الصفحة 254
فقال عمر: بل أمِّر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردتَ إلاّ خلافي، قال عمر: ما أردتُ خلافك، فتمارياً حتّى ارتفعتْ أصواتهما، فنزلت في ذلك: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُـقَدِّمُوا بَـيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ}(1)حتى انقضت.

والظاهر من خلال هذه الروايات أنّ أبا بكر وعمر لم يتأدّبا بحضرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآداب الإسلامية، وسمحا لأنفسهما بأن يُقدّمَا بين يدي الله ورسوله بغير إذن ولا طلب منهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبديا رأيهما في تأمير أحد من بني تميم، ثمّ لم يكتفيا حتى تشاجرا بحضرته، وارتفعتْ أصواتهما أمامه من غير احترام ولا مُبالاة بما تفرضه عليهما الأخلاق والآداب، التي لا يمكن لأيّ أحد من الصّحابة أن يجهلها أو يتجاهلها، بعد ما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حياته في تعليمهم وتربيتهم.

ولو كانت هذه الحادثة قد وقعتْ في بداية الإسلام لالتمسنا للشيخين في ذلك عُذْراً، ولحاولنا أن نجد لذلك بعض التأويلات.

ولكنّ الروايات تثبت بما لا يدع مجالا للشكّ بأنّ الحادثة وقعت في أواخر أيّام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ أنّ وفد بني تميم قدم على رسول الله في السنة التاسعة للهجرة، ولم يعش بعدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ بضعة شهور، كما يشهد بذلك كلّ المؤرخين والمحدّثين الذين ذكروا قدوم الوفود على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي تحدّث عنها القرآن الكريم في أواخر السور بقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً}(2).

____________

1- الحجرات: 1.

2- النصر: 1 ـ 2.


الصفحة 255
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يعتذر المعتذرون عن موقف أبي بكر وعمر بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! ولو اقتصرت الرواية على الموقف الذي مثله الصحابيّان فحسب لما وسعنا النقد ولا الاعتراض، ولكنّ الله الذي لا يستحي من الحقّ سجّلها وأنزل فيها قرآناً يُتلى، فيه التنديد والتهديد لأبي بكر وعمر بأن يحبط الله أعمالهما إنّ عادا لمثلها!! حتى إن راوي هذه الحادثة بدأ كلامه بقوله: "كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر"!!

ويحاول راوي الحادثة بعد ذلك ـ وهو عبد الله بن الزبير ـ أن يُقنعنا بأنّ عمر بعد نزول هذه الآية في شأنه إذا حدّث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يسمعه صوته حتى يستفهمه، ورغم أنّه لم يذكر ذلك عن جدّه أبي بكر، فالتاريخ والأحداث التي ذكرها المحدّثون تُثبتُ عكس ذلك، ويكفي أن تذكر رزيّة يوم الخميس قبل وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاثة أيام، حتّى نجد بأنّ عمر نفسه قال قولته المشؤومة: "إنّ رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله"، فاختلف القوم، فمنهم من يقول: قرّبوا إلى الرسول يكتب لكم، ومنهم من يقول مثل قول عمر، فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف(1)قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع"(2).

فالمفهوم من كثرة اللغو واللغط والاختلاف والتنازع أنّهم تجاوزوا كلّ الحدود التي رسمها الله لهم في سورة الحجرات كما مرّ. ولا يمكن اقناعنا بأنّ اختلافهم وتنازعهم ولغطهم كان هَمْساً في الآذان، بل يُفهم من كلّ ذلك

____________

1- صحيح البخاري 5: 138 كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته.

2- صحيح البخاري 1: 37 كتاب العلم، باب كتابة العلم.


الصفحة 256
بأنّهم رفعوا أصواتهم حتى أن النّساء اللاتي كنّ وراء الستر والحجاب شاركن في النّزاع، وقلنَ: قرّبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكتب لكم ذلك الكتاب، فقال لهنّ عمر: إنكنّ صويحبات يوسف، إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صحّ ركبتنّ عنقه، فقال له رسول الله: "دعوهن فإنّهن خير منكم"(1).

