الصفحة 201
الله سبحانه بقوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} .

وحتّى تعرف أيّها القارئ العزيز مدى احترامهم لهذه الصّلاة الّتي يحترمُها مسلموا العصر الحاضر أكثر منهم إليك هذه الرّواية:

أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب ما جاء في الغرس من كتاب الوكالة:

عن سهل بن سعيد (رضي الله عنه) أنّه قال: إنّا كنّا نفرح بيوم الجمعة، كانت لنا عجوزٌ تأخذ من أُصول سلق لنا كنّا نغرسُه في أربعائنا فتجعله في قدر لها، فتجعل فيه حبّات من شعير لا أعلم إلاّ أنّه قال: ليس فيه شحمٌ ولا ودكٌ، فإذا صلّينَا الجمعة زرناها فقرّبْتُه إلينا، فكنَّا نَفْرَحُ بيوم الجمعة من أجل ذلك، وما كنّا نتغذّى ولا نقيل إلاّ بعد الجمعة!! (صحيح البخاري 3: 73).

فهنيئاً مريئاً لهؤلاء الصّحابة الذين لا يفرحون بيوم الجمعة للقاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والاستماع لخُطبه ومواعظه، والصّلاة بإمامته، ولا بلقاء بعضهم البعض، وما في ذلك اليوم من بركات ورحمات، ولكنّهم يفرحونَ بيوم الجمعة من أجل طعام مخصوص أعدّته لهم عجوز، ولو قال أحد المسلمين اليوم بأنّه يفرح بيوم الجمعة من أجل الطعام لأعتُبرَ من المسوّفين المهملين.

وإذا أردنا مزيداً من البحث والتنقيب، فإنّنا سنجد الشّاكرين الذين مدحهم القرآن الكريم أقليّة لا يتجاوزُ عددهم الاثنى عشر رجلا، وهؤلاء هم المخلصون الذين لم ينفضّوا إلى اللّهو والتجارة ويتركوا الصّلاة، وهم أنفسهم الذين ثبتوا في الجهاد مع النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في العديد من المواطن التي فرَّ منها بقيّة الصّحابة وولّوا مُدبرين.


الصفحة 202
فقد أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرابع في باب ما يكره من التّنازع والاختلاف في الحرب من كتاب الجهاد والسير:

عن البراء بن عازب قال: جعل النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على الرجّالة يوم أُحد ـ وكانوا خمسين رجُلا ـ عبد الله بن جُبير، فقال: إنّ رأيتمونا تخطّفُنا الطيرُ فلا تبرحوا مكانكم هذا حتّى أرسلُ إليكم، فهزموهم.

قال: فأنا والله رأيتُ النساء يشتدِدْنَ قد بدتْ خلاَخلُهنَّ وأسواقُهُنَّ رافعات ثيابهنَّ، فقالَ أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمةَ أي قوم الغنيمةَ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟

فقال عبدُ الله بن جُبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قالوا: والله لنأتينّ النّاس فلنُصِيبنَّ من الغنيمةِ، فلمّا أتوهم صرفت وُجوههم فأقبلُوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسولُ في آخراهم، فلم يبق مع النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غيرُ اثني عَشَرَ رجُلا، فأصابوا منّا سبعينَ... (صحيح البخاري 4: 26).

وإذا عرفنا ممّا ذكره المؤرّخون لهذه الغزوة بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج بألف صحابي كلّهم يتشوّقون للجهاد في سبيل الله، مغترّين بالنّصر الذي حصل في غزوة بدر، ولكنّهم عَصُوا أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتسبّبوا في هزيمة نكراء شنيعة قُتِل فيها سبعون وعلى رأسهم حمزة عمّ النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفرّ الباقون، ولم يبق مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ساحة المعركة غير اثنيْ عشر رجُلا على ما يقوله البخاري، أمّا غيره من المؤرخين فينزلُ بهذا العدد إلى أربعة فقط، وهم: علي بن أبي طالب الذي تصدّى للمشركين يحمي بذلك وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأبو دجانة يحمي ظهره، وطلحة، والزبير، وقيل سهل بن حنيف.


الصفحة 203
ومن هذه المواقف نفهم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا أرى يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم" (سيأتي البحث في هذا الحديث).

وإذا كان اللّهُ سبحانه وتعالى قد توعّدهم بالنّار إذا فرّوا من الحرب فقال: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَال أوْ مُتَحَيِّزاً إلَى فِئَة فَقَدْ بَاءَ بِغَضَب مِنَ اللّهِ وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ}(1).

