداة اليهود غير القرون واعتبروهم مجرمين وحملوهم مسؤولية قتل السيد المسيح عيسى بن مريم، ولكن لما ضعف أمر النصارى وتلاشت أمور العقيدة عندهم واعتنق أكثرهم مذهب الإلحاد وأصحبت الكنيسة في سلة المهملات للموقف المعادي الذي وقفته ضد العلم والعلماء،

____________

(1) لقد تعمدت القول: أين كنتم، وأقصد بها المعاصرين من «أهل السنة والجماعة» اليوم، فإنهم يقرأون في صحيح مسلم بأن معاوية كان يسب علياً ويأمر الصحابة بذلك، فلا ينكرون، بل إليهم يترضون على سيدهم معاوية كاتب الوحي عندهم، فدل ذلك على أن حبهم لعلي حب مزيف حال عن كل اعتبار.

الصفحة 51
وفي المقابل قوي أمر اليهود واستفحل واستشرى حتى احتلوا الأراضي العربية والإسلامية بالقوة، وامتد نفوذهم في الشرق والغرب وأقاموا دولة إسرائيل، عند ذلك اجتمع البابا يوحنا بولس الثاني مع أحبار اليهود وبرأهم من جريمة قتل المسيح.

«فالناس ناس والزمان زمان».

الصفحة 52

«أهل السنة» ومحق السنة

نريد في هذا الفصل توضيح شيء مهم لا غنى للباحث أن يتعمق فيه، ليكشف بدون لبس بأن الذين يتسمون «بأهل السنة» ليس لهم في الحقيقة من سنة النبي شيء يذكر.

وذلك لأنهم، أو بالأحرى لأن أسلافهم من الصحابة والخلفاء الراشدين عندهم الذين يقتدون بهم ويتقربون إلى الله بحبهم وولائهم قد وفقوا من السنة النبوية موقفاً سلبياً إلى درجة أنهم أحرقوها ومنعوا من كتابتها والتحدث بها(1) .

وإضافة لما سبق توضحيه، لابد لنا من كشف الستار عن تلك المؤامرة الخسيسة التي حبكت ضد السنة النبوية المطهرة لمنع انتشارها والقضاء عليها في المهد، وإبدالها ببدع الحكام واجتهاداتهم وآراء الصحابة وتأويلاتهم.

وقد عمل الحكام الأولون:

أولاً: على وضع الأحاديث المكذوبة التي تؤيد مذهبهم في منع الكتاب لعموم السنة النبوية والأحاديث الشريفة.

فها هو الإمام مسلم يخرج في صحيحه، عن هداب بن خالد الأزدي عن همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

____________

(1) يراجع في هذا الصدد كتاب «فاسألوا أهل الذكر» من صفحة 200 وما بعدها.

الصفحة 53
«لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج …»(1) .

والغرض من وضع هذا الكتاب هو تبرير ما فعله أبو بكر وعمر تجاه الأحاديث النبوية التي كتبها بعض الصحابة ودونوها، وقد وضع هذا الحديث في زمن متأخر عن الخلفاء الراشدين، وغفل الوضاعون الكاذبون عن الأمور التالية:

أ: لو قال هذا الحديث صاحب الرسالة لامتثل أمره الصحابة الذين كتبوا عنه ولمحوه قبل أن يتولى أبو بكر وعمر حرقها بعد سنوات عديدة من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ب: لو كان هذا الحديث صحيحاً لاستدل به أبو بكر أولا، ثم عمر ثانيا، لتبرير منعهما كتابة الأحاديث ومحوها، ولاعتذر أولئك الصحابة الذين كتبوها إما جهلاً وإما نسياناً.

ت: لو كان هذا الحديث صحيحاً لوجب على أبي بكر وعلى عمر أن يمحوا الأحاديث محواً لا يحرقاها حرقاً.

ث: لو صح هذا الحديث فالمسلمون من عهد عمر بن عبد العزيز الى يوم الناس هذا كلهم آثمون لأنهم خالفوا نهي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى رأسهم عمر بن عبد العزيز الذي أمر العلماء في عهده بتدوين الأحاديث وكتابتها، والبخاري ومسلم اللذان يصححان هذا الحديث ثم بعصيانه ويكتبان ألوف الأحاديث عن النبي.

ج: وأخيراً لو صح هذا الحديث لما غاب عن باب مدينة العلم علي بن أبي طالب الذي جمع أحاديث النبي في صحيفة طولها سبعون ذراعاً ويسميها الجامعة (وسيأتي الكلام عنها لاحقاً بحول الله).

