الصفحة 184
لَوْمَةَ لائِم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أمَانَاتِكُمْ وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أنَّمَا أمْوَالُكُمْ وَأوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأنَّ اللّهَ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ}(2).

{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ}(3).

{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُـنُّونَ بِاللّهِ الظُّـنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيداً * وَإذْ يَـقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلا غُرُوراً}(4).

{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَـقُولُونَ مَا لا تَـفْعَلُونَ * كَـبُـرَ مَـقْتاً عِنْدَ اللّهِ أنْ تَـقُولُوا مَا لا تَـفْعَلُونَ}(5).

{ألَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُـلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ}(6).

{يَـمُـنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَـمُـنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلْ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أنْ

____________

1- المائدة: 54.

2- الأنفال: 27 ـ 28.

3- الأنفال: 24 ـ 25.

4- الأحزاب: 9 ـ 12.

5- الصف: 2 ـ 3.

6- الحديد: 16.


الصفحة 185
هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1).

{قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}(2).

{قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُـلُوبِكُمْ}(3).

{إنَّمَا يَسْتَأذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}(4).

{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلا خَبَالا وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(5).

{فَرِحَ المُخَلَّـفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوا أنْ يُجَاهِدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}(6).

{ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّـبَعُوا مَا أسْخَطَ اللّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأحْبَطَ أعْمَالَهُمْ * أمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللّهُ أضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لاَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ

____________

1- الحجرات: 17.

2- التوبة: 24.

3- الحجرات: 14.

4- التوبة: 45.

5- التوبة: 47.

6- التوبة: 81.


الصفحة 186
بِسِيمَاهُمْ وَلَـتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أعْمَالَكُمْ}(1).

{وَإنَّ فَرِيقاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأنَّمَا يُسَاقُونَ إلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ}(2).

{هَا أنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُـنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَـبْخَلُ وَمَنْ يَـبْخَلْ فَإنَّمَا يَـبْخَلُ عَنْ نَـفْسِهِ وَاللّهُ الغَنِيُّ وَأنْتُمُ الفُقَرَاءُ وَإنْ تَـتَوَلَّوْا يَسْتَـبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثَالَكُمْ}(3).

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإنْ اُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}(4).

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِـعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً اُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّـبَعُوا أهْوَاءَهُمْ}(5).

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ اُذُنٌ قُلْ اُذُنُ خَيْر لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ}(6).

إنّ هذا القدر من الآيات البيّنات كاف لإقناع الباحثين بأنّ الصّحابة ينقسمون إلى قسمين اثنين:

1 ـ قسمٌ آمن بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأسلم أمره وقيادته لهما، فأطاع الله

____________

1- محمّد: 30.

2- الأنفال: 6.

3- محمّد: 38.

4- التوبة: 58.

5- محمّد: 16.

6- التوبة: 61.


الصفحة 187
ورسولَه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتفاني في حبّهما، وضحّى في سبيلها، وكان من الفائزين، وهؤلاء يمثّلون الأقلية وقد سمّاهم القرآن: {الشَّاكِرِينَ} .

2 ـ قسمٌ آمن بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله) ظاهرياً ولكنّ قلبه فيه مرض، فلم يسلم أمره إلاّ لمصلحته الشخصيّة ومنافعه الدنيوية، فهو يعارض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحكامه وأوامره، ويقدّم بين يدي الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان من الخاسرين، وهؤلاء يمثّلون الأكثرية، وقد عبّر عنهم القرآن بأوجز تعبير، إذ يقول عزّ وجل: {لَـقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}(1).

فالباحث يكتشفُ أنّ هؤلاء (الأكثرية) كانوا في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) يعيشون معه، ويصلّون خلفه، ويصحبونه في حلّه وترحاله، ويتقرّبون إليه بكلّ وسيلة لئلاّ ينكشف أمرهم للمؤمنين المخلصين، ويحاولون جهدهم أن يظهروا بمظهر يغبطهم عليه المؤمنون; لكثرة تعبّدهم وورعهم في أعين الناس(2).