فما هي قيمة هؤلاء الصّحابة الذين يفرّون من الصّلاة من أجل اللّهو والتجارة، ويفرّون من الجهاد خوفاً من الموت، تاركين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده بين الأعداء، وفي كلتا الحالتين ينفضّوا ويُولّوا الأدبار بأجمعهم ولا يبق معه (صلى الله عليه وآله وسلم) غير اثني عشر رجلا على أكثر التقديرات، فأين الصّحابة يا أُولي الألباب؟!

ولعلّ بعض الباحثين عندما يقرؤون مثل هذه الأحداث والروايات يستصغرون شأنها، ويظنّون بأنّها حادثة عرضية عفا الله عنها، ولم يعُد الصحابة إلى مثلها بعد ذلك.

كلا، فإنّ القرآن الكريم يوقفنّا على حقائق مذهلة، فقد سجَّلَ الله سبحانه فرارَهم يوم غزوة أُحد بقوله:

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَـنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْل عَلَى المُؤْمِنِينَ * إذْ تُصْعِدُونَ

____________

1- الأنفال: 15 ـ 16.


الصفحة 204
وَلا تَلْوُونَ عَلَى أحَد وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي اُخْرَاكُمْ فَأثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(1).

فهذه الآيات نزلتْ بعد معركة أُحد، والتي انهزم فيها المسلمون بسبب رغبتهم في متاع الدنيا عندما رأوْا النّساء رافعات ثيابهن، قد بدت أسواقهنّ وخلاخلهنّ على ما حكاه البخاري، فعصوا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما حكاه القرآن; فهل اعتبر الصّحابة بتلك الحادثة وتابوا إلى الله واستغفروه ولم يعودوا لمثلها بعد ذلك؟

كلاّ فإنّهم لم يتوبوا وعادوا إلى أكبر منها في غزوة حُنين، والتي وقعتْ في آخر حياة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان عددهم في تلك المعركة اثنى عشر ألفاً على ما ذكره المؤرّخون!!

ورغم كثرتهم فقد لاذوا بالفرار، وولّوا مدبرين كالعادة; تاركين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسط أعداء الله من المشركين، ومعه تسعة أو عشرة أنفار من بني هاشم على رأسهم الإمام علي بن أبي طالب، كما نصّ عليه اليعقوبي في تاريخه وغيره(2).

وإذا كان فرارهم يوم أُحد شنيع، فهو في حنين أشنعُ وأقبحُ; لأنّ الصّابرين الذين ثبتوا معه يوم أُحد كانوا أربعة من ألف صحابي، وهي نسبة واحد من كلّ مائتين وخمسين، أمّا في يوم حُنين فكان الصّابرون الثّابتون

____________

1- آل عمران: 152 ـ 153.

2- ذكر اليعقوبي في تاريخه 2: 31 أنّه لم يبق مع النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ ثلاثة نفر: عليّ والزبير وطلحة. وفي تاريخ الإسلام للذهبي 1: 173: "لم يبق مع رسول الله إلاّ اثنا عشر رجلا".


الصفحة 205
عشرة من اثني عشر ألف صحابي، وهي نسبة واحد من كل ألف ومائتين!!

وإذا كانت معركة أحد في بداية الهجرة، والنّاس لم يزالوا أقليّة وحديثي عهد بجاهلية، فما هو عذرهم في معركة حُنين التي وقعت في آخر السنّة الثامنة للهجرة النبويّة، ولم يبق من حياة النبىّ معهم إلاّ عامين؟! ورغم كثرة عددهم وعدّتهم فقد أطلقوا أرجلهم للرّيح، وهربوا غير مُلتفتين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!!

فالقرآن الكريم يُبيّنُ بوضوح مواقفهم المتخاذلة، وهروبهم من الزّحف في تلك المعركة بقوله:

{وَيَوْمَ حُنَيْن إذْ أعْجَبَـتْكُمْ كَـثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ}(1).

يبيّنُ سبحانه بأنّه قد ثبَتَ رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين صبروا معه على القتال بإنزال السكينة عليهم، ثمّ أمدّهم بجنود من الملائكة يحاربون معهم، ونصرهم على الكافرين، فلا حاجة للمرتدّين الذين يفرّون من العدوّ خوفاً من الموت، ويعصون بذلك ربّهم ونبيّهم، وكلّما امتحنهم الله وجدهم فاشـلين.

ولمزيد البيان لا بُدّ لنا من استعراض الرواية التي أخرجها البخاري بخصوص انهزام الصحابة يوم حُنين:

أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب قول الله تعالى:

____________

1- التوبة: 25 ـ 26.


الصفحة 206
{وَيَوْمَ حُنَيْن إذْ أعْجَبَـتْكُمْ كَـثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} ، من كتاب المغازي.