ثانياً: عمل الحكام الأمويون على التأكيد بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير معصوم عن الخطأ وهو كغيره من البشر الذين يخطئون ويصيبون، ويروون في

____________

(1) صحيح مسلم ج 8، ص 229 كتاب الزهد والرقائق باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.

الصفحة 54
ذلك عدة أحاديث. والغرض من وضع تلك الأحاديث هو التأكيد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد برأيه فكان كثراً ما يخطئ مما حدا ببعض الصحابة أن يصوب رأيه، كما جاء ذلك في قضية تأبير النخل ونزول آية الحجاب، والاستغفار للمنافقين، وقبول الفدية من اسرى بدر، وغير ذلك مما يدعيه «أهل السنة والجماعة» في صحاحهم وما يعتقدونه في صاحب الرسالة (عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام).

ونحن نقول لأهل السنة والجماعة:

إذا كان هذا هو ديدنكم وهذا هو اعتقادكم في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف تدعون التمسك بسنته، وسنته عندكم وعند أسلافكم غير معصومة، بل غير معلومة ولا مكتوبة ؟(1)

على أننا نرد على هذه المزاعم والأكاذيب وندجضها من نفس كتبكم وصحاحكم(2) .

فهذا الإمام البخاري يخرج في صحيحه من كتاب العلم وفي باب كتابة العلم، عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب(3) .

ويستفاد من هذه الرواية بأن هناك من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كان يكتب أحاديثه، وإذا كان أبو هريرة يروي أكثر من ستة آلاف حديث عن النبي شفاهياً فإن عبد الله بن عمرو بن العاص فاق هذا العدد كتابياً ولذلك اعترف أبو هريرة بأن عبد الله بن عمرو أكثر منه أحاديث عن النبي لأنه كان يكتب ولا شك بأن هناك في الصحابة كثيرين ممن كانوا يكتبون عن النبي أحاديثه ولم يذكرهم أبو هريرة لعدم اشتهارهم بكثرة الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

____________

(1) لأن تدوين السنة النبوية تأخر إلى زمن عمر بن عبد العزيز أو بعده، أما الخلفاء والحكام الذين حكموا قبله فقد أحرقوها ومنعوا من كتابتها والتحدث بها.

(2) الغريب أن أهل السنة كثراً ما يروون الحديث ونقيضه في نفس الكتاب، والأغرب من ذلك أنهم كثيراً ما يعملون بما هو مكذوب ويهملون ما هو صحيح.

(3) صحيح البخاري ج 1 ص 36 باب كتابة العلم.

الصفحة 55

وإذا أضفنا إلى هؤلاء الإمام علي بن أبي طالب الذي كان ينشر من فوق المنبر صحيفة يسميها الجامعة، جمع فيها كل ما يحتاجه الناس من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد توارثها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وكثراً ما تحدثوا عنها.

فقد قال الإمام جعفر الصادق:

«إن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي بيده، ما من حلال ولا حرام وما من شيء يحتاج إليه الناس وليس قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش»(1) .

وقد أشار البخاري نفسه في صحيحه إلى هذه الصحيفة التي كانت عند علي في عدة أبواب من كتابه، ولكنه وكما عودنا البخاري فإنه أبتر الكثير من خصائصها ومضمونها.

قال البخاري في باب كتابة العلم:

«عن الشعبي عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟

قال: لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجلاً مسلماً أو ما في هذه الصحيفة.

قال: قلت: وما في هذه الصحيفة ؟

قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر»(1) .

كما جاء في صحيح البخاري في موضع آخر قوله:

«عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم»(1) .

كما جاء في موضع آخر من صحيح البخاري قوله:

الصفحة 56

عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي فقال: «ما عندنا كتاب نقرأه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة»(1) .

وينقل البخاري في باب آخر من صحيحه قوله:

عن علي (رضي الله عنه) قال: «ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة»() .

كما أخرج البخاري في موضع آخر من صحيحه قوله:

عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي (رضي الله عنه) على منبر من أجر وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال: «والله ما عندنا كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة»(3) .