والذي نفهمه من كلّ هذا بأنّهم لم يمتثلوا أمر الله في قوله: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُـقَدِّمُوا بَـيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ} {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}(2)ولم يحترموا مقام الرسول، ولا تأدّبوا عندما طعنوه بكلمة الهجر.

وقد سبق لأبي بكر أن تلفّظ بكلام بذيئ بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك عندما قال لعروة بن مسعود أمصَصْ ببظر اللاّت(3). وقال القسطلاني شارح البخاري معلّقاً على هذه العبارة: والأمر بمصّ البظر من الشتائم الغليظة عند العرب(4)، فإذا كانت أمثال هذه الكلمات تُقال بحضرته (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما هو معنى قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض}(5)؟!

وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على خلق عظيم كما وصفه ربُّه، وإذا كان أشدَّ

____________

1- الطبقات الكبرى 2: 244 وسند الحديث حسن، المعجم الأوسط 5: 288، كنز العمال 5: 644 ح14133.

2- الحجرات: 1 ـ 2.

3- صحيح البخاري 3: 169.

4- إرشاد الساري 6: 226، وفتح الباري 5: 248، والشوكاني في نيل الأوطار 8: 197 واستدلّوا به على جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ!! (والمؤلّف نقله بالمضمون).

5- الحجرات: 2.


الصفحة 257
حياءً من العذراء في خدرها، كما أخرج ذلك البخاري ومسلم(1)، وقد صرّح الشيخان البخاري ومسلم بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن فاحشاً ولا مُتفحّشاً، وكان يقول: "إنّ من خياركُمْ أحسنكم أخلاقاً"(2)فمابال صحابته المقرّبين لم يتأثّروا بهذا الخلق العظيم؟

أضف إلى كلّ ذلك بأنّ أبا بكر لم يمتثل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أمّر عليه أُسامة بن زيد، وجعله من جملة عساكره، وشدّد النكير على من تخلّف عنه، حتى قال: "لعن الله من تخلّف عن جيش أُسامة"(3)، وذلك بعدما بلغه (صلى الله عليه وآله وسلم) طعن الطاعنين عليه في مسألة تأمير أُسامة، التي ذكرها جلّ المؤرّخين وأصحاب السير.

كما أنّه سارع إلى السّقيفة وشارك في إبعاد علي بن أبي طالب عن الخلافة، وترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مُسجّى بأبي هو وأُمّي، ولم يهتمّ بتغسيله وتكفينه وتجهيزه ودفنه، متشاغلا عن كلّ ذلك بمنصب الخلافة والزعامة التي أشرأبّتْ لها عنقه، فأين هي الصّحبة المقرّبة، والخلّة المزعومة؟! وأين هو الخلق؟!

وأنا أستغرب موقف هؤلاء الصّحابة من نبيّهم الذي قضى حياته في هدايتهم وتربيّتهم والنصح لهم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ

____________

1- صحيح البخاري 4: 167 كتاب المناقب، باب صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، صحيح مسلم 7: 78 كتاب الفضائل باب كثرة حيائه (صلى الله عليه وآله وسلم).

2- صحيح البخاري 4: 166 كتاب المناقب، باب صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، صحيح مسلم 7: 78 كتاب الفضائل باب كثرة حيائه (صلى الله عليه وآله وسلم).

3- كتاب الملل والنحل للشهرستاني 1: 23 المقدّمة الرابعة.


الصفحة 258
رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(1). فيتركونه جثّة هامدة، ويسارعون للسّقيفة لتعيين أحدهم خليفة له!!

ونحن نعيش اليوم في القرن العشرين الذي نقول عنه بأنّه أتعس القرون، وأنّ الأخلاق تدهورت، والقيم تبخّرتْ، ومع كلّ ذلك فإنّ المسلمين إذا ماتَ جارٌ لهم أسرعوا إليه، وانشغلوا به حتّى يواروه في حفرته، ممتثلين قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "إكرام الميّت دفنه"(2).