إنّ أبا قتادة قال: لمّا كان يوم حُنين نظرتُ إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين، وآخر من المشركين يختله من وراءه ليقتُلَهُ، فأسرعتُ إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني، فضربت يده فقطعتها، ثمّ أخذني فضمّني ضمّاً شديداً حتّى تخوّفتُ، ثمّ ترك فتحلّل ودفعته ثمّ قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمتُ معهم، فإذا بعمر بن الخطّاب في النّاس، فقُلت له: ما شأن النّاس؟ قال: أمرُ اللّهِ... (صحيح البخاري 5: 101).

عجيبٌ والله أمر عمر بن الخطّاب الذي هو معدود عند أهل السنّة من أشجع الصّحابة إذا لم يكن أشجعهم على الإطلاق، لأنّهم يروون بأنّ الله أعزّ به الإسلام، وأنّ المسلمين لم يجهروا بالدعوة إلاّ بعد إسلامه!!

وقد أوقفنا التاريخ على الصحيح والواقع، وكيف أنّه ولّى دبره وهرب من المعركة يوم أُحد، كما ولّى دبره وفرّ هارباً يوم خيبر عندما أرسله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مدينة خيبر ليفتحها، وأرسل معه جيشاً فانهزم هو وأصحابه ورجعوا يجبّنونه ويجبّنهم(1)، كما ولّى دبره وهرب يوم حنين مع الهاربين، أو لعلّه كان أوّلَ الهاربين، وتبعه النّاس إذ كان هو أشجعهم، ولذلك نرى أبَا قتادة يلتفت من بين أُلوف المنهزمين إلى عمر بن الخطّاب ويسأله كالمستغرب: ما شأن النّاس؟ ولم يكتف عمر بن الخطّاب بهروبه من الجهاد،

____________

1- مستدرك الحاكم 3: 37، كما أخرجه الذهبي في تلخيصه وقال عنه: صحيح، كنز العمال للمتقي الهندي 10: 462 وقال: "ش البزار، وسنده حسن"، المصنّف لابن أبي شيبة 8: 525 وسنده حسن.


الصفحة 207
وترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسط الأعداء من المشركين، حتّى يموّه على أبي قتادة بأنّه أمرُ الله!

فهل أمر اللّهُ عمر بن الخطّاب بالفرار من الزّحف؟ أم أنّه أمرهُ بالثّبات والصبر في الحروب وعدم الفرار؟ فقد قال له ولأصحابه: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ}(1).

كما أخذ اللّهُ عليه وعلى أصحابه عهداً بذلك، فقد جاء في الذكر الحكيم: {وَلَـقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُولا}(2).

فكيف يُولّي أبو حفص الدّبر من الزّحف ويدّعي أنّ ذلك أمر الله؟؟

فأين هو من هذه الآيات البيّنات، أم على قلوب أقفالها؟!

ولسنا هنا بصدد البحث عن شخصية عمر بن الخطّاب، فسوف نُفرِدُ له باباً خاصّاً به، ولكنّ حديث البخاري مثيرٌ لم يترك لنا مندوحة من هذه الملاحظة السّريعة.

والذي يهمّنا الآن هو شهادة البخاري بأنّ الصحابة على كثرة عددهم ولّوا مُدبرين يوم حنين، والذي يقرأ كتب التاريخ في تلك الحروب والغزوات يظهر له العجب العجاب!!

وإذا كان أمرُ الله لا يطاع من أكثر الصحابة ـ كما عرفنا من خلال الأبحاث السّابقة ـ فلا يُستغرب منهم الإعراض عن أوامر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو حىٌّ معهم، أمّا أوامره بعد وفاته ـ بأبي هو وأمّي ـ، وما لقيت منهم من

____________

1- الأنفال: 15.

2- الأحزاب: 15.


الصفحة 208
اهمال وتبديل فحدّث ولا حرج.

الصحابة تجاه أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته

ولنبدأ بالأوامر التي أمر بها (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، والتي قُوبلتْ بالتمرّد والعصيان من قبل هؤلاء الصّحابة.

وسوف لن نتحدّثْ إلاّ بما أخرجه البخاري في صحيحه روماً للاختصار، وضارباً على بقية صحاح أهل السنّة صفحاً، وإلاّ فإنّ فيها أضعاف الأضعاف، وبعبارات أكثر وضوحاً، وأكثر تحدّياً.

أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب من كتاب الشروط، وبعد ما أورد البخاري قصة صلح الحديبية، ومعارضة عمر بن الخطّاب لما وافق عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشكّه فيه حتّى قال له صراحة: أَلسْتَ نبيّ الله حقّاً؟ إلى آخر القضيّة. قال البخاري: فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: "قوموا فانحروا ثمّ أحلقوا"، قال: فوالله ما قام منهم رجلٌ حتّى قال ذلك ثلاث مرّات، فلم يقم منهم أحدٌ، فدخل على أُمّ سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس. (صحيح البخاري 3: 182)!!