ولم ينقل البخاري ما قاله الإمام جعفر الصادق من أن الصحيفة تسمى الجامعة لأنها جمعت كل حلال وكل حرام، وفيها كل ما يحتاجه الناس حتى أرش الخدش بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي بن أبي طالب. فاختصرها بقوله مرة: بأن فيها العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر، ومرة أخرى بقوله: فنشرها علي فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم … وإذا فيها ذمة المسلمين واحدة … وإذا فيها من والى قوماً بغير إذن مواليه..

إنه التزوير والتعتيم على الحقائق، وإلا هل يعقل أن يكتب علي هذه الكلمات الأربعة في صحيفة ويعلقها على سيفه وتلازمه عندما يخطب من فوق المنبر ويجعل منها المرجع الثاني بعد كتاب الله فيقول للناس: ما كتبنا عن النبي إلا القرآن وما في هذه الصحيفة ؟ ؟ !

وهل كان عقل أبي هريرة أكبر من عقل علي بن أبي طالب إذ كان يحفظ عن رسول الله مائة ألف حديث من غير كتابة ؟

____________

(1) صحيح البخاري ج 4، ص 67 وصحيح مسلم ج 4 ص 115.

(2) صحيح البخاري ج 4 ص 69.

(3) صحيح البخاري ج 8 ص 144.

الصفحة 57

عجيب والله أمر هؤلاء الذين يقبلون مائة ألف حديث عن أبي هريرة الذي لم يصحب النبي إلا ثلاث سنوات وكان يجهل القراءة والكتابة ويزعمون بأن عليا باب مدينة العلم الذي تعلم منه الصحابة شتى العلوم والمعارف، كان يحمل صحيفة فيها أربعة أحاديث ظلت تلازمه من حياة الرسول إلى ايام خلافته فيصعد بها على المنبر وهي معلقة على سيفه ؟ كبرت كلمة تخرج من أقواههم إن يقولون إلا كذباً.

على أن في ما أخرجه البخاري كفاية للباحثين والعقلاء، وذلك عندما ذكر بأن فيها العقل، فهو دليل بأن في الصحيفة أشياء كثيرة تخص العقل البشري والفكر الإسلامي.

ونحن لا نريد إقامة الدليل على ما في الصحيفة، فأهل مكة أدرى بشعابها وأهل البيت أدرى بما فيه وقد قالوا بأن فيها كل ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش.

ولكن الذي يهمنا في هذا البحث هو أن الصحابة كانوا يكتبون أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقول أبي هريرة بأن عبد الله بن عمرو كان يكتب أحاديث النبي، وقول علي بن أبي طالب: ما كتبنا عن رسول الله إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، كما جاء في صحيح البخاري، هو دليل قاطع على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عن كتابة أحاديثه أبداً،بل العكس هو الصحيح، وأن الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه «لا تكبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» هو حديث مكذوب وضعه أنصار الخلفاء لتأييد وتبرير ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان من حرق الأحاديث النبوية ومنع السنة من الانتشار. ومما يزيدنا يقينا بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عن كتابة الأحاديث عنه بل إنه أمر بها، هو ما قاله الإمام علي أقرب الناس للنبي: «ما كتبنا عنه غير القرآن وما في هذه الصحيفة» والذي صححه البخاري.

وإذا أضفنا إلى هذا قول الإمام جعفر الصادق بأن الصحيفة الجامعة هي من إملاء رسول الله وخط علي فمعناه أن النبي أمر علياً بالكتابة.

الصفحة 58

وحتى لا يبقى عندك شك أيها القارئ العزيز، أزيدك ما يلي:

أخرج الحاكم في مستدركه وأبو داود في صحيحه والإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه، أخرجوا كلهم حديثاً مهماً جداً بخصوص عبد الله بن عمرو الذي ذكره أبو هريرة بأنه كان يكتب عن النبي:

قال عبد الله بن عمرو: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (ص)، فنهتني قريش وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا ؟

قال عبد الله: فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأومأ إلى فيه وقال: «أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق(1) .

ونلاحظ من خلال هذا الحديث بأن عبد الله بن عمرو كان يكتب كل ما يسمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم ينهه النبي عن ذلك وإنما وقع النهي من قريش، ولم يرد عبد الله التصريح بأسماء الذين نهوه عن الكتابة لأن في نهيهم طعن على رسول الله، كما لا يخفى فأبهم القول بأنهم قريش، والمقصود بقريش زعماؤها من المهاجرين وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمان بن عوف وأبو عبيدة وطلحة والزبير ومن سار على رأيهم.

