الصفحة 256

الأحاديث النبوية عند "أهل السنة" متناقضة

لعل الباحث يجد كثيراً من السنن التي تنسب إلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي في الحقيقة ليست إلا بدعاً ابتدعها بعض الصحابة بعد وفاته و ألزموا الناس بها و حملوهم عليها قهراً، حتى اعتقد أولئك المساكين أنها من أفعال النبي و أقواله.

و لذلك جاءت تلك البدع في أغلبها متناقضة و متعارضة مع القرآن، فاضطر علماؤهم للتأويل و القول بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا مرة، و فعل ذاك أخرى كقولهم بأنه صلى مرة بالبسملة و أخري صلى بدون البسملة، و مرة مسح رجليه في الوضوء و أخرى غسلهما، و مرة قبض يديه في الصلاة و أخري أسدلها، حتى ذهب البعض منهم للقول بأنه فعل ذلك متعمداً للتخفيف علي أمته حتى يختار كل واحد منهم ما يناسبه من العمل.

إنه كذبّ برفضه الإسلام الذي بني عقائده علي كلمة التوحيد و توحيد العبادة حتى في المظهر و اللباس فلم يسمح للمحرم وقت الحج أن يلبس ما يريد لا شكلاً ولا لوناً، و لم يسمح للمأموم إلا أن يتبع إمامه في حركاته وسكناته من قيام و ركوع و سجود و جلوس.

كما أنه كذبّ لأن الأئمة الطاهرين من أهل البيت يرفضون تلك الروايات و لا يقلبون بالاختلاف في العبادات شكلاً و مضموناً.

و إذا رجعنا إلى تناقض الأحاديث عند "أهل السنة و الجماعة" فهي كثيرة جداً تفوق الحصر، و سوف نعمل علي جمعها في كتاب خاص إن شاء الله.

الصفحة 257

وكالعادة و بإيجاز نذكر هنا بعض الأمثلة ليتبين للباحث على أي أساس بني "أهل السنة و الجماعة" مذهبهم و عقيدتهم.

فقد جاء في صحيح مسلم و في شرح الموطاً لجلال الدين السيوطي عن أنس بن مالك قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و أبي بكر و عمر و عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ: بسم الله الحرمان الرحيم.

و في رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يجهر بقراءة بسم الله الرحمان الرحيم، قال: و قد روي هذا الحديث عن أنس قتادة و ثابت البناني و غيرهما و كلهم أسنده و ذكر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنهم اختلف عليهم في لفظه اختلافاً كثيراً، مضطرباً و متدافعاً، فمنهم من يقول فيه: كانوا لا يقرأون بسم الله الرحمان الرحيم، و منهم من يقول كانوا لا يجهرون ببسم الله الحرمان الرحيم، و منهم من يقول: كانوا يجهرون ببسم الله الرحمان الرحيم و منهم من قال: كانوا لا يتركون بسم الله الرحمان الرحيم، و منهم من قال: كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين.

قال: و هذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من افقهاء(1)

أما إذا أردت معرفة السر الحقيقي لهذا التناقض و الاضطراب من نفس الراوي و هو أنس بن مالك الذي كان يلازم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه حاجبه، فتراه مرة يروي بأنهم - رسول الله و الخلفاء الثلاثة - كانوا لا يقرأون بسم الله الرحمان الرحيم، و مرة بأنهم لا يتركونها.

إنما هو الواقع الأليم المؤسف الذي اتبعه أكثر الصحابة في نقل الحديث و روايته حسبما تقتضيه المصلحة السياسية و حسبما يرضي الأمراء.

فلا شك بأنه روي عدم القراءة لبسم الله الرحمان الرحيم عندما عمل بنو أمية و حكامهم علي تغيير كل سنة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان علي بن أبي طالب يتمسك بها ويعمل على إحيائها.

____________

(1) تنوير الحوالك شرح على موطاً مالك ج 1 ص 103 و نحن نقول: الحمد لله أن شهد شاهد من أهلها على اضطراب الأحاديث عندهم و تناقضها و أنه كما أعترف، لا تقوم لأحد من فقهائهم حجة، إنما الحجة قائمة مع أئمة الهدي الأطهار الذين بم يختلفوا في شيء.

الصفحة 258

فقد قامت سياستهم على مخالفته في كل شيء و العمل بضده. حيث اشتهر (سلام الله عليه) بأنه كان يبالغ في الجهر بالبسمة حتى في الصلاة السرية.

و هذا ليس ادعاء منا أو من الشيعة، فنحن لم نعتمد في كل ما كتبنا إلا على كتب "أهل السنة و الجماعة" و تصريحاتهم.

و قد ذكر الإمام النيسابوري في تفسير غرائب القرآن، و بعد ذكره للروايات المتناقضة عن أنس بن مالك قال: "و فيها تهمة أخري، و هي أن علياً (رضي الله عنه) كان يبالغ في الجهر بالتسمية، و لما كان زمن بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سيعاً منهم في إبطال آثار علي بن أبي طالب، فلعله إنما خاف منهم فلهذا اضطراب أقواله"(1)

كما صرح الشيخ أبو زهرة ما يقارب هذا المعني إذ قال: "لابد أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء كثير من آثار علي (عليه السلام) في القضاء و الإفتاء، لأنه ليس من المعقول أن يلعنوا علياً فوق المنابر، و أن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه و ينقلون فتاواه و أقواله للناس، و خصوصاً ما يتصل بأساس الحكم الإسلامي"(2)

و الحمد الله الذي أظهر الحق على لسان بعض علمائهم فاعترفوا بأن علياً كان يبالغ في الجهر ببسم الله الرحمان الرحيم.

و نستنتج بأن الذي دعاه (سلام الله عليه)أن يبالغ في الجهر بالتسمية، هو أن الخلفاء الذين سبقوه تركوها إما عمداً أو سهواً واقتدى بهم الناس فأصبحت سنة متبعة و هي بلا شك مبطلة للصلاة إذا ما تركت عمداً، و إلا لما بالغ الإمام علي (عليه السلام) في الجهر بها حتى في الصلاة السرية.

ثم إننا نشتم من روايات أنس بن مالك التزلف لإرضاء بني أمية الذين أطروه و أغدقوا عليه الأموال و بنواله القصور لأنه من المناوئين لعلي (عليه السلام) هو الآخر و يظهر بغضه لأمير المؤمنين (عليه السلام) من قصة الطير

____________

(1) تفسير غرائب القرآن للنيسابوري بهامش تفسير الطبري ج 1 ص 77.

(2) الشيخ أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق ص 161.

الصفحة 259
المشوي عندما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي هذا الطير"، فجاء علي يستأذن فرده أنس ثلاث مرات، و لما عرف النبي في المرة الرابعة قال لأنس: ما حملك على ما فعلت؟ قال أنس: رجوت أن يكون واحداً من الأنصار.(1)

و يكفي هذا الصحابي أن يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ربه بأن يأتيه بأحب الخلق إليه، و يستجيب الله لدعاء رسوله فيأتيه بعلي (عليه السلام)، ولكن بغض أنس له يحمله على الكذب فيرد علياً مدعياً بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة له و يتكرر منه الكذاب ثلاث مرات متوالية لأنع لم يقبل أن يكون علي (عليه السلام) أحب الخلق إلي الله بعد رسوله، ولكن علياً اقتحم الباب في المرة الرابعة ودخل، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما حسبك عني يا علي؟ قال: جئتك فردني أنس ثلاث مرات، قال: ما حملك على ذلك يا أنس؟ قال: يا رسول الله سمعت دعاءك فأحببت أن يكون رجلاً من قومي.

