الصفحة 56
والسند، وما لا يتعارض مع القرآن والعقل.

أمّا أهل السنّة والجماعة فقد ألزموا أنفسهم بكتب سمّوها الصحّاح الستّة باعتبار أنّ كلّ ما فيها صحيح، وأغلبهم يتناقلون هذا الرأي بالوراثة بدون بحث ولا تمحيص، وإلاّ فإنّ كثيراً من الأحاديث التي رُويتْ في هذه الكتب لا تقومُ على دليل علمي، وفيها الكفرُ الصريح، وبما يتناقض والقرآن، وأخلاق الرسول وأفعاله والحطّ من كرامته.

ويكفي الباحث أن يقرأ كتاب الشيخ المصري محمود أبو رية "أضواء على السنّة المحمدية" ليعرف ما هي قيمة الصحاح الستّة.

والحمد لله فإنّ كثيراً من الشباب الباحث اليوم تحرّر من تلك القيود، وأصبح يُفرّق بين الغث والثمين، بل حتّى الشيوخ المتعصّبين للصحّاح أصبح الكثير منهم اليوم يُنكرها، لا لأنّه ثبت لديه ضعف بعض الأحاديث فيها، ولكن لأنّه وجد فيها حجّة الشيعة التي يقولون بها سواء في الأحكام الفقهية أو في العقائد الغيبيّة، فما من حُكم أو عقيدة يقول بها الشيعة إلاّ ولها وجودٌ فعلي في أحد الصحاح الستّ لدى أهل السنّة والجماعة.

وبالمقابل قال لي بعض المتعصّبين: ما دُمتم تعتقدون بأنّ أحاديث البخاري ليست صحيحة، فلماذا تحتجّون بها عليَنا؟

أجبت: ليس كلّ ما في البخاري صحيح، وليس كلّ ما فيه مكذوب، فالحقّ حقّ والباطل باطل، وعلينا أن نُغربل ونصفّي(1).

____________

1- مضافاً إلى أن أُسلوب المناظرة والاحتجاج يقتضي الإتيان بالمشتركات، وما يؤمن الخصم به، فإذا كان مؤمناً بصحيح البخاري، وكان في البخاري ما يؤكّد عقيدة الشيعة ـ مثلا ـ ويدعمها فالاحتجاج به يكون أفضل وأكمل والزام للخصم بما ألزم به نفسه. وهذا الإشكال لا يورده إلاّ المبتدئ الذي لم يسمع بالحوار والاستدلال، أو المتعصب الذي أعماه حب الهوى فأصم سمعه وبصره.


الصفحة 57
قال: هل عندك مِجْهرٌ خاصّ تعرف به الصحيح من المكذوب؟

قلت: ليس عندي أكثر ممّا عندك، ولكن ما اتفق عليه السنّة والشيعة فهو صحيح; لأنّه ثبتت صحّته عند الطرفين، ونُلزمهم به كما ألْزموا أنفسهم، وما اختلفوا فيه حتّى لو كان صحيحاً عند أحدهم فلا يُلزمُ الطرف الثاني بقبوله، كما لا يُلزمُ الباحث الحيادي قبوله والاحتجاج به لأنّه دورىٌ.

وأضربُ لذلك مثلا واحداً حتّى لا يبقى هناك إشكال في هذا الموضوع، وحتّى لا يعاد نفس الانتقاد بأساليب متعدّدة:

يدّعي الشيعة بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّب عليّاً خليفة للمسلمين في غدير خم يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجّة بعد حجّة الوداع وقال بالمناسبة:

"من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه"(1). فهذه الحادثة وهذا الحديث نقله كثير من علماء أهل السنّة

____________

1- حديث الغدير حديث ثابت صحيح متواتر، نصّ على صحته وتواتره أعلام القوم، وقد أخرجه أكثر المحدّثين وأرباب التصانيف، راجع على سبيل المثال: مسند أحمد 1: 118، المستدرك للحاكم 3: 371، مجمع الزوائد 9: 103، المصنف لابن أبي شيبة 7: 499 ح28، السنن الكبرى للنسائي 5: 132 ح8473، صحيح ابن حبان 15: 376.

