الصفحة 67

«أهل السنة والجماعة» في نظر الشيعة

إذا استثنينا بعض المتعصبين من عوام الشيعة الذين ينظرون إلى «أهل السنة والجماعة» بأنهم كلهم من النواصب(1) ، فإن الأغلبية الساحقة من علمائهم قديماً وحديثاً، لا زالوا يعتقدون بأن إخوانهم من «أهل السنة والجماعة» هم ضحايا الدس والمكر الأموي لأنهم أحسنوا الظن «بالسلف الصالح» واقتدوا بهم بدون بحث ولا تمحيص، فأضلوهم عن الصراط المستقيم وأبعدوهم عن الثقلين ـ كتاب الله والعترة الطاهرة ـ الذين يعصمان المتمسك بهما من الضلالة ويضمنان له الهداية.

فترهم كثيراً ما يكتبون للدفاع عن أنفسهم وللتعريف بمعتقداتهم داعين للإنصاف ولتوحيد الكلمة مع إخوانهم من «أهل السنة والجماعة».

وقد جاب بعض علماء الشيعة في الأقطار والأمصار باحثين عن الأساليب الكفيلة لتأسيس دور وجمعيات إسلامية للتقريب بين المذاهب ومحاولة جمع الشمل.

ويمم آخرون منهم وجهتهم صوب الأزهر الشريف منارة العلم والمعرفة عند «أهل السنة»، وتقابلوا مع علمائه وجادلوهم بالتي هي أحسن، وعملوا على إزالة الأحقاد، كما فعل الإمام شرف الدين الموسوي عند لقائه بالإمام سليم الدين البشري، وكان من نتيجة ذلك اللقاء والمراسلات ولادة الكتاب القيم

____________

(1) النواصب جمع ناصبي: وهم الذين ناصبوا العداء لأهل البيت النبوي وحاربوهم وقتلوهم وتتبعوهم أمواتاً فنبشوا قبورهم.

الصفحة 68
المسمى بـ «المراجعات» والذي كان له الدور الكبير في تقريب وجهات النظر عند المسلمين. كما أن جهود أولئك العلماء من الشيعة كللت بالنجاح في مصر فأصدر الإمام محمود شلتوت مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت فتواه الجريئة في جواز التعبد بالمذهب الشيعي الجعفري، وأصبح الفقه الشيعي الجعفري من المواد التي تدرس بالأزهر الشريف.

هذا ودأب الشيعة وعلماؤهم بالخصوص على التعريف بأئمة أهل البيت الطاهرين وبالمذهب الجعفري الذي يمثل الإسلام بكل معانيه وكتبوا في ذلك المجلدات والمقالات وعقدوا لذلك الندوات وخصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عقدت مؤتمرات عديدة في طهران باسم الوحدة الإسلامية وباسم التقريب بين المذاهب، وكلها دعوات صادقة لنبذ العداء والأحقاد، ولبث روح الأخوة الإسلامية واحترام المسلمين بعضهم لبعض.

وفي كل عام يدعو مؤتمر الوحدة الإسلامية علماء ومفكرين من الشيعة والسنة فيعيشون أسبوعاً كاملاً تحت ظل الأخوة الصادقة فيأكلون ويشربون ويصلون ويدعون ويتبادلون الآراء والأفكار ويعطون ويأخذون.

ولو لم يكن لتلك المؤتمرات دور إلا تأليف القلوب وتقريب المسلمين بعضهم من بعض ليتعارفوا وتزول الأحقاد لكان فيها الخير الكثير والفضل العميم، ولسوف تؤتى أكلها بعد حين إن شاء الله رب العالمين.

وأنت إذا دخلت إلى أي بيت من بيوت الشيعة العاديين فضلاً عن بيوت العلماء والمثقفين، فسوف تجد فيه مكتبة تضم إلى جانب مؤلفات الشيعة جانباً كبيراً من مؤلفات «أهل السنة والجماعة» على عكس «أهل السنة والجماعة» فقد لا تجد عن علمائهم كتاباً شيعياً واحداً إلا نادراً.

ولذلك هم يجهلون حقائق الشيعة ولا يعرفون إلا الأكاذيب التي يكتبها أعداؤهم.

كما أن الشيعي العادي تجده في أغلب الأحيان يعرف التاريخ الإسلامي بكل أدواره وقد يحتفل بإحياء بعض ذكرياته.

الصفحة 69

أما العالم السني تجده قليلاً ما يهتم بالتاريخ فهو يعتبره من المآسي التي لا يريد نبشها والاطلاع عليها، بل يجب إهمالها وعدم النظر فيها لأنها تسيء الظن بـ «السلف الصالح».

وبما أنه أقنع نفسه أو أوهمها بعدالة الصحابة أجمعين ونزاهتهم، فلم يعد يتقبل ما سجله التاريخ عليهم.

لكل ذلك تراه لا يصمد للنقاش البناء الذي يقوم على الدليل والبرهان، فتراه إما يتهرب من البحث لعلمه مسبقاً بأنه مغلوب وإما أن يتغلب على عواطفه وميوله ويقحم نفسه في البحث فيصبح ثائراً على كل معتقداته ويتشيع لأهل بيت المصطفى.

فالشيعة هم أهل السنة النبوية لأن إمامهم الأول بعد النبي هو علي بن أبي طالب الذي يعيش ويتنفس بالسنة النبوية. أنظر إليه وقد جاؤوه ليبايعون بالخلافة على أن يحكم بسيرة الشيخين فقال: «لا أحكم إلا بكتاب الله وسنة رسوله» فلا حاجة لعلي في الخلافة إن كانت على حساب السنة النبوية، فهو القائل: «إن خلافتكم عندي كعفطة عنز إلا أن أقيم حدا من حدود الله».

وقال ابنه الإمام الحسين: قولته المشهورة التي بقيت ترن في مسمع الدهر: «إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني».

ولهذا فإن الشيعة ينظرون إلى اخوانهم من «أهل السنة والجماعة» بنظر العطف والحنان وكأنهم يريدون لهم الهداية والنجاة لأن ثمن الهداية عندهم حسب ما جاءت به الروايات الصحيحة خير من الدنيا وما فيها، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عندما بعثه لفتح خيبر: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن قالوها فقد عصم منك دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو خير لك من أن يكون لك حمر النعم(1) .

____________

(1) صحيح مسلم ج 7 ص 122 كتاب الفضائل باب فصائل علي بن أبي طالب.

الصفحة 70

وكما كان هم علي بن أبي طالب الوحيد هو هداية الناس والرجوع بهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فكذلك شيعته اليوم هممهم أن يدفعوا عن أنفسهم كل التهم والأكاذيب وأن يعرفوا إخوانهم من «أهل السنة» بحقائق أهل البيت (عليهم السلام) وبالتالي يهدوهم إلى سواء السبيل.

«لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون» (يوسف: 111).