كما نلاحظ بأن نهيهم لعبد الله كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما يؤكد عمق المؤامرة وخطورتها.

وإلا لماذا يعمد هؤلاء لنهي عبد الله عن الكتابة بدون الرجوع إلى النبي نفسه ؟

كما يفهم أيضاً من قولهم له: إن رسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، أن عقيدتهم في النبي كانت هزيلة إلى درجة أنهم يشكون فيه بأنه يقول باطلاً ويحكم ظلماً خصوصاً في حالة الغضب، وما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما ذكر له عبد اله بن عمرو نهي قريش وما قالوه في شأنه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

____________

(1) مستدرك الحاكم ج 1 ص 105.

(2) سنن أبي داود ج2 ص126.

(3) سنن الدارمي ج1 ص125.

(4) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج2 ص162.

الصفحة 59

«أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق» ـ إشارة إلى فمه ـ لدليل آخر على علم الرسول بشكهم في عدالته، وأنهم يجوزون عليه الخطأ وقول الباطل فأقسم بالله بأنه لا يخرج من فمه إلا الحق.

وهذا هو التفسير الصحيح لما جاء في قوله سبحانه وتعالى:

«وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى» (النجم: 3 ـ 4).

وأنه صلى الله عليه وآله وسلم معصوم عن الخطأ وقول الباطل وبهذا فإننا نجزم بأن كل الأحاديث والروايات التي وضعت في زمن الأمويين والتي يستفاد منها بأنه غير معصوم لا يصح شيء منها، كما أن الحديث المذكور يشعرنا بأن تأثيرهم على عبد الله بن عمرو كان كبيراً حتى أمسك عن الكتابة كما صرح هو بنفسه إذ قال: «فأمسكت عن الكتابة» وبقي على ذلك إلى أن جاءت مناسبة تدخل فيها رسول الله بنفسه لإزالة الشكوك التي تثار حول عصمته وعدالته، وكانت كثراً ما تشار حتى بمحضره صلى الله عليه وآله وسلم كقولهم له صراحة: أأنت نبي الله حقاً ؟(1) أو: أنت الذي تزعم أنك نبي(2) ، أو والله ما قصد بهذه القسمة وجه الله(3) .

أو كقول عائشة للنبي: إن ربك يسارع في هواك(4) أو قولها له: أقصد إلى غير ذلك من العبارات النابية التي تعرب عن شكهم في عصمته واعتقادهم بأنه يحيف ويظلم ويخطئ ويكذب والعياذ بالله.

فكان صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الخلق العظيم رؤوفاً رحيماً كثيراً ما يزيح تلك الشبهات بقوله مرة: ما أنا إلا عبد مأمور، ومرة يقول: والله إني لأبر لله وأتقى، وأخرى يقول: والذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق، وكثيراً ما كان يقول: رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.

فلم تكن هذه الكلمات النابية التي تطعن في عصمته وتشكك في نبوته

____________

(1) قاله عمر بن الخطاب في صلح الحديبية أخرجه البخاري ج 2 ص 122.

(2) قالته عائشة بنت أبي بكر للنبي كتاب إحياء العلوم للغزالي ج 2 ص 29.

(3) قاله صحابي من الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجه البخاري ج 4 ص 47.

(4) صحيح البخاري ج 6 ص 24 وكذلك في صفحة 128 من الجزء السادس.

الصفحة 60
صادرة عن أناس متروكين أو عن المنافقين، ولكنها مع الأسف صدرت عن عظماء الصحابة وعن أم المؤمنين والذين هم عند «أهل السنة والجماعة» قدوة وأسوة حسنة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومما يزيدنا يقينا بأن حديث «لا تكتبوا عني» هو حديث موضوع لا أساس له من الصحة ولم ينطق به رسول الله إطلاقاً، أن أبا بكر نفسه كان يكتب عن رسول الله بعض الأحاديث التي جمعها في عهد النبي، ثم بعد ما تولى الخلافة بدا له أن يحرقها لأمر قد لا يخفى على الباحثين.

فها هي اينته عائشة تقول: جمع أبي الحديث عن رسول اله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب، فقلت: يتقلب لشكوى أو لشيء بلغه، فلما أصبح قال: أي بنية هلمي بالأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها(1) .

وهذا عمر بن الخطاب أيضاً في خلافته يخطب يوماً في الناس قائلاً: (لا يبقين أحد عنده كتاباً إلا أتاني به فأرى فيه رأيي» فظنوا أنه يريد النظر فيها ليقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه يكتبهم فأحرقها بالنار(2) .