فإذا كان هذا حالهم في حياة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف أصبحوا بعد وفاته؟ لا شكّ بأنّهم نشطوا وتكاثَروا، وازداد تستّرهم وتمثيلهم، فلم يعد هناك نبىٌّ يعرفهم، ولا وحىٌ يفضحُهم، وخصوصاً وقد ظهرت بموته (صلى الله عليه وآله وسلم) بوادر

____________

1- الزخرف: 78.

2- أخرج أبو يعلى في مسنده 1: 90، وابن حجر في إصابته 2: 341 في ترجمة ذي الثدية عن أنس بن مالك، قال: كان في عهد رسول الله رجلٌ يعجبنا تعبّده واجتهاده، وقد ذكرنا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باسمه فلم يعرفه، فوصفناه بصفته فلم يعرفه، فبينما نحن نذكره إذ طلع الرجلُ، قلنا: هو ذا! قال رسول الله: إنكم تخبروني عن رجل إنّ في وجهه لسعفةٌ من الشيطان، إنّ هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السهم من الرميّة، أقتلُوهم فهم شرّ البريّة. (المؤلف).


الصفحة 188
الشقاق والافتراق من أهل المدينة الذين مردوا على النفاق، وكذلك ارتداد العرب في شبه الجزيرة الذين هم أشـدّ كفـراً ونفاقاً، ومنهم من ادّعى النبوّة كمسيلمة الكذاب، وطليحة، وسجاح بنت الحرث وأتباعهم، وكلّ هؤلاء كانوا من الصّحابة(1).

____________

1- طليحة بن خويلد، اتفق المترجمون للصحابة على أنّه صحابي أسلم سنة تسع للهجرة، ثمّ ارتد، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 1: 316: "طليحة بن خويلد ابن نوفل الأسدي البطل الكرار صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. أسلم سنة تسع ثمّ ارتد وظلم نفسه، وتنبأ بنجد، وتمت له حروب مع المسلمين ثمّ انهزم وخذل ولحق بآل جفنة الغسانيين بالشام ثمّ ارعوى وأسلم.. وأحرم بالحج فلمّا رآه عمر قال: يا طليحة لا أحبك بعد قتلك عكاشة بن محض وثابت بن أقرم.."، وراجع أيضاً أُسد الغابة 3: 95، العبر 1: 26، الإصابة 5: 243 وغيرها.

فهذا صحابي ارتدّ بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنبأ، وقتل الصحابة منهم عكاشة وثابت، حتى إن عمر بن الخطاب يكره رؤيته لفعله الشنيع، وعلى ذلك هناك سؤالان لصاحب كتاب "كشف الجاني" وغيره وهما:

1ـ إنّكم تدّعون بأنّه لم يرتدّ صحابي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عقيب ذكركم لحديث الحوض، فهل هذا الشخص من الصحابة أم أنّه لم يرتد؟!

2ـ تقولون بأنّ الصحابة عدول وقد رضي الله عنهم جميعاً، ثمّ تقولون: بأنّ رضى الله لا يتعقبه سخط، فلا يمكن أن يرضى الله عن الصحابة ـ مثلا ـ ثمّ يغضب عليهم، فهنا نسأل: هل هذا الصحابي ـ وهو طليحة ـ حينما ارتدّ وتنبأ وقتل بعض الصحابة، هل أنّ الله كان راضياً عنه لأنّه صحابي، أم أنّه كان غاضباً عليه لأفعاله الشنيعة؟!

وأمّا سجاح بنت الحارث، فقد عدّها ابن حجر في الإصابة 8: 198 من الصحابة، وهي أيضاً ارتدّت وتنبأت. وبهذا يبطل كلام صاحب "كشف الجاني": 133 في نفيه لصحبتها وتكذيب المؤلّف، دفعاً للحجة باللغو والكلام بغير علم، وتقليداً لمنهج ابن تيمية الذي ينكر الوقائع الصحيحة الثابتة نصرة لبني أُمية وأعداء آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويوجّه السؤالين السابقين هنا ـ أيضاً ـ إلى عثمان الخميس وغيره لمعرفة موقفهم من هذين الصحابيين؟!.