الصفحة 71

التعريف بأئمة الشيعة

لقد انقطع الشيعة للأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، أولهم علي بن أبي طالب ثم ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم التسعة المعصومون من ذرية الحسن ومن نسله.

وقد نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الأئمة في العديد من المرات تصريحاً وتلميحاً وقد ذكرهم بأسمائهم في بعض الروايات التي أخرجها الشيعة والبعض من علماء «السنة».

وقد يعترض البعض من «أهل السنة» على هذه الروايات مستغرباً كيف يتكلم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور غيبية ما زالت في طي العدم ؟ وقد جاء في القرآن قوله: «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء» (الأعراف: 188).

وإجابة على ذلك نقول بأن هذه الآية الكريمة لا تنفي عن الرسول علمه بالغيب مطلقاً، إنما جاءت رداً على المشركين الذين طلبوا منه أن يعلمهم عن قيام الساعة، وموعد الساعة قد اختص الله سبحانه بعلمه.

وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ….» (الجن: 26 ـ 27).

وفي هذا دلالة على أنه سبحانه يطلع على غيبه رسله الذين اصطفاهم، ومن ذلك مثلاً قول يوسف (عليه السلام) لأصحابه في السجن: «لا يأتيكما طعام

الصفحة 72
ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي …» (يوسف: 37).

وكقوله تعالى: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً» (الكهف: 65). حكاية عن الخضر الذي التقى بموسى وعلمه من علم الغيب ما لم يستطع عليه صبراً.

والمسلمون شيعة وسنة لم يختلفوا في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم الغيب وقد سجلت سيرته الكثير من الأخبار بالغيب كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» وقوله لعلي: «أشقى الآخرين الذي يضربك على رأسك فيخضب لحيتك» وقوله: «إن ابني الحسن يصلح الله به فئتين عظيمتين» وكقوله لأبي ذر بأنه سيموت وحيداً طريداً إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، ومنها حديثه المشهور الذي أخرجه البخاري ومسلم وكل المحدثين والذي جاء فيه: «الأئمة من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش» وفي بعض الروايات «كلهم من بني هاشم».

وقد أثبتنا في الأبحاث السابقة من كتاب «مع الصادقين» وكتاب «فاسألوا أهل الذكر» بأن علماء السنة أنفسهم أشاروا في صحاحهم ومسانيدهم إلى تلك الأحاديث الدالة على إمامة الأئمة الاثني عشر وصححوها.

وإذا سأل سائل: لماذا تركوهم واقتدوا بغيرهم من ائمة المذاهب الأربعة، إذا كانوا يعترفون بتلك الأحاديث ويصححونها ؟ ؟

والجواب هو: إن «السلف الصالح» كلهم من أنصار الخلفاء الثلاثة الذين أولدتهم السقيفة أبو بكر وعمر وعثمان، فكان نفورهم من أهل البيت وعداؤهم للإمام علي وأولاده لابد منه، فعملوا كما قدمنا على محق السنة النبوية وإبدالها باجتهاداتهم.

وسبب ذلك انقسام الأمة إلى فرقتين بعد وفاة الرسول مباشرة فكان «السلف الصالح» ومن تبعهم ورأى رأيهم يمثلون «أهل السنة والجماعة» وهم الأغلبية الساحقة في الأمة، وكان الأقلية القليلة علي وشيعته الذين تخلفوا عن البيعة ولم

الصفحة 73
يقبلوا بها فأصبحوا من المنبوذين والمغضوب عليهم وأطلقوا عليهم اسم الروافض.

وبما أن «أهل السنة والجماعة» هم الذين تحكموا بمصير الأمة عبر القرون فحكام بني أمية كلهم وحكام بني العباس كلهم هم أنصار وأتباع مدرسة الخلافة التي أسسها أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية(1) ويزيد.

ولما فشل أمر الخلافة وذهبت هيبتها وأصبحت في أيدي المماليك والأعاجم وسمع بتدوين السنة النبوية، عند ذلك ظهرت تلكم الأحاديث التي عمل الأولون على طمسها وكتمانها ولم يقدروا فيما بعد على محوها وتكذيبها، وبقيت تلك الأحاديث من الألغاز المحيرة عندهم لأنها تخالف الأمر الواقع الذي آمنوا به.

وحاول بعضهم التوفيق بين تلك الأحاديث وما هم عليه من العقيدة فتظاهروا بمحبة أهل البيت ومودتهم فتراهم كلما ذكروا الإمام علياً يقولون رضي الله عنه وكرم الله وجهه، حتى يتبين للناس بأنهم ليسوا بأعداء لأهل البيت النبوي.

فلا يمكن لأي واحد من المسلمين حتى المنافقين منهم أن يظهر عداءه لأهل البيت النبوي، لأن أعداء أهل البيت هم أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك يخرجهم من الإسلام كما لا يخفى.

والمفهوم من كل هذا بأنهم في الحقيقة أعداء أهل البيت النبوي ونقصد بهؤلاء «السلف الصالح» الذين تسموا أو سماهم أنصارهم بـ «أهل السنة والجماعة» والدليل أنك تجدهم كلهم يقلدون المذاهب الأربعة الذين أوجدتم السلطة الحاكمة (كما سنبينه عما قريب)، وليس عندهم في أحكام الدين شيء يرجعون فيه لفقه أهل البيت أو لأحد الأئمة الاثني عشر.

____________

(1) لقد أغفلنا ذكر خلافة علي بن أبي طالب قصداً، لأن «أهل السنة والجماعة» لم يكونوا يعترفون بها كما قدمنا إلا في زمن أحمد بن حنبل. راجع فصل (أهل السنة لا يعرفون السنة النبوية» ص 44 من هذا الكتاب.

الصفحة 74

والحقيقة تفرض بأن الشيعة الإمامية هم أهل السنة المحمدية لأنهم تقيدوا في كل أحكامهم الفقهية بأئمة أهل البيت الذين توارثوا السنة الصحيحة عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدخلوا فيها الآراء والاجتهادات وأقوال العلماء.

وبقي الشيعة على مر العصور يتعبدون بالنصوص ويرفضون الاجتهاد في مقابل النص، كما يؤمنون بخلافة علي وبنيه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على ذلك، فهم يسمونهم خلفاء الرسول ولو لم يصل منهم إلى الخلافة الفعلية إلا علي، ويرفضون ولا يعترفون بالحكام الذين تداولوا الخلافة من أولها إلى آخرها لأن أساسها كان فلتة وقى الله شرها ولأنها قامت رفضاً ورداً على الله ورسوله وكل الذين جاؤوا بعدها هم عيال عليها فلم يقم خليفة إلا بتعيين السابق له، أو بالقتال والتغلب والقهر(1) .

ولذلك اضطر «أهل السنة والجماعة» للقول بإمامة البر والفاجر لأنهم قببلوا بخلافة كل الحكام حتى الفاسقين منهم.