وقد كشف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن تلك الوقائع بقوله: "أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنّه ليعلَمُ أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا..."(3).

ثمّ بعد ذلك استباح أبو بكر مهاجمة بيت فاطمة الزّهراء، وتهديده بحرقه إن لم يخرج المتخلّفون فيه لبيعته، وكان ما كان ممّا ذكره المؤرّخون في كتبهم، وتناقله الرواةُ جيلا بعد جيل، ونحن نضرب عن ذلك صفحاً، وعلى من أراد المزيد أن يقرأ كتب التاريخ.

أبو بكر بعد حياة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

تكذيبه للصّديقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء وغصبه حقّها

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة 82 في كتاب المغازي باب غزوة خيبر، قال: عن عروة، عن عائشة: أنّ فاطمة (عليها السلام) بنت

____________

1- التوبة: 128.

2- كشف الخفاء للعجلوني 1: 168.

3- نهج البلاغة 1: 30، الخطبة رقم 3 المعروفة بالشقشقية.


الصفحة 259
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسلتْ إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا نوّرثُ ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت، وعاشتْ بعد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ستّة أشهر، فلمّا توفّيتْ دفنها زوجُها علي ليلا، وصلّى عليها، ولم يؤذن بها أبا بكر، وكان لعلي من النّاس وجْهٌ في حياة فاطمة، فلمّا توفيت استنكر علىٌّ وجوه النّاس، فالتمس مصالحه أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر...(1).

وأخرج مسلم في صحيحه من الجزء الثاني كتاب الجهاد، باب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا نورّث ما تركنا فهو صدقة":

عن عائشة أُمّ المؤمنين رضي الله عنها: أنّ فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سألتْ أبا بكر الصديق، بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقسمَ لها ميراثها ممّا ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وممّا أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لا نوّرث، ما تركنا صدقة".

فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهجرتْ أبا بكر، فلم تزل مهاجرتُه

____________

1- صحيح مسلم 5: 153 أيضاً في كتاب الجهاد، باب قول النبي: لا نورث ما تركنا فهو صدقة.


الصفحة 260
حتى توفيتْ، وعاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستّة أشهر(1).

قالتْ: وكانتْ فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيبر وفدك، وصَدَقتهُ بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال: لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل به إلاّ عملتُ به، فإنّي أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ، فأمّا صدقتهُ بالمدينة فدفعها عُمر إلى علي والعبّاس، فأمّا خيبر وفدك فأمسكها عُمرُ، وقال: هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهُما إلى من ولي الأمْرَ، فهُما على ذلك إلى اليوم.

ورغم أنّ الشّيخين البخاري ومسلم اقتضبا هذه الروايات واختصراها لئلاّ تنكشف الحقيقة للباحثين، وهذا فنٌّ معروف لديهما توخياه للحفاظ على كرامة الخلفاء الثلاثة ـ ولنا معهما بحث في هذا الموضوع إن شاء الله سنوافيك به عمّا قريب ـ إلاّ أن الروايات التي نمّقوها كافية للكشف عن حقيقة أبي بكر الذي ردّ دعوى فاطمة الزّهراء، ممّا استوجب غضبها عليه وهجرانها له حتى ماتت (عليها السلام)، ودفنها زوجها سرّاً في اللّيل بوصية منها دون أن يؤذن بها أبا بكر، كما نستفيد من خلال هذه الروايات بأنّ علياً لم يبايع أبا بكر طيلة ستّة أشهر، وهي حياة فاطمة الزّهراء بعد أبيها، وأنّه أضطرّ لبيعته اضطراراً لمّا رأى وجوه النّاس قد تنكّرت له، فالتمس مُصالحة أبي بكر.