الصفحة 189
وإذا تركنا كلّ هؤلاء، واعتمدنا فقط على سكّان المدينة من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّا نجزم بأنّ هؤلاء ـ أيضاً ـ ظهرتْ فيهم حسيكة النّفاق، وحتّى المؤمنين منهم أغلبهم انقلب على عقبيه من أجل الخلافة.

وقد عرفنا فيما سبق من أبحاث أنّهم تآمروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى وصيّه، وعصوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوامره التي أمرهم بها وهو على فراش الموت.

وهذه الحقيقة لا مفرَّ منها للباحثين عن الحقّ; إذ يصطدمون بها عند قراءة كتب التاريخ والسيرة النبويّة، وقد سجّلها كتاب الله سبحانه بأجلى العبارة، وأحكم الآيات بقوله تعالى:

{وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}(1).

فالشّاكرون هم الأقلية من الصحابة الذين لم ينقلبوا، وثبتوا على العهد الذي أبرموه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبدّلوا تبديلا.

وبهذه الآية الكريمة ومدلولها المحكم تسقطُ دعوى أهل السنّة: بأنّ الصحابة لا علاقة لهم بالمنافقين!!

ولو سلّمنا لهم جدَلا بذلك، فإنّ هذه الآية الكريمة خاطبت الصحابة

____________

1- آل عمران: 144.


الصفحة 190
المخلصين الذين لم يكونوا منافقين في حياة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّما انقلبوا على أعقابهم بعد وفاته مباشرة.

وسوف يتّضح أمر هؤلاء إذا ما بحثنا أحوالهم في حياة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد وفاته، وما قاله فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وطفحتْ به كتب الحديث والسيرة والتاريخ.

السنّة النّبوية تكشف حقائق بعض الصحابة

وحتّى لا يتوهّم معاندٌ في الأحاديث النبويّة التي تناولت الصّحابة، ويحاول الطعن فيها أو تضعيفها، فقد اعتمدنا فقط أحاديث البخاري، والذي هو أصحّ الكتب عند أهل السنّة، ورغم أنّ البخاري كتم الكثير من هذه الأحاديث حفاظاً على كرامة الصحابة، كما هو معروف عنه، ولأنّ غيره من صحاح أهل السنّة أخرج أضعافها وبعبارات أكثر وضوحاً، إلاّ أننا نكتفي بهذا الموجز الذي أخرجه البخاري لتكون حجّتنا أبلغ.

أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الأوّل في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر من كتاب الإيمان:

قال إبراهيم التيمىُّ: ما عرضت قولي على عملي إلاّ خشيتُ أن أكون مكذّباً، وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّهم يخاف النّفاقَ على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول: إنّه على إيمان جبريل وميكاييل... (صحيح البخاري: 1: 17).

وإذا كان ابن أبي مليكة أدرك ثلاثين من أصحاب النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّهم يخاف النفاق على نفسه، ولا يدّعي الإيمان الصحيح لنفسه، فما بالُ أهل

الصفحة 191
السنّة يرفعونهم إلى منزلة الأنبياء، ولا يقبلون النقد في أيّ واحد منهم؟!

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرابع في باب الجاسوس والتجسّس من كتاب الجهاد والسير:

أنّ حاطب بن أبي بلتعة، وهو من صحابة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بعث إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد جيء بكتابه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذا يا حاطب؟ فاعتذر للنبىّ بأنّه يريد حماية قرابته في مكّة، وصدّقه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال عمرُ: يا رسول الله دعني أضربُ عُنقَ هذا المنافق! قالَ: إنّه شهد بدْراً، وما يدريك لعلّ الله أن يكن قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم.. (صحيح البخاري: 4: 19).

