الصفحة 152
ونحرها، ولذلك حدّثت بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لها وهو مريض: ادع لي أباك وأخاكِ لأكتب لهم كتاباً، عسى أن يدّع مُدّع ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلاّ أبا بكر!! فهل من سائل يسألُها: ما الذي منعها من دَعوتهم؟

موقف عائشة ضدّ علي أمير المؤمنين (عليه السلام)

والباحث في موقفها تجاه أبي الحسن يجد أمراً عجيباً وغريباً، ولا يجد له تفسيراً إلاّ الغيرة والعداء لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد سجّل لها التاريخ كرهاً وبغضاً للإمام علي لَمْ يُعرف له مثيلٌ، وصل بها إلى حدّ أنّها لا تطيق ذكر اسْمِهِ(1)، ولا تطيق رؤيته، وعندما تسمع بأنّ الناس قد بايعوه بالخلافة بعد قتل عثمان، تقول: وددت لو أنّ السّماء انطبقت على الأرض قبل أن يليها ابن أبي طالب(2). وتعمل كلّ جهودها للإطاحة به، وتقود ضدّه عسكراً جرّاراً لمحاربته، وعندما يأتيها خبر موته تسجد شكراً لله(3).

ألا تعجبون معي لأهل السنّة والجماعة الذين يروون في صحاحهم بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "ياعلي لا يُحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافقٌ"(4)،

____________

1- مضى تخريجه.

2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 215.

3- قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين: 55 "لمّا أن جاء عائشة قتل عليّ (عليه السلام) سجدت".

4- مسند أحمد 1: 95 وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر بصحته، سنن الترمذي 5: 306 وقال: حسن صحيح، السنن الكبرى للنسائي 5: 137 ح8487، مسند أبي يعلى 1: 251، تاريخ بغداد 14: 426 ح7785، تاريخ دمشق 42: 271، أُسد الغابة 4: 26، سير أعلام النبلاء 5: 189.

وفي صحيح مسلم 1: 61 باب الدليل على حبّ الأنصار وعلي من الإيمان عن عليّ (عليه السلام) بلفظ: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة انّه لعهد النبي الأُمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق".


الصفحة 153
ثمّ يروون في صحاحهم ومسانيدهم وتواريخهم بأنّ عائشة تبغض الإمام علي ولا تطيق ذكر اسمه، أليس ذلك شهادة منهم على ماهية المرأة؟

كما يروي البخاري في صحيحه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني، ومن أغضبني فقد أغضب الله"(1). ثمّ يروي البخاري نفسه بأنّ فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر فلم تكلّمه حتى ماتتْ(2).

أليس ذلك شهادة منهم بأنّ الله ورسوله غاضبان على أبي بكر؟ فهذا ما يفهمه كلّ العقلاء، ولذلك أقول دائماً بأنّ الحقّ لا بدّ أن يظهر مهما ستره المُبطلون، ومهما حاول أنصار الأمويين التمويه والتلفيق، فإنّ حجّة الله قائمة على عباده من يوم نزول القرآن إلى قيام السّاعة، والحمد لله ربّ العالمين.

حدّث الإمام أحمد بن حنبل أنّ أبا بكر جاء مرّة واستأذن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقبل الدّخول سمع صوت عائشة عالياً وهي تقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "والله لقد عرفتُ أنّ عليّاً أحبّ إليك منّي ومن أبي، تعيدها مرّتين أو

____________

1- البخاري 4: 210، كتاب فضائل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مناقب فاطمة (عليها السلام)، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 526، السنن الكبرى للنسائي 5: 97 ح8371.

2- صحيح البخاري 5: 82، كتاب المغازلي، باب غزوة خيبر و 8: 3 كتاب الفرائض، باب قول النبى (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا نورث ما تركنا صدقة".


الصفحة 154
ثلاثاً... " الحديث(1).