وأخرجه الشيخ الألباني في صحيحته 4: 330 ح1750، وأثبت صحة الحديث وتواتره، وردّ على شيخ السلفية ابن تيمية المتسرع في الطعن بأحاديث فضائل أهل البيت من دون نظر في طرق ورأي العلماء فيها.


الصفحة 58
والجماعة في صحاحهم ومسانيدهم وتواريخهم، فيمكن للشيعة عندئذ أن يحتجّوا به على أهل السنّة والجماعة.

ويدّعي أهل السنّة والجماعة بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عيّن أبا بكر ليُصلّي بالنّاس في مرض موته، وقال بالمناسبة: "ويأبى الله ورسولَه والمؤمنون إلاّ أبا بكر"(1).

فهذه الحادثة وهذا الحديث لا وجـود له في كتب الشيعة، وإنّما يروون بأنّ رسول الله بعث إلى علىّ، فبعثت عائشة إلى أبيها ولمّا عرف رسول الله ذلك قال لعائشة: "إنكنّ لصويحبات يوسف"(2)وخرج هو ليصلّي بالنّاس وزحزح أبا بكر.

فلايمكن وليس من الإنصاف أن يحتجّ أهل السنّة والجماعة على الشيعة بما انفردوا هم به، وخصوصاً إذا كانت الروايات متناقضة ويكذّبها الواقع والتاريخ; لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عيّنَ أبا بكر ليكون ضمن جيش أُسامة، وتحت امرته وقيادته، ومن المعلوم أنّ أمير الجيش في السّرية هو إمام الصّلاة.

وقد ثبت تاريخياً بأنّ أبا بكر لم يكن موجوداً في المدينة عند وفاة الرّسول، وكان بالسّنح يتجهّز للخروج مع أميره وقائده أُسامة بن زيد الذي لم يبلغ من العمر إلاّ سبعة عشر عاماً، فكيف والحال هذه يمكن لنا أن نصدّق بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عيّنه لإمامة الصّلاة؟ اللّهم إلاّ إذا صدّقْنا بقول

____________

1- أورده ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 11: 49 وقال: "إنّهم وضعوه في مقابل الحديث المروي عنه في مرضه: ائتوني بدواة وكتف...".

2- الصراط المستقيم للبياضي 3: 134.


الصفحة 59
عمر بن الخطاب بأنّ رسول الله يهجر ولا يدرِ ما يفعل ولا ما يقول، وهذا أمرٌ لا سبيل إليه، فهو مستحيلٌ ولا يقول به الشيعة.

فعلى الباحث هنا أن يتقي الله في بحثه، ولا تأخذه العاطفة فيميل عن الحقّ، ويتّبع الهوى فيضلّ عن سبيل الله، إنّما واجبُه أن يخضع للحقّ ولو كان الحقّ مع غيره، ويحرّر نفسه من الرّواسب والعواطف والأنانيّة، فيكون من الذين امتدحهم الله عزّ وجلّ في قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَاُوْلَئِكَ هُمْ اُوْلُوا الألْبَابِ}(1).

فليس من المعقول إذاً أنْ يقول اليهود: إنّ الحقّ عندنا، ويقول النّصارى: إنّ الحقّ عندنا، ويقول المسلمون: إنّ الحقّ عندنا، وهم مختلفون في العقائد والأحكام!

فلا بدّ للباحث أنْ يُمحّص أقوال الديانات الثلاثة، ويقارن بعضها ببعض حتّى يتبيّن له الحقّ.

وليس من المعقول أيضاً أن يقول أهل السنّة بأنّ الحقّ معهم، ويقول الشيعة بل الحقّ عندهم وحدهم، وهم يختلفون في بعض المفاهيم والأحكام، فالحقّ واحدٌ لا يتجزأ.

فلا بدّ للباحث أن يتجرّد ويُمحّص أيضاً أقوال الطّرفين، ويقارن بعضها ببعض، ويُحَكِّمَ عقلَهُ حتّى يتبيّن له الحقّ، وذلك هو نداء الله سبحانه لكلّ فرقة تدّعي الحقّ; إذ يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}(2).