وإذا كان حاطب، وهو من الرّعيل الأوّل من الصحابة الذين شهدوا بدراً يبعث بأسرار النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أعدائه من مشركي مكّة، ويخون الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعذر حماية قرابته، ويشهد عمر بن الخطّاب نفسه على نفاقه، فكيف بالصحابة الذين أسلموا بعد الفتح أو بعد خيبر أو بعد حنين؟! وكيف بالطلقاء الذين استسلموا ولم يسلموا؟!

أمّا ما جاء في الفقرة الأخيرة من القول المنسوب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ الله قال لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم". فنترك التعليق عليه للقارئ اللّبيب.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه السادس في باب قوله: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

الصفحة 192
الْفاسِقِينَ} من كتاب فضائل القرآن سورة المنافقين:

أنّ رجلا من المهاجرين كسح رجلا من الأنصار، فقال الأنصاريُّ: يا للأنصار، وقال المهاجرىُّ: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "ما بال دعوى أهل الجاهلية"؟ قالوا: يا رسول الله كسح رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: "دعوها فإنّها مُنِتنةٌ"، فسمع بذلك عبد الله بن أُبي فقال: فعلوها! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلّ، فبلغ النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنقَ هذا المنافق! فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "دعْهُ لا يتحدّث النّاس أنّ محمّداً يقتُلُ أصحابَهُ". (صحيح البخاري: 6: 65).

وهذا الحديث صريح في أنّ المنافقين كانوا من الصّحابة، فقد أقرّ رسول الله قول عمر بأنّه منافق، ولكن منعه من قتله حتّى لا يُقال بأنّ محمّداً يقتل أصحابَه، ولعلّ الرّسول كان يعلم بأنّ أكثر أصحابه منافقون، وإذا ما قتل كلّ المنافقين لم يبق من أصحابه عددٌ كثير، فأين أهل السنّة من هذه الحقيقة المؤلمة التي تدحض مزاعمهم.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب حديث الإفك من كتاب الشهادات:

أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "من يعذرني من رجل بلغني أذاهُ في أهلي"؟ فقام سعدُ بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عُنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحاً ولكن

الصفحة 193
احتملته الحميّة، فقال: كذَبتَ لعمر الله لا تقتلنّه ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن الحضير فقال: كذَبتَ لعمر الله، والله لنقتلنّه فإنّك منافقٌ تجادلُ عن المنافقين، فثار الحيّان الأوس والخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتّى سكتوا وسكت... (صحيح البخاري 3: 156 وكذلك 6: 8).

وإذا كان سعد بن عبادة سيّد الأنصار يتّهم بالنّفاق بعدما كان رَجُلا صالحاً كما تشهد بذلك الرّواية، ويقال عنه "منافق" بحضرة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يدافع عنه، وإذا كان الأنصار الذين امتدحهم الله في كتابه يثورون جميعاً بأوسهم وخزرجهم، ويهمّوا بالاقتتال من أجل منافق آذى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهله، فيدافعون عنه ويرفعون أصواتهم بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف يستغربُ النفاقُ من غيرهم الذين كرّسوا حياتهم في محاربة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته، أو من الذين همّوا بحرق دار ابنته بعد وفاته من أجل الخلافة؟!!

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثامن من كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَـيْهِ..}(1).

أنّ علي بن أبي طالب بعث وهو باليمن إلى النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بقطع من الذهب، فقسّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بعض النّاس، فتغضّبت قريش والأنصار، فقالوا: يُعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا؟ قال النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّما أتألّفهم"، فأقبل رجلٌ فقال: يا محمّد اتّق الله! فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "فمن يطع الله إذا عَصَيْتُهُ؟ فيأمنّي على أهل الأرض ولا تأمنوني"؟

____________

1- المعارج: 4.


الصفحة 194
فسأل خالد بن الوليد قتله، فمنعه النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك، فلمّا ولَّى قال النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ من ضئضئي هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرُقونَ من الإسلام مروقَ السّهم من الرميّة، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنّهُم قتل عاد". (صحيح البخاري 8: 178).