وبلغ من أمر عائشة وبُغضِهَا للإمام علي أنّها كانت تحاول دائماً إبعاده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما استطاعتْ لذلك سبيلا.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في "شرح النهج": إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استدنى عليّاً، فجاء حتّى قعد بينه وبينها وهما متلاصقان، فقالت له: أما وجدت مقعداً لكذا إلاّ فخذي(2).

وروي ـ أيضاً ـ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساير يوماً الإمام علي وأطال مناجاته، فجاءت عائشة وهي سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما، وقالتْ لهُمَا: فيمَ أنتُما فقد أطلتما، فغضب لذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

ويروي أيضاً أنّها دخلت مرّة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يناجي عليّاً، فصرختْ وقالت: مالي ولك يا بن أبي طالب؟ إنّ لي نوبة واحدة من رسول الله، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكم من مرّة أغضبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتصرّفاتها الناتجة عن الغيرة الشديدة، وعن حدّة طبعها وكلامها اللاّذع.

وهل يرضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على مؤمن أو مؤمنة ملأ قلبه كُرهاً وبغضاً

____________

1- الإمام أحمد في مسنده 4: 275، عنه مجمع الزوائد 9: 201 وقال: "رجاله رجال الصحيح".

2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 195، وفي تاريخ دمشق 42: 45 انّه (عليه السلام)، جلس بينهما قالت له: "أما وجدت مكاناً أوسع لك من هذا" فزجرها النبي (صلى الله عليه وآله).

3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 195.


الصفحة 155
لابن عمّه وسيّد عترته، الذي قال فيه:"يحبّ الله ورسولَهُ ويحبّه الله ورسوله"(1)وقال فيه: "من أحبّ علياً فقد أحبّني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني"(2).

{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ}

أمر الله سبحانه نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاستقرار في بيوتهنّ، وأن لا يخرجن متبرّجات، وأمرهنّ بقراءة القرآن، وإقامة الصّلاة، وإيتاء الزكاة، وإطاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعمل نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكلّهن امتثلْنَ أمر الله وأمر رسوله الذي نهاهنّ هو الآخر (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل وفاته وحذّرهن بقوله: "أيّتكن تركب الجمل وتنبحها كلاب الحوأب "(3)، كلّهن ما عدا عائشة، فقد اخترقت كلّ الأوامر،

____________

1- صحيح البخاري 4: 12، 20، كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب علي ابن أبي طالب، صحيح مسلم 7: 120، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي ابن أبي طالب. سنن ابن ماجة 1: 44، سنن الترمذي 5: 302، المستدرك للحاكم 3: 109.

2- المستدرك للحاكم 3: 130 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، المعجم الكبير للطبراني 23: 380، عنه مجمع الزوائد 9: 132 وقال: إسناده حسن. الجامع الصغير للسيوطي 2: 554 ح8319، وصحّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2: 1034 ح5963.

3- نحوه مسند أحمد 6: 97 وسنده صحيح، المستدرك للحاكم 3: 120 وسقط تصحيح الحاكم من المطبوع لكن قال ابن حجر في فتح الباري 13: 45: إنّه صححه، مجمع الزوائد 7: 234 وصرّح بوثاقة رجاله، المصنّف لعبدالرزاق 11:

=>


الصفحة 156

____________

<=

365 ح20753، المصنّف لابن أبي شيبة 8: 708، صحيح ابن حبان 15: 126، فتح الباري 13: 45 وصرّح بوثاقة رجاله، سير أعلام النبلاء للذهبي 2: 178 وصرّح بصحة الإسناد، البداية والنهاية لابن كثير 6: 236 وقال بعد أن ذكره من طريق أحمد: "وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجوه"، الإصابة 8: 186.

وقال الشيخ الألباني في صحيحته 1: 848، ح474: ".. والحديث من أصح الأحاديث، ولذلك تتابع الأئمة على تصحيحه قديماً وحديثاً:

الأوّل: ابن حبان..

الثاني: الحاكم..

الثالث: الذهبي..

الرابع: الحافظ ابن كثير..

الخامس: الحافظ ابن حجر..".