والذي غيّره البخاري ومسلم من الحقيقة هو أدّعاء فاطمة (عليها السلام) بأنّ أباها

____________

1- هذا المقطع لا يوجد في صحيح مسلم، بل أخذه المؤلّف من صحيح البخاري 4: 42، كتاب الخمس باب فرض الخمس.


الصفحة 261
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاها فدك نحلة في حياته، فليس هي من الإرث، وعلى فرض أنّ الأنبياء لا يورّثون، كما روى أبو بكر ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ; كذّبتْه فاطمة الزّهراء (عليها السلام)، وعارضت روايته بنصوص القرآن الذي يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}(1)فإنّ فدك لا يشملها هذا الحديث المزعوم; لأنّها نحلة وليست هي من الإرث في شيء.

ولذلك تجد كلّ المؤرّخين والمفسّرين والمحدّثين يذكرون بأن فاطمة (عليها السلام) ادّعت بأنّ فدك ملك لها، فكذّبها أبو بكر وطلب منها شهوداً على دعواها، فجاءت بعلي بن أبي طالب، وأُمّ أيمن، فلم يقبل أبو بكر شهادتهما واعتبرها غير كافية(2).

____________

1- النمل: 16.

2- اعطاء فدك لفاطمة (عليها السلام) رواه كلّ من أبي يعلى في مسنده 2: 334، والحسكاني في شواهد التنزيل 1: 438 بطرق متعدّدة، والسيوطي في الدر المنثور عن البزار وأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن مروديه، والمتقي الهندي في كنز العمال 3: 767 ح8696، والقندوزي في ينابيع المودة 1: 359 وغيرهم.

ويدلّ على أنّ فدك كانت بيد فاطمة (عليها السلام) اُمور:

1 ـ قول علي (عليه السلام) في كتابه لعثمان بن حنيف: "بلى كانت في أيدينا فدك..." (نهج البلاغة3: 71، الكتاب 45).

2 ـ الأحاديث التي وردت في إعطاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدكاً لفاطمة (عليها السلام).

3 ـ ما ورد في الأخبار من ردّ فدك لبني هاشم ممّا يدلّل على أنّها كانت بيدهم ثمّ أُخذت ثمّ رُدت.

4 ـ ما ورد في الاختصاص للشيخ المفيد: 183 من أنّ ابا بكر بعث إلى وكيل فاطمة (عليها السلام) فأخرجه من فدك.

=>


الصفحة 262

____________

<=

5 ـ شهادة بعض الصحابة بكون فدك لفاطمة، وهم: عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام)، وأُم أيمن، وغيرهم، هذا مضافاً إلى ادّعاء فاطمة ذلك وهي معصومة لا تكذب، وقد أقرّها عليّ (عليه السلام) وابناها المعصومون على ذلك.

لا يقال: ليس من العدل أن يعطي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فدك لفاطمة دون سائر بناته؟

لأنّنا نقول:

أولا: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم ولا يفعل القبيح ولا يظلم أحداً.

ثانياً: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امتثل أمر الله تعالى في إعطاء فدك لفاطمة، ورد في الكافي 1: 543 ح5 عن موسى بن جعفر (عليه السلام) أنّه قال للمهدي العباسي بخصوص فدك لما كان يردّ المظالم: "فدعاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها: يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك" ولا اعتراض على فعل الله تعالى.

ثالثاً: لا نسلّم أن يكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنات غير فاطمة (عليها السلام) والباقي ربائب، كما حقّق في محلّه.