ألا تعجب أيّها القارئ من تمرّد الصّحابة وعصيانهم تجاه أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورغم تكرار الأمر ثلاث مرات فلم يستجب له منهم أحد؟!

ولا بدّ هنا من ذكر محاورة دارت بيني وبين بعض العلماء في تونس بعد صدور كتابي "ثمّ اهتديت"، وأنّهم قرأوا فيه تعليقي على صلح الحديبية، فعلّقوا بدورهم على هذه الفقرة بقولهم: إذا كان الصّحابة قد عصوا أمر

الصفحة 209
النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنحر والحلق فلم يمتثل لأمره أحد، فإنّ عليّاً بن أبي طالب كان معهم ولم يمتثل هو الآخر لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

وأجبتهم بما يلي:

أولا: لم يكن علي بن أبي طالب معدوداً من الصّحابة، فهو أخ رسول الله وابن عمّه وزوج ابنته وأبو ولده، وقد كان علىّ مع رسول الله في جانب وبقية النّاس في جانب، فإذا قال الرّاوي في صحيح البخاري بأنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرَ أصحابه بالنحر والحلق، فإنّ أبا حسن سلام الله عليه لم يكن معدوداً ضمنهم، فهو بمنزلة هارون من موسى، ألا ترون أنّ الصلاة على محمّد لا تكون كاملة إلاّ إذا أُضيف إليها الصلاة على آله، وعلي هو سيّد آل محمّد بدون منازع، فأبو بكر وعمر وعثمان وكلّ الصّحابة لا تصحُّ صلاتهم إلاّ إذا كان فيها ذكر علي بن أبي طالب مع محمّد بن عبد الله.

ثانياً: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان دائماً يُشركُ عليّاً أخاه في هَدْيهِ، كما وقع ذلك في حجّة الوداع عندما قدم علىٌّ من اليمن، وسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "بماذا أهللتَ يا علي"؟ فقال: "بما أهلّ رسول الله"، فأشركه النبي في هديه، وقد ذكر هذه القضيّة كلّ المحدّثين والمؤرّخين، فلا بدّ أن يكون شريكه يوم الحديبية ـ أيضاً ـ.

ثالثاً: إنّ عليّ بن أبي طالب هو الذي كتب الصُّلح يوم الحديبية بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يعترض عليه في شيء طيلة حياته، لا بمناسبة الحديبية ولا في غيرها، ولم يسجّل التاريخ بأنّه (عليه السلام) تأخّر عن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عصاه مرّة واحدة ـ حاشاه ـ، ولا فرّ مرّة من الزحف وترك

الصفحة 210
أخَاه وابن عمّه بين الأعداء، بل كان دائماً يفديه بنفسه، والخلاصة أنّ عليّاً ابن أبي طالب هو كنفس النّبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "لا يحلّ لأحد أن يجنُب في المسجد إلاّ أنا وعلي"(1).

واقتنع أغلب المحاورين بما أوردْتُه، واعترفوا بأنّ عليّ بن أبي طالب ما خالف في حياته أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثامن في الباب كراهية الخلاف من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة:

عن عبد الله بن عباس قال: لمّا احتضر النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب، قال: "هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده"، فقال عمر: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غَلبهُ الوجْع، وعندكم القرآنُ فحسبُنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عُمر.

فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: "قوموا عنّي"، فكان ابن عباس يقول: إنّ الرّزية كلّ الرزّية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (صحيح البخاري 8: 161 و1: 37 و5: 138).

____________

1- سنن الترمذي 5: 303 وقال: "حديث حسن.."، تفسير القرطبي 5: 207، تاريخ دمشق 42: 140، سير أعلام النبلاء 13: 272، السنن الكبرى للبيهقي 7: 66، فتح الباري لابن حجر 7: 13، وفي أجوبة المصابيح قال ابن حجر: "وورد لحديث أبي سعيد شاهد نحوه من حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه البزار من رواية خارجة بن سعد عن أبيه، ورواته ثقات..".


الصفحة 211
وهذا أمرٌ آخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقابله الصّحابة بالرفض والعصيان، وبانتقاص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

مع الملاحظة بأنَّ عمر بن الخطاب قال بحضرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لمّا طلب منهم إحضار الكتف والدّواة ليكتب لهم الكتاب الذي يمنعهم من الضّلالة قال: إنّ رسول الله يهجُرُ، بمعنى يهذي ـ والعياذ بالله ـ.