وهذا منافقٌ آخر من الصحابة يتّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحيف في القسمة، ويواجه النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير أدب بقوله: "يا محمّد اتّق الله"!! ورغم معرفة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفاقه، وأنّه يخرج من ضئضئه قومٌ يمرقُون من الإسلام مروق السّهم من الرميّة، فيقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، ورغم ذلك كلّه منع النبىُّ خالد من قتلهِ.

وفي هذا جواب لأهل السنّة الذين كانوا كثيراً ما يحتجّون علىَّ بقولهم: لو كان رسول الله يعلم أنّ من أصحابه منافقين سيكُونون سبباً في ضلالة المسلمين، لوجب عليه قتلهم لحماية أُمّته وحماية دينه!!

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب إذا أشار الإمامُ بالصلح من كتاب الصلح:

أنّ الزبير كان يحدّثُ أنّه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدْراً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في شراج من الحرّة كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للزبير: اسقِ يا زبير، ثمّ أرسل إلى جارك، فغضب الأنصارىُّ فقال: يا رسول الله إن كان ابن عمّتك؟ فتلوَّنَ وجهُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ثمّ قال: "اسق ثمّ أحبس حتّى يبلغ الجدرَ..." (صحيح البخاري 3: 171).

وهذا نمطٌ آخر من الصحابة المنافقين الذين يعتقدون بأنّ رسول

الصفحة 195
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تأخذه العاطفة فيميل مع ابن عمّته، ويقولها بكلّ وقاحة حتى يتغيّر وجه رسول الله ويتلوّن من شدّة الغضب.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرّابع في باب ما كان النبىّ يعطي المؤلّفة قلوبهم من كتاب الجهاد والسير: عن عبد الله قال: لمّا كان يوم حنين آثر النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أُناساً في القسمةِ، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجُلٌ: والله إنّ هذه القسمة ما عُدلَ فيها وما أُريدَ بها وجهُ اللّهِ، فقلتُ: واللّهِ لأخُبرنَّ النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأتيتُه فأخْبرتُه، فقال: "فمن يعدِلُ إذا لم يعدل اللّهُ ورسولُهُ؟ رحم اللّهُ موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" (صحيح البخاري 4: 61).

وهذا منافقٌ آخر من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولعلّه من عظماء قريش، ولذلك تحاشى الراوي ذكر اسمه خوفاً من الجهاز الحاكم في ذلك الوقت، وترى هذا المنافق يعتقد جزماً ويُقسم على ذلك بأنّ محمّداً ما كان عادلا ولا أراد بقسمته وجه الله، ورحم الله محمّداً فقد أوذىَ بأكثر من هذا فصبر.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرّابع في باب علامات النبوّة في الإسلام من كتاب بدء الخلق:

إنّ أبا سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقسمُ قسماً، إذ أتاهُ ذو الخويصرة وهو رجلٌ من بني تميم، فقال: يا رسول الله أعدلْ! فقال: "ويلَك ومن يعدلْ إذا لم أعدل، قد خبتَ وخسرتَ إن لم أكن أعدل"، فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عُنقَهُ، فقال: "دعْهُ فإنَّ

الصفحة 196
له أصحاباً يحقِرُ أحدكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامهُ مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوزُ تراقيهم، يمرقُون من الدّين كما يمرُقُ السّهم من الرميّة..." (صحيح البخاري 4: 179).

وهذا نمط آخر من الصحابة المنافقين الذين كانوا يظهرون أمام النّاس بمزيد من التقوى والخشوع، حتّى إنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمر: إنّ أحدكم يحقر صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم، ولا شكّ أنّهم كانوا يحفظون القرآن حفظاً متراكماً ولكن لا يتجاوز حناجرهم، وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "دعْهُ فإنّ له أصحاباً" يدلّ على وجود المنافقين بأعداد كبيرة ضمن الصّحابة.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه السابع في باب من لم يواجه الناس بالعتاب من كتاب الأدب:

قالت عائشة: صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً فرخّص فيه فتنزّه عنه قومٌ، فبلغ ذلك النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخطب فحمد الله ثمّ قال: "ما بال أقوام يتنزّهون عن الشي أصنعه، فوالله إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشيةً". (صحيح البخاري 7: 96).