____________

1- الزمر: 17 ـ 18.

2- البقرة: 111.


الصفحة 60
فليست الأكثرية بدالّة على الحقّ، بل العكس هو الصّحيح، قال تعالى: {وَإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّـوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ}(1).

وقال أيضاً: {وَمَا أكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}(2).

مثلما أنّ التقدّم الحضاري والتكنولوجي والثّراء ليس دليلا على أنّ الغرب على حقّ والشرق على باطل قال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}(3).

قول أهل الذكر في الله تعالى

يقول الإمام علي (عليه السلام): "الحمد لله الّذي بطن خفيات الأُمور، ودلّتْ عليه أعلام الظهور، وامتنع على عين البصير، فلا عينُ من لم يره تُنكرهُ، ولا قلبُ من أثبتَهُ يبصره، سبقَ في العلوِّ فلا شيء أعلى منه، وقرُبَ في الدُنوِّ فلا شيء أقربُ منه، فلا استعلاؤه بَاعدَهُ عن شيء من خلقِه، ولا قُربُه سَاواهم في المكان بِهِ.

لم يُطلع العقولَ على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجِبِ معرفِتِه، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرارِ قلب ذي الجحود، تعالى الله عمّا يقول المشبّهونَ به والجاحدونَ له علوّاً كبيراً"(4).

"والحمد لله الذي لم تسبق له حالٌ حالا، فيكون أوَّلا قبل أن يكون

____________

1- الأنعام: 116.

2- يوسف: 103.

3- التوبة: 55.

4- نهج البلاغة 1: 99، الخطبة: 49.


الصفحة 61
آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل، وكلُّ عزيز غيره ذليل، وكل قوىّ غيره ضعيف، وكلّ مالك غيره مملوك، وكلّ عالم غيره متعلّمٌ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجزُ، وكلّ سميع غيره يصَمُّ عن لطيف الأصواتِ ويُصمُّهُ كبيرها، ويذهبُ عنه ما بعدَ منها، وكلّ بصير غيرُه يعمى عن خفىّ الألوانِ ولطيف الأجْسام، وكلّ ظاهر غيره باطن، وكلّ باطن غيره ظاهر.

لم يخلق ما خلقَه لتشديد سلطان، ولا تخوّف من عواقب زمان، ولا استعانة على ندّ مثاور، ولا شريك مكاثر ولا ضدّ مُنافر، ولكن خلائق مربوبون، وعباد داخرون.

لم يحلل في الأشياء فيقال: هو فيها كائن، ولم ينأَ عنها فيقالُ: هو منها بائنٌ، لم يؤُدْهُ خلقُ ما ابتدأ ولا تدبير ما ذرأَ، ولا وقفَ به عجزٌ عمّا خلق، ولا ولجتْ عليه شبهة فيما قضى وقدّر، بل قضاءٌ متقنٌ، وعلمٌ محكمٌ، وأمرٌ مبرمٌ، المأمول مع النِّقم، والمرهوبُ مع النِّعَم"(1).

"ليس لأوليته ابتداءٌ، ولا لأزليته انقضاء، هو الأوّل ولم يزلْ، والباقي بلا أجل، خرّتْ له الجباه، ووحّدتْهُ الشفاهُ، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانَة له من شبهها لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والأدوات، لا يقالُ له: متى، ولا يضربُ له أمدٌ بحتّى. الظاهرُ لا يقالُ ممَّ، والباطن لا يقالُ فيم، لا شبحٌ فيتقصّى، ولا محجوبٌ فيحوَى... تعالى عمّا ينحلهُ المحدّدون من صفاتِ الأقدار، ونهايات الأقطارِ، وتأثّل المساكنِ، وتمكّن الأماكن،

____________

1- نهج البلاغة 1: 114، الخطبة: 65.


الصفحة 62
فالحدّ لخلقه مضروبٌ وإلى غيره منسوبٌ.