رابعاً: لو سلّمنا جدلا أنّهنّ بناته، ولو سلّمنا أيضاً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أعطى فدك لفاطمة من تلقاء نفسه، فنقول: كان ذلك لعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ ذريته ستكون من فاطمة دون سائر بناته، فكيف لا يهتم بشؤونهم ويدعهم عيال على الناس يتصدّقون متى شاؤوا؟ أفمن العدل تركهم هكذا؟! ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي منع سعد بن أبي وقاص أن يتصدّق بثلُثَي ماله وقال له: "إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" (صحيح البخاري 2: 82) والطريف أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبّر بقوله: "ورثتك" ولم يكن لسعد إلاّ ابنة واحدة، ولذا قال الفاكهي شارح العمدة ـ كما في نيل الأوطار للشوكاني 6: 150 ـ: "إنّما عبّر (صلى الله عليه وآله وسلم) بالورثة; لأنّه اطلع على أنّ سعداً سيعيش ويحصل له أولاد غير البنت المذكورة...".

خامساً: لقد نحل أبو بكر ابنته عائشة دون سائر ولده، وكذلك فعل عمر حيث

=>


الصفحة 263

____________

<=

نحل ابنه عاصماً دون سائر ولده (فتح الباري 5: 158) فلو قالوا: إنّما فعلا ذلك مع رضى سائر الأولاد، قلنا: إنّما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك مع رضى سائر البنات.

قد يقال: ألستم تقولون بأنّ فدك إرث، والآن تقولون هبة؟

فنقول في الجواب: الثابت الصحيح انّ فدك لم تكن إلاّ نحلة وهبة لفاطمة (عليها السلام)، والزهراء بدعواها الإرث قد طالبت بجميع متروكات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي قبضها أبو بكر بلا فرق بين فدك ومال بني النضير وسهمه من خمس خيبر وغيرها، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترك أموالا كثيرة من صدقات وموقوفات وضياع وأملاك، والقوم أطلقوا على كلّها اسم الصدقة لمصالح سياسية، فأخذوها من أهلها ومن له ولاية التصرّف فيها، قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 15: 147 "وقد مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وله ضياع كثيرة جليلة جداً بخيبر وفدك وبني النضير، وكان له وادي نخلة وضياع أُخرى كثيرة بالطائف، فصارت بعد موته صدقة بالخبر الذي رواه أبو بكر ".

وممّا يؤيّد أنّ الأمر تمّ لمصالح سياسية ما روي في المعجم الأوسط 5: 288 عن عمر قال: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جئت أنا وأبو بكر إلى عليّ فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: "نحن أحقّ الناس برسول الله وبما ترك"، قال: فقلت: والذي بخيبر؟ قال: "والذي بخيبر"، قلت: والذي بفدك؟ فقال: "والذي بفدك"، قلت: أما والله حتى تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا.

فتلخّص: أنّ فاطمة (عليها السلام) حاكمت القوم بعدّة محاكمات في عرض واحد: نحلتها، إرثها، موقوفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي لها (عليها السلام) ولاية التصرّف فيها، خمس خيبر، سهم ذوي القربى، وذلك لأنّ القوم أرادوا اغتصابها جميعاً بعنوان أنّها صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والوالي أحقّ بها والنبي لا يورّث، وإلاّ كيف جاز لعمر أن يردّ صدقات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي بالمدينة إلى عليّ والعباس ـ كما في البخاري كتاب فرض الخمس ـ مع أنّه هو الذي شهد مع أبي بكر بأنّ النبي لا يورّث؟!!، فتبيّن

=>


الصفحة 264
وهذا ما اعترف به ابن حجر في الصواعق المحرقة، حيث ذكر بأنّ فاطمة ادّعتْ أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نحلها فدكاً، ولم تأتِ عليها بشهود إلاّ بعلي بن أبي طالب وأُمّ أيمن، فلم يكمل نصاب البيّنة(1).

كما قال الإمام الفخر الرّازي في تفسيره: فلمّا مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ادّعتْ فاطمة (عليها السلام) أنّه كان ينحلها فدكاً، فقال لها أبو بكر: أنتِ أعزّ النّاس علىَّ وأحبّهم إلىَّ غِنى، لكنّي لا أعرف صحة قولك، فلا يجوز أن أحكم لك، قال: فشهدت لها أُمّ أيمن ومولى لرسول الله، فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع، فلم يكن(2).