ولكنّ البخاري هذّب تلك العبارة وأبدلها بـ "غلبه الوجع"; لأنّ قائلها عمر بن الخطّاب!! وتراه إذا أهمل اسم عمر في الرواية قال: فقالوا: هجر رسول الله، وهذه أمانة البخاري في نقل الحديث (وسوف نعقد له باباً خاصّاً).

وعلى كلّ حال، فإنّ أكثر المحدّثْين والمؤرّخين ذكروا بأنّ عمر بن الخطاب قال: إنّ رسول الله يهجرُ(1)، وتبعه كثير من الصّحابة فقالوا مقالته

____________

1- ذكر ذلك كلّ من الغزالي في سرّ العالمين: 40، سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص: 65، ابن الأثير في النهاية 5: 245، الجوهري في السقيفة وفدك، كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 51، ابن تيمية في منهاج السنة 6: 24، 315 تحقيق محمّد رشاد سالم.

لكن صاحب كتاب كشف الجاني: 134 يضع رأسه في الرمل كالنعامة عند الوصول إلى هذ النقاط الخطرة، والتي تقلب الصورة المصطنعة عنده وعند غيره لعمر بن الخطّاب، فأخذ كعادته بالاستهزاء والسخرية، والتهجّم على المؤلّف وعموم الشيعة، ونسبته عدم العقل إليهم، مع أنّ إمامه ابن تيمية يقرّ بذلك ويعترف بأنّ الذي قالها عمر بن الخطّاب!! فليس أمام عثمان الخميس إلاّ خيارين وأحلاهما مرٌّ وهو: إمّا القول بأنّ عمر بن الخطاب لم يقل ذلك ـ وهو غير صحيح ـ وفي ذلك ردّ على شيخه ابن تيمية!! وإمّا القول بأنّ عمر بن الخطّاب قال ذلك، وفي ذلك تجريح بعبقريه العظيم واسطورته المصطنعة عمر بن الخطّاب!! فأيّهما اختاره كان مرّاً!


الصفحة 212
بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولنا أن نتصوّر ذلك الموقف الرّهيب، وتلك الأصوات المرتفعة، وكثرة اللّغط والاختلاف بحضرته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومهما تكن الرّواية معبّرة فلا تعبّر في الواقع إلاّ قليلا عن المشهد الحقيقي، كما إذا قرأنا كتاباً تاريخياً يحكي حياة موسى (عليه السلام)، فمهما يكن الكتاب معبّراً فلا يبلغ تعبير الفيلم السينمائي الذي نُشاهده عياناً.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه السّابع في باب ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر الله عزّ وجلّ من كتاب الأدب، قال:

احتجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجيرة مُخصّفةً أو حصيراً، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُصلّي إليها، فتبعه رجالٌ وجاؤوا يُصلّون بصلاته، ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا البابَ، فخرج إليهم مغضباً فقال لهم: "ما زال بكم صنعكم حتى ظننتُ أنّه سيكتب عليكم، فعليكم بالصّلاة في بيوتكم، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة". (صحيح البخاري 7: 99 و2: 252).

ومع كلّ الأسف فإنّ عمر بن الخطّاب خالف أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجمع النّاس على صلاة النّافلة أيام خلافته، وقال في ذلك: إنّها بدعة ونعم البدعة(1)، وتبعه على بدعته أكثر الصّحابة الذين كانوا يرون رأيّه، ويُؤيّدونه

____________

1- صحيح البخاري 2: 252، كتاب صلاة التراويح.


الصفحة 213
في كلّ ما يفعل ويقول، وخالفه علي بن أبي طالب وأهل البيت الذي لا يعملون إلاّ بأوامر سيّدهم رسول الله صلّى الله عليه وعليهم، ولا يبغون عنها بدلا، وإذا كانت كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار، فما بالك بالّتي جُعلتْ لتُخالف أحكام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!!

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب غزوة زيد بن حارثة من كتاب المغازي، عن ابن عمر... قال:

أمَّرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أُسامة على قوم فطعنوا في إمارته، فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتُم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة، وإن كان من أحبّ النّاس إلَىَّ، وإنّ هذا لمن أحبّ النّاس إلىَّ بعده" (صحيح البخاري 5: 84).

وهذه القصّة ذكرها المؤرّخون بشيء من التفصيل، وكيف أنّهم أغضبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى لعن المتخلّفين عن بعث أُسامة، وهو القائد الصغير الذي لم يبلغ عمره سبعة عشر عاماً، وقد أمّره النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على جيش فيه أبو بكر، وعمر، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وكلّ وجوه قريش، ولم يعيّن في ذلك الجيش علي بن أبي طالب، ولا أحداً من الصّحابة الذين كانوا يتشيّعون له.