وامتاز الشيعة الإمامية بالقول بوجوب عصمة الإمام فلا تصح الإمامة الكبرى وقيادة الأمة إلا للإمام المعصوم وليس في هذه الأمة بشر معصوم إلا الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

____________

(1) يستثنى من ذلك فقط خلافة علي بن أبي طالب، فهو الوحيد الذي لم يتعين من قبل الذي سبقه، ولم يسلط عليها بالقهر والقوة، بل بايعه المسلمون بكل حرية وطواعية بل ودعوهم إليها بإصرار.

الصفحة 75

التعريف بأئمة «أهل السنة والجماعة»

وقد انقطع «أهل السنة والجماعة» إلى الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة، وهم: أبو حنيفة ومالك، والشافعي وأحمد بن حنبل.

وهؤلاء الأئمة الأربعة لم يكونوا من صحابة الرسولصلى الله عليه وآله وسلم ولا من التابعين فلا يعرفهم رسول الله ولا يعرفونه، ولم يرهم ولم يرونه، فأكبرهم سنا أبو حنيفة بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة عام لأن مولده كان في سنة ثمانين للهجرة ووفاتة سنة خمسين ومائة، أما أصغرهم أحمد بن حنبل فكان مولده سنة خمس وستين ومائة وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائتين، هذا بالنسبة لفروع الدين.

أما بالنسبة لأصول الدين فـ «أهل السنة والجماعة» يرجعون للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري الذي ولد سنة سبعين ومائتين وتوفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.

فهؤلاء هم أئمة «أهل السنة والجماعة» والذين ينقطعون إليهم في أصول الدين وفروعه.

فهل ترى فيهم واحداً من أئمة أهل البيت، أو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو تكلم رسول الله عن واحد منهم وأرشد الأمة إليه ؟ ؟ كلا لا يوجد شيء من ذلك ودونه خرط القتاد.

وإذا كان «أهل السنة والجماعة» يدعون التمسك بالسنة النبوية، فلماذا

الصفحة 76
تأخرت تلك المذاهب إلى ذلك العهد ؟ وأين كان «أهل السنة والجماعة» قبل وجود تلك المذاهب ؟ وبماذا كانوا يتعبدون، وإلى من كانوا يرجعون ؟

ثم كيف ينقطعون إلى رجال لم يعاصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عرفوه، وإنما ولدوا بعدما وقعت الفتنة وبعدما تحارب الصحابة وقتل بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضاً، وبعدما تصرف الخلفاء في القرآن والسنة واجتهدوا فيهما بآرائهم.

وبعدما استولى يزيد بن معاوية على الخلافة فاستباح مدينة الرسول المنورة لجيشه يفعل فيها ما يشاء، فعاث جيشه فيها فساداً وقتل خيار الصحابة الذين لم يبايعوه واستبيحت الفروج وانتهكت المحارم وحبلت النساء من سفاح.

فكيف يركن العاقل إلى أولئك الأئمة الذين هم من تلك الطبقة البشرية التي تدنست بأوحال الفتنة وتغذت بألبانها المتلونة، وشبت وترعرت على أساليبها الماكرة الخداعة، وقلدتها أوسمة العلم المزيفة. فلم يبرز للوجود منهم إلا الذين رضيت عليهم الدولة ورضوا عنها(1) .

كيف يترك ـ من يدعي التمسك بالسنة ـ الإمام علي باب مدينة العلم والإمام الحسن والإمام الحسين سيدا شباب أهل الجنة والأئمة الطاهرين من عترة النبي الذين ورثوا علوم جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتبع أئمة لا علم لهم بالسنة النبوية بل هم صنيعة السياسة الأموية ؟

كيف يدعي «أهل السنة والجماعة» بأنهم أتباع السنة النبوية وهم يهملون القيمين عليها ؟ بل كيف يتركون وصايا النبي وأوامره بالتمسك بالعترة الطاهرة، ثم يدعون أنهم أهل السنة ؟ !

وهل يشك مسلم عرف التاريخ الإسلامي وعرف القرآن والسنة بأن «أهل السنة والجماعة» هم أتباع الأمويين والعباسيين ؟

وهل يشك مسلم عرف القرآن والسنة وعرف التاريخ الإسلامي بأن الشيعة الذين يقلدون عترة النبي ويوالونهم هم اتباع السنة النبوية، وليس لأحد غيرهم أن يدعيها ؟

____________

(1) سيأتي في الأبحاث القادمة بأن الحكام الأمويين والعباسيين هم الذين أوجدوا تلك المذاهب وفرضوها.

الصفحة 77

أرأيت أيها القارئ العزيز كيف تقلب السياسة الأمور وتجعل من الباطل حقاً ومن الحق باطلاً ! فإذا بالموالين للنبي وعترته تسميهم بالروافض وبأهل البدع، وإذا بأهل البدع الذين نبذوا سنة النبي وعترته واتبعوا اجتهاد الحكام الجائرين تسميهم «أهل السنة والجماعة» إنه حقاً أمر عجيب.

أما أنا فأعتقد جرماً بأن قريش هي وراء هذه التسمية وهو سر من أسرارها ولغز من ألغازها.

وقد عرفنا في ما سبق بأن قريشاً هي التي نهت عبد الله بن عمرو عن كتابه السنة النبوية بدعوى أن النبي غير معصوم.

فقريش هي في الحقيقة أشخاص معينون لهم نفوذ وعصبية وقوة معنوية في أوساط القبائل العربية، وقد يسميهم بعض المؤرخين بـ «دهاة العرب» لما اشتهروا به من المكر والدهاء والتفوق في إدارة الأمور، ويسميهم البعض بـ «أهل الحل والعقد».

ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان وأبو سفيان ومعاوية ابنه وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم، وطلحة بن عبد الله، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح وغيرهم(1) .

وقد يجتمع هؤلاء للتشاور وتقرير أمر يتفقون عليه فيبرمون أمرهم ويفشونه في الناس ليصبح فيما بعد أمراً واقعاً وحقيقة متبعة دون أن يعرف سائر الناس سر ذلك.

ومن هذا المكر الذي مكروه قولهم بأن محمداً غير معصوم وهو كسائر البشر يجوز عليه الخطأ فينتقصونه ويجادلونه في الحق وهم يعلمون.

ومنها شتمهم لعلي بن أبي طالب ولعنهم إياه باسم أبي تراب وتصويره للناس بأنه عدو لله ولرسوله.

____________

(1) لقد استثنينا من هؤلاء الإمام علياً (عليه السلام) لأنه يفرق بين دهاء الحكمة وحسن التدبير وبين دهاء الخداع والغش والنفاق، وقد قال غير مرة: «لولا الغش والنفاق لكننت أدهى العرب» كما جاء في القرآن قوله: «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» فمكر الله هو الحكمة وحسن التدبير، أما مكر المشركين فهو غش ونفاق وخداع وزور وبهتان.

الصفحة 78

ومنها شتمهم ولعنهم للصحابي الجليل عمار بن ياسر تحت اسم مستعار فسموه عبد الله بن سبأ أو ابن السوداء، لأن عماراً كان ضد الخلفاء وكان يدعو الناس لإمامة علي بن أبي طالب(1) .