لم يخلق الأشياء من أُصول أزلية، ولا من أوائل أبدية، بل خلق ما خلق فأقام حدّه، وصوّر ما صوّر فأحسنَ صورتَهُ، ليس لشيء منه امتناع، ولا له بطاعة شيء انتفاعٌ، علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين، وعلمه بما في السماوات العُلَى كعلمِهِ بما في الأرضينَ السفْلى"(1).

____________

1- نهج البلاغة 2: 66، الخطبة: 163.


الصفحة 63

الفصل الثاني
في ما يتعلّق بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)


السؤال الثالث: حول عصمة الرَسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

يقول الله سبحانه وتعالى في حقّ نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).

وقال أيضاً: {وَمَا يَـنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى}(2).

وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(3).

وتدلّ هذه الآيات دلالة واضحة على عصمته المطلقة في كلّ شيء، وتَقُولون بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم فقط في تبليغ القرآن(4)، وما عدا ذلك

____________

1- المائدة: 67.

2- النجم: 3 ـ 4.

3- الحشر: 7.

4- لا يقال: إنّ أهل السنّة يعتقدون بعصمة النبي (صلى الله عليه وآله) في تبليغ السنّة والقرآن معاً، فإنّه يقال: نعم، هذا هو معتقدكم عند التنظير، ولكن الواقع العملي وتبريركم ودفاعكم عن الخليفة الثاني عندما نسب النبي (صلى الله عليه وآله) بالهجر ـ كما أقرّه ابن تيمية في منهاج السنة 6: 24 و315 وغيره ـ يخالف ذلك التنظير ويردّه، إذ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يتحف الأُمة بشيء هام جداً يعصمهم من الضلالة، ولكن اعتقاد الخليفة واعتقاد من يبرّر عمله بعدم عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) في تبليغ السنّة، حرم الأُمة الإسلامية منها، فكيف يجرأون بعد هذا التفوّه بعصمته (صلى الله عليه وآله) في تبليغ الرسالة؟!


الصفحة 64
فهو كسائر البشر يُخطِىءُ ويُصيب، وتستدلّون على خطئه في عدّة مناسبات بأحداث تروونها في صحاحكم!

فإذا كان الأمر كذلك، فما هي حجّتكم وما هو دليلكم في ادّعائكم التمسّك بكتاب الله وسنّة نبيّه، ما دامت هذه السنّة عندكم غير معصومة، ويمكن فيها الخطأ؟

وعلى هذا الأساس فالمتمسّك بالكتاب والسنّة على حسب معتقداتكم لا يأمن من الضلالة، وخصوصاً إذا عرفنا بأنّ القرآن كُلّه مفسَّرٌ ومُبَيّنٌ بالسنّة النبويّة، فما هي حجّتكم في أنّ تفسيره وتبيانه لم يكن مخالفاً لكتاب الله تعالى؟

قال لي أحَدهُم معبّراً عن هذا الرأي: لقد خالف الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن في كثير من الأحكام حسب ما تقتضيه المصلحة.

قلتُ متعجّباً: أعطني مثلا واحداً على مخالفته.

أجاب: يقول القرآن: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة}(1)، بينما حكم الرّسول على الزاني والزانية بالرّجم، وهو غير موجود في القرآن.

قلت: إنّما الرّجم على المحصن إذا زنى، ذكراً كان أم أنثى، والجلد على الأعزب إذا زنى، ذكراً كان أم أنثى.

قال: في القرآن ليس هناك أعزب أو مُحصن; لأنّ الله لم يخصّص بل

____________

1- النور: 2.


الصفحة 65
أطلق لفظ الزانية والزاني بدون تخصيص.

قلت: إذاً على هذا الأساس فكلّ حكم مطلق في القرآن خصّصه الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مخالفٌ للقرآن؟ فأنتَ تقول بأن الرّسول خالف القرآن في أكثر أحكامه؟

أجاب متحرّجاً: القرآن وحده معصوم; لأنّ الله تكفّل بحفظه، أمّا الرّسول فهو بشر يخطىء ويصيب، كما قال القرآن في حقّه: {قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}(1).