و التاريخ بعد ذلك يحدثنا بأن أنس بقي علي بغضه للإمام (عليه السلام) طيلة حياته، و هو الذي استشهده علي يوم الرحبة بحديث الغدير فكتم الشهادة و دعا عليه الإمام (عليه السلام) فلم يقم من مجلسه إلا أبرص، فكيف لا يصبح أنساً من المناوئين لعلي (عليه السلام) و هو بيغضه و يتقرب إلي أعدائه بالبراءة منه.

لكل ذلك جاءت روايته في خصوص البسملة تفوح بالولاء لمعاوية بن أبي سفيان إذ يقول: "صليت خلف النبي و أبي بكر و عمر و عثمان" و يعني بذلك أنه ما كان يقبل بالصلاة وراء علي، و هو بالضبط ما كان يريده معاوية و أتباعه من رفع ذكر الخلفاء الثلاثة و طمس ذكر علي (عليه السلام) و عدم التحدث باسمه.

و بما أنه ثبت من طريق أئمة العترة الطاهرة و شيعتهم بأن علياً (عليه السلام)

____________

(1) لأخرجه الحاكم في المستدرك و قال: صحيح على شرط الشيخين، و أخرجه الترمذي في صحيحه ج 2، ص 299، و الطبري في الرياض النضرة ج 2 ص 160، تاريخ بغداد ج 3 ص 171، كنز العمال ج 6 ص 406، النسائي في الخصائص ص 5، و ابن الأثير في أسد الغابة ج 4 ص 30.

الصفحة 260
كان يجهر بالبسملة في الفاتحة والسورة التي بعدها، كما ثبت أيضاً من طريق "أهل السنة و الجماعة" بأنه كان يبالغ في الجهر بالبسملة حتى في الصلاة السرية، فثبت بذلك أنها هي السنة النبوية الصحيحة، فمن تركها فقد ترك الواجب و أبطل صلاته، لأن مخالفة السنة هو الضلال، فما أتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا.

و لنا بعد هذا عدة مآخذ على روايات الصحابة التي تخالف سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم و عدة أمثلة ذكرنا البعض منها في أبحاث سابقة و سنذكر البعض الآخر في أبحاث لاحقة. و المهم في كل ذلك أن نعرف بأن "أهل اسنة و الجماعة" يقتدون بأقوال و أفعال الصحابة.

أولاً: لإيمانهم بأن أقوالهم و أفعالهم هي سنة ملزمة.

ثانياً: لاشتباههم في أن ما قاله الصحابة و ما فعلوه لا يخالف السنة النبوية، لأن الصحابة كانوا يحكمون بآرائهم و ينسبون ذلك للنبيصلى الله عليه وآله وسلم حتى يتمكنوا من التأثير في النفوس و يأمنوا معارضة المعارضين.

و إذا كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو المعارض الوحيد الذي حاول بكل جهوده في أيام خلافته إرجاع الناس للسنة النبوية بأقواله و أفعاله و فضائه، و لكن بدون جدوى لأنهم شغلوه بالحروب الطاحنة فلم ينته من حرب إلا و أشعلوا له حرباً أخرى، ولم ينته من حرب الجمل حتى أسعروا حرب صفين ولم ينته من صفين حتى أشعلوا حرب النهروان و لم ينته منها حنى اغتالوه في محراب الصلاة.

و جاء معاوية للخلافة و كان همه الوحيد هو إطفاء نور الله، فعمل بكل جهوده للقضاء علي سنة النبي التي أحياها الإمام علي (عليه السلام)، و أرجع الناس لبدع الخلفاء و خصوصاً البدع التي سنها هو لهم، و عمل على سب علي (عليه السلام) و لعنه حتى لا يذكره ذاكر إلا بما هم مشين.

يذكر المدائني أن بعض الصحابة جاء إلى معاوية فقال له: " يا أمير المؤمنين، إن علياً (عليه السلام) مات و ليس هناك شيء تخافه، فلو رفعت هذا

الصفحة 261
اللعن عنه؟ فقال معاوية: لا والله حتى يهرم عليه الكبير و يشيب عليه الصغير.

يقول المدائني: فمكثوا علي ذلك (بنو أمية) دهراً و علموه إلى صبيانهم في الكتاتيب و إلى نسائهم و خدمهم و مواليهم، و قد نجح معاوية في مخططه نجاحاً كبيراً، إذ أبعد الأمة الإسلامية (إلا القليل منها) عن وليها و قائدها الحقيقي، و جرهم إلى معاداته و البراءة منه، و ألبس لهم الباطل بالحق وجعلهم يعتقدون بأنهم هم "أهل السنة" و أن من والى علياً و اتبعه فهو خارجي و صاحب بدعة.

و إذا كان الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) و ما أدراك، يلعن فوق المنابر و يتقرب إلى الله بسبه و لعنه، فما بالك بالشيعة الذين اتبعوا، فقد منعوا عطاءهم و حرقوا عليهم ديارهم و صلبوهم على جذوع النخل و دفنوهم أحياء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إن معاوية في نظري هو حلقة من سلسلة المؤامرة الكبرى و فصل من فصولها، و لكنه نجح أكثر من غيره في طمس الحقائق و تقليبها ظهراً على عقب، و أرجع الأمة إلى الجاهلية الأولي في لباس الإسلام.

و تجدر الإشارة بأنه كان أدهى ممن سبقه من الخلفاء فكان ممثلاً بارعاً يجيد التمثيل فيبكي في بعض الأحيان حتى يؤثر في الحاضرين فيعتقدون أنه من الزهاد العباد المخلصين و يقسو و يتجبر أحياناً أخرى حتى يخيل إلى الحاضرين أنه من أكبر الملحدين و يظن البدوي بأنه رسول الله!

ولابد لإتمام البحث أن نعرف من خلال رسالة محمد بن أبي بكر التي وجهها إليه ورده عليها مدي مكره و دهائه كما سنعرف من خلال الرسالتين حقايق لا غنى للباحثين من الوقوف عليها.

الصفحة 262

كتاب محمد بن أبي بكر إلي معاوية

من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر:

سلام على أهل طاعة الله، ممن هو سلم لأهل ولاية الله،

أما بعد،

فإن الله بجلاله و عظمته و سلطانه و قدرته، خلق خلقه بلا عبث منه ولا ضعف في قوته، ولا حاجة به إلى خلقهم، لكنه خلقهم عبيداً و جعل منهم غوياً و رشيداً، و شقياً و سعيداً، ثم اختار على علم فاصطفى وانتخب منهم محمداًصلى الله عليه وآله وسلم، فاختصه برسالته، واختاره لوحيه و ائتمنه على أمره، و بعثه رسولاً و مبشراً و نذيراً، مصدقاً لما بين يديه من الكتب، و دليلاً على الشرائع، فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة و الموعظة الحسنة، فكان أول من أجاب و أناب و أمن و صدق و أسلم و سلم، أخوه و ابن عمه علي بن أبي طالب (عليه السلام) صدقه بالغيب المكتوم و آثره علي كل حميم، و وقاه بنفسه كل هول و واساه بنفسه في كل خوف، و حارب حربه و سالم سلمه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل و مقامات الروع، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله.

