الصفحة 103
أسفاره حتّى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء.

فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعتْ عائشة، أقامت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟!

فجاء أبو بكر، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والناسَ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرّك إلاّ مكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على فخذي، فنام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمّم فتيمّموا.

فقال أسيد بن الحُضير وهو أحد النقباء: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر، فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنتُ عليه، فوجدنا العقد تحته(1).

فهل يُصدّق مؤمن عرف الإسلام بأنّ رسول الله يتهاون في أمر الصلاة إلى هذه الدرجة، ويحبس المسلمين وهم على غير ماء وليس عندهم ماء، كلّ ذلك من أجل البحث على عقد زوجته الذي ضاع منها، ثمّ يترك المسلمين يتحسّرون على الصلاة ويشتكون إلى أبي بكر، وهو يذهب فينام على فخذ زوجته، ثمّ يستغرق في نوم لا يشعر معه بدخول أبي بكر وتوبيخه عائشة وطعنها في خاصرتها؟!

____________

1- صحيح البخاري 1: 86، كتاب التيمم، باب التيمم، وأيضاً في كتاب فضائل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب فضل أبي بكر بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصحيح مسلم 1: 191 كتاب الطهارة، باب التيمّم.


الصفحة 104
وكيف يجوز لهذا الرسول أن يترك النّاس يموجون من أجل الماء، واقتراب وقت الصلاة وينام هو في حجر زوجته.

ولا شكّ بأنّ هذه الرواية وضعت في زمن معاوية بن أبي سفيان ولا أساس لها، وإلاّ كيف نفسّر حادثة مثل هذه حضرها كلّ الصحابة، وتغيب عن عمر بن الخطّاب فلا يعرفها عندما يسئل عن التيمّم، كما أخرج ذلك البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب التيمّم.

والمهم في كلّ هذه الأبحاث هو أن نعرف بأنّ المؤامرة ضدّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت مؤامرة خسيسة ودنيئة، تعمل على الانتقاص من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحطّ من قيمته إلى درجة أنّ أحدنا اليوم ـ ورغم كلّ الفساد الذي عمّ البرّ والبحر ـ لا يرضى لنفسه مثل هذه المواقف والأفعال، فما بالنا بأعظم شخصية عرفها تاريخ البشرية، والذي يشهد له ربّ العزّة والجلالة بأنّه على خلق عظيم!!

وقد بدأت المؤامرة ـ حسب اعتقادي ـ بعد حجّة الوداع، وبعد تنصيب الرسول (صلى الله عليه وآله) للإمام علي خليفة له يوم غدير خم، وبذلك عرف الطامعون في الرئاسة أن ليس أمامهم إلاّ المعارضة والتمرّد على هذا النصّ، كلّفهم ذلك ما كلّفهم، ولو أدّى إلى الانقلاب على الأعقاب.

وبذلك يستقيم تفسير الأحداث التي بدأت بمعارضة الرسول (صلى الله عليه وآله) في كلّ أوامره من كتابة الكتاب، إلى تأمير أُسامة، إلى عدم الذهاب في الجيش الذي عبّأه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه.

وكذلك الأحداث التي أعقبت وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) من حمل الناس على البيعة

الصفحة 105
بالقوّة، وتهديد المتخلّفين بالحرق، وفيهم علي وفاطمة والحسنين.

إلى منع الناس من نقل أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحرق الكتب التي فيها سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحبس الصحابة لئلاّ يتحدّثوا بأحاديث النبي.

إلى قتل الصحابة الذين امتنعوا عن أداء الزكاة لأبي بكر; لأنّه ليس هو الخليفة الذي بايعوه على عهد نبيّهم.

إلى اغتصاب حقّ فاطمة الزهراء من فدك والإرث وسهم الخمس وتكذيبها في دعواها.

إلى إبعاد الإمام علي (عليه السلام) عن كلّ مسؤولية، وتولية الفسّاق والمنافقين من بني أُمية على رقاب المسلمين.

إلى منع الصحابة من التبرّك بآثار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومحاولة محو اسمه من الأذان.