قلتُ: فلماذا تُصلّي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقد أطلق القرآن لفظ الصّلاة بدون تخصيص لأوقاتها؟

أجاب: القرآن فيه: {إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}(2)والرّسول هو الذي بيّن أوقات الصلاة.

قلت: فلماذا تُصدّقْه في أوقات الصّلاة، وتردّ عليه في حكم رجم الزاني؟

وحاول جهده أن يُقنعني بفلسفات عقيمة متناقضة لا تقوم على دليل عقلي ولا منطقي كقوله: بأنّ الصّلاة لا يمكن الشكّ فيها; لأنّ رسول الله فعلها طيلة حياته، وفي كلّ يوم خمس مرّات، أمّا الرّجم فلا يمكن الاطمئنان إليه; لأنّه لم يفعله في حياته غير مرّة أو مرّتين.

وكقوله بأنّ الرّسول لا يُخطئ عندما يأمره الله بأمره، أمّا عندما يحكمُ بفكره فهو ليس معصوم، ولذلك كان الصّحابة يسألونه في كلّ أمر: هل هو

____________

1- الكهف: 110.

2- النساء: 103.


الصفحة 66
من عنده أم من عند الله؟ فإذا قال: هو من عند الله، امتثلوا بدون نقاش، وإذا قال: هو من عندي، عند ذلك يُناقشونه ويجادلونه وينصحونه، ويتقبّل نصائحهم وآراءهم، وقد ينزل القرآن أحياناً موافقاً لآراء بعض الصّحابة ومُخالفاً لرأيه، كما في قضيّة أسرى بدر، وقضايا أُخرى مشهورة.

وحاولتُ بدوري إقناعهُ ولكن بدون جدوى; لأنّ علماء أهل السنّة والجماعة مقتنعون بذلك، وصحاحُهم مشحونةٌ بمثل هذه الرّوايات التي تَخدِش في عصمة الرّسول، وتجعل منه شخصاً أقلّ مستوى من الرّجل الذكي، أو القائد العسكري، أو حتى شيخ الطريقة عند الصوفية.

ولست مبالغاً إذا قلت: أقلَّ مستوى حتى من الرجل العادي، فإذا ما قرأنا بعض الرّوايات في صحاح أهل السنّة والجماعة، يتبينُ لنا بوضوح إلى أيّ مدى وصل التأثير الأموي في عقول المسلمين من عهدهم، وبقيتْ آثاره حتى يوم الناس هذا.

وإذا ما بحثنا الغرض أو الهدف من ذلك، فسوف نخرجُ بنتيجة حتمية ومُرّة، ألا وهي: إنّ أُولئك الّذين حكموا المسلمين في عهد الدولة الأموية، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، لم يعتقدوا يوماً من الأيّام بأنّ محمّداً ابن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو مبعوث برسالة من عند الله أو هو نبىّ الله حقّاً.

وأغلب الظن أنّهم كانوا يعتقدون بأنّه كان سَاحِراً(1)، وقد تغلّب على

____________

1- قال الدكتور الرحيلي في كتابه "الانتصار للصحب والآل" ص175 تعليقاً

=>


الصفحة 67

____________

<=

على كلام المؤلف: "فهذا حكم خطير على المسلمين الذين جاءوا بعد الخلفاء الراشدين واستغرق حكمهم جلّ قرن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو خير القرون، والثلث الأوّل من القرن المفضل الثاني.. واشتهر من أخبارهم في العدل والتقوى والصلاح بين الأُمّة.. خصوصاً ما ثبت من ذلك في حق الصحابي الجليل معاوية ابن أبي سفيان!!".

وهذا الكلام لا يتفّوه إلاّ من أُشرب حبّ البيت الأموي، ورضع من بقاياه من أهل النصب، فأيّ جلالة لمعاوية؟ وأيّ عدل قام به؟ وأيّ تقوى فعلها؟

فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه" ولهذا الحديث عدّة طرق:

1 ـ رواه جماعة من الثقات عن علي بن زيد بن جد عان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري (تاريخ ابن عساكر 59/155 ـ 156).