ودعوْى فاطمة (عليها السلام) بأنّ فدكاً أنحلها لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ أبا بكر ردّ دعوتها، ولم يقبل شهادة علي (عليه السلام) وأُم أيمن; معلومة لدى المؤرّخين، وقد ذكرها كلّ من ابن تيمية، وصاحب السيرة الحلبية، وابن القيم الجوزية وغيرهم.

ولكنّ البخاري ومسلم اختصراها، ولم يذكرا إلاّ طلب الزهراء بخصوص الإرث، حتّى يُوهما القارئ بأنّ غضب فاطمة على أبي بكر في غير محلّه، ولم يعمل أبو بكر إلاّ بما سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي ظالمة وهو

____________

<=

ممّا مضى أنّ الأمر كان ذا أبعاد متشعبة.

ومن هنا يعرف أنّ ما ذكره مؤلّف كتاب كشف الجاني في الصحفة 134 ما هو إلاّ ارتجال ناشئ عن الجهل الذي أطبق عليه.

1- الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي 1: 93 الشبهة السابعة.

2- تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي 10: 506 تفسير سورة الحشر الآية السادسة.


الصفحة 265
مظلوم!! كلّ ذلك حفاظاً منهما على كرامة أبي بكر، فلا مراعاة للأمانة في النقل، ولا لصدق الأحاديث التي كانت تكشف عن عورات الخلفاء، وتزيل الأكاذيب والحجب التي نمّقها الأمويون وأنصار الخلافة الراشدة، ولو كان ذلك على حساب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه أو بضعته الزّهراء سلام الله عليها!!

ومن أجل ذلك حاز البخاري ومسلم على زعامة المحدّثين عند أهل السنّة والجماعة، واعتبروا كتبهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله، وهذا تلفيق لا يقوم على دليل علمي، وسنبحثه إن شاء الله في باب مستقل حتّى نكشف الحقيقة لمن يريد معرفتها.

ومع ذلك فإننا نُناقش البخاري ومسلم اللّذين أخرجا في فضائل فاطمة الزهراء (عليها السلام) الشيء اليسير، ولكن فيه ما يكفي لإدانة أبي بكر الذي عرف الزهراء وقيمتها عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر ممّا عرفه البخاري ومسلم، ومع ذلك كذّبها ولم يقبل شهادتها، وشهادة بعلها الذي قال فيه رسول الله: "علىّ مع الحقّ والحقّ مع علىّ يدور معه حيث دار"(1)ولنكتفِ بشهادة البخاري وشهادة مسلم في ما أقرّه صاحب الرّسالة (صلى الله عليه وآله وسلم)، في فضل بضعته الزهراء.

فاطمة (عليها السلام) معصومة بنصّ القرآن

أخرج مسلم في صحيحه الجزء السّابع باب فضائل أهل البيت، قالت عائشة: خرج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة

____________

1- راجع باختلاف ألفاظه تاريخ بغداد 14: 322 ح7643، تاريخ دمشق 42: 449، الإمامة والسياسة 1: 98.


الصفحة 266
فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله، ثم قال: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1).

فإذا كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي المرأة الوحيدة التي أذهب الله عنها الرّجس، وطهّرها من كلّ الذنوب والمعاصي في هذه الأُمّة، فما بال أبي بكر يكذّبها، يطلبُ منها الشهود يا تُرى؟