إلى إباحة مدينته المنورة للجيش الكافر يفعل فيها ما يشاء.

إلى ضرب البيت الحرام بالمنجنيق وحرقه وقتل الصحابة في داخله.

إلى قتل عترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسبّهم ولعنهم وحمل الناس على ذلك.

إلى قتل وتشريد من يحبّ أهل البيت ويتشيّع لهم.

إلى أن أصبح دين الله لعباً وهزؤاً، والقرآن يُمزّق ويُعبث به.

والمؤامرة ما زالت حتى اليوم، وآثارُها ومفعولها يسري في الأُمة الإسلامية، وما دام هناك في المسلمين من يترضّى عن معاوية ويزيد، ويبّرر أفعالهم بأنّها اجتهاد ولهم بها أجرٌ عند الله، وما دام هناك من يكتب الكتب والمقالات ضد شيعة أهل البيت، ويرميهم بكلّ شتيمة وشنيعة، وما دام هناك من يستبيح قتل شيعة أهل البيت في بيت الله الحرام وفي موسم الحجّ;

الصفحة 106
فالمؤامرة ما زالت متواصلة، وستبقى متواصلة إلى أن يشاء الله.

وأنا لست بقادر على كشفها كلّها، أو الإحاطة بكلّ تفاصيلها وجوانبها، ولكنّي أُحاول بجهدي المتواضع أن أُنزّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الروايات المخزية التي أُلصقتْ بحضرته، وأُدافع عنه وعن عصمته، وأحاول إقناع المسلمين المثقّفين والمتحرّرين بأنّ هذا الرسول الذي أرسله الله لهداية البشرية جميعاً، وجعله قمراً وسراجاً مُنيراً هو أجلّ وأعظم وأسمى وأظهر وأنقى وأكمل إنسان خلقه الله تعالى، فـلا يمكن لنا أن نسْكُتَ على مثل هذه الروايات التي لم يقصد من ورائها إلاّ النّيل من كرامته، والحطّ من قيمته.

فلا ولن نرضى بهذه الروايات، ولو اتّفق عليها أهل السنّة والجماعة، وأخرجوها في صحاحهم ومسانيدهم، لا بل ولو اتفق عليها أهل الأرض كافّة، فقوله سبحانه وتعالى: {وَإنَّكَ لَعَلى خُـلُق عَـظِيم}(1)هو القول الفصل والحكم الأصل، وليس بعده إلاّ الأباطيل والأوهام.

وهذا هو قول الشيعة في سيّد الأنام، ومنقذ البشرية من العمى والضلال، وقائدها إلى الأمن والسّلام، فاعتبروا يا أُولى الألباب!

قول أهل الذكر في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

يقول الإمام علي (عليه السلام): "حتّى أفضتْ كرامةُ الله سبحانه إلى محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخرجه من أفضل المعادنِ منبتاً، وأعزّ الأرومات مغرساً، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه، وانتخبَ منها أمناءَهُ.

____________

1- القلم: 4.


الصفحة 107
عترتهُ خير العتر، وأسرتُه خير الأُسر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرم، وبسقت في كرم، لها فروع طوالٌ، وثمرة لا تنال، فهو إمامُ من أتّقى، وبصيرةُ من اهتدى، سراجٌ لمع ضَوءهُ وشهابٌ سطع نورُه، وزندٌ برق لمعُه.

سيرته القصدُ، وسنّتُهُ الرّشدُ، وكلامه الفصْلُ، وحكمهُ العدل، أرسلَهُ على حين فْترة من الرسُلِ، وهفوة عن العمل، وغباوة من الأُمم"(1).

"فبالغ (صلى الله عليه وآله وسلم) في النّصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة"(2).

"مستقرّه خير مستقرّ، ومنبتُهُ أشرف منبت في معادن الكرامة ومماهد السلامة، قد صُرفتْ نحوه أفئدة الأبرار، وثنيتْ إليه أزمة الأبصار، دفن به الضّغائن وأطفأ به الثّوائر، ألّفَ به إخواناً، وفرّق به أقراناً، أعزّ به الذلّة، وأذلّ به العزّة، كلامهُ بيانُ، وصمته لسان"(3).