كما بعث في الأمصار يأمرهم: من كان عنده شيء فليمحه(3) . فهذا أكبر دليل على أن الصحابة عامة سواء منهم المقيمين في المدينة أو في بقية الأمصار الإسلامية الأخرى كلهم عندهم كتب جمعوا فيها الأحاديث النبوية التي كتبوها على عهده صلى الله عليه وآله وسلم فأحرقت كلها بفعل أبي بكر أولا ثم عمر ثانياً ومحيت بقية الكتب التي في الأمصار بأمر عمر في خلافته(4) .

وعلى هذا فلا يمكن لنا ولا لأي عاقل أن يصدق بأن رسول الله نهاهم عن

____________

(1) كنز العمال ج 5 ص 237، وابن كثير في البداية والنهاية، وتذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 5. (2) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 188 والخطيب البغدادي في تقييد العلم. (3) جامع بيان العلم لابن عبد البر. (4) انظر رعاك الله إلى هذا العمل الشنيع الذي فعله الخلفاء أبو بكر وعمر تجاه السنة النبوية، والخسارة العظمى التي لا تقدر والتي تسببا فيها للأمة الإسلامية التي كانت في أشد الحاجة للأحاديث النبوية لفهم القرآن وفهم أحكام الله تعالى، وإنها لعمري أحاديث صحيحة لأنهم كتبوها عنه مباشرة وبدون واسطة، أما الأحاديث التي جمعت في ما بعد أغلبها أحاديث موضوعة، لأن الفتنة وقعت وقتل المسلمون بعضهم، وكتبت بأمر الحكام الجائرين.

الصفحة 61
كتابة الحديث بعدما عرفنا بأن أكثر الصحابة كانت عندهم كتب للأحاديث وخصوصاً الصحيفة التي كانت تلازم الإمام علي وطولها سبعون ذراعاً ويسميها الجامعة لأنها جمعت كل شيء.

وبما أن السلطة الحاكمة والسياسة السائدة، اقتضت مصالحها محو السنة وحرقها وعدم التحدث بها، فإن الصحابة المؤيدين لتلك الخلافة امتثلوا الأوامر ونفذوها، فلم يبق لهم ولا لأتباعهم من التابعين سوى الاجتهاد بالرأي، أو الاقتداء بسنة أبي بكر وسنة عمر وسنة عثمان وسنة معاوية وسنة يزيد وسنة مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وسنة سليمان بن عبد الملك إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز فطلب من أبي بكر الحزمي أن يكتب له ما كان من حديث رسول الله أو سنته أو حديث عمر بن الخطاب(1) .

وهكذا يتبين لنا أنه حتى في الظروف التي سمحت بتدوين السنة وبعد مرور مائة سنة على طمسها ومنعها، نرى الحاكم الأموي المعتدل والذي ألحقه «أهل السنة» بالخلفاء الراشدين، يأمر بجمع سنة رسول الله وسنة عمر بن الخطاب، وكأن عمر بن الخطاب شريك محمد في رسالته ونبوته.

ولماذا لم يطلب عمر بن عبد العزيز من أئمة أهل البيت الذين عاصرهم أن يعطوه نسخة من الصحيفة الجامعة، ولماذا لم يكلفهم هم بجمع الأحاديث النبوية فهم أعلم بحديث جدهم من غيرهم ؟ ؟

فالمحققون والباحثون يعرفون سر ذلك.

وهل يحصل الاطمئنان إلى تلك الأحاديث التي جمعها «أهل السنة والجماعة» من بني أمية وأعوانهم الذين يمثلون خلافة قريش وقد عرفنا حقيقة قريش وعقيدتها في رسول الله وسنته المطهرة ؟

ويبقى واضحاً بعد هذا بأن السلطة الحاكمة وعلى مر عصور الخلافة، عملت بالاجتهاد والقياس ومشاورة بعضهم.

وبما أن السلطة قد أقصت الإمام علياً عن مسرح الحياة وأهملته فلم يكن لها عليه من سلطان لحرق ما كتبه في عهد الرسالة بإملاء النبي نفسه.

____________

(1) موطأ الإمام مالك ج1 ص5.