ثمّ علق الشيخ الألباني على الحديث بقوله: "ولا نشكّ أنّ خروج أُمّ المؤمنين كان خطأً من أصله، ولذلك همّت بالرجوع حين علمت بتحقّق نبوءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الحوأب، ولكن الزبير رضي الله عنه أقنعها بترك الرجوع بقول: عسى الله أن يصلح بك بين الناس. ولا نشكّ أنّه كان مخطئاً أيضاً، والعقل يقطع بأنّه لا مناصّ من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى، ولا نشكّ أنّ عائشة رضي الله عنها هي المخطئة; لأسباب كثيرة وأدلّة واضحة...".

وقد أجاد الشيخ الألباني في هذا الكلام إلاّ في أمرين:

الأوّل: إنّه التمس العذر لعائشة بمقولة الزبير، مع أنّ عائشة لديها توصية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثه فلذلك أرادت الرجوع، لكن الصحابي وهو الزبير ضرب كلام النبي وراء ظهره وبالتالي أقنع عائشة بذلك.

الثانية: قوله: "همّت بالرجوع حين علمت بتحقيق نبوءة النبي.. " ليس صحيحاً، بل الحقّ أنّ إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، وتحقّق إخباره في الخارج دالٌ على معجزته ومدى معرفته، وليس تنبأً كما حاول الشيخ إظهاره.


الصفحة 157
وسخرت من كلّ التحذيرات.

ويذكر المؤرّخون أنّ حفصة بنت عمر أرادت الخروج معها، ولكن أخاها عبد الله حذّرها وقرأ عليها الآية، فرجعت عن عزمها، أمّا عائشة فقد ركبت الجمل، ونبحتها كلاب الحوأب.

يقول طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى": مرّت عائشة في طريقها بماء فنبحتها كلابه، وسألتْ عن هذا الماء فقيل لها: إنّه الحوْأب، فجزعتْ جزعاً شديداً وقالتْ:

ردّوني ردّوني، قد سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول وعنده نساؤه: "أيّتكنّ تنبحُها كِلابُ الحوأب"؟ وجاء عبد الله بن الزبير فتكلّف تهدئتها، وجاءها بخمسين رجلا من بني عامر يحلفون لها كذباً أنّ هذا الماء ليس بماء الحوأب(1).

وأنا أعتقد بأنّ هذه الرّواية وُضعتْ في زمن بني أُميّة; ليخفّفوا بها عن أُمّ المؤمنين ثقل معصيتها، ظنّاً منهم بأنّ أُمّ المؤمنين أصبحتْ معذورة بعد أن خدعها ابن أُختها عبد الله بن الزّبير، وجاءها بخمسين رجلا يحلفون بالله ويشهدون شهادة زوراً بأنّ الماء ليس هو ماء الحوأب.

إنّها سخافة هزيلةٌ يريدون أن يموّهوا بمثل هذه الروايات على بسطاء العقول، ويُقنعونهم بأنّ عائشة خُدِعتْ; لأنّها عندما مرّتْ بالماء وسمعتْ

____________

1- المجموعة الكاملة لمؤلّفات طه حسين: 469.


الصفحة 158
نباح الكلاب، فسألت عن هذا الماء، فقيل لها: إنّه الحوْأَبْ، فجزعتْ وقالت: ردّوني ردّوني. فهل لهؤلاء الحمقى الذين وضعوا الرواية أن يلتمسوا لعائشة عذراً في معصيتها لأمر الله، وما نزل من القرآن بوجوب الاستقرار في بيتها؟! أو يلتمسوا لها عذراً في معصيتها لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجوب لزوم الحصير وعدم ركوب الجمل، قبل الوصول إلى نباح الكلاب في ماء الحوأب؟!!