"أرسله بحجّة كافية، وموعظة شافية، ودعوى متلافية، أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبيّن به الأحكام المفصولة"(4).

"أرسله بالضياء، وقدّمه في الاصطفاء، فرتق به المفاتقَ، وساور به المُغَالبَ، وذَلَّلَ به الصّعوبةَ، وسهّل به الحُزُونةَ، حتى سرّح الضّلال عن يمين وشمال"(5).

____________

1- نهج البلاغة1: 185، الخطبة 94.

2- المصدر نفسه1: 186، الخطبة 95.

3- المصدر نفسه1: 187، الخطبة 96.

4- المصدر نفسه1: 186، الخطبة 161.

5- المصدر نفسه2: 194، الخطبة 213.


الصفحة 108

الصفحة 109

الفصل الثالث
في ما يتعلّق بأهل البيت (عليهم السلام)


السؤال الرابع: من هم أهل البيت؟

يقول الله سبحانه وتعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1).

يقول أهل السنّة والجماعة بأنّ هذه الآية نزلتْ في نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستدلّون على ذلك بسياق ما قبلها وما بعدها من الآيات، وعلى حسب زعمهم فإنّ الله أذهب الرجس عن نساء النبي وطهّرهن تطهيراً.

ومنهم من يضيف إلى نساء النّبي علي وفاطمة والحسن والحسين، ولكنّ الواقع النقلي والعقلي والتاريخي يأبى هذا التفسير; لأن أهل السنّة يروون في صحاحهم بأنّ الآية نزلت في خمسة وهم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي خصّهم ونفسه الشريفة بهذه الآية الكريمة عندما أدخل عليّاً وفاطمة والحسنين معه تحت الكساء. وقال: "اللهم هؤلاء أهلي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"(2).

____________

1- الأحزاب: 33.

2- روي حديث الكساء ونزول آية التطهير في الخمسة من العترة الأبرار، خمسة

=>


الصفحة 110
وقد أخرج ذلك من علماء أهل السنّة جمع غفير أذكر منهم:

1 ـ مسلم في صحيحه في باب فضائل أهل بيت النبي 7: 130.

2 ـ الترمذي في صحيحه 5: 30.

3 ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 330، 6: 292.

4 ـ مستدرك الحاكم 2: 416، 3: 133.

5 ـ خصائص الإمام النسائي: 49.

6 ـ تلخيص الذهبي 2: 150.

7 ـ معجم الطبراني 1: 52.

8 ـ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 2: 18.

____________

<=

عشر صحابياً، ويوجد نصّ الحديث باختلاف ألفاظه في مصادر مختلفة ـ كما ستوافيك ـ وهذه الأحاديث توضّح وتشرح لنا معنى الآية الكريمة واختصاصها بالخمسة أصحاب الكساء (عليهم السلام)، كما اعترف بذلك الطحاوي في مشكل الآثار 1: 332 ـ 339. وتدلّ هذه النصوص أيضاً على نزول آية التطهير لوحدها غير منضمّة إلى غيرها، ولم يرد حتى في رواية واحدة نزولها ضمن آيات نساء النبي (صلى الله عليه وآله) ولا ذكره أحد، فهي لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي (صلى الله عليه وآله) ولا متصلة بها وإنّما وضعت بينها إمّا بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) أو عند الجمع بعد رحلته. (انظر: تفسير الميزان للطباطبائي 16: 311).

والإرادة هنا تكوينية من قبل قوله تعالى: (إنَّمَا أمْرُهُ إذَا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَـقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وليست تشريعية; لأنّ التشريعية تتنافى مع نصّ الآية بالحصر بقوله: "إنّما" وتتنافى مع الأحاديث إذ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) طبّق الآية عليهم دون غيرهم.

وممّا يدلّل على عظيم شرفهم ما في بعض ألفاظ الحديث من أنّ الآية نزلت عقيب دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) لهم بالطهارة وإذهاب الرجس، ولعلّه الأصح.