ولكن البخاري دائماً يقتصر الحوادث ويبتر الأحاديث حفاظاً على كرامة السّلف الصّالح من الصّحابة!!، ومع ذلك ففيما أخرجه كفاية لمن أرادَ الوصول إلى الحقّ.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثّاني في باب التنكيل لمن أكثر

الصفحة 214
الوصال من كتاب الصوم، عن أبي هريرة قال:

نهى رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الوصال في الصّوم، فقال له رجلٌ من المسلمين: إنّك تواصل يا رسول الله! قال: "وأيّكم مثلي؟ إنّي أبيت يُطعمني ربّي ويسقين"، فلمّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً ثمّ يوماً ثمّ رأوا الهلال، فقال: "لو تأخّر لزدْتكم"، كتنكيل لهم حينَ أبوا أن ينتهوا. (صحيح البخاري 2: 243).

مرحى لهؤلاء الصّحابة الذين ينهاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الشيء فلا ينتهوا، ويكرّر لهم نهيه فلا يسمعوا! أفلم يقرأوا قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّـقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ}(1).

ورغم تهديد الله سبحانه لمن خالف رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعقاب الشّديد فإنّ بعض الصّحابة لا يُقيمون لتهديده ووعيده وزناً.

وإذا كان حالهم على هذا الوصف فلا شكّ في نفاقهم ولو تظاهروا بكثرة الصّلاة والصّيام والتشدّد في الدّين، إلى درجة أنّهم يحرّموا نكاح نسائهم لئلاّ يروحوا ومذاكيرهم تقطر منيّاً! ويتنزّهون عمّا يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!! كما تقدّم في الأبحاث السّابقة.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب بعث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كتاب المغازي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:

بعث النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام،

____________

1- الحشر: 7.


الصفحة 215
فلم يُحسنُوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتُل منهم ويأسر، ودفع إلى كلّ رجل منّا أسره، حتّى إذا كان يومٌ أمر خالدٌ أن يقتل كلّ رجل منّا أسيره، فقلتُ: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتُلُ رجلٌ من أصحابي أسيره حتّى قدمنا على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فذكرناه له، فرفع النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يده فقال: "اللهمَّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد" مرّتين!! (صحيح البخاري 5: 107 و8: 118).

ذكر المؤرّخون هذه الحادثة بشيء من التفصيل، وكيف ارتكب خالد بن الوليد هذه المعصية الشنيعة، هو وبعض الصحابة الذين أطاعوه ولم يمتثلوا أوامر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تحريم قتل من أسلم، إنّها من أكبر المعاصي التي أراقت دماء بريئة، ولأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره بدعوتهم للإسلام ولم يأمُره بقتالهم!!

ولكنّ خالد بن الوليد تغلّبتْ عليه دعوى الجاهلية، وأخذته الحمية الشيطانية; لأنّ بني جذيمة قتلوا عمّه "الفاكه بن المغيرة" أيام الجاهلية، فغدر بهم، وقال لهم: ضعُوا أسلحتكم فإنّ الناس قد أسلموا، ثمّ أمر بهم فكُتّفوا وقتل منهم خلقاً كثيراً.

ولمّا علم بعض الصّحابة المخلصين نوايا خالد هربوا من الجيش والتحقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعادوا عليه الخبر، فتبرّأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فعله، وأرسل علي بن أبي طالب فودّى لهم الدّماء والأموال.

ولمعرفة هذه القضية بشيء من التفصيل لا بأس بقراءة ما كتبهُ عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية خالد" إذ قال العقّاد بالحرف في صفحه 45 ما يلي:


الصفحة 216
"فبعد فتح مكّة، توجّهتْ عنايته (عليه السلام) إلى تطهير البوادي المحيطة بها من عبادة الأصنام، فأرسل السرايا إلى قبائلها لدعوتها والاستيثاق من نيّاتها، ومنها سريّة خالد إلى بني جذيمة في نحو ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سليم، أرسلها دعاة ولم يأمرهم بقتال، وكان بنو جذيمة شرّ حىّ في الجاهلية يسمّون لعقة الدم، ومن قتلاهم الفاكه بن المغيرة وأخوه عمّا خالد بن الوليد ووالد عبد الرحمن بن عوف، ومالك بن الشريد وإخوته الثلاثة من بني سليم في موطن واحد، وغير هؤلاء من قبائل شتّى.