وهل يجدون لأُمّ المؤمنين عذراً بعدما رفضت نصيحة أُمّ المؤمنين أمّ سلمة التي ذكرها المؤرّخون إذ قالت لها: أتذكرينَ يومَ أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن معه حتى إذا هبَط من قديد ذات الشمال، فخَلا بعلي يُناجيه فأطال، فأردتِ أن تهجمي عليهما، فنهيتُكِ فعصيتني وهجمتِ عليهما، فما لبثت أن رجعتِ باكية، فقلت: ما شأنك؟ فقلت: أتيتهما وهما يتناجيان، فقلت لعلي: ليس لي من رسول الله إلاّ يوم من تسعة أيام أفمَا تدعني يا بن أبي طالب ويومي، فأقبل رسول الله علىَّ وهم محمّر الوجه غضباً فقال: "ارجعي وراءك، والله لا يبغضه أحد من النّاس إلاّ وهو خارج من الإيمان"، فرجعت نادمةً ساخطة.

فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك.

قالت: وأُذَكّركِ ـ أيضاً ـ كنت أنا وأنتِ مع رسول الله، فقال لنا: "أيتكنّ صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط"؟ فقلنا: نعوذ بالله وبرسوله من ذلك، فضرب على ظهرك وقال: "إيّاك أن تكونيها يا حميراء"؟

قالت عائشة: أذكر ذلك.


الصفحة 159
فقالت أُمّ سلمة: أتذكرين يوم جاء أبوك ومعه عمر، وقمنا إلى الحجاب، ودخلا يحدّثانه فيما أرادا إلى أن قالا: يا رسول الله، إنّا لا ندري أمَدُ ما تَصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما: "أما أنّي قد أرى مكانه، ولو فعلتُ لتفرّقتم عنه كما تفرّق بنو إسرائيل عن هارون"، فسكتا ثمّ خرجَا، فلمّا خرجا خرجنا إلى رسول الله، فقلتِ له أنت وكنتِ أجرأ عليه منّا: يا رسول الله مَنْ كنت مستخلفاً عليهم؟ فقال: "خاصف النّعل"، فنزلنا فرأيناه عليّاً. فقلتِ: يا رسول الله، ما أرى إلاّ عليّاً. فقال: "هو ذاك"؟

قالت عائشة: نعم أذكر ذلك.

فقالت لها أُمّ سلمة: فأيّ خروج تخرجين بعد هذا يا عائشة؟

فقالت: إنّما أخرج للإصلاح بين الناس(1).

فنهتها أُمّ سلمة عن الخروج بكلام شديد وقالت لها: إنّ عمود الإسلام لا يثأب بالنساء إن مال، ولا يَرْأبُ بهن إن صُدِعَ، حماديات النساء غضّ الأطراف، وخفر الأعراض، ما كنتِ قائلة لو أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عارضك في بعض هذه الفلوات، ناصّة قلوصاً من منهل إلى آخر؟ والله لو سرتُ سيرك هذا ثمّ قيل لي: أدخلي الفردوس، لاستحييت أن ألقى محمّداً هاتكةً حجاباً ضربه علىَّ(2).

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 217 ونحوه المعيار والموازنة: 28.

2- غريب الحديث لابن قتيبة 2: 182، الفائق للزمخشري 2: 132، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 220.


الصفحة 160
كما لم تقبل أُمّ المؤمنين عائشة نصائح كثير من الصحابة المخلصين، روى الطبري في تاريخه أن جارية بن قدامة السعدي قال لها: يا أُمّ المؤمنين والله لقتل عثمان بن عفّان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسّلاح، إنّه قد كان لك من الله سترٌ وحرمة، فهتكت سِتْرَكِ وأبحتِ حرمتك، إنّه من يرى قتالك فإنّه يرى قتلك، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلكِ، وإن أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالنّاس(1).

أُمّ المؤمنين هي القائدة

ذكر المؤرّخون بأنّها كانت هي القائدة العامة، وهي التي تولّي وتعزل وتصدر الأوامر، حتى إنّ طلحة والزبير اختلفا في إمامة الصلاة، وأراد كلّ منهما أن يصلّي بالنّاس، فتدخّلت عائشة وعزلتهما معاً، وأمّرت عبد الله بن الزبير ابن أُختها أن يصلّي هو بالنّاس.