ومنها تسمية الشيعة الذين والوا علياً ـ بالروافض ـ كي يموهوا على الناس بأن هؤلاء رفضوا محمداً واتبعوا علياً.

ومنها تسمية أنفسهم بـ «أهل السنة والجماعة» حتى يموهوا على المؤمنين المخلصين بأنهم يتمسكون بسنة النبي مقابل الروافض الذين يرفضونها.

وفي الحقيقة هم يقصدون بـ «السنة» البدعة المشؤومة التي ابتدعوها في سب ولعن أمير المؤمنين وأهل بيت النبي على المنابر في كل مسجد من مساجد المسلمين وفي كل البلدان والمدن والقرى، فدامت تلك البدعة ثمانين عاماً، حتى كان خطيبهم إذا نزل للصلاة قبل أن يلعن علي بن أبي طالب، صاح به من في المسجد «تركت السنة، تركت السنة».

ولما أراد الخليفة عمر بن عبد العزيز إبدال هذه السنة بقوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى …» (النحل: 90) تآمروا عليه وقتلوه لأنه أمات سنتهم وسفه بذلك أقوال أسلافه الذين أوصلوه للخلافة فقتلوه بالسم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة ولم تطل خلافته غير سنتين وذهب ضحية الإصلاح لأن بني عمومته الأمويين لم يقبلوا أن يميت سنتهم ويرفع بذلك شأن أبي تراب والأئمة من ولده.

وبعد سقوط الدولة الأموية جاء العباسيون فنكلوا بدورهم بأئمة أهل البيت وشيعتهم إلى أن جاء دور الخليفة جعفر بن المعتصم الملقب «بالمتوكل» فكان من أشد الناس عداوة لعلي وأولاده ووصل به البغض والحقد إلى نبش قبر الحسين في كربلاء

____________

(1) يراجع في ذلك كتاب «الصلة بين التصوف والتشيع» للدكتور مصطفى كامل الشبيبي المصري، والذي بين فيه بعشرة أدلة قوية بأن عبد الله بن سبأ اليهودي أو ابن السوداء ليس إلا سيدنا عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه).

الصفحة 79
ومنع الناس من زيارته(1) وكان لايعطي عطاء ولا يبذل مالا إلا لمن شتم علياً وولده.

وقصة المتوكل مع ابن السكيت العالم النحوي المشهور معروفة وقد قتله شر قتلة، فاستخرج لسانه من قفاه عندما اكتشف بأنه يتشيع لعلي وأهل بيته في حين أنه كان أستاذاً لولديه.

وبلغ حقد المتوكل ونصبه أن أمر بقتل كل مولود يسميه أبواه باسم علي لأنه أبغض الأسماء إليه. حتى أن علي بن الجهم الشاعر لما تقابل مع المتوكل قال له: يا أمير المؤمنين إن أهلي عقوني، قال المتوكل: لماذا ؟ قال: لأنهم سموني علياً وأنا أكره هذا الاسم وأكره من يتسمى به، فضحك المتوكل وأمر له بجائزة.

وكان يقيم في مجلسه رجلاً يتشبه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فيضحك الناس عليه ويقولون: قد أقبل الأصلع البطين فيسخر منه أهل المجلس ويتسلى بذلك الخليفة.

ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ بأن المتوكل هذا، والذي دل بغضه لعلي على نفاقه وفسقه يحبه أهل الحديث وقد لقبه بـ «محيي السنة».

وبما أن أهل الحديث هم أنفسهم «أهل السنة والجماعة» فثبت بالدليل الذي لا ريب فهي أن «السنة» المقصودة عندهم هي بغض علي بن أبي طالب ولعنه والبراءة منه فهي النصب.

ومما يزيدنا وضوحاً على ذلك أن الخوارزمي يقول في كتابه: «حتى أن هارون بن الخيزران وجعفر المتوكل على الشيطان لا على الرحمان، كانا لا يعطيان مالاً ولا يبذلان نوالاً، إلا لمن شتم آل أبي طالب ونصر مذهب النواصب»(2) .

____________

(1) وإذا كان الخليفة يصل إلى هذه الدرجة من الخسة والانحطاط فينبش قبور الأئمة من أهل البيت وبالخصوص قبر سيد شباب أهل الجنة، فلا تسأل بعدها عما فعلوه في الشيعة الذين كانوا بتبركون بزيارة قبره. فقد وصل شيعة أهل البيت إلى أقصى المعاناة والمحن حتى يتمنى المسلم أن يتهموه بأنه يهودي ولا يتهموه بالتشيع فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(2) كتاب الخوارزمي ص 135.

الصفحة 80

كما ذكر ابن حجر عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حدث نصر بن علي بن صهبان بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وقال: «من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان في درجتي يوم القيامة»، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فأشرف على الهلاك، فكلمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: يا أمير المؤمنين هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه(1) .

والعاقل يفهم من قول جعفر بن عبد الواحد للمتوكل بأن نصراً هو من أهل السنة لينفذه من القتل دليل آخر بأن «أهل السنة» هم أعداء أهل البيت الذين يبغضهم المتوكل ويقتل كل من يذكر هلم فضيلة واحدة وإن لم يكن يتشيع لهم.

وهذا ابن حجر يذكر أيضاً في كتابه بأن عبد الله بن إدريس الأزدي كان صاحب «سنة وجماعة» وكان صلباً في السنة مرضياً وكان عثمانياً(2) .

كما قال في عبد الله بن عون البصري: إنه موثق وله عبادة وصلابة في السنة وشدة على أهل البدع، قال ابن سعد: كان عثمانياً(3) .

وذكر أيضاً أن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني كان حريزي المذهب، (أي على مذهب حريز بن عثمان الدمشقي) المعروف بالنصب وقال ابن حيان: إنه كان صلباً في السنة(4) .

وبهذا عرفنا بأن النصب والبغض لعلي وأولاده وشتم آل أبي طالب ولعن أهل البيت يعد عندهم من الصلابة في «السنة»، وعرفنا بأن العثمانيين هم أهل النصب والعداء لأهل البيت، وهم أهل الشدة على من يتولى علياً وذريته.

(1) تهذيب التهذيب لابن حجر ترجمة نصر بن علي بن صهبان.

(2) ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 5 ص 145 والمعروف أن العثمانيين كانوا يلعنون علياً ويتهمونه بقتل عثمان بن عفان.

(3) إبن حجر في تهذيب التهذيب ج 5 ص 348.

(4) إبن حجر في تهذيب التهذيب ج 1 ص 82.

الصفحة 81

ويقصدون بأهل البدع «الشيعة الذين قالوا بإمامة علي»، لأنها عندهم بدعة، إذ خالفت ما عليه الصحابة والخلفاء الراشدين و «السلف الصالح» من إبعاده وعدم الاعتراف بإمامته ووصايته.