فاطمة (عليها السلام) سيّدة نساء المؤمنين وسيّدة نساء هذه الأُمّة

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء السّابع في كتاب الاستئذان في باب من ناجى بين يدي النّاس ومن لم يخبر بسرّ صاحبه فإذا مات أخبر به، ومسلم في كتاب الفضائل، عن عائشة أُم المؤمنين قالت: إنّا كنّا أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنده جميعاً لم تغادر منّا واحدة، فأقبلت فاطمة (عليها السلام) تمشي لا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا رآها رحّب بها، قال: "مرحباً بابنتي"، ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها فبكت بكاءً شديداً، فلمّا رأى حُزْنها سارّها الثانية إذا هي تضحك، فقلتُ لها أنا من بين نسائه: خصّك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسرِّ من بيننا ثمّ أنتِ تبكين، فلمّا قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سألتُها عمّا سارّكِ؟ قالت: "ما كنتُ لأفشي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سِرَّهُ"، فلمّا توفي قلتُ لها: عزمتُ عليك بما لي عليك من الحقّ لما أخبرتني، قالت: أمّا الآن فنعم، فأخبرتني قالت: "أمّا حين سارّني في الأمر الأول، فإنّه أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضُهُ بالقرآن كل سنة مرّة، وأنّه قد

____________

1- الأحزاب: 33.


الصفحة 267
عارضني به العامَ مرّتين، ولا أرى الأجَلَ إلاّ قد اقتربَ، فاتّقي الله واصبري فإنّي نعم السّلف أنا لك، قالت: فبكيتُ بكائي الذي رأيت، فلمّا رأى جزعي سارني الثانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين، أو سيّدة نساء هذه الأُمّة".

فإذا كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهي سيّدة نساء المؤمنين، كما ثبت ذلك عن رسول الله يُكذّبها أبو بكر في أدّعائها فدك ولا يقبل شهادتها، فأيّ شهادة تُقبل بعدها يا تُرى؟!

فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيّدة نساء أهل الجنّة

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الرابع في كتاب بدء الخلق باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة".

فإذا كانت فاطمة (عليها السلام) سيّدة نساء أهل الجنّة، ومعناه أنّها سيدة نساء العالمين; لأنّ أهل الجنة ليسوا أُمّة محمّد وحدهم كما لا يخفى، فكيف يكذّبها أبو بكر الصديق؟

ألم يدّعوا بأنّ لقب الصديق أحرزه لأنّه كان يصدّق كلّ ما يقوله صاحبه محمّد! فلماذا لم يصدّقه فيما قاله بخصوص بضعته الزهراء؟! أم أنّ الأمر لم يكن يتعلّق بفدك وبالصّدقة والنّحلة بقدر ما يتعلّق بالخلافة التي هي من حقّ علي زوج فاطمة؟! فتكذيب فاطمة وزوجها الذي شهد معها في قضية النّحلة أيسر عليه ليَقطع بذلك عليهما الطريق للمطالبة بما وراء ذلك، إنّه مكرٌ كبير تكاد تزول منه الجبال!!


الصفحة 268

فاطمة بضعة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والرّسول يغضب لغضبها

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الرّابع من كتاب بدء الخلق في باب منقبة فاطمة (عليها السلام) بنت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني".

وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغضب لغضب بضعته الزهراء، ويتأذّى بأذاها، فمعنى ذلك أنّها معصومة عن الخطأ، وإلاّ لما جاز للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول مثل هذا ; لأنّ الذي يرتكب معصية يجوز ايذاؤه وإغضابه مهما علت منزلته; لأنّ الشرع الإسلامي لا يراعي قريباً ولا بعيداً، شريفاً أو وضيعاً، غنيّاً أو فقيراً.

وإذا كان الأمر كذلك، فما بال أبي بكر يؤذي الزهراء ولا يبالي بغضبها، بل يغضبها حتى تموت وهي واجدةٌ عليه، بل ومهاجرته فلم تكلّمه حتى توفيت، وهي تدّعي عليه في كلّ صلاة تصلّيها، كما جاء ذلك في تاريخ ابن قتيبة وغيره من المؤرّخين؟!