وهي التي كانتْ ترسل الرّسل بكتبها التي بعثتها في كثير من البلدان تستنصرهم على علي بن أبي طالب، وتثير فيهم حميّة الجاهلية. حتّى عبّأتْ عشرين ألفاً أو أكثر من أوباش العرب وأهل الأطماع لقتال أمير المؤمنين والإطاحة به، وأثارتها فتنة عمياء قُتل فيها خلق كثير باسم الدّفاع عن أُمّ المؤمنين ونصرتها.

ويقول المؤرّخون: إنّ أصحاب عائشة لمّا غدروا بعثمان بن حنيف والي البصرة، وأسروه هو وسبعين من أصحابه الذين كانوا يحرسون بيت المال،

____________

1- تاريخ الطبري 3: 482، البداية والنهاية لابن كثير 7: 259، الإمامة والسياسة 1: 88.


الصفحة 161
جاؤوا بهم إلى عائشة فأمرتْ بقتلهم، فذبحوهم كما يذبح الغنم، وقيل: كانوا أربعمائة رجل يقال: إنّهم أوّل قوم من المسلمين ضربتْ أعناقهم صبراً(1).

روى الشعبي، عن مسلم بن أبي بكرة، عن أبيه قال: لمّا قدم طلحة والزبير البصرة، تقلّدتُ سيفي وأنا أُريد نصرهما، فدخلتُ على عائشة فإذا هي تأمُرُ وتنهي وإذا الأمر أمرها، فتذكّرت حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كنت سمعته يقول: "لن يفلح قوم تدبّر أمرهم امرأة" فانصرفت عنهم واعتزلتهم(2).

كما أخرج البخاري عن أبي بكرة قوله: لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لمّا بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ فارساً ملّكوا ابنة كسرى قال: "لن يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة"(3).

ومن المواقف المُضحكة والمبكية في آن واحد أنّ عائشة أُمّ المؤمنين تخرج من بيتها عاصية لله ولرسوله، ثمّ تأمر الصّحابة بالاستقرار في بيوتهم، إنّه حقّاً أمرٌ عجيب!!

فكيف وقع ذلك يا ترى؟

روى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة وغيره من المؤرّخين: إنّ عائشة كَتبتْ ـ وهي في البصرة ـ إلى زيد بن صوحان العبدي رسالة تقول له فيها: من عائشة أُمّ المؤمنين بنت أبي بكر الصدّيق زوجة

____________

1- راجع: أنساب الأشراف: 227، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 321.

2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 227.

3- صحيح البخاري 8: 97 كتاب الفتن، سنن الترمذي 3: 36، البداية والنهاية 2: 26.


الصفحة 162
رسول الله، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أمّا بعد فأقم في بيتك، وخذّل الناس عن ابن أبي طالب، وليبلغني عنك ما أحبّ، إنّك أوثق أهلي عندي، والسّلام.

فأجابها هذا الرجل الصالح بما يلي: من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر، أمّا بعد; فإنّ الله أمركِ بأمر، وأمرنَا بأمر، أمركِ أن تقرّي في بيتكِ، وأمرنا أن نجاهدَ، وقد أتاني كتابك تأمريني أن أصنعَ خلاف ما أمرني الله به، فأكون قد صنعتُ ما أمرك الله به، وصنعتِ أنتِ ما به أمرني، فأمْركِ عندي غير مطاع، وكتابُك لا جواب له(1).

وبهذا يتبيّن لنا بأنّ عائشة لم تكتفِ بقيادة جيش الجمل فقط، وإنّما طمحتْ في إمرة المؤمنين كافّة في كلّ بقاع الأرض، ولكلّ ذلك كانت هي التي تحكم طلحة والزبير اللذين كانا قد رشّحهما عمر للخلافة، ولكلّ ذلك أباحتْ لنفسها أنْ تراسل رؤساء القبائل والولاة وتُطمِعُهم وتستنصِرُهم.