والشواهد التاريخية على إقامة هذا الدليل كثيرة جداً ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية لمن أراد البحث والتحقيق وقد رمنا الاختصار كالعادة، وعلى الباحثين أن يدركوا أضعاف ذلك إن شاؤوا.

«والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين» (العنكبوت: 69).

الصفحة 82

النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عين أئمة الشيعة

لا يشك باحث درس السيرة النبوية وعرف التاريخ الإسلامي بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عين الأئمة الاثني عشر ونص عليهم ليكونوا خلفاءه من بعده وأوصياءه على أمته.

وقد جاء ذكر عددهم في صحاح أهل السنة وأنهم اثنا عشر وكلهم من قريش وقد أخرج ذلك البخاري ومسلم وغيرهما.

كما جاء في بعض المصادر السنية ذكرهم بأسمائهم موضحاً صلى الله عليه وآله وسلم بأن أولهم علي بن أبي طالب وبعده ابنه الحسن ثم أخوه الحسين ثم تسعة من ذرية الحسين آخرهم المهدي.

أخرج صاحب ينابيع المودة في كتابه قال: قدم يهودي يقال له: «الأعتل» فقال: يا محمد أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين فإن أجبتني عنها أسلمت على يديك. قال: سل يا أبا عمارة، فسأله عن أشياء إلى أن قال: صدقت، ثم قال: فأخبرني عن وصيك من هو ؟ فما من نبي إلا وله وصي وإن نبينا موسى بن عمران أوصى يوشع بن نون.

فقال: إن وصيي علي بن أبي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين.

قال: يا محمد فسمهم لي.

قال: إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى

الصفحة 83
محمد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنه الحجة محمد المهدي فهؤلاء اثنا عشر، قال: فأسلم اليهودي وحمد الله على الهداية(1) . ولو أردنا تصفح كتب الشيعة وما فيها من الحقائق يخصوص هذا الموضوع لوجدنا أضعاف ذلك.

ولكن يكفينا دليلاً أن علماء «السنة والجماعة» يعترفون بعدد الأئمة الاثني عشرة، ولا وجود لهؤلاء الأئمة غير علي وبنيه الطاهرين.

ومما يزيدنا يقيناً أن الأئمة الاثني عشر من أهل البيت لم يتتلمذوا على أي واحد من علماء الأمة، فلم يرو لنا أصحاب التواريخ ولا المحدثون وأصحاب السير بأن أحد الأئمة من أهل البيت تلقى علمه من بعض الصحابة أو التابعين، كما هو الحال بالنسبة لكل علماء الأمة وأئمتهم.

فأبو حنيفة تتلمذ على جعفر الصادق ومالك تتلمذ على أبي حنيفة، والشافعي تلقى عن مالك وأخذ عنه وهكذا أحمد.

أما أئمة أهل البيت فعلمهم موهوب من الله سبحانه وتعالى يتوارثونه أبا عن جد، فهم الذين خصهم الله بقوله:

«ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» (فاطر: 32).

وقد عبر الإمام جعفر الصادق عن هذه الحقيقة مرة بقوله: عجباً للناس يقولون بأنهم أخذوا علمهم كله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعملوا به واهتدوا ! ويروون أنا أهل البيت لم نأخذ علمه ولم نهتد به ونحن أهله وذريته، في منازلنا أنزل الوحي، ومن عندنا خرج العلم إلى الناس، أفتراهم علموا واهتدوا وجهلنا وضللنا ؟ !

نعم، كيف لا يتعجب الإمام الصادق من أولئك الذين يدعون أنهم أخذوا العلم من رسول الله، وهم يعادون أهل بيته وباب علمه الذي منه يؤتى،

____________

(1) القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 440 وفرائد السبطين للحمويني بسنده عن مجاهد عن ابن عباس.

الصفحة 84
وكيف لا يتعجب من انتحالهم اسم «أهل السنة» وهم يخالفون هذه السنة ؟ ؟ !

وإذا كان الشيعة كما يشهد التاريخ قد اختصوا بعلي فناصروه ووقفوا ضد عده، وحاربوا حربه وسالموا سلمه وأخذوا كل علومهم منه.

فأهل السنة والجماعة لم يتشيعوا له ولم ينصروه، بل حاربوه وأرادوا القضاء عليه، وقد تتبعوا أولاده من بعده قتلا وسجناً وتشريداً، وخالفوه في أكر الأحكام باتباعهم أدعياء العلم الذين اختلفوا ببآرائهم واجتهاداتهم في أحكام الله فبدلوها حسب أهوائهم وما اقتضته مصالحهم.

وكيف لا نعجب نحن اليوم من الذين يدعون ابتاع السنة النبوية ويشهدون على أنفسهم أنهم تركوا سنة النبي لأنها أصبحت شعاراً للشيعة(1) أليس ذلك عجيباً ؟ !

كيف لا نعجب من الذين يزعمون بأنهم «أهل السنة والجماعة» وهم جماعات متعددة مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية يخالون بعضهم في الأحكام الفقهية ويدعون بأن ذلك الاختلاف هو رحمة لهم، فيصبح بذلك دين الله أهواء وآراء وما تشتهيه أنفسهم.

نعم إنهم جماعات متعددة تفرقوا في أحكام الله ورسوله، ولكنهم اجتمعوا واتفقوا على تصحيح خلافة السقيفة الجائرة وترك وإبعاد العترة الطاهرة.

كيف لا نعجب من هولاء الذين يتبجحون بأنهم «أهل السنة» وقد تركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بالثقلين كتاب الله العترة رغم إخراجهم هذا الحديث وتصحيحه ؟ فإنهم لم يتمسكوا لا بالقرآن ولا بالعترة، لأنهم يتركهم للعترة الطاهرة فقد تركوا القرآن، لأن الحديث الشريف مفاده أن القرآن والعترة لا يفترقان أبداً كما أخبر بذلك رسول الله بقوله: وقد أنبأني اللطيف الخبير بأنهما

____________

(1) يراجع في ذلك كتاب «مع الصادقين» صفحة 159 ـ 160 ليعرف بأن ابن تيمية يقول بترك السنة النبوية إذا أصبحت شعاراً للشيعة ومع ذلك يسمونه مجدد السنة.

منهاج السنة لابن تيمية ج 2 ص 143، وشرح المواهب للزرقاني ج 5 ص 13، وكتاب الهداية.

الصفحة 85
(القرآن والعترة) لن يفترقا حتى يردا علي الحوض(1) .

وكيف لا تعجب من قوم يدعون أنهم «أهل السنة» وهم يخالفون ما ثبت في صحاحهم من فعل النبي وأوامره ونواهيه(2) ؟

أما إذا اعتقدنا وصححنا حديث: «تركت فيكم كتاب الله وسنتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» كما يحلو لبعض «أهل السنة» أن يثبتوه اليوم، فإن العجب سيكون أكبر والفضيحة أظهر.