الصفحة 111
9 ـ البخاري في التاريخ الكبير 9: 25 رقم 205.

10 ـ الإصابة لابن حجر العسقلاني 4: 423، 467، 8: 265.

11 ـ تذكرة الخواص لابن الجوزي: 211، الباب التاسع.

12 ـ ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 1: 319 ح2.

13 ـ مناقب الخوارزمي: 61.

14 ـ السيرة الحلبية 3: 404.

15 ـ السيرة الدحلانية 2: 413.

16 ـ أُسد الغابة لابن الأثير 2: 12.

17 ـ تفسير الطبري 22: 9.

18 ـ الدر المنثور للسيوطي 5: 198.

19 ـ تاريخ ابن عساكر 42: 100.

20 ـ تفسير الكشّاف للزمخشري 1: 369، سورة آل عمران آية 61.

21 ـ أحكام القرآن لابن العربي 3: 1538.

22 ـ تفسير القرطبي 14: 183.

23 ـ الصواعق المحرقة لابن حجر 2: 422، الآيات الواردة في أهل البيت.

24 ـ الاستيعاب لابن عبد البر 3: 37.

25 ـ العقد الفريد لابن عبد ربه 5: 62.

26 ـ كنز العمال 13: 71، ح36492.

27 ـ مصابيح السنّة للبغوي 2: 278.

28 ـ أسباب النزول للواحدي: 239.


الصفحة 112
29 ـ تفسير ابن كثير 3: 492.

وغير هؤلاء من علماء أهل السنّة والجماعة كثيرون لم نذكرهم، واكتفينا في هذه العجالة بهذا القدر.

وإذا كان كلّ هؤلاء يعترفون بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي بيّن المقصود من هذه الآية، فما قيمة أقوال غيره من الصحابة، أو التابعين، أو المفسّرين الذين يريدون حمل معناها على غير ما يريده الله ورسوله، ابتغاء مرضاة معاوية وطمعاً فيما عنده؟!

كما أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشار إليهم مرّة أُخرى، وخصّهم بأنّهم هم أهل البيت لا غيرهم، وذلك عندما نزل قوله سبحانه وتعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأنْفُسَنَا وَأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ}(1)، فدعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وقال: "هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا، فهلمّوا أنفسكم وأبناءكم ونساءكم"(2)، وفي رواية مسلم: "اللهم هؤلاء أهلي"(3).

وعلماء أهل السنّة والجماعة الذين ذكرتُهم في المصادر السّابقة كلُّهم يعترفون أيضاً بنزول هذه الآية في هؤلاء الخمسة المذكورين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

على أنّ أزواج النبي رضي الله تعالى عنهن عرفْن مقصود الآية الكريمة،

____________

1- آل عمران: 61.

2- شواهد التنزيل للحسكاني 1: 160.

3- صحيح مسلم 7: 121، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علي بن أبي طالب.


الصفحة 113
ولذلك لم تدّعي واحدة منهن أنّها من أهل البيت، وعلى رأسهن أُمّ سلمة وعائشة، وقد روت كلّ واحدة منهنّ أنّ الآية خاصة برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وقد أخرج اعترافهن كلّ من مسلم، والترمذي، والحاكم، والطبري، والسيوطي، والذهبي، وابن الأثير وغيرهم.

أضف إلى كلّ ذلك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد رفع هذا اللبس وهذا الإشكال; لأنّه عَلم بأنّ المسلمين قد يقرؤون القرآن، ويحملون أهل البيت على سياق الآيات السّابقة واللاّحقة، والتي تحذّر نساء النبي، فبادر إلى تعليم الأُمّة بمقصود آية إذهاب الرجس والتطهير عندما داوم طيلة ستّة أشهر ـ بعد نزول الآية ـ على المرور بباب علي وفاطمة والحسنين قبل الشروع في إقامة الصلاة فيقول: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قوموا إلى الصّلاة يرحمكم الله.