و قد رأيتك تساميه، و أنت أنت، وهو هو السابق المبرز في كل خير، أول الناس إسلاماً، و أصدق الناس نية، و أفضل الناس ذرية و خير الناس زوجة، و أفضل الناس ابن عم، أخوه الشاري لنفسه يوم مؤتة، و عمه سيده الشهداء يوم أحد، و أبوه الذاب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و عن حوزته، و أنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت و أبوك تبغيان لدين الله الغوائل، و تجهدان في إطفاء نور الله، تجمعان على ذلك الجموع، و تبذلان فيه المال و تؤلبان عليه القبائل.

علي هذا مات أبوك و على ذلك خلفته، و الشاهد عليك بذلك من تدني

الصفحة 263
و يلجأ إليك من بقية الأحزاب و رؤساء النفاق و الشقاق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، و الشاهد لعلي مع فضله المبين و سابقته القديمة أنصاره الذين معه الذين ذكرهم الله تعالي في القرآن ففضلهم و أثني عليهم من المهاجرين و الأنصار فهم معه كتائب و عصائب يجالدون حوله بأسيافهم، و يهرقون دماءهم دونه، يرون الحق في اتباعه و الشقاء في خلافه.

فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي و هو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و وصيه و أبو ولده، و أول الناس له اتباعاً و أقربهم به عهداً، يخبره بسره و يطلعه علي أمره، و أنت عدوه و ابن عدوه.؟!

فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك، و ليمددك بن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضي، وكيدك قد وهي، و سوف يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا!

و اعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده، و آيست من روحه و هو لك بالمرصاد، و أنت منه في غرور. والسلام علي من اتبع الهدي(1) .

و هذه الرسالة التي كتبها محمد بن أبي بكر فيها حقائق دامغة لكل باحث عن الحقيقة، فهي تصف معاوية بأنه ضال مضل و أنه لعين ابن لعين، و أنه يعمل كل ما في وسعه لإطفاء نور الله و يبذل الأموال لتحريف الدين و يبغي لدين الله الغوائل، و أنه عدو الله و لرسوله و يعمل بالباطل بإعانة عمرو بن العاص.

كما وأن الرسالة تكشف عن فضائل و مزايا علي بن أبي طالب (عليه السلام) التي لم يسبقه إليها سابق ولا يلحقه إليها لاحق، والحق أن لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) من الفضائل و المزايا أكثر مما عدده محمد بن أبي بكر بكثير، و لكن الذي يهمنا في هذا الباب هو رد معاوية بن أبي سفيان علي هذه الرسالة، لتعرف أيها الباحث عن الحقيقة خفايا و دسائس التاريخ و تكتشف من خلالها خيوط المؤامرة التي أبعدت الخلافة عن صاحبها الشرعي و تسببت في انحراف الأمة، فإليك الرد.

____________

(1) جمهرة رسائل العرب ج 1 ص 477 مروج الذهب للمسعوى ج 2 ص 60، شرح النهج البلاغه لابن أبي الحديد المعتولى ج 1 ص 274

الصفحة 264

رد معاوية علي محمد بن أبي بكر

من معاوية بن صخر إلي الرازي على أبيه محمى بن أبي بكر.

سلام علي أهل طاعة الله.

أما بعد.

فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته و قدرته و سلطانه، و ما أصفى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع كلام كثير الفته و وضعته لرأيك فيه تضعيف و لأبيك فيه تعنيف.

ذكرك فيه فضل ابن أبي طالب و قديم سوابق و قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، و نصرته له و مواساته إياه في كل هول و خوف، فكان احتجاجك علي و فخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد رباً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك.

فقد كنا و ألوك معنا في حياة نبينا نعرف حق أبي طالب لازماً لنا، و فضله مبرزاً علينا، فلما اختار الله لنبيه (عليه الصلاة و السلام) ما عنده، و أتم له ما وعده، و اظهر دعوته، و أفلج حجته، و قبضه الله إليه (صلوات الله عليه)، كان أبوك و فاروقه أول من ابتزه حقه و خالفه علي أمره، علي ذلك اتفقا و اتسقا، ثم أنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما و تلكأ عليهما، فهما به الهموم وأرادا به العظيم، ثم إنه بايعهما و سلم لهما، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه علي سرهما، حتى قبضهما الله، و انقضى أمرهما، ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما و سار بسيرتهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي فطلبتما له الغوائل حتى بلغتما فيه مناكما.

الصفحة 265

فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، فستري وبال أمرك، و قس شبرك بقترك تقصر عن أن توازي أو تساوي من يزن الجبال حلمه، و لا تلين علي قسر قناته، ولا يدرك ذو مدي أناته.

أبوك مهد له مهاده، و بنى ملكه و شاده، فإن بك ما نحن فيه صواباً فأبوك أوله، و إن يكن جوراً فأبوك استبد به و نحن شركاؤه، فبهديه أخذنا و بفعله اقتدينا، و لولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، و لسلمنا أليه، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا، فاحتذينا مثاله، و اقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدالك أودع، والسلام علي من أناب ورجع من غوايته و تاب(1) .

* * *

و نستنتج من هذا الرد بان معاوية لا ينكر فضائل علي بن أبي طالب ومزاياه، و لكنه تجرأ عليه و احتذاء بأبي بكر و عمر، و لولا هما لما استصغر شأن علي (عليه السلام) و لا تقدم عليه أحد من الناس. كما يعترف معاوية بأن أبا بكر هو الذي معد لبني أمية و هو الذي بني ملكهم و شاده.

و نفهم من هذه الرسالة بأن معاوية لم يقتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، و لم يهتد بهديه، عندما اعترف بأن عثمان هدي بهدي أبي بكر و عمر و سار بسيرتهما.

و بذلك يتبين لنا بوضوح بأنهم جميعاً تركوا سنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقتدى بعضهم ببدعة بعض. كما أن معاوية لم ينكر بأنه من الضالين الذين يعلمون بالباطل و أنه لعين ابن لعين علي لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ولتعميم الفائدة لا بأس بذكر الرسالة التي رد بها يزيد بن معاوية على ابن عمر وهي على اختصارها ترمي نفس المرمى.

فقد أخرج البلاذري في تاريخه قال:

لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، كتب عبدالله بن عمر رسالة الى يزيد بن معاوية جاء فيها:

____________

(1) لأن أبابكر و عمر و عثمان توفوا في حياة الإمام علي.

الصفحة 266

أما بعد، فقد عظمت الرزية و جلت المصيبة، وحدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسينز

فكتب إليه يزيد:

و في رد معاوية علي ابن أبي بكر كما في رد يزيد علي ابن عمر نجد نفس المنطق و نفس الاحتجاج. و هو لعمري أمر ضروري يقره الوجدان، و يدركه كل عاقل و لا يحتاج في الحقيقة إلى شهادة معاوية وابنه يزيد.

فلولا استبداد أبي بكر و عمر على علي، لما وقع ما وقع في الأمة الإسلامية، و لو تمكن علي من الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و حكم المسلمين لتواصلت خلافته إلى سنة أربعين للهجرة أعني ثلاثون عاماً بعد النبي(1) . و هي مدة كافية لإرساء قواعد الإسلام بكل أصوله و فروعه، و لتمكن (عليه السلام) من تطبيق كتاب الله و سنته رسوله بدون تحريف ولا تأويل.

و لما وليها بعد وفاته غير سيدي شباب أهل الجنة الإمام الحسن و الإمام الحسين و أولاده المعصومين بقية الأئمة (عليهم السلام) و لتواصلت خلافة الراشدين ثلاثة قرون، لم يكن بعدها للكافرين و المنافقين و الملحدين تأثير ولا وجود، ولكانت الأرض غير الأرض والعباد غير العباد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

يبقي هناك دائماً اعتراض من بعض "أهل السنة و الجماعة" على هذا الاحتمال و ذلك من وجهين:

____________

(1) جمهرة رسائل العرب ج 1 ص 475، مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 59، شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 283.