إذ ان كبراءهم وأئمتهم هم الذين أحرقوا السنة التي تركها رسول الله فيهم، ومنعوا من نقلها وتدوينها كما عرفنا ذلك في ما تقدم من أبحاث سابقة.

وقد قال عمر بن الخطاب بصريح اللفظ: «حسبنا كتاب الله يكفينا». وهو رد صريح على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والزاد على رسول الله راد على الله كما لا يخفى.

وقول عمر بن الخطاب هذا أخرجه كل صحاح «أهل السنة» بما فيهم البخاري ومسلم، فإذا كان النبي قد قال: تركت فيكم كتاب الله وسنتي، فعمر قال له: حسبنا كتاب الله ولا حاجة لنا بسنتك وإذا كان عمر قد قال بمحضر النبي حسبنا كتاب الله، فإن أبا بكر أكد على تنفيذ رأي صاحبه فقال عندا أصبح خليفة: «لا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه»(3) .

كيف لا تعجب من قوم تركوا سنة نبيهم ونبذوها وراء ظهورهم، وأحلوا محلها بدعاً ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، ثم يسمون أنفسهم وأتباعهم «أهل السنة والجماعة» ؟

____________

(1) أخرجه الإمام أحمد ج 5 ص 189 من مسنده والمستدرك للحاكم ج 3 ص 148. وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته على شرط الشيخين.

(2) أخرج البخاري في صحيحه بأن النبي نهى عن صلاة التراويح في رمضان جماعة وقال: «صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته ما عدا الصلاة المكتوبة». ولكن أهل السنة تركوا نهي الرسول واتبعوا بدعة عمر بن الخطاب.

(3) تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 3.

الصفحة 86

ولكن العجب يزول عندما نعرف بأن أبا بكر وعمر وعثمان ما كانوا يعرفون هذه التسمية أبداً، فهذا أبو بكر يقول: «لئن أخذتموني بسنة نبيكم لا أطيقها»(1) .

كيف لا يطيق أبو بكر سنة النبي ؟ فهل كانت سنته صلى الله عليه وآله وسلم أمراً مستحيلاً حتى لا يطيقها أبو بكر ؟

وكيف يدعي «أهل السنة» أنهم متمسكون بها إذا كان إمامهم الأول ومؤسس مذاهبهم لا يطيقها ؟ ؟ !

ألم يقل الله سبحانه في حقها: «لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب: 21) ؟ وقال في حقها أيضاً: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (الطلاق: 7) وقال أيضاً: «ما جعل عليكم في الدين من حرج» (الحج: 78).

فهل يرى أبو بكر وصاحبه عمر أن رسول الله ابتدع ديناً غير الذي أنزل الله، فأمر المسلمين بما لا يطاق وكلفهم عسراً ؟ حاشاه فقد كان كثيراً ما يقول: بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا، إن الله أتاكم رخصة فلا تشددوا على أنفسكم.

ولكن اعتراف أبي بكر بأنه لا يطيق سنة النبي يؤكد ما ذهبنا إليه من أنه أحدث بدعة يطيقها حسب هواه وتتماشى وسياسة الدولة التي ترأسها.

ولعل عمر بن الخطاب كان يرى هو الآخر بأن أحكام القرآن والسنة لا تطاق فعمد إلى ترك الصلاة إذا أجنب ولم يجد الماء وأفتى بذلك أيام خلافته وقد عرف ذلك الخاص والعام وأخرج ذلك عنه كل المحدثين.

وبما أن عمر كان مولعاً بكثرة الجماع وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: «علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم» (البقرة: 167)، لأنه لم يصبر على الجماع وقت الصيام وبما أن الماء كان قليلاً رأى عمر أنه من الأسهل أن يترك الصلاة ويرتاح إلى أن يتوفر لديه الماء الكافي للغسل عند ذلك يعود إلى الصلاة.

أما عثمان فقد خالف السنة النبوية كما هو معروف حتى أخرجت عائشة قميص النبي وقالت: لقد أبلى عثمان سنة النبي قبل أن يبلي قميصه، وحتى

____________

(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 1 ص 4 وكنز العمال ج 3 ص 126.

الصفحة 87
عابه الصحابة بأنه خالف سنة النبي وسنة الشيخين وقتلوه من أجل ذلك.

أما معاوية فحدث ولا حرج فإنه عاند القرآن والسنة وتحداهما، فبينما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «علي مني وأنا من علي من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله»(1) ، نجد معاوية قد أمعن في سبه ولعنه ولم يكتف بذلك حتى أمر كل ولاته وعماله أن يسبوه ويلعنوه ومن امتنع منهم عزله وقتله.

وإذا عرفنا بأن معاوية هو الذي سمى نفسه وأتباعه ـ بـ «أهل السنة والجماعة» في مقابل تسمية الشيعة بأتباع الحق.

وينقل بعض المؤرخين بأن العام الذي استولى فيه معاوية على الخلافة الإسلامية بعد صلح الحسن بن علي، قد سمي ذلك العام بعام الجماعة.

ويزول العجب عندما نفهم بأن كلمة «السنة» لا يقصد بها معاوية وجماعته إلا لعن علي بن أبي طالب من فوق المنابر الإسلامية في أيام الجمعة والأعياد.

وإذا كانت «السنة والجماعة» من ابتكار معاوية بن أبي سفيان فنسأله سبحانه أن يميتنا على بدعة الرفض التي أسسها علي بن أبي طالب وأهل البيت (عليهم السلام) !!.

ولا تستغرب أيها القارئ العزيز أن يصبح أهل البدعة والضلالة هم «أهل السنة والجماعة» ويصبح الأئمة الطاهرون من أهل البيت هم أهل البدعة.

فها هو العلامة ابن خلدون من مشاهير علماء «أهل السنة والجماعة» يقولها بكل وقاحة بعد أن عدد مذاهب الجمهور قال: «وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح»(2) .

ألم أقل لك أيها القارئ من البداية: «لو عكست لأصبت» فإذا كان الفساق من بني أمية هم «أهل السنة» وأهل البيت هم أهل البدعة كما يقول ابن خلدون فعلى الإسلام السلام وعلى الدنيا العفا.

____________

(1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 121 مسند أحمد ج 6 ص 123 خصائص النسائي ص 17.

(2) مقدمة ابن خلدون ص 494 في فصل علم الفقه وما يتبعه من الفرائض.

الصفحة 88

حكام الجور هم الذين نصبوا أئمة «أهل السنة»

ومما يدلنا على أن أئمة المذاهب الأربعة من «أهل السنة» هم أيضاً خالفوا كتاب الله وسنة النبي الذي أمرهم بالاقتداء بالعترة الطاهرة، فلم نجد واحداً منهم لوى عنقه وركب سفينتهم وعرف إمام زمانه.

فهذا أبو حنيفة الذي تتلمذ على الإمام الصادق والذي اشتهر عنه قوله: «لولا السنتان لهلك النعمان» نجده قد ابتدع مذهباً يقوم على القياس والعمل بالرأي مقابل النصوص الصريحة.