الصفحة 62

وبقي علي بن أبي طالب يحتفظ بتلك الصحيفة التي جمع فيها كل ما يحتاجه الناس حتى أرش الخدش، ولما تولى الخلافة كان يعلقها على سيفه ويصعد على المنبر ليخطب في الناس ويعرفهم بأهميتها.

وقد تواترت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم توارثوا تلك الصحيفة أبا عن جد وكابرا عن كابر، وكانوا يفتون بها في المسائل التي يحتاجها معاصروهم ممن اقتدوا بهديهم.

ولذلك كان الإمام جعفر الصادق والإمام الرضا وغيرهم من الأئمة يرددون دائماً نفس الكلام بخصوصها ويقولون: «إننا لا نفتي الناس بآرائنا، إنا لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنها آثار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أهل علم نتوارثها كابراً عن كابر، نكتنزها كما يكتنز الناس ذهبهم وفضتهم»(1) .

وقال جعفر الصادق مرة أخرى.

حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله هو قول الله (عز وجل)(2) .

وبكل هذا يصبح حديث الثقلين المتواتر: تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً(3) ، هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، وتصبح السنة النبوية، الصحيحة ليس لها من حافظ وراع وقيم غير الأئمة الأطهار من آل بيت المصطفى المختار.

كما يستنتج من هذا أن شيعة أهل البيت الذين تمسكوا بالعترة هم أهل السنة النبوية، وأن «أهل السنة والجماعة» مدعون ما ليس لهم، ولا تقوم دعواهم على حجة ولا دليل.

ـ والحمد لله الذي هدانا لهذا ـ.

____________

(1) معالم المدرستين للعلامة العسكري ج 2 ص 302.

(2) أصول الكافي ج 1 ص 53.

(3) صحيح مسلم ج 5 ص 122. صحيح الترمذي ج 5 ص 637.

الصفحة 63

الشيعة في نظر «أهل السنة»

إذا استثنينا بعض العلماء المعاصرين الذين أنصفوا في كتاباتهم عن الشيعة بما تفرضه عليهم الأخلاق الإسلامية، فإن الأغلبية الساحقة منهم قديماً وحديثاً لا زالوا يكتبون عن الشيعة بعقلية الأمويين الحاقدين، فتراهم في كل واحد يهيمون ويقولون ما لا يفقهون، ويسبون ويشتمون ويتقولون افتراء وبهتاناً على شيعة آل البيت ما هم منه براء، ويكفرونهم ينبذونهم بالألقاب اقتداء بسلفهم الصالح معاوية وأضرابه، الذين استولوا على الخلافة الإسلامية بالقوة والقهر والمكر والدهاء والخيانة والنفاق.

فمرة يكتبون بأن الشيعة هي فرقة من تأسيس عبد الله بن سبأ اليهودي، ومرة يكتبون بأنهم من أصل المجوس، وأنهم روافض قبحهم الله، وأنهم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، ومرة يكتبون بأنهم منافقون لأنهم يعملون بالتقية وأنهم إباحيون يبيحون نكاح المحارم ويحللون المتعة وهي زنا، والبعض يكتب بأن لهم قرآناً غير قرآننا، وأنهم يبعدون علياً والأئمة من بنيه ويبغضون محمداً وجبريل وأنهم وأنهم ….

ولا يمر عام إلا ويطلع علينا كتاب أو مجموعة كتب من أولئك العلماء الذين يتزعمون «أهل السنة والجماعة» بزعمهم وكله تكفير واستهانة بالشيعة.

وليس لهم في ذلك مبرر ولا دافع إلا إرضاء أسيادهم الذين لهم مصلحة في تمزيق الأمة وتفريقها والعمل على إبادتها. كما ليس لهم فيما يكتبون من حجة ولا دليل سوى التعصب الأعمى والحقد الدفين والجهل المقيت، وتقليد السلف

الصفحة 64
بدون تمحيص ولا بحث ولا بينة، فهم كالببغاء يعيدون ما يسمعون ويستنسخون ما كتبه النواصب من أذناب الأمويين، والذين لا يزالون يعيشون على مدح وتمحيد يزيد بن معاوية(1) .

فلا نستغرب من أولئك الممجدين ليزيد بن معاوية، أن يسبوا ويكفروا أعداء يزيد هذا.

وإذا كان سلفهم الصالح، يزيد وأبوه معاوية يغدقون على أتباعهم ومن تشيع لهم الذهب والفضة ويشترون بها ضمائرهم في الماضي، فإن ملايين الدولارات، والقصور الفخمة في لندن وباريس والتي ملئت بزرق العين، من الشقراوات، والخمر المصفى، لقادر على شراء ضمائرهم ودينهم وأوطانهم في الحاضر.