ولكلّ ذلك بلغتْ تلك المرتبة وتلك الشّهرة عند بني أُميّة، فأصبحتْ هي المنظور إليها والمُهابة لديهم جميعاً، والتي يُخشى سطوتها ومعارضتها، فإذا كان الأبطال والمشاهير من الشجعان يتخاذلون ويهربون من الصفِّ إزاء علي ابن أبي طالب ولا يقفون أمامه، فإنّها وقفتْ وألّبتْ واستصرختْ واستفزّت.

ومن أجل هذا حيّرتْ العقول، وأدهشتْ المؤرّخين الذين عرفوا مواقفها في حرب الجمل الصغرى قبل قدوم الإمام علي، وفي حرب الجمل الكبرى بعد مجي الإمام علي ودعوتها لكتاب الله، فأبت وأصرّت على الحرب في

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 226، تاريخ الطبري 3: 492.


الصفحة 163
عناد لا يمكنُ تفسيره إلاّ إذا عرفنا عمق وشدّة الغيرة والبغضاء التي تحملها أُمّ المؤمنين لأبنائها المخلصين لله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

تحذير النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عائشة وفتنتها

لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدركُ عمق وخطورة المؤامرة التي تُدار حوله من جميع جوانبها، ولا شكّ بأنّه عرف ما للنساء من تأثير وفتنة على الرّجال، كما أدرك بأنّ كيدهن عظيم تكاد تزول منه الجبال.

وعرف بالخصوص بأنّ زوجته عائشة هي المؤهلة لذلك الدور الخطير، لما تحمله في نفسها من غيرة وبغض لخليفته علي خاصة، ولأهل بيته عامّة، كيف وقد عاش بنفسه أدْواراً من مواقفها وعداوتها لهم، فكان يغضب حيناً، ويتغير وجهه أحياناً، ويحاول اقناعهم في كلّ مرّة بأنّ حبيب علي هو حبيب الله، والذي يبغض عليّاً هو منافق يبغضهُ الله.

ولكن هيهات لتلك الأحاديث أن تغوص في أعماق تلك النّفوس التي ما عرفتْ الحقّ حقّاً إلاّ لفائدتها، وما عرفت الصّواب صواباً إلاّ إذا صدر عنها.

ولذلك وقف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا عرف بأنّها هي الفتنةُ التي جعلها الله في هذه الأُمّة; ليبتليها بها كما ابتلى سائر الأُمم السّابقة، قال تعالى: {ألم * أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُـتْرَكُوا أنْ يَـقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}(1).

وقد حذّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أُمّته منها في مرّات متعدّدة، حتى قام في يوم من الأيام واتّجه إلى بيتها وقال: "ههنا الفتنة، ههنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان"، وقد أخرج البخاري في صحيحه في باب ما جاء في بيوت

____________

1- العنكبوت: 1 ـ 2.


الصفحة 164
أزواج النبي، قال: عن نافع، عن عبد الله (رضي الله عنه)، قال: قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: "ههنا الفتنة ـ ثلاثاً ـ من حيث يطلع قرن الشيطان"(1).

كما أخرج مسلم في صحيحه أيضاً عن عكرمة بن عمّار، عن سالم، عن ابن عمر قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بيت عائشة، فقال: "رأس الكفر من ههنا من حيث يطلعُ قرنُ الشيطان"(2).

ولا عبرة بالزّيادة التي أضافوها بقولهم: يعني المشرق، فهي واضحة الوضع; ليخفّفوا بها عن أم المؤمنين، ويبعدوا هذه التهمة عنها.

وقد جاء في "صحيح البخاري" أيضاً، قال: لما سارَ طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، بعث علي عمّار بن ياسر وحسن بن علي، فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر، فكان الحسنُ بن علي فوق المنبر في أعلاه، وقام عمّار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه، فسمعتُ عمّاراً يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنّها لزوجة نبيّكم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلَم إيّاه تطيعون أمْ هي(3).