وهذا مالك الذي تلقى هو الآخر عن الإمام الصادق، ويروى عنه قوله: ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفقه وأعلم من جعفر الصادق، نجده قد ابتدع مذهباً في الإسلام وترك إمام زمانه الذي يشهد بنفسه أنه أعلم وأفقه الشر في عصره. فقد نفخ في روعه الحكام العباسيون وسموه «إمام دار الهجرة» فأصبح مالك بعدها صاحب الجاه والسلطان والحول والطول.

وهذا الشافعي الذي يتهم بأنه كان يتشيع لأهل البيت فقد قال في حقهم تلك الأبيات المشهورة:
يا أهل بيت رسول اله حبكم فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الشأن أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له
   

الصفحة 89
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم مذاهبهم في أبحر الغي والجهل
ركبت على اسم الله في سفن النجا وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
وأمسكت حبل الله وهو ولاؤكم كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل
    ويشتهر عنه قوله:
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
    وإذا يشهد الثقلان أن رافضي فلماذا لم يرفض المذهب التي قامت ضد أهل البيت بل ابتدع هو الآخر مذهباً يحمل اسمه، وترك أئمة أهل البيت الذين عاصرهم ؟

وهذا أحمد بن حنبل الذي ربع الخلافة بعلي وألحقه بالراشدين بعدما كان منكوراً، وألف فيه كتاب الفضائل، واشتهر عنه قوله: «ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثلما لعلي (رض الله عنه)».

إلا أنه ابتدع له مذهباً في الإسلام اسمه المذهب الحنبلي، رغم شهادة العلماء من معاصريه بأنه ليس فقيهاً، قال الشيخ أبو زهرة: «إن كثيراً من الأقدمين لم يعدوا أحمد بن حنبل من الفقهاء، كابن قتيبة وهو قريب من عصره جداً وكذلك ابن جرير الطبري وغيرهما»(1) .

وجاء ابن تيمية فرفع لواء المذهب الحنبلي وأدخل عليه بعض النظريات الجديدة التي تحرم زيارة القبور والبناء عليها، والتوسل بالنبي وأهل البيت فكل ذلك عنده شركاً.

فهذه هي المذاهب الأربعة وهؤلاء هم أئمتها وما ينسب إليهم من أقوال في حق العترة الطاهرة من آل البيت.

فإما أنهم يقولون ما لا يفعلون وهو مقت كبير عند الله، أو أنهم لم يبتدعوا تلك المذاهب، ولكن أتباعهم من أذناب الأمويين والعباسيين هم الذين

____________

(1) كتاب احمد بن حنبل لأبي زهرة ص 170.

الصفحة 90
أسسوا تلك المذاهب بإعانة الحكام الجائرين ثم نسبوها إليهم بعد وفاتهم، وهذا ما سنعرفه إن شاء الله في الأبحاث القادمة ,

أفلا تعجبون من هؤلاء الأئمة الذين عاصروا أئمة الهدى من أهل البيت، ثم تنكبوا صراطهم المستقيم ولم يهتدوا بهديهم، ولا اقتبسوا من نورهم، ولا قدموا حديثهم عن جهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل قدموا عليهم كعب الأحبار اليهودي، وأبا هريرة الدوسي الذي قال في شأنه أمير المؤمنين علي (ع): «إن أكذب الناس على رسول اله لأبو هريرة الدوسي» كما قالت فيه عائشة بنت أبي بكر نفس الكلام.

ويقدمون عليهم عبد الله بن عمر الناصبي الذي اشتهر ببغضه للإمام علي وامتنع عن مبايعته وبايع إمام الضلالة الحجاج بن يوسف.

ويقدمون عليهم عمرو بن العاص وزير معاوية على الغش والنفاق.

أفلا تعجبون كيف أباح هؤلاء الأئمة لأنفسهم حق التشريع في دين الله بآرائهم واجتهاداتهم حتى قضوا على السنة النبوية بما أحدثوه من قياس واستصحاب وسد باب الذرائع والمصالح المرسلة وغير ذلك من بدعهم التي ما أنزل اله بها من سلطان ؟

وهل غفل الله ورسوله عن إكمال الدين، وأباح لهم أن يكملوه باجتهاداتهم فيحللوا ويحرموا كما يحلو لهم ؟ !

أفلا تعجبون من المسلمين الذين يدعون التمسك بـ «السنة» كيف يقلدون رجلاً لم يعرفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعرفهم ؟ !

فهل عندهم دليل من كتاب الله، أو من سنة رسوله على اتباع وتقليد أولئك الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب ؟ !

فأنا أتحدى الثقلين من الإنس والجن أن يأتوا بدليل واحد على ذلك من كتاب الله أو من سنة رسوله. فلا والله، لا ولن يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

الصفحة 91

لا والله، ليس هناك دليل في كتاب الله وسنة رسوله إلا على أتباع وتقليد الأئمة الطاهرين من عترة النبي (صلى الله عليه وعليهم). أما هذا فهناك أدلة كثيرة وحجج دامغة وحقائق ساطعة.

«فاعتبروا يا أولي الأبصار» (الحشر: 2).

«فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» (الحج: 46).

الصفحة 92

السر في انتشار المذاهب السنية

إن المتتبع في كتب التاريخ وما دونه الأسلاف يجد بما لا شك فيه بأن شيوع المذاهب «السنية» الأربعة في تلك العصور كان بإرادة السلطة الحاكمة وإدارتها، ولذلك كثر أتباعها فالناس على دين ملوكهم.

كما يجد الباحث بأن هناك عشرات المذاهب التي انقرضت وذابت لأن الحاكم لم يكن راض عليها، كمذهب الأوزاعي ومذهب حسن البصري، وأبو عيينة وابن أبي ذؤيب، وسفيان الثوري، وابن أبي داود، وليث بن سعد وغيرهم كثير.

وعلى سبيل المثال، فإن ليث بن سعد كان صديق مالك بن أنس وكان أعلم منه وأفقه كما اعترف بذلك الشافعي(1) .

ولكن مذهبه انقرض وفقهه ذاب واندرس لأن السلطة لم تكن عنه راضية.

وقال أحمد بن حنبل: كان ابن أبي ذؤيب أفضل من مالك بن أنس إلا أنآ مالكاً أشد تنقية للرجال(2) .

وإذا راجعنا التاريخ، فإننا نجد مالكاً صاحب المذهب قد تقرب إلى السلطة والحكام وسالمهم ومشى في ركابهم، فأصبح بذلك الرجل المهاب والعالم المشهور، وانتشر مذهبه بوسائل الترهيب والترغيب خصوصاً في الأندلس حيث

____________

(1) مناقب الشافعي ص 524.

(2) تذكرة الحفاظ ج 1 ص 176.