2 ـ روي عن ابن مسعود من أربعة طرق (ابن حبان في المجروحين 2/172، وابن عدي في الكامل 2/209، الذهبي في سير أعلام النبلاء 3/149).

وهناك طرق أُخرى للحديث وبعضها قوّي صحيح الإسناد.

وورد في حقّ معاوية أيضاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "لعن الله الراكب والقائد والسائق" ولهذا الحديث طرق عديدة وهو صحيح، وارجع إلى مسند البزار 9/286، أنساب الأشراف 129، المعجم الكبير للطبراني 3/71، وابن عساكر في تاريخ دمشق 59/204، وهناك طرق أخرى كثيرة.

وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّ معاوية قوله: "يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت على غير ملّتي" قال: وكنت تركت أبي قد وضع له وضوء، فكنت كحابس البول، مخافة أن يجي، قال: فطلع معاوية! فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "هذا هو".

كتاب البلاذري 2/449، وقعة صفين لنصر بن مزاحم: 217.

إلى غير ذلك من الروايات الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّ معاوية وبني أُمية، مضافاً إلى وصفه بالباغي على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث "عمّار تقتله الفئة

=>


الصفحة 68
النّاس وشيّد ملكه على حساب المستضعفين من النّاس، وبالخصوص العبيد الذين أيّدوا دعوته وناصروه.

وليس هذا مجرّد ظنّ فإنّ بعض الظنّ إثم، ولكن عندما نقرأ في كتب التاريخ لنتعرف على شخصيّة معاوية وأحواله، وما فعله طيلة حياته خصوصاً مدّة حُكمه فالظنّ يصبحُ حقيقة لا مفرَّ منها.

فكلّنا يعرفُ من هو معاوية، ومن هو أبوه أبو سفيان، ومن هي أمّهُ هند، فهو الطّليق ابن الطّليق الذي قضى شبابه في رحاب أبيه، وفي تعبئة الجيوش لمحاربة رسول الله والقضاء على دعوته بكلّ جهوده، حتّى إذا ما فشلت جميع محاولاته، وتغلّب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه وعلى أبيه استسلم للأمر الواقع في غير قناعة، ولكن الرّسول لكرمه ولعظمة خُلقه عفى عنه وسمّاه الطّليق.

وبعد موت صاحب الرسالة حاول أبوه إثارة الفتنة والقضاء على الإسلام، وذلك عندما جاء في اللّيل للإمام علىّ يحرّضه على الثورة ضد أبي بكر وعمر، ويمنّيه بالمال والرجال، ولكن الإمام علي سلام الله عليه عرف قصده

____________

<=

الباغية يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار" والحديث أخرجه البخاري 4: 27 في كتاب الصلح، والترمذي في المناقب 2773 وقال عنه: "حسن صحيح".

فمعاوية ملعون، ومستحقّ للقتل، وهو من البغاة الّذين يدعون إلى النار، وممّن لم يسلم ويدخل الايمان قلبه..كلّ هذه الأوصاف قالها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّ معاوية بن أبي سفيان، فكيف يتجرّأ الدكتور الرحيلي ويقول: انّه صحابي جليل عادل متقي؟!! أليس هذا ردّاً على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحكيم الأهواء الأموية على الأحاديث النبوية؟!

وهذا يدلّل على أنّ عصر الطلقاء لم ينته بعد، وإنّما هناك طلقاء في كل مكان وزمان يتقوّلون على الله ورسوله بما تمليه عليهم الأهواء وأصحاب المطامع.


الصفحة 69
فطرده، وبقي يعيش حاقداً على الإسلام والمسلمين طيلة حياته حتى آلت الخلافة إلى ابن عمّه عثمان، عند ذلك أظهر ما في نفسه من كفر ونفاق، فقال: "تلقّفوها تلقّف الكرة يا بني أُمية، فوالذي يحلف به أبو سفيان ليس هناك جنّة ولا نار"(1).

وأخرج ابن عساكر في تاريخه من الجزء السادس في صفحة 407 عن أنس: أنّ أبا سفيان دخل على عثمان بعدما عمي فقال: هل هنا أحد؟ فقالوا: لا. فقال: اللّهم اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أميّة(2).