فلمّا أقبل عليهم خالد وعلموا أنّ بني سليم معه، لبسوا السّلاح وركبوا للحرب وأبوا النزول، فسألهم خالد: أمسلمون أنتم؟ فقيل: إنّ بعضهم أجابه بنعم، وبعضهم أجابه: صبأنا صبأنا! أي تركنا عبادة الأصنام، ثمّ سألهم: فما بال السّلاح عليكم؟ قالوا: إنّ بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السّلاح! فناداهم: ضعوا السّلاح فإنّ الناس قد أسلموا.

فصاح بهم رجلٌ منهم يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد، والله ما بعد وضع السّلاح إلاّ الأسار، وما بعد الأسار إلاّ ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً، فما زالوا به حتّى نزع سلاحه في من نزع وتفرّق الآخرون.

فأمر خالد بهم فكتّفوا وعرضهم على السّيف، فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب، وأنكر عليه الأنصار والمهاجرون أن يقتل أحداً غير مأمور من النّبي (عليه السلام) بالقتال، ثمّ انتهى الخبر إلى النّبي، فرفع يديه إلى السّماء وقال ثلاثاً: "اللهمّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد" وبعث بعلي بن

الصفحة 217
أبي طالب إلى بني جذيمة، فودّى دماءهم وما أصيب من أموالهم...

وقد عمّ النّكير على الحادث بين أجلاّء الصحابة، من حضر منهم السَّرية ومن لم يحضرها، واشتدّ عبد الرحمن بن عوف حتى رمى خالداً بقتل القوم عمداً ليدرك ثار عميّه" انتهى كلام العقّاد.

نعم، هذا ما ذكره العقّاد بالحرف في كتابه عبقرية خالد، والعقّاد كغيره من مفكّري أهل السنّة بعد ما يورد القصّة بكاملها يلتمسُ أعذاراً باردة ملفّقة لخالد بن الوليد، لا تقوم على دليل ولا يقبلها عقل سليم، وليس للعقّاد عُذرٌ سوى أنّه يكتب "عبقرية خالد"، فكلّ ما جاء به من أعذار لخالد فهي واهية كبيت العنكبوت، والذي يقرأها يشعر بسخافة الدفاع ووهنه.

فكيف وقد شهد هو بنفسه في كلامه بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسلهم دعاة ولم يأمرهم بقتال؟! وأعترف بأنّ بني جذيمة نزعوا سلاحهم بعد ما لبسوه عندما خدعهم خالد بقوله لأصحابه: ضعوا السّلاح فإنّ الناس قد أسلموا؟! واعترف ـ أيضاً ـ بأنّ جحدم الذي رفض نزع السّلاح، وحذّر قومه بأنّ خالداً سيغدر بهم بقوله: ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد، والله ما بعد وضع السّلاح إلاّ الأسار، وما بعد الأسار إلاّ ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً؟!! وقال العقّاد: بأنّ بني جذيمة ما زالوا به حتّى نزع سلاحه، وهذا ما يدلُّ على إسلام القوم وحسن نيّتهم.

فإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسلهم دُعاة ولم يأمرهم بقتال، كما شهدتَ يا عقّاد، فما هو عذر خالد لمخالفة أوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هذه عقدة لا أحسبك تحلّها يا عقّاد.


الصفحة 218
وإذا كان القوم قد نزعوا السّلاح، وأعلنوا إسلامهم، وغلبوا صاحبهم الذي أقسم أن لا يضع سلاحه حتّى أقنعوه كما اعترفت به يا عقّاد، فما هو عذر خالد للغدر بهم وقتلهم صبراً وهم عُزّل من السلاح؟

وقد قلتَ بأنّ خالد أمر بهم فكُتّفوا وعرضهم على السّيف، وهذه عقدة أُخرى ما أظنّك قادراً على حلّها يا عقّاد، وهل الإسلام أمر المسلمين بقتل من لم يقاتلهم على فرض أنّهم لم يُعلنوا إسلامهم، كلا فهذه حجّة المستشرقين أعداء الإسلام والتي يروّجونها اليوم.

ثمّ اعترفت مرّةً أُخرى بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأمره بقتال القوم، إذ قُلتَ: بأنّ المهاجرين والأنصار أنكروا على خالد أن يقتل أحداً غير مأمور من النّبي (عليه السلام) بالقتال، فما هو عُذرك ـ يا عقّاد ـ في التماس العذر لخالد؟

ويكفينا ردّاً على العقّاد، أنّه أبطل أعذاره بنفسه وناقضها بأكلمها حين اعترف بقوله:

"وقد عمّ النّكير على الحادث بين أجلاّء الصحابة، من حضر منهم السرية ومن لم يحضرها"، فإذا كان أجلاّء الصّحابة شدّدوا النّكير على خالد حتّى هربوا من جيشه، واشتكوه للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا كان عبد الرحمن بن عوف قد اتّهم خالداً بقتل القوم عمداً ليدرك ثأر عمّيْه كما شهد بذلك العقّاد، وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رفع يديه إلى السماء، وقال ثلاث مرّات: "اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد"، وإذا كان النّبي بعث بعليّ ومعه أموالٌ، فودّى لبني جذيمة دماءهم وما أُصيب من أموالهم حتى استرضاهم ـ كما شهد العقاد ـ ; فكلّ هذا يدلّ على أنّ القوم أسلموا، ولكنّ خالد

الصفحة 219
ظلمهم واعتدى عليهم!!