الصفحة 267

* الأول أنهم يقولون بأن ما وقع هو الذي اختاره الله وأراده، ولو أراد الله أن يقود المسلمين علي و الأئمة من ولد (عليم السلام) لكان ذلك، و هم يرددون دائماً "الخير في ما اختاره الله"

* الثاني أنهم يقولون: لو تولى علي الخلافة مباشرة بعد النبي و أعقبه الحسن و الحسين لأصبحت الخلافة و راثية يرثها الأبناء على الأباء، و هذا لا يقره الإسلام الذي ترك الأمر شوري بين الناس.

و إجابة علي ذلك و لرفع الالتباس نقول:

أولاً: ليس هناك دليل واحد على أن ما وقع هو الذي اختاره الله وأراده، بل الأدلة على عكسه ثابتة في الكتاب و السنة، فمن الكتاب مثلاً قوله تعالى: "ولو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون" (الأعراف: 96)، و كذلك قوله تعالى: "ولو أنهم أقاموا التوارة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة و كثير منهم ساء ما يعملون" (المائده: 66). و كذلك قوله تعالى: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و آمنتم و كان الله شاكراً عليماً" (النساء: 147). و قوله: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11). و كل هذه الآيات البينات تفيد بأن الانحراف سواء كان على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الأمم هو من عند أنفسهم و ليس من عند لله.

و من السنة النبوية مثلاًُ: قول الرسولصلى الله عليه وآله وسلم: "تركت فيكم كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً" و قولهصلى الله عليه وآله وسلم: "هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً" و قوله: "ستفترق أمتي إلى ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة". و كل هذه الأحاديث الشريفة تفيد بأن ضلالة الأمة كانت بسبب انحراف الأمة و عدم قبولها لما اختاره الله لها.

* ثانياً: هب أن الخلاقة الإسلامية كانت بالوارثة فليست هي الوارثة التي يفهمونها بأن يستبد الحاكم علي رعيته فيولي عليهم ابنه قبل وفاته و يسميه ولي العهد، ولو كان الوالد والوالد فاسقين بل هي وراثة إلهية من اختيار رب العامين

الصفحة 268
الذي لا يعزب عن علمه مثقال حبة من خردل والتي تخص نخبة صالحة اصطفاها الله وأورثها الكتاب و الحكمة لتكون للناس أئمة، فقال: "و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين" (الأنبياء: 73). مع أن قولهم بأن الإسلام لا يقر الوراثة و إنما ترك الأمر شورى، هو مغالطة لا يقرها الواقع و التاريخ فقد وقعوا بالضبط في النظام الوارثي الممقوت، و لم يتول على الأمة بعد علي (عليه السلام) إلا الظالمين الغاصبين الذين أورثوها لأبنائهم الفسقة رغم أنف الأمة.

فأيهما الأفضل أن يتوارثها الفساق الذين يحكمون بأهوائهم و لا يخضعون إلا لشهواتهم؟ أو يتوارثها الأئمة الطاهرين الذين اصطفاهم الله و أذهب عنهم الرجس و أورثهم علم الكتاب ليحكموا بين الناس بالحق ويهدوهم سواء السبيل و يدخلوهم جنات النعيم، من باب قول الله: «وورث سليمان داود» (النمل: 16)؟ و ما أظن العاقل يختار إلا الثاني إن كان من المسلمين! و ما دمنا الآن نقول بالأمر الواقع ولا يفيدنا التحسر على ما فات فلنعد إلى الموضوع فنقول:

و لما دفع أبو بكر و عمر أمير المؤمنين عن منصبه في الخلافة و تقمصاها، و صغرا بذلك شأن علي و فاطمة و أهل البيت (عليهم السلام) و أهانوهم، عند ذلك سهل الأمر على معاوية و يزيد و عبدالملك بن مروان و أضرابهم أن يفعلوا ما فعلوه، و لولا أنهما مهدا لمعاوية و مكنا له في البلاد حتى بقي والياً في الشام وحدها أكثر من عشرين عاماُ، ولم يعزل أبداً و نال معاوية هيبة و أوطأ رقاب الناس حتى دانوا له بكل ما يريد، ثم جعل الخلافة لابنه من بعده الذي وجد كما صرح بنفسه بيوتاً مجددة و فرشاً ممهدة و وسائد منضدة، فمن الطبيعي أن يقاتل من أجلها و أن يقتل ريحانة النبي ولا يبالي، فقد رضع بغض أهل البيت في حليب أمه ميسون و ترعرع في حجر أبيه علي سبهم و لعنهم، فلا غرابة أن يصدر منه الذي صدر أو أكثر من ذلك.

و قد اعترف بعض الشعراء بهذه الحقيقة إذ يقول:

الصفحة 269
لولا حدود صوارم أمضي مضاربها الخليفة
لنشرت من أسرار أل محمد جملاً ظريفة
و أريتكم أن الحسين أصيب يوم السقيفة
    و يفهم الباحث المتتبع بأن دولة بني أمية كلها قامت بفضل أبي بكر و عمر.

و كذلك دولة بني العباس و غيرها من الدول، و كذلك نجد هؤلاء قد بذلوا كل ما في وسعهم للتنويه بأبي بكر و عمر و خلق الفضائل لهم و إثبات أحقيتهم في الخلافة، لأنهم أدركوا بأن شرعيتهم في الخلافة لا تتم إلا بتصحيح خلافتهما و القول بعد التهما.

و في المقابل نراهم جميعاً فعلوا بأهل البيت الأفاعيل لا لشيء إلا لأنهم أصحاب الخلافة الشرعية و هم وحدهم الذين يهددون كيانهم و دولتهم.

و هذا بديهي عند العقلاء الذين عرفوا الحق، و أنت ترى إلى يومنا هذا أن بعض الدول الإسلامية يحكمها ملوك ليس لهم من الفضل أو الفضيلة شيء سوى أنهم أولاد ملوك وسلاطين و أمراء كما كان يزيد أميراً والده معاوية كان ملكاً و ملك الأمة بالقوة والقهر.

فلا يعقل أن يحب ملوك السعودية و أمراؤها أهل البيت و من تشيع لهم.

كمالا يعقل يبغض ملوك السعودية و أمراؤهم معاوية و يزيد، و ما سن لهم دستور ولاية العهد المعاصرون و بدستور معاوية و يزيد و كل أمراء بني أمية و بني العباس يستمد الملوك المعاصرون شرعيتهم و بقاءهم.

و من هنا أيضاً جاء تقديس الخلفاء الثلاثة و تفضيلهم و القول بعدالتهم و الدفاع عنهم، وعدم السماح بنقدهم أو التكلم فيهم، لأنهم أساس كل الحكومات التي وجدت وستوجد من يوم السقيفة إلى أن يرث الله الأرض و من عليها.

و يفهم على هذا الأساس أيضاً لماذا اختاروا لأنفسهم اسم "أهل السنة و الجماعة" و لغيرهم اسم الروافض أو الزنادقة لأن عليناً و أهل بيته (عليهم

الصفحة 270
السلام) و شيعته رفضوا خلافتهم ولم يبايعوهم و احتجوا عليهم في كل مناسبة، فعمل الحكام على انتقاصهم و تصغير شأنهم و تحقيرهم و سبهم و لعنهم و قتلهم و تشريدهم.