الله أكبر، فهذا الخبر يدلّ ـ أيضاً ـ أنّ طاعتها معصية لله، وفي معصيتها هي والوقوف ضدّها طاعةً لله.

كما نلاحظ أيضاً في هذا الحديث أنّ الرواة من بني أُميّة أضافوا عبارة

____________

1- صحيح البخاري 4: 46 كتاب الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) 4: 46.

2- صحيح مسلم 8: 181، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الفتنة من المشرق.

3- صحيح البخاري 8: 97 كتاب الفتن.


الصفحة 165
"والآخرة"، في: (أنها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة) ليموّهوا على العامّة بأنّ الله غفر لها كلّ ذنب اقترفتْهُ، أدخلها جنّته، وزوجها حبيبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلاّ من أين عَلِمَ عمَّار بأنّها زوجته في الآخرة؟

وهذه هي آخر الحيل التي تفطّن لها الوضّاعون من الروّاة في عهد بني أُميّة، عندما يجدون حديثاً جرى على ألسنة النّاس فلا يمكنهم بعدُ نكرانه ولا تكذيبه، فيعمدون إلى إضافة فقرة إليه أو كلمة أو تغيير بعض ألفاظه; ليخفّفوا من حدّته أو يُفْقدوه المعنى المخصوص له، كما فعلوا ذلك بحديث "أنا مدينة العلم وعلي بابها" الذي أضافوا إليه: وأبو بكر أساسها، وعمر حيطانها، وعثمان سقفها!!

وقد لا يخفى ذلك على الباحثين المنصفين، فيبطلون تلك الزيادات التي تدلّ في أغلب الأحيان على سخافة عقول الوضّاعين، وبُعدهم عن حكمة ونور الأحاديث النبويّة، فيلاحظون أنّ القول بأنّ أبا بكر أساسها، معناه أنّ علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّه من علم أبي بكر، وهذا كفْرٌ. كما أنّ القول بأنّ عمر حيطانها، فمعناه بأنّ عمر يمنع الناس من الدخول للمدينة، أعني يمنعهم من الوصول للعلم، والقول بأن عثمان سقفها، فباطل بالضرورة; لأنه ليس هناك مدينة مسقوفة وهو مستحيل.

كما يلاحظون هنا بأنّ عمّاراً يقسم بالله على أنّ عائشة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا والآخرة، وهو رجم بالغيب، فمن أين لعمّار أن يقسم على شيء يجهله؟ هل عنده آية من كتاب الله، أم هو عهد عهده إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟


الصفحة 166
فيبقى الحديث الصحيح هو إنّ عائشة قد سارت إلى البصرة، وإنّها لزوجة نبيّكم، ولكنّ الله ابتلاكم بها ليعلم إيّاه تُطيعون أم هي.

والحمد لله ربّ العالمين على أن جعل لنا عقولا نُميّزُ بها الحقّ من الباطل، وأوضح لنا السبيل، ثمّ ابتلانا بأشياء عديدة لتكون علينا حجّةً يوم الحساب.

خاتمة البحث

والمهمّ في كلّ ما مرّ بنا من الأبحاث ـ وإن كانت مختصرة ـ أنّ عائشة بنت أبي بكر أُمّ المؤمنين وزوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم تكن معدودة من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والذين عصمهم الله من كلّ الذّنوب، وطَهّرهم من كلّ رجس، فأصبحوا بعد ذلك معصومين.

ويكفي عائشة أنّها قضت آخر أيّام حياتها في بكاء ونحيب وحسرة وندامة، تذكر أعمالها فتفيض عيناها، ولعلّ الله سبحانه يغفر لها خطاياها، فهو وحده المطّلع على أسرار عباده، والذي يعلم صدق نواياها، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السّماء.

وليس لنا ولا لأيّ أحد من النّاس أن يَحكُم بالجنّة أو بالنّار على مخلوقاته، فهذا تكلّفٌ وتطفّلٌ على الله، قال تعالى: {لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإنْ تُبْدُوا مَا فِي أنفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ}(1).

____________

1- البقرة: 284.