فهل من سائل يسأل العقّاد الذي يحاول جهده تبرير فعل خالد: إن كان هو أعلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي تبرّأ إلى الله ثلاثاً من فعله؟ أو من أجلاّء الصّحابة الذين أنكروا عليه؟ أو من الصّحابة الذين حضروا الواقعة، وهربوا من السّرية لهول ما رأوه من صنيعه المُنكر؟ أو من عبد الرحمن بن عوف الذي كان معه في السّرية، وهو لا شكّ أعرف بخالد من العقّاد، والذي اتهمه بقتل القوم عمداً ليدرك ثأرَ عمَّيه؟

قاتل الله التعصّب الأعمى، والحمية الجاهلية التي تقلب الحقائق!

ومهما اختصر البخاري القضية في أربعة سطور، فإنّ فيما أورده كفاية لإدانة خالد، وبقية الصّحابة الذي أطاعوه في قتل المسلمين الأبرياء، والذين ذكرهم العقاد بقوله: فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب.

ولكنّ البخاري لا يستثني من الصحابة الذين أطاعوه إلاّ اثنين أو ثلاثة، هربوا من الجيش ورجعوا للنبي يشتكون خالد، فلا يمكن لك أن تقنعنا ـ يا عقّاد ـ بأنّ المهاجرين والأنصار ـ وعددهم ثلاثمائة وخمسون كما صرّحت أنت بذلك ـ لم يطيعوا خالداً في قتل القوم، وهربوا كلّهم من الجيش!! فهذا لا يصدّقه أحدٌ من الباحثين.

ولكنّها محاولة منك للحافظ على كرامة السّلف الصّالح من الصّحابة، وستر الحقائق بأىّ ثمن، وجاء الوقت لإزاحة السّتار ومعرفة الحقّ.

وكم لخالد بن الوليد من مجازر شنيعة حدّثنا عنها التاريخ، خصـوصاً يوم البـطاح عندما انتدبه أبو بكر على رأس جيش كبير مؤلّـف من

الصفحة 220
الصّـحابة الأولين، فغدر ـ أيضاً ـ بمالك بن نويرة وقومه، ولمّا وضعوا السّلاح أمر بهم فكُتّفوا وضرب أعناقهم صبراً، ودخل بزوجة مالك ليلى أم تميم في نفـس الليلة التي قتل فيها بعلها، ولمّا وقف عمر بن الخـطاب يقتص منه وقال له: قتلت امرئاً مسلماً ثمّ نزوتَ على زوجته!! والله لأرجُمنّك بأحجارك يا عدوّ الله! وقف أبو بكر إلى جانب خالد وقال لعمر: إرفع لسانك عن خالد فإنّه تأوّل فأخطأ(1).

وهذه قضية أُخرى يطول شرحها ويقبحُ عرضُها، فكم من مظلوم يهضم حقّه; لأنّ ظالمه قوىٌّ عزيز، وكم من ظالم يُنصَرُ ظلمه وباطله; لأنّه غنىٌّ ومقرّبٌ للجهاز الحاكم!! فهذا البخاري عندما يستعرض قصّة بنو جذيمة يبترها بتراً ويقول: بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خالداً إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا.

فهل كان بنو جذيمة فرس أم أتراك أم هنود وألمان، حتى لا يحسنوا أن يقولوا أسلمنا يا بخاري؟! أم هم من القبائل العربية التي نزل القرآن بلغتهم؟ ولكن التعصّب الأعمى والمؤامرة الكبرى التي حيكت للحفاظ على كرامة الصحابة هي التي جعلت البخاري يقول مثل هذا القول ليبرّر فعل خالد بن الوليد!!

وهذا العقّاد ـ أيضاً ـ يقول: فسألهم خالد أمسلمون أنتم؟ ثم يقول العقّاد:

____________

1- راجع بألفاظه المختلفة: تاريخ الطبري 2: 504، أُسد الغابة 4: 295، البداية والنهاية 6: 355، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 206، تاريخ خليفة بن الخياط 68، الإصابة لابن حجر 5: 560.