و إذا لقي أهل البيت الذين تعلق أجر الرسالة في القرآن بمودتهم هذه الإهانة و هذا التقتيل، فلا غرابة أن يلاقي شيعتهم و من والاهم و اهتدي بهديهم كل تنكيل و توهين و تحقير و تفكير. و يصبح المحق هو المنبوذ المعادي المتروك و يصبح المطل هو القدوة و السيى المحترم الذي تجب طاعته.

فالذي والى علياً و شايعه هو صاحب بدعة و فتنة، والذي والي معاوية و شايعه هو صاحب سنة و جماعة.

والحمى لله الذي وهبنا من العقل ما نميز به الحق من الباطل و النور من الظلمات و الأبيض من الأسود، إن ربي على صراط مستقيم «و ما يستوي الأعمي و البصير * و لا الظلمات ولا النور ولا الظل و لا الحرور * و ما يستوي الأحياء و لا الأموات * إن الله يسمع من يشاء و ما أنت بمسمع من في القبور» (فاطر: 22-19)

صدق الله العلي العظيم


الصفحة 271

الصحابة عند شيعة أهل البيت

و إذا بحثنا موضوع الصحابة بتجرد و بدون عواطف نجد أن الشيعة أنزلوهم بمنازل القرآن و السنة النبوية و ما أوجبه العقل، فلم يكفروهم بمجموعهم كما فعل الغلاة، و لم يقولوا بعد التهم جميعاً كما فعل "أهل السنة و الجماعة".

يقول الإمام شرف الدين الموسوي في هذا الموضوع: " إن من وقف علي رأينا في الصحابة علم أنه أوسط الآراء، إذ لم نفرط فيه تفريط الغلاة الذين كفروهم جميعاً، ولا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثقوهم جميعاً، فإن الكاملية و من كان في الغلو على شاكلتهم قالوا بكفر الصحابة كافة، و قال "أهل السنة" بعدالة كل فرد ممن سمع النبي أو رآه من المسلمين مطلقاً واحتجوا بحديث (كل من دب أو درج منهم أجمعين أكتعين).

أما نحن و إن كانت الصحبة بمجردها عندنا فضيلة جليلة لكنها بما هي من حيث هي غير عاصمة، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول و هم عظماؤهم و علماؤهم، و فيهم البغاة و فيهم أهل الجرائم من المنافقين، و فيهم مجهول الحال، فنحن نحتج بعد ولهم و نتولاهم في الدنيا و الآخرة.

أما البغاة على الوصي و أخي النبي صلى الله عليه وآله وسلم و سائر أهل الجرائم كابن هند و ابن النابغة و ابن الزرقاء و ابن عقبة و ابن أرطأة ز أمثالهم، فلا كرامة لهم ولا وزن لحديثهم، و مجهول الحال نتوقف فيه حتى نتبين أمره.

هذا رأينا في حملة الحديث من الصحابة، و الكتاب و السنة هما بينتنا على هذا الرأي كما هو مفصل في مظانه من أصول الفقه، لكن الجمهور بالغوا في تقديس

الصفحة 272
كل من يسمونه صحابياً حتى خرجوا عن الاعتدال فاحتجوا بالغث منهم والسمين، واقتدوا بكل مسلم سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رآه اقتداء أعمى، و أنكروا على من يخالفهم في هذا الغلو، و خرجوا في الإنكار على كل الحدود.

و ما أشد إنكارهم علينا حين يروننا نرد حديث كثير من الصحابة مصرحين بجرحهم أو بكونهم مجهولي الحال عملاً بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينية و البحث عن الصحيح من الآثار النبوية.

و بهذا ظنوا الظنون فاتهمونا بما اتهمونا رجماً بالغيب و تهافتاً علي الجهل، ولو ثابت إليهم أحلامهم و رجعوا إلي قواعد العلم لعلموا أن أصالة العدالة في الصحابة مما لا دليل عليها، ولو تدبروا القرآن الحكيم بوجوده مشحوناً بذكر المنافقين منهم و حسبك منه سورة التوبة و الأحزاب …" (إنتهى كلام شرف الدين).

و يقول الدكتور حامد حفني داود أستاذ كرسي الأدب العربي و رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس بالقاهرة: "أما الشيعة فيرون أن الصحابة كغيرهم تماماً لا فرق بينهم و بين من جاء بعدهم من المسلمين إلى يوم القيامة.

و ذلك من حيث خضوعهم لميزان واحد هو ميزان العدالة الذي توزن به أفعال الصحابة كما توزن به أفعال من جاء بعدهم من الأجيال و أن الصحبة لا تعطي بصاحبها منقبة إلا إذا كان أهلاً لهذه المنقبة و كان لديه الاستعداد نعموا برسالة صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم، و أن منهم المعصومين كالأئمة الذين نعموا بصحبة الرسولصلى الله عليه وآله وسلم كعلي وابنيه (عليهم السلام)

و منهم العدول و هم الذين أحسنوا الصحبة لعلي بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلي.

و منهم المجتهد المصيب، و منهم المجتهى المخطئ و منهم الفاسق، و منهم الزنديق، و هو أقبح من الفاسق و أشد نكالاً ويدخل في دائرة الزنديق المنافقون و الذين يعبدون الله علي حرف، كما أن منهم الكفار و هم الذين لم يتوبوا من نفاقهم و الذين ارتدوا بعد الإسلام.

الصفحة 273

و معنى هذا أن الشيعة - و هم شطر عظيم من أهل القبلة - يضعون جميع المسلمين في ميزان واحد ولا يفرقون بين صحابي و تابعي و متأخر، و أن الصحبة في ذاتها ليست حصانة يتحسن بها من درجة الاعتقاد.

و على هذا الأساس المتين أبا حوا لأنفسهم - اجتهاداً - نقد الصحابة و البحث في درجة عدالتهم، كما أبا حوا لأنفسهم الطعن في نفر من الصحابة أخلوا بشروط الصحبة و حادوا عن محبة أن محمدصلى الله عليه وآله وسلم.

كيف لا، وقد قال الرسول الأعظم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله و عترتي أل بيتي، و إنهما يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما".

و علي أساس من هذا الحديث و نحوه يرون أن كثيراً من الصحابة حالفوا هذا الحديث باضطهادهم لآل محمد، و لعنهم لبعض أفراد هذه العترة، و من ثم فكيف يستقيم لهؤلاء المخالفين شرف الصحبة، و كيف يوسموا بسمة العدالة؟!

ذلك هو خلاصة رأي الشيعة في نفي صفة العدالة عن بعض الصحابة و تلك هي الأسباب العلمية الواقعية بنوا عليها حججهم".

هذا و يعترف الدكتور حامد حنفي داود في موضع آخر بأن نقد الصحابة و تجريحهم ليس هو بدعاً من مسائل العقيدة، و لم يكتفوا فيما تعرضوا له بعامة الصحابة بل تعرضوا للخلفاء أنفسهم، و كان لهم في ذلك خصوم و مؤيدون.

و قد كان موضوع نقد الصحابة قرصراً - في القرون الأولى - علي الراسخين قي العلم و لخاصة علماء المعتزلة، و و سبقهم في هذا الاتجاه رؤوس الشيعة و زعماء المتعصبين لآل محمد.