الصفحة 93
عمل تلميذه يحيى بن يحيى على موالاة حاكم الأندلس، فأصبح من المقربين وأعطاه الحاكم مسؤولية تعيين القضاة فكان لا يولي على القضاء إلا أصحابه من المالكية فقط.

كذلك نجد أن سبب انتشار مذهب أبي حنيفة بعد موته هو أن أبا يوسف والشيباني وهما من أتباع أبي حنيفة ومن أخلص تلاميذه، كانا في نفس الوقت من أقرب المقربين لهارون «الرشيد» الخليفة العباسي، وقد كان لهما الدور الكبير في تثبيت ملكه وتأييده ومناصرته، فلم يسمح هارون «الجواري والمجون» لأحد أن يتولى القضاء والفتيا إلا بعد موافقتهما.

فلم ينصبا قاضياً إلا إذا كان على مذهب أبي حنيفة، فصار أبو حنيفة أعظم العلماء ومذهبه أعظم المذاهب الفقهية المتبعة، رغم أن علماء عصره كفروه وأعتبروه زنديقاً، ومن هؤلاء الإمام أ؛مد بن حنبل والإمام أبو الحسن الأشعري.

كما أن المذهب الشافعي انتشر وقوي بعدما كاد يندرس، وذلك عندما أيدته السلطة الغاشمة، وبعدما كانت مصر كلها شيعة فاطمية، انقلبت إلى شافعية في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي قتل الشيعة وذبحهم ذبح النعاج.

كما أن المذهب الحنبلي ما كان ليعرف لولا تأييد السلطات العباسية في عصر المعتصم عندما تراجع ابن حنبل عن قوله بخلق القرآن ولمع نجمه في عهد المتوكل «الناصبي».

وقوي وانتشر عندما أبدت السلطات الاستعمارية الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الماضي وتعامل هذا الأخير مع آل سعود فأيدوه فوراً وناصروه وعملوا على نشر مذهبه في الحجاز والحزيرة العربية.

وأصبح المذهب الحنبلي يعود إلى ثلاثة أئمة أولهم أحمد بن حنبل الذي لم يكن يدعي بأنه فقيهاً، وإنما كان من أهل الحديث، ثم ابن تيمية الذي لقبوه بشيخ الإسلام ومجدد «السنة» والذي كفره علماء عصره لأنه حكم على كل المسلمين بالشرك لأنهم يتبركون ويتوسلون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء في القرن الماضي محمد بن عبد الوهاب صنيعة الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط،

الصفحة 94
فعمل هو الآخر على تجديد المذهب الحنبلي بما أخذه من فتاوى ابن تيمية، وأصبح أحمد بن حنبل في خبر كان إذ أن المذهب عندهم اليوم يسمى المذهب الوهابي.

ومما لا شك فيه أن أنتشار تلك المذاهب وشهرتها وعلو شأنها كان بتأييد ومباركة الحكام.

ومما لا شك فيه أيضاً بأن أولئك الحكام كلهم بدون استثناء كانوا يعادون الائمة من أهل البيت لشعورهم الدائم بأن هؤلاء يهددون كيانهم وزوال ملكهم، فكانوا يعملون دائماً على عزلهم عن الأمة وتصغير شأنهم وقتل من يتشيع لهم.

فبديهي أن ينصب أولئك الحكام بعض العلماء المتزلفين إليهم والذين يفتونهم بما يتلاءم مع حكمهم ووجودهم، وذلك لحاجة الناس المستمرة لوجود الحلول في المسائل الشرعية.

ولما كان الحكام في كل العصور لا يعرفون من الشريعة شيئاً ولا يفهمون الفقه، فكان لابد أن ينصبوا عالماً باسمهم يفتي، ويموهون على الناس بأن السياسة شيء والدين شيء آخر.

فكان الخليفة الحاكم هو رجل السياسة والفقيه رجل الدين كما يفعل ذلك اليوم رئيس الجمهورية في كل البلاد الإسلامية، فتراه يعين أحد العلماء المقربين يسميه مفتي الجمهورية أو أي عنوان آخر يعبر عن ذلك، ويكلفه بالنظر في مسائل الفتيا والعبادات والشعائر الدينية.

ولكنه في الحقيقة ليس لهذا الرجل أن يفتي أو يحكم إلا بما تمليه عليه السلطة وما يرضي الحاكم، أو على الأقل ما لا يتعارض وسياسة الحكومة وتنفيذ مشاريعها.

وهذا الظاهرة برزت في الحقيقة من عهد الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان، فهم وإن لم يفرقوا بين الدين والدولة إلا أنهم أعطوا أنفسهم حق التشريع بما يتماشى ومصالح الخلافة وضمان هيبتها واستمرارها.

الصفحة 95

ولما كان لهؤلاء الخلفاء الثلاثة حضور مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحة فقد أخذوا عنه بعض السنن التي لا تتعارض مع سياستهم.

فإن معاوية لم يدخل الإسلام إلا في السنة التاسعة للهجرة على أشهر الروايات الصحيحة، فلم يصحب النبي إلا قليلاً ولم يعرف من سنته شيئاً يذكر، فاضطر إلى تعيين أبي هريرة وعمرو بن العاص وبعض الصحابة الذين كلفهم بالإفتاء على ما يريده.

واتبع بنو أمية العباس بعده هذه «السنة الحميدة» أو هذه البدعة الحسنة، فكل حاكم جلس إلى جانبه قاضي القضاة المكلف بدوره بتعيين القضاة الذين يراهم صالحين للدولة ويعملون على دعمها وتأييدها.

وما عليك بعد ذلك إلا أن تعرف ماهية أولئك القضاة الذين يغضبون ربهم في إرضاء سيدهم وولي نعمتهم الذي نصبهم.

وتفهم بعد ذلك السر في أبعاد الأئمة المعصومين من العترة الطاهرة فلا تجد منهم أحداً وعلى مر العصور عينوه من قبلهم أو نصبوه قاضياً أو قلدوه وسام الإفتاء.

وإذا أردنا مزيد التجقيق حول كيفية انتشار المذاهب «السنية» الأربعة بواسطة الحكام، فلما أن يأخذ لذلك مثالاً واحداً من خلال كشف الستار عن مذهب الإمام مالك الذي يعد من أكبر المذاهب وأعظمها قدراً وأوسعها فقهاً، فقد اشتهر مالك بالخصوص بالموطأ الذي كتبه بنفسه ويقال عند أهل السنة بأنه أصح الكتب بعد كتاب الله، وهناك بعض العلماء الذين يقدمونه ويفضلونه على صحيح البخاري.

كما أن شهرة مالك فاقت كل الحدود، حتى قيل: «أيفتى ومالك في المدينة» ؟ ولقبوه بإمام دار الهجرة.

ولا يفوتا أن نذكر بأن مالكاً أفتى بحرمة بيعة الإكراه فضربه جعفر بن سليمان والي المدينة سبعين سوطاً.

وهذا ما يحتج به المالكية دائماً على معاداة مالك للسلطة وهو غير صحيح