ولو كان هؤلاء يتبعون السنة النبوية كما يزعمون لتعلموا من أخلاقه العالية صلى الله عليه وآله وسلم احترام الغير ولو خالفهم في العقيدة.

ألم تقل السنة النبوية: «المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا»، و «المسلم للمسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

ألم يصرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» فلو كان هؤلاء الكتاب المدعون أنهم من «أهل السنة والجماعة» يعرفون السنة النبوية، لما سمحت لهم نفوسهم بتكفير من يشهد أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان، ويحج البيت الحرام، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وبما أنهم أتباع السنة الأموية والقرشية فهم يتكلمون ويكتبون بالعقلية الجاهلية والأفكار القبلية والنعرات العنصرية. فالشيء من مأتاه لايستغرب، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

____________

(1) فقد نشرت وزارة المعارف للمملكة العربية السعودية كتاباً بعنوان: «حقائق عن أمير المؤمنين يرزيد بن معاوية» وهذا الكتاب انتخبته وزارة المعارف للتدريس في مدارسها الرسمية.

الصفحة 65

ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الذكر الحكيم: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم …» (آل عمران: 64) ؟

فإن كانوا من أهل السنة حقاً، فلينادوا أخوانهم من الشيعة إلى كلمة سواء بينهم.

وإذا كان الإسلام ينادي أعداءه من اليهود والنصارى إلى كلمة سواء للتفاهم والتآخي، فكيف بمن يعبدون إلهاً واحداً، ونبيهم واحد وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة ومصيرهم واحد !

فلماذا لا ينادي علماء «أهل السنة» إخوانهم من علماء الشيعة ويجلسون معهم حول طاولة البحث، ويجادلونهم بالتي هي أحسن ويصلحون عقائدهم إن كانت فاسدة كما يزعمون ؟

لماذا لا يعقدون مؤتمراً إسلامياً يجمع علماء الفريقين وتطرح فيه كل المسائل الخلافية على مسمع ومرأى من كل المسلمين حتى يعرفوا وجه الصواب من الكذب والبهتان ؟

وخصوصاً وأن «أهل السنة والجماعة» يمثلون ثلاثة أرباع المسلمين في العالم، ولهم من الإمكانات المادية والنفوذ لدى الحكومات ما يجعل ذلك عندهم سهلاً ميسوراً إذ يملكون الأقمار الصناعية.

ولأن «أهل السنة والجماعة» لا يعملون لمثل هذا أبداً، ولا يريدون المواجهة العلمية التي ينادي بها كتاب الله المجيد بقوله:

«قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» (البقرة: 111).

«قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون» (الأنعام: 148)

ولذلك تراهم دائماً يلجأون إلى السب والشتم والتكفير والبهت والافتراء وهم يعرفون بأن الحجة والدليل مع خصومهم الشيعة.

وأعتقد بأنهم يخافون أن يتشيع أكثر المسلمين إذا كان كشفت الحقائق كما وقع

الصفحة 66
بالفعل لبعض العلماء الأزهريين في مصر الذين سمحوا لأنفسهم بالبحث عن الحق فأدركوه واستبصروا ونبذوا ما كانوا عليه من عقيدة «السلف الصالح».

فالعلماء من «أهل السنة والجماعة» يدركون هذا الخطر الذي يهدد كيانهم بالذوبان، فإذا أعيتهم الحيلة وصل الأمر بالبعض منهم أن حرم على أتباعه ومقلديه أن يجلسوا مع الشيعة أو يجادلوهم أو يتزوجوا منهم أو يزوجوهم أو يأكلوا من ذبائحهم.

ويفهم من موقفهم هذا بأنهم أبعد ما يكونون عن السنة النبوية، وهم أقرب ما يكونون من سنة بني أمية الذين عملوا بكل جهودهم على إضلال الأمة المحمدية بأي ثمن لأن قلوبهم لم تخشع لذكر الله وما نزل من الحق ودخلوا في الإسلام وهم كارهون.

وهذا ما عبر عنه إمامهم معاوية بن أبي سفيان الذي قتل خيار الصحابة من أجل الوصول إلى الحكم فقط، فقد قال في أول خطبة له:

«إني لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون».

وصدق الله إذ يقول: «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون» (النمل: 34).