نعم، إنّها الحقائق المرّة، الحقائق المؤلمة التي تهزّ الأركان وتزعزع الإيمان; لأنّ الباحث المنصف المتجرّد للحقّ والحقيقة لا مناص له من الاعتراف بأنّ أبا بكر ظلم الزهراء واغتصب حقّها، وكان بإمكانه وهو خليفة المسلمين أن يُرضيها ويعطيها ما ادّعت; لأنّها صادقة والله يشهد بصدقها، والنّبي يشهد بصدقها، والمسلمون كلّهم بما فيهم أبو بكر يشهدون بصدقها، ولكنّ السيّاسة هي التي تقلّب كلّ شيء، فيصبح الصّادق كاذباً، والكاذب صادقاً.


الصفحة 269
نعم، إنّه فصل من فصول المؤامرة التي حيكت لإبعاد أهل البيت عن المنصب الذي اختاره الله لهم، وقد بدأت بإبعاد علي عن الخلافة، واغتصاب نحلة الزّهراء وإرثها، وتكذيبها واهانتها حتّى لا تبقى هيبتها في قلوب المسلمين، وانتهت بعد ذلك بقتل علي والحسن والحسين وكلّ أولادهم، وسُبيت نساؤهم، وقُتل شيعتهم ومحبّوهم وأتباعهم، ولعلّ المؤامرة متواصلة ولا زالت حتى اليوم، تفعل فعلها وتأتي بثمارها.

نعم، أيّ مسلم حرّ ومنصف سوف يعلم عندما يقرأ كتب التاريخ، ويمحّص الحقّ من الباطل، بأنّ أبا بكر هو أوّل من ظلم أهل البيت، ويكفيه قراءة صحيح البخاري ومسلم فقط لتنكشف له الحقيقة إذا كان من الباحثين حقّاً.

فها هو البخاري وكذلك مسلم يعترفان عفواً بأنّ أبا بكر يصدّق أيّ واحد من الصّحابة العادّيين في ادّعائه، ويكذّب فاطمة الزهراء سيّدة نساء أهل الجنّة، ومن شهد لها الله بإذهاب الرّجس والطّهارة، وكذلك يكذّب عليّاً وأم أيمن، فاقرأ الآن ما يقوله البخاري ومسلم:

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الثالث من كتاب الشّهادات باب من أمر بإنجاز الوعد.

ومسلم في صحيحه من كتاب الفضائل باب ما سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً قط فقال لا، وكثرة عطائه.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: لمّا ماتَ النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمىّ، فقال أبو بكر: من كان له على

الصفحة 270
النّبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) دينٌ أو كانتْ له قِبلَهُ عِدَةٌ فليأتنا، قال جابر: فقلتُ: وعدني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرّات، قال جابر: فعدّ في يدىّ خمسمائة ثمّ خمسمائة ثمّ خمسمائة.

فهل من سائل لأبي بكر يسأله: لماذا صدّق جابر بن عبد الله في ادّعائه بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعده أن يعطيه هكذا وهكذا وهكذا، فيملأ أبو بكر يديه ثلاثة مرّات بما قدره ألف وخمسمائة، بدون أن يطلب منه شاهد واحد على ادّعائه؟

وهل كان جابر بن عبد الله أتقى لله وأبرّ من فاطمة سيّدة نساء العالمين؟ والأغْرب من كلّ ذلك هو ردّ شهادة زوجها علي بن أبي طالب الذي أذهب الله عنه الرّجس وطهّره تطهيراً، وجعل الصّلاة عليه فرضٌ على كلّ المسلمين، كما يُصلّى على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حبّه إيمان وبغضه نفاق(1).

أضف إلى ذلك بأنّ البخاري نفسه أخرج حادثة أُخرى تعطينا صورة حقيقية عن ظلم الزهراء وأهل البيت.

فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب لا يحلّ لأحد أن يرجع في هبته وصدقته من كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، قال: إنّ بني صهيب مولى ابن جدعان ادّعوا بيتين وحُجرة، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى ذلك

____________

1- صحيح مسلم 1: 61، سنن ابن ماجه 1: 43، سنن النسائي 8: 117، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 494، السنة لعمرو بن أبي عاصم: 584، مسند أبي يعلى 1: 347، صحيح ابن حبان 15: 367 وغيرها من المصادر.