و سبق أن أشرت في غير هذا الموضع أن علماء الكلام و شيوخ المعتزلة كانوا عالة على زعماء الشيعة منذ القرن الهجري الأول، و عليه فقضية نقد الصحابة إنما هي وليدة التشيع لآل محمد، و لكنها كانت وليدة التشيع، لا لذات التشيع،

الصفحة 274
بل لأن المنشيعين لأل محمد عرفوا بتبحرهم في علوم العقائد بسبب ما نهلوا من موارد أئمة أل البيت و هم المصدر الأصيل و المعين الفياض الذي نهلت منه الثقافات الإسلامية منذ صدر الإسلام إلى اليوم"(1) . إنتهى كلام الدكتور حامد داود.

و أنا أعتقد بأن الباحث عن الحقيقة لا بد له من فتح باب النقد و التجريح و إلا سيبقى محجوباً عنها، بالضبط "كأهل السنة و الجماعة" الذين بالغوا في القول بعدالة الصحابة و عدم البحث في أحوالهم فيقوا بعيدين عن الحق إلى يومنا هذا.

____________

(1) كتاب الصحابة في نظر الشيعة الإمامية صفحة 8 و ما بعدها.

الصفحة 275

الصحابة عند "أهل السنة و الجماعة"

أما "أهل السنة و الجماعة" فقد بالغوا قي تنزيه الصحابة، و القول بعدالتهم جميعاً بدون استثناء و خرجوا بذلك على حدود العقل و النقل عندما أنكروا على من ينتقد أحداً منهم أو يقول بعدم عدالته فضلاً عن تفسيقهم، و إليك طرفاً من أقوالهم لتعرف بعدهم عن مفاهيم القرآن و ما ثبت في السنة النبوية الصحيحة، و ما أثبته، و ما أثبته العقل والوجدان.

هذا الإمام النووي يقول في شرح صحيح مسلم: "إن الصحابة (رضي الله عنهم) كلهم هم صفوة الناس و سادات الأمة، و أفضل ممن بعدهم، و كلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم، و إنما جاء التخليط ممن بعدهم، و فيمن بعدهم كانت النخالة(1) .

و هذا يحيى بن معين يقول: كل من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم دجال يكتب عنه و لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين.(2)

و هذا يحيى بن معين يقول: كل من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دجال لا يكتب عنه و عليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين(3)

و هذا الذهبي يقول: من الكبائر سب أحد من الصحابة فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين و مرق من ملة المسلمين(4)

و سئل القاضي أبو يعلي عمن شتم أبا بكر؟ فقال: كافر، قيل فيصلى عليه؟

____________

(1) صحيح مسلم ج 8 ص 22

(2) تهذيب التهذيب ج 1 ص 509

(3) تهذيب التهذيب ج 1 ص 509

(4) كتاب الكبائر للذهبي ص 233 و 235

الصفحة 276

قال: لا فقيل كيف يصنع به و هو يشهد أن لا إله ألا الله؟ لا تسموه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته(1) .

و يقول الإمام أحمد بن حنبل: "خير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر، و عمر بعد أبي بكر، و عثمان بعد عمر، و علي بعد عثمان، و هم خلفاء راشدون مهديون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه و عقوبته ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه و يستتيبه، فإن تاب قبل منه، و إن ثبت أعاد عليه العقوبة و خلده في الحبس حتى يموت أو يراجع".

و قال الشيخ علاء الدين الطرابلسي الحنفيـ من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال و كفر، قتل، و إن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداُ.(2)

و ينقل الدكتور حامد حفني داود أقوال "أهل السنة و الجماعة" باختصار، فيقول: "يرى أهل السنة أن الصحابة كلهم عدول، و أنهم جميعاً مشتركون في العدالة و إن اختلفوا في درجاتها، و أن من كفر صحابياً فهو كافر، و من فسقه فهو فاسق، و أن من طعن في صحابي فكأنما طعن علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ويرى جهابذة أهل السنة أيضاً أنه يجوز الخوض فيما جرى بين علي (رضي الله عنه) و معاوية من أحداث التاريخ.

و أن من الصحابة من اجتهد و أصاب و هو علي و من نحا نحوه، و أن منهم من اجتهد و أخطأ مثل معاوية و عائشة (رضي الله عنها) و من نحا نحوهما، و أنه ينبغي - في نظر أهل السنة - الوقوف و الإمساك عند هذا الحكم دون التعرض لذكر المثالب. و نهوا عن سب معاوية باعتباره صحابياً، و شددوا النكير على من سب عائشة، باعتبارها أم المؤمنين الثانية بعد خديجة و باعتبارها جب رسول الله.

____________

(1) كتاب الصارم المسلول ص 275

(2) كتاب معين الحكام فيها يتردد بين الخصمين من الأحكام ص 187

الصفحة 277

و ما زاد على ذلك فينبغي ترك الخوض فيه و أرجاء أمره إلى الله سبحانه، و في ذلك يقول الحسن البصري و سعيد بن المسيب: "تلك أمور طهر الله منها أيدينا و سيوفنا فلنطهر منها ألسنتنا".

"هذه خلاصة آراء أهل السنة في عدالة الصحابة و فيما ينبغي أن تقف منهم"(1) . أنتهى كلامه.

و إذا أراد الباحث أن يتوسع في معرفة الصحابة و من المقصودون بهذا المصطلح على رأي "أهل السنة و الجماعة" فسيدرك بأنهم يعطون هذا الوسام الشرقي لكل من رأى النبي!

يقول البخاري في صحيحه: من صحب رسول الله ًصلى الله عليه وآله وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.

و يقول أحمد بن حنبل: أفضل الناس بعد صحابة الرسول من البدريين كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً، أو رآه، وله من الصحبة على قدر ما صحبه(2) .

و قال ابن حجر في كتاب "الإصابة قي تمييز الصحابة": طل من روي عن النبي حديثاً أو كلمة، أو رآه و هو مؤمن به فهو من الصحابة، و من لقي النبي مؤمناً به و مات علي الإسلام، طالت مجالسته معه أو صرت، روي عنه أولم يرو، غزا أولم يغز، من رآه و لم يجالسه و من لم يره لعارض"(3)

و الأغلبية الساحقة من "أهل السنة و الجماعة" يرون هذا الرأي و يعدون من الصحابة كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو ولد في حياته، و إن لم يدرك و لم يعفل، و ليس أدل علي ذلك من عدهم محمد بن أبي بكر من الصحابة و قد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و لمحمد بن أبي بكر من العمر ثلاثة أشهر فقط.

و لذلك نري ابن سعد يقسم الصحابة إلى خمس طبقات في كتابه المشهور بطبقات ابن سعد.

____________

(1) كتاب الصحابة في نظر الشيعة الإمامية ص 8 و 9

(2) الكفاية ص 51 و كتاب تلقيح فهوم أهل الآثار ص 2

(3) كتاب الإصابة لاين حجر ج 1 ص 10

الصفحة 278
    و هذا الحاكم النبسابوري صاحب كتاب "المستدرك" يجعلهم اثنتي عشره طبقة كالآتي:

الطبقة الأولي: هم الذين أسلموا بمكة قبل الهجرة كالخلفاء الراشدين.

الطبقة الثانية: هم الذين حضروا دار الندوة.

الطبقة الثالثة: هم الذين هاجروا إلي الحبشة.

الطبقة الرابعة: هم الذين حضروا العقبة الأولي.

الطبقة الخامسة: هم الذين حضروا العقبة الثانية.

الطبقة السادسة: هم الذين هاجروا للمدينة بعد هجرة الرسول إليها.

الطبقة السابعة: هم الذين شهدوا بدراً.