وقد أخرج هذه المبادرة التي فعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الترمذي في صحيحه 5: 30، والحاكم في المستدرك 3: 158، والذهبي في تلخيصه، وأحمد بن حنبل في مسنده 3: 259، وابن الأثير في أُسد الغابة 5: 521، والحسكاني في شواهد التنزيل 2: 18، والسيوطي في الدر المنثور 5: 199، والطبري في تفسيره 22: 9، والبلاذري في أنساب الأشراف 2: 104، وابن كثير في تفسيره 3: 492، والهيثمي في مجمع الزوائد 9: 168، وغيرهم.

وإذا أضفنا إلى كلّ هؤلاء أئمة أهل البيت، وعلماء الشيعة الذين لا يشكّون في اختصاص محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين بهذه الآية الكريمة، فلا تبقى بعد ذلك أية قيمة لمن خالفهم من أعداء أهل البيت

الصفحة 114
والمتشيعين لمعاوية وبني أُميّة الذين يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.

وقد كشف أُولئك الذين يفسّرون الآية على غير تفسير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها بأنّهم من المتزلّفين إلى الحكّام من الأمويين والعبّاسيين قديماً وحديثاً، وبأنّهم من النواصب الذين يبغضون عليّاً، وإن تستّروا بزي العلماء والفقهاء.

على أنّ العقل وحده يحكم بعدم شمول هذه الآية، أعني (إذهاب الرجس والتطهير) لزوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

1 ـ فإذا ما أخذنا على سبيل المثال أُمّ المؤمنين عائشة التي تدّعي أنّها أحبّ أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه وأقربهم لديه، حتّى إن باقي أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غِرنَ منها، وبعثن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينشدنه العدل في ابنة أبي قحافة كما قدّمنا; لم تتجرّأ ولم يتجرّأ أحد من أنصارها ومحبّيها ولا من السّابقين أو من اللاّحقين أن يقول بأنّ عائشة كانت تحت الكساء يوم نزول الآية.

فما أعظم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في أقواله وأفعاله، وما أعظم حكمته عندما حصر أهل بيته معه تحت الكساء، حتى إنّ أُمّ المؤمنين أمّ سلمة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرادت الدخول معهم تحت الكساء، وطلبت ذلك من زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّه منعها من ذلك وقال لها: "أنت إلى خير"(1).

____________

1- تفسير الطبري 22: 11، تاريخ دمشق 14: 139، سير أعلام النبلاء 10: 347 وقال محقّق الكتاب: حديث صحيح. ورواه الترمذي في الجامع 6: 174، ح3871 وقال: "حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب" وكذلك حكم الشيخ الألباني في صحيح الترمذي 3038 بصحة الحديث وفي

=>


الصفحة 115
2 ـ ثمّ إنّ الآية بمفهومها الخاصّ والعام دالّ على العصمة، فإنّ إذهاب الرّجس يشمل كلّ الذّنوب والمعاصي والرّذائل صغيرها وكبيرها، وخصوصاً إذا أُضيف إليها تطهير من ربّ العزّة والجلالة، وإذا كان المسلمون يتطهّرون بالماء والتراب طهارة جسدية لا تتعدّى ظاهر الجسم، فأهل البيت طهّرهم الله طهارة روحية غسلت العقل والقلب والفؤاد، فلم تترك لوساوس الشيطان ولا لارتكاب المعاصي مكاناً، فأصبحت قلوبهم صافية نقية خالصة مخلصة لخالقها وبارئها في كلّ حركاتها وسكناتها.

3 ـ ولكلّ ذلك كان هؤلاء المطهّرون مثالا للإنسانية جمعاء في الزهد، والتقوى، والإخلاص، والعلم، والحلم، والشجاعة، والمروءة، والعفّة، والنّزاهة، والعُزوف عن الدنيا، والقُرب منه جلّ وعلا، ولم يسجّل التاريخ لواحد منهم معصية أو ذنباً طيلة حياته.