وهذا نوع آخر من الصحابة الذين يتنزّهون عن سنّة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا شكّ أنّهم كانوا يسخرون من أفعاله، ولذلك نراه (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب فيهم، ويقسم بالله أنّه لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشية.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب الاشتراك في الهدي والبدن من كتاب المظالم:

عن ابن عباس قال: قدم النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) صُبح رابعة من ذي الحجّة مهلّين

الصفحة 197
بالحجّ لا يُخلطُهم شيٌ، فلمّا قدمنا أمرنا فجعلناها عُمرة وأنّ نحلَّ إلى نسائنا، ففشتْ في ذلك القَالَةُ، قالَ عطاء: قال جابر: فيروحُ أحدُنا إلى منى وذكَرُهُ يقطُرُ منيّاً، فقال جابر بكَفِّهِ، فبلغ ذلك النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقام خطيباً فقال: "بلغني أنّ أقواماً يقولون كذا وكذا، والله لأنّا أبرُّ وأتقَى للّهِ منهم..." (صحيح البخاري 3: 114).

وهذا نمط آخر من الصحابة الذين يعصُونَ أوامر رسول الله في الأحكام الشرعية، وقول الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "بلغني أنّ أقواماً يقولون كذا وكذا" يدلّ على أنّ الكثير منهم رفضُوا أن يتحلّلوا لنِسائهم; بدعوى أنّهم يتنزّهون أن يروحوا إلى منى وذُكرانهم تقطرُ منيّاً!! وغاب عن هؤلاء الجهلة أنّ الله أوجب عليهم الغُسلَ والطّهارة بعد كلّ عملية جنسية، فكيف يروحون إلى منى والمنىّ يقطرُ من ذكورهم؟ وهل هم أعلم بأحكام الله من رسول الله نفسه؟ أم هم أبرُّ وأتقى لله منه؟

ولا شكّ أنّ زواج المتعة، أو (متعة النّساء) وقع تحريمها بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرف عمر من هذا القبيل، فإذا كانوا في حياة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يرفضون أوامرهُ بنكاح نسائهم أيّام الحجّ، فلا يُستَغربُ منهم أن يمنعوا نكاح المتعة بعد وفاته، تنزيهاً منهم لأنفسهم عمّا كان يأمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويعتبرون نكاح المتعة من قبيل الزنا، كما يقول اليوم أهل السنّة بهذه المقالة!!

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرّابع في باب ما كان النبي يُعطي المؤلّفة قلوبهم من كتاب الجهاد والسير:

عن أنس بن مالك: إنّ رسول الله حين أفاء الله عليه من أموال هوازن

الصفحة 198
فأعطى رجالا من قريش، فقال الأنصار: يغفر الله لرسول الله يُعطِي قريشاً ويدعُنَا وسيوفنا تقطُر من دمائهم!

فجمعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبّة، ولم يدع معهم أحـداً غيرهم وقال لهم: "ما كان حديثٌ بلغني عنكم؟" ولمّا أعادوا عليه مقالتهم، قال: "إنّي أعطي رجالا حديثٌ عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب النّاسُ بالأموالِ وترجعون إلى رحالكم برسول الله، فوالله ما تنقلبون به خيرٌ ممّا ينقلبون به" قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم: "إنكم سترون بعدي أثرةٌ شديدة، فاصبروا حتّى تلقوا الله ورسوله على الحوض" قال أنس: فلم نصبر. (صحيح البخاري 4: 59).

ونتساءل: هل كان في الأنصار كلّهم رجلٌ واحدٌ رشيد اقتنع بما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واعتقد بأنَّه لا يميل مع الهوى والعاطفة، وفهم قول الله سبحانه في هذا الصّدد: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(1)؟!