الطبقة الثامنة: هم الذين هاجروا بعد بدر و قبل الحديبية.

الطبقة التاسعة: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان.

الطبقة العاشرة: هم الذين هاجروا بعد الحديبية و قبل فتح مكه، أمثال خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و غيرهم.

الطبقة الحادية عشرة: هم الذين سماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطلقاء.

الطلقة الثانية عشرة: هم صبيان و أطفال الصحابة الذين ولدوا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمثال محمد بن أبي بكر.

"فأهل السنة و الجماعة" متفقون على عدالة الصحابة أجمعين و المذاهب و الأربعة يقبلون رواياتهم بدون تردد و لا يسمحون بنقدها ولا الطن فيها.

و ناهيك أن رجال الجرح و التعديل الذين أخذوا على أنفسهم نقد المحدثين والرواة لفرز الأحاديث و تنقيتها و لكنهم إذا وصلوا إلى الصحابي مهما كانت طبقته و مهما كان عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم يتوقفون عند ذلك ولا يطعنون بروايته مهما أثير حولها من شبهات و مهما تعارضت مع العقل و النقل، و يقولون بأن الصحابة لا يخضعون للنقد و التجريح و كلهم عدول!

الصفحة 279

و هذا لعمري تكلف ظاهر ينفر منه العقل و يشمئز منه الطبع ولا يقره العلم، ولا أعتقد بأن المثقفين من شباب يقبلون هذه البدع المضحكة.

و لست أدري ولا أحد يدري من أين استمد "أهل السنة و الجماعة" هذه الأفكار الغربية عن روح الإسلام الذي قال على الدليل العلمي و الحجة البالغة، و ليتني أعلم، و ليت واحداً منهم يقنعني بدليل واحد من كتاب أو سنة أو منطق على عدالة الصحابة المزعومة!

و لكننا بحمد الله عرفنا اللغز من تلك الآراء المزيفة و سنشرحها في الفصل القادم، فعلي الباحثين أن يكتشفوا بدورهم بعض الأسرار التي مازالت تنتظر الجرأة و الشجاعة.

الصفحة 280

فصل الخطاب في تقييم الأصحاب

لا شك أن الصحابة بشر غير معصومين عن الخطأ، و هم كسائر الناس العاديين يجب عليهم ما يجب على كل الناس و يحق لهم ما يحق لكل الناس، و إنما لهم فضل الصحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا احترموها و رعوها حق رعايتها، و إلا فإن العذاب يكون مضافاً لأن عدل الله سبحانه اقتضى أن لا يعذب البعيد القاضي كالقريب الداني، فليس الذي سمع من النبي مباشرة و رأى نور النبوة و شهد المعجزات و تيقن منها و حظي بتعاليم النبي نفسه، كمن عاش في زمن ما بعد النبي و لم يسمع منه مباشرة.

والعقل والوجدان يفضلان رجلاً يعيش في زماننا و يقيم علي احترام الكتاب و السنة و تنفيذ تعاليمهما، على صحابي عاش مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و صاحبه و لما يدخل الإيمان في قبله و أسلم استسلاماً أو صاحبه على البر والتقوى طيلة حياته ولكنه ارتد وانقلب بعد وفاته.

و هذا ما يقرره كتاب الله و سنة رسوله إضافة للعقل والوجدان و كل من له دراية بالقرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة، لا يرتاب في هذه الحقيقة و لا يجد عنها محيصاً.

و مثال ذلك قوله تعالى: "يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك علي الله يسيراً" (الأحزاب:" 30)

فالصحابة فيهم المؤمن الذي استكمل إيمانه، و فيهم ضعيف الإيمان، و فيهم الذي لم يدخل الإيمان قبله، و فيهم التقي الزاهد، و فيهم المتهور الذي لا يعرف

الصفحة 281
غير مصلحته، و فيهم العادل الكريم، و فيهم الظالم اللئليم، و فيهم أهل الحق المؤمنين، و فيهم البغاة الفاسقون، و فيهم العلماء العاملون، و فيهم الجهلة المبتدعون، و فيهم المخلصون و فيهم المنافقون و الناكثون و المارقون و المرتدون.

و إذا كان القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة و التاريخ أقروا هذه الأمور و أوضحوها بأجلى بيان، فيصبح قول "السنة و الجماعة" بأن الصحابة كلهم عدول قولاً هراء لا عبرة به ولا قيمة، لأنه يعارض القرآن و السنة و يعارض التاريخ و العقل والوجدان، فهو محض التعصب، و هو قول بلا دليل و كلام بلا منطق.

و قد يتعجب الباحث في هذه الأمور من عقيلة "أهل السنة و الجماعة" الذين يخالفون العقل و النقل و التاريخ.

ولكن عندما يقرأ الباحث الأدوار التي لعبها الأمويون و كذلك الأساليب التي اتبعها العباسيون لتركيز هذه العقيدة - أعني احترام الصحابة و عدم انتقادهم و القول بعدالتهم - يزول عجبه ولا يساوره أدني شك في أنهم إنما منعوا الحديث في الصحابة لكيلا يصل إليهم النقد و التجريح لأفعالهم الشنيعة التي ارتكبوها تجاه الإسلام و نبي الإسلام و الأمة الإسلامية.

و إذا كان أبو سفيان و معاوية و يزيد و عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و المغيرة بن شيعة و بسر بن أرطأة، كلهم من الصحابة و قد تولوا أمارة المؤمنين و حكموهم، فكيف لا يمنعون الخوض في نقد الصحابة، و كيف لا يختلقون لهم روايات مكذوبة تقول بعدالتهم جميعاً لكي تشملهم تلك الفضائل، ولا يتجرأ أحد على نقدهم أو ذكر أفعالهم.

و من يفعل ذلك من المسلمين يسموه كافراً و زنديقاً و يفتوا بقتله و عدم تغسيله و تكفينه، و إنما يدفع بخشبة حتى يواري في حفرته - كما تقدم ذكره - و كانوا إذا أرادوا قتل الشيعة، اتهموهم بست الصحابة، و معني سب الصحابة عندهم، هو نقدهم و تجريحهم فيما فعلوه، و هذه وحده يكفي للقتل و التنكيل.

بل وصل الحد إلى أبعد من ذلك، و يكفي أن يتساءل أحد عن مفهوم الحديث حتى يلاقي حتفه، فإليك الدليل:

الصفحة 282

أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال: ذكر عند هارون الرشيد حديث أبي هريرة: إن موسى لقي آدم فقال له: أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنة؟ فقال رجل قرشي كان في المجلس: أين لقي آدم موسى؟! فغضب الرشيد و قال: النطع والسيف، زنديق يطعن في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1)

و إذا كان هذا الرجل بلا شك من الأعيان، لأنه يحضر مجلس الرشيد يلاقي الموت بقطع رأسه بالسيف لمجرد تساؤله عن المكان الذي لقي فيه آدم موسى.

فلا تسأل عن الشيعي الذي يقول بأن أبا هريرة كذاب، استناداً لتكذيب الصحابة له و على رأسهم عمر بن الخطاب. و من هنا يفهم الباحث كل التناقضات التي جاءت في الأحاديث و المنكرات و المستحيلات و الكفر الصريح. و مع ذلك سجلت بأنها صحيحة و ألبست ثوب القداسة و التنزيه.

كل ذلك لأن النقد و التجريح كانا ممنوعين و يجران إلي الموت و الهلاك. بل إن الذي يتساءل عن بعض المعاني ليصل إلي الحقيقة و يشتم منه رائحة التفتيش و التنقيب فهو مقتول لا محالة ليكون مثالاً لغيره، فلا يجرؤ أحد بعده أن يتكلم.