____________

<=

مسند أبي يعلى الموصلي 12: 244، الطبراني في المعجم الكبير 3: 52، أُسد الغابة 3: 413. وممّا يدلل على ذلك وأنّ الفهم السائد لدى الصحابة آنذاك من أنّ المراد بالآية ليس أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما المراد بهم علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) مضافاً إلى سيدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أخرجه في الدر المنثور 5: 198 عن عكرمة من قوله في آية التطهير "ليس بالذي تذهبون إليه إنّما هو نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "، بعد ملاحظة كون عكرمة البربري خارجياً وهو الذي نشر مذهب الخوارج في المغرب كما ذكر ذلك ابن حجر في تهذيب التهذيب 7: 237 والخوارج كانوا يكفّرون علياً ويتحاملون عليه، فعكرمة كان يدعو إلى ذلك لأنّه يريد طمس فضائل أهل البيت; إذ لا يطيق أن يرى قرآناً يتلى في حقّ أهل البيت (عليهم السلام)، وعلي رئيسهم، وهو خارجي يبغضه ويقاتله كما فعل إخوانه الخوارج من قبل، فلذلك كان ينادي في الأسواق إنكاراً لفضيلته ومنزلته المعلومة لدى المسلمين آنذاك.


الصفحة 116
وإذا كان الأمر كذلك، فلنعد إلى المثال الأوّل لزوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي عائشة التي بلغت من المرتبة السّامية والمكانة العالية والشهرة الكبيرة ما لم تبلغه أيّة زوجة أُخرى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا ولا حتّى لو جمعنا فضائلهنّ بأجمعهنّ ما بلغنَ عشر معشار عائشة بنت أبي بكر، هذا ما يقوله أهل السنّة فيها(1)، والذين يعتبرون أنّ نصف الدّين يؤخذ عنها وحدها.

____________

1- ذكر صاحب كتاب "كشف الجاني": 131 أنّ المؤلّف كذب في هذا الكلام; لأنّ أهل السنّة لايقولون بذلك، بل هم مختلفون في تفضيل عائشة على خديجة أو بالعكس، وبعضهم يفضّل فاطمة سلام الله عليها عليهما.

والذي يرجع إلى أقوال علماء أهل السنّة في هذا المضمار يلحظ أنّ المؤلّف لم يجانب الصواب، ولم يفترِ عليهم ما لم يقولوه كما حاول عثمان الخميس في كتابه "كشف الجاني" إظهار المؤلّف بذلك، مجازفاً في تحميل مذهب أهل السنّة المفضّل لعائشة على بقية زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى فاطمة سلام الله عليها على بعض الأقوال، وننقل هنا كلمات علماء أهل السنّة في المسألة ليطلع عليها القارئ وصاحب كتاب "كشف الجاني" إذ لعلّه لا يستطيع اقتناءها فلذلك زوّر الكلام جزافاً:

1ـ قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 2: 140 في ترجمة عائشة 19: ".. ولم يتزوّج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكراً غيرها، ولا أحبّ امرأة حبّها، ولا أعلم من أُمّة محمّد بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها، وذهب بعض العلماء إلى أنّها أفضل من أبيها".

فهنا لم يفضّلوا عائشة على خديجة فحسب بل فضّلوها حتى على أبيها!!

2ـ وقال ابن تيمية في كتابه أُمّ المؤمنين عائشة: 23: "قد ذهب إلى ذلك [أي تفضيل عائشة على غيرها من النساء] كثير من أهل السنّة".

3ـ عن الزهري أنّه قال: " لو جمع علم الناس كلّهم ثمّ علم أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

=>


الصفحة 117

____________

<=

لكانت عائشة أوسعهم علماً " المستدرك 4: 11، وقال عطاء: " وكانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأياً في العامة " المستدرك 4: 14.

وذكروا لعائشة كثير من الخصائص التي لم يرد لواحدة من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربع معشارها لا عشرها فقط، وهنا نورد بعضها ومن شاء فليراجع:

1ـ قال الحاكم: "نقل عن عائشة وحدها ربع الشريعة" الإجابة: 62.