فهل كان فيهم مَنْ دافَعَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قالوا: يغفر الله لرسول الله؟

كلاَّ لم يكن فيهم واحداً بمستوى الإيمان الذي اقتضتْهُ الآية الكريمة!! وقولهم بعد ذلك: بلى يا رسول الله قد رضينا، لم يكنْ عن قناعة، ولذلك جاءت شهادة أنس بن مالك وهو منهم في محلّها، عندما قال: أوصانا بالصبر فلم نصبر!!

____________

1- النساء: 65.


الصفحة 199
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب غزوة الحديبية من كتاب المغازي:

عن أحمد بن إشكاب، حدّثنا محمّد بن فضيل، عن العلاء بن المسيّب، عن أبيه قال: لقيتُ البراء بن عازب رضي الله عنهما، فقلت: طوبى لك صحبت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبايعته تحت الشجرة!

فقال: يابن أخي إنّك لا تَدري ما أحدثنا بعدَهُ. (صحيح البخاري 5: 65).

لقد صدق البراء بن عازب، فإنّ أغلب النّاس لا يدرون ما أحدث الصّحابة بعد وفاة نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) ; من ظلم وصيّه وابن عمّه وإبعاده عن الخلافة، ومن ظلم ابنته الزّهراء وتهديدها بالحرق، وغصب حقّها من النّحلة والإرث والخمس، ومن مخالفة وصايا النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبديل الأحكام التشريعية، وحرق السنّة النبويّة، وضرب الحصار عليها، ومن أذيته (صلى الله عليه وآله وسلم) في لعن وقتل أهل بيته وإبعادهم وتشريدهم، وإعطاء السلطة إلى المنافقين والفاسقين من أعداء الله ورسوله!!

نعم، كلّ ذلك وغيره كثير ممّا أحدثوه من بعده، وبقي مجهولا عند عامّة النّاس الذين ما عرفوا من الحقائق إلاّ ما أملته عليهم مدرسة الخلفاء التي تفنّنتْ في تبديل أحكام الله ورسوله باجتهادات شخصية سمّيت البدع الحسنة!!

وبهذه المناسبة نقول لأهل السنّة: لا تغترّوا يا إخوتَنا بالصُّحبة والصّحابة، فها هو البراء بن عازب من الرّعيل الأول، الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة، يقول لابن أخيه بلسان الحال: لا تغرنّك صحبتي ولا بيعتي

الصفحة 200
تحت الشجرة، فإنّك لا تدري ما أحدثتُ بعده، وقد قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُـبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُـبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَـنْكُثُ عَلَى نَـفْسِهِ}(1).

وكم كان عدد الصحابة النّاكثين كبيراً حتّى عهد النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن عمّه علي أن يُقاتلهم، كما جاء ذلك في كتب التاريخ.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الأوّل والثالث في باب إذا نفر النّاسُ عن الإمام في صلاة الجمعة من كتاب الجمعة:

عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: أقبلتْ عيرٌ من الشّامِ تحمِلُ طعاماً، ونحنُ نصلّي مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجمعة، فانفضّ النّاسُ إلاّ اثني عشَر رجُلا، فنزلتْ هذه الآية: {وَإذَا رَأوْا تِجَارَةً أوْ لَهْواً انفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (صحيح البخاري 1: 225 و3: 6 و7).

وهذا نمط آخر من الصحابة المنافقين الذين لا يتورّعون ولا يخشعون، بل ويفرّون من صلاة الجمعة ليتفرّجوا على العير والتجارة، ويتركون رسول الله قائماً بين يدي الله يؤدّي فريضته في خشوع ورهبة.

فهل هؤلاء مسلمون كَمُلَ إيمانهم؟ أم هل هم منافقون يهزؤونَ من الصّلاة، وإذا قاموا إليها قاموا كُسَالى؟ ولا يُستثنى منهم إلاّ الذين ثبتُوا مع النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لإتمام صلاة الجمعة، وعددهم اثنى عشر رجُلا.

ومن تتبّع أحوالهم واستقصى أخبارهم فسوف يندهش لأفعالهم، ولا شكّ أن هروبهم من صلاة الجمعة تكرّر لمرّات متعدّدة، ولذلك سجّله كتاب

____________

1- الفتح: 10.