وأما ابنهُ معاوية وما أدراك ما معاوية، فحدّث ولا حرج، وما فعله بأُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة ولايته في الشّام، ثمّ بعد تسلّطه على الخلافة بالقهر والقوة، وما ذكره المؤرّخون من هتكه للقرآن والسنّة، وتعدّيه كلّ الحدود التي رسمتها الشريعة، والأعمال التي يتنزّه القلم عن كتابتها، واللّسان عن ذكرها لقُبحها وفحشها، وقد ضربنا عنها صفحاً مُراعاةً لعواطف إخواننا من أهل السنّة والجماعة، والذين أشربوا في قلوبهم حبّ معاوية والدفاع عنه.

ولكن لا يفوتنا أن نذكر هنا نفسيات الرجل، وعقيدته في صاحب الرسالة، فهي لا تبعد عن عقيدة أبيه، وقد رضعها من حليب أُمّه آكلة

____________

1- تاريخ الطبري 8: 185، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 53.

2- تاريخ دمشق 23: 471، وفي كتاب النزاع والتخاصم للمقريزي: 31 قال: "إنّ أبا سفيان دخل على عثمان رضي الله عنه حين صارت الخلافة إليه فقال: قد صارت إليك بعد تيم وعدي فادرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أُمية، فإنّما هو الملك، ولا أدري ما جنّة ولا نار ".


الصفحة 70
الأكباد، والمشهورة بالعهر والفجور(1)، كما ورثها عن أبيه شيخ المنافقين

____________

1- قال الزمخشري في ربيع الأبرار 3: 551 باب القرابات والنسب: "وكان معاوية يُعزى إلى أربعة..."، وقال السبط ابن الجوزي في التذكرة: 202: "إنّ معاوية كان يقال: إنّه من أربعة من قريش..."، وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1: 111: "كانت هند تُذكر في مكة بفجور وعهر".

ومن هذا يتضح أنّ المؤلف لم يرمِ هند أُمّ معاوية زوراً وبهتاناً، وإنمّا ذكر هذا الكلام ولديه دليله، وهو ما ذكرته المصادر السنيّة المتقدّمة، وسيرة هند معلومة لكلّ مسلم، بل هي نارٌ على منار، فهي التي لاكت كبد حمزة عمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما استشهد في معركة أُحد، ولقّبت بآكلة الأكباد لأجل ذلك، وبقي هذا اللقب يطاردها في كلّ مكان، وهي التي ولدت معاوية الذي قاتل علياً (عليه السلام) وسبّه على منابر المسلمين، وهو والد يزيد الذي قتل ريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسين بن علي (عليهما السلام)، فالمدافع عنهم ما هو إلاّ مكمل لذلك الخطّ الأموي المعروف بالنصب والعداء والمعلوم لكلّ أحد حتى عند ابن تيمية المتعصّب، ومن هذا تعرف أنّ ما ذكره عثمان الخميس في كشف الجاني: 129 ناشي من الجهل وعدم المعرفة بحال المسلمين وما دوّنوه في مصادرهم، أو من التعصب الأعمى!

وقد ذكر هناك عدّة افتراءات على الشيعة كذباً وزوراً، وهي مأخوذة من المصادر السنيّة وإليك بيانها; فقد ذكر هناك عدة نقاط فقال:

1ـ "يروون عن علي بن أبي طالب أنّه كان ينام مع عائشة في فراش واحد".

وهذا افتراء وبهتان تبرّأ منه الشيعة، ويعجز عثمان وغيره عن إثبات ذلك، بل الشيعة تنزّه علي بن أبي طالب وتنزّه عائشة من ذلك، وهم أكثر من غيرهم دفاعاً عن أعراض الأنبياء (عليهم السلام)، وأنّ الذي رمى عائشة بالافك ما هم إلاّ الصحابة الذين يدافع عنهم عثمان وأمثاله، ومن أُولئك الصحابة:

حسان بن ثابت فقد رمى عائشة بالافك وكانت تقرأ عليه قوله تعالى: (اُوْلَئِكَ

=>