2ـ إنّ جبرائيل (عليه السلام) جاء بصورتها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيرها. الكامل في التاريخ 6: 364، تاريخ بغداد 11: 221.

3ـ إنّ الوحي لا يأتي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ في بيتها دون سائر نسائه. صحيح البخاري 7: 84.

4ـ إنّها أحبّ الناس إلى الرسول بعد أبيها. صحيح البخاري 7: 19.

5ـ جبرائيل (عليه السلام) يقرئها السلام دون غيرها من نسائه، وأنّها الوحيدة من زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي رأته. صحيح البخاري 7: 84.

6ـ إنّها فضلت أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعشر خصال دون غيرها. سير أعلام النبلاء، للذهبي 5: 147.

7ـ إنّه كان يقبّلها وهو صائم دون غيرها من نسائه. صحيح البخاري 1: 83.

8ـ كان آخر زاده من الدنيا ريقها. صحيح البخاري 5: 142.

9ـ إنّها زوجته في الدنيا والآخرة ولم يرد في حقّ غيرها ذلك. المعجم الأوسط للطبراني 1: 169.

10ـ إنّها كانت تصوم الدهر دون غيرها. السنن الكبرى للبيهقي 4: 301.

11ـ إنّ الملائكة كانت تحف بيتها دون غيرها. السمط الثمين ص71.

12ـ إنّها كانت تغتسل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إناء واحد دون غيرها. صحيح ابن حبان 3: 392.

13ـ إنّه كان لها يومان وليلتان وبقية نسائه يوم وليلة. صحيح مسلم 4: 174.

14ـ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعتذر منها دون غيرها. السمط الثمين لمحب الدين

=>


الصفحة 118
وإذا ما تجرّدنا للحقيقة بدون تعصّب ولا انحياز، فهل من المعقول أن يحكُمَ العقلُ بأنّها مطهّرة من الذنوب والمعاصي؟ أم أنّ الله سبحانه رفع عنها حصانته المنيعة بعد موت زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فلننظر معاً إلى الواقع.

____________

<=

الطبري: ص52.

إلى غير ذلك من الخصائص المزعومة التي ذكرت لها دون غيرها من نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي هي من الكثرة بحيث لم تكن لغيرها عشر معشار ما ذكر لها. وقد ذكر ابن تيمية كلاماً فيه طعن وتوهين للسيدة خديجة على حساب تفضيل عائشة واعطائها ذلك المنصب المصطنع من قبل الأمويين، قال في كتابه أُم المؤمنين عائشة: 25: "وهؤلاء يقولون: قوله لخديجة: "ما أبدلني الله بخير منها" ـ إن صحّ ـ فمعناه: ما أبدلني بخير لي منها; لأنّ خديجة نفعته في أول الإسلام نفعاً لم يقم غيرها فيه مقامها، فكانت خيراً له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة، ولكن عائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلاّ أول زمن النبوة، فكانت أفضل بهذه الزيادة، وبلغت من العلم ما لم يبلغه غيرها، فخديجة كان خيرها مقصوراً على نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)..".

وهذا الاستدلال كان من الأحرى لابن تيمية أن يجعله دليلا على أفضليتها على عائشة; لأنّها نصرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول الرسالة حينما كان وحيداً، بلا ناصر ولا معين، وكان الطلقاء وأبناء الطلقاء يتربصون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كل منفذ وكل فج، ولم يألوا جهداً في معارضته بكلّ الأساليب والطرق من أذى، وجوع، وعزل عن المجتمع، واستهزاء وسخرية وغيرها...، ومع ذلك وقفت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وناصرته وآزرته وثبت على إيمانها.. بينما عائشة تزوّجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة بعد أن ارتفعت جميع الموانع، وأصبح المسلمون في حرية كاملة والدين في سعة لا ضيق.. ومن الواضح أنّ المناصرة في الشدة أكمل وأحسن من المناصرة ـ على الفرض ـ في وقت الرخاء والسعة.. فما ذكره ابن تيمية عليه لا له أن تدبّر.