و قد موهوا على الناس بأن الذي يطعن في حديث أبي هريرة أو أحد الصحابة حتى العاديين منهم، بأنه طعن على رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم، و بذلك وضعوا هالة على الأحاديث الموضوعة التي اختلقها بعض الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأصبحت من المسلمات.

و كنت كثيراً ما أحتج على بعض علمائنا بأن الصحابة لم يكن عندهم هذا التقديس بل كانوا أنفسهم يشككون في حديث بعضهم إذا تعارض حديثه بما يخالف القرآن، و بأن عمر بن الخطاب ضرب أبا هريرة بالدرة و نهاه عن الحديث و اتهمه بالكذب إلي غير ذلك، فكانوا يردون علي دائماً بأن الصحابة من حقهم أن يقولوا في بعضهم ما شاؤوا، أما نحن فلسنا في مستواهم حتى نرد عليهم أو ننتقدهم.

أقول: يا عباد الله، إنهم تقاتلوا و كفر بعضهم بعضاً و قتل بعضهم بعضاً؟!

____________

(1) تاريخ بغداد ج 14 ص 7

الصفحة 283

يقولون: كلهم مجتهدون للمصيب منهم أجران و للمخطئ أجر واحد، و ليس لنا نحن أن نخوض في شؤونهم.

و من المؤكد أن هؤلاء ورثوا هذه العقيدة من آبائهم و أجدادهم سلفاً عن خلف فهم يرددونها ترديد الببغاء بدون تدبر ولا تمحيص.

و إذا كان إمامهم الغزالي نفسه قد اتخذ هذا الرأي وبثه في الناس فأصبح بذلك حجة الإسلام و المسلمين، فقد قال في كتابه "المستصفي": "والذي عليه السلف و جماهير الخلف أن عدالة الصحابة معلومة بتعديل الله عز و جل إياهم و ثنائه عليهم في كتابه، و هو معتقدنا فيهم".

و أنا أتعجب من الغزالي و من "أهل السنة و الجماعة" عموماً على استدلالهم بالقرآن على عدالة الصحابة، و ليس في القرآن أية واحدة تدل على ذلك، بل في القرآن آيات كثيرة تنفي عدالتهم و تفضح سرائرهم و تكشف نفاقهم.

و قد أفردنا فصلاً كاملاً لهذا الموضوع في كتابنا "فاسألوا أهل الذكر" من صفحة 113 إلي 127 فمن أراد مزيد البحث و الوقوف على تلك الحقائق، فليرجع للكتاب المذكور ليعرف قول الله و قول الرسول فيهم. ولكي يعرف الباحث بأن الصحابة لم يكونوا يحلمون يوماً بالمنزلة التي اخترعها لهم "أهل السنة و الجماعة" فما عليه إلا قراءة كتب الحديث و كتب التاريخ التي طفحت بأفعالهم الشنيعة و تفكير بعضهم، و كيف أن الكثير منهم كان يشك في نفسه إن كان من المنافقين.

فها هو البخاري يخرج في صحيح بأن ابن مليكة أدرك ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه و ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبرئل.(1)

وها هو الغزالي نفسه يخرج في كتابه بأن عمر بن الخطاب كان يسأل حذيفة بن اليمان إن كان رسول الله سماه في جملة المنافقين الذين أعلمه بأسمائهم(2)

____________

(1) صحيح البخاري ج 1 ص 17

(2) إحياء علوم الدين للغزالي ج 1 ص 129 و كنز العمال، ج 7 ص 24

الصفحة 284

ولا عبرة لقول من يقول بأن المنافقين ليسوا من الصحابة إذا عرفنا أن المصطلح الذي اتفقوا عليه هو ما سمعناه آنفاً أن كل من رأى رسول الله مؤمناً به فهو صحابي حتى لو لم يجالسه.

و قولهم: مؤمناً به، فيه أيضاً تكلف، لأن كل الذين صاحبوا النبي نطقوا بالشهادتين، و قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ذلك الإسلام الظاهري و قال: "أمرت أن أحكم بالظاهر و الله يتولى السرائر" و لم يقل في حياته لواحد منهم: أنت منافق فلا أقبل منك إسلامك!

و لذلك أيضاً نجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمي المنافقين - بـ "أصحابي" - و هو يعلم نفاقهم، و إليك الدليل:

أخرج البخاري بأن عمر بن الخطاب طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يضرب عنق عبدالله بن أبي المنافق فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعه لا يتحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه.(1)

و قد يحاول بعض العلماء من "أهل السنة و الجماعة" إقناعنا بأن المنافقين كانوا معروفين فلا نخلطهم بالصحابة، و هذا أمر مستحيل لا سبيل إليه، بل منافقون هم من جملة الصحابة الذين لا يعلم خفاياهم إلا الله سبحانه، و قد كانوا يصلون و يصومون و يعبدون الله و يتقربون إلي النبي بكل الوسائل. و إليك الدليل:

أخرج البخاري في صحيحه بأن عمر بن الخطاب طلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة أخري أن يأذن به بضرب عنق ذي الخويصرة عندما قال النبي: أعدل! ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.(2)

و لست مبالغاً إذا قلت بأن أكثرية الصحابة لم يكونوا بعيدين عن النفاق بما

____________

(1) صحيح البخاري ج 6 ص 65، كتاب فضائل القرآن سورة المنافقين، و تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 97

(2) صحيح البخاري ج 4 ص 179

الصفحة 285
قرره كتاب الله في العديد من الآيات و بما قرره رسول الله في العديد من الأحاديث. فمن كتاب الله قوله تعالى: «بل جاءهم بالحق و أكثر هم للحق كارهون» (المؤمنون: 70)، و قوله «الأعراب أشد كفراً و نفاقاً» (التوبة: 97)، و قوله «و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم» (التوبة: 101)، و قوله «و ممن حولكم من الأعراب منافقون» (التوبة: 101)

و تجدر الإشارة بأن بعض العلماء من "أهل السنة و الجماعة" يحاولون جهدهم تغطية الحقائق، فيفسرون "الأعراب" بأنهم ليسوا من الصحابة، و إنما هم سكان البادية من أطراف الجزيرة العربية.

و لكننا وجدنا عمر بن الخطاب عندما أشرف على الموت أوصى إلى الخليفة من بعده قائلاً: و أوصيه بالأعراب خيراً فإنهم أصل العرب و مادة الإسلام(1)

فإذا كان أهل العرب و مادة الإسلام هم أشد كفراً و نفاقاً و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله و الله عليهم حكيم، فلا قيمة لقول "أهل السنة و الجماعة" بأن الصحابة كلهم عدول.

و لمزيد البيان، و حتى يتحدث الباحث بأن الأعراب هم أنفسهم عامة الصحابة، فقد جاء في القرآن الكريم بعد ذكر الأعراب أشد كفراً و نفاقاً، قال سبحانه: "و من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر و يتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيد خلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم" (التوبة: 99)

أما ما قرره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنة النبوبة الشريفة فقوله: يؤخذ بأصحابي إلى النار، فأقول: يا رب هؤلاء أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقاً من بدل بعدي ولا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم(2) . إلى أحاديث أخري كثيرة ضربنا عنها صفحاً من أجل الاختصار، و ليس هدفنا

____________

(1) صحيح البخاري ج 4 ص 206

(2) صحيح البخاري ج 7 ص 209 باب الحوض.