كما روى مسلم في صحيحه في كتاب الآداب، باب الاستئذان، بأنّ عمر هدّد أبا موسى الأشعري بالضرب من أجل حديث رواه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال أبو سعيد الخدري: كنا في مجلس عند أُبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مُغضباً، حتى وقفَ فقال: أنشدكم الله هل سمع أحدٌ منكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلاّ فارجع؟ قال أُبي: وما ذاك، قال: استأذنتُ على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرّات، فلم يؤذن لي فرجعتُ، ثمّ جئته اليوم فدخلتُ عليه، فأخبرته أنّي جئتُ بالأمس فسلمتُ ثلاثاً ثمّ انصرفت، قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك، قلتُ: استأذنت كما سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فوالله لأوجعنّ ظهرك وبطنك أو لتأتينَّ بمنْ يشهد لك على هذا، فقال أُبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلاّ أحدثنا سنّاً، قم يا أبا سعيد، فقمت حتى أتيتُ عُمر، فقلت: قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول هذا.
وروى البخاري هذه الحادثة، ولكنّه كعادته بترها وحذف منها تهديد
____________
1- سنن ابن ماجة 1: 25 ح28، ط دار الفكر وصرّح البوصيري في حاشيته على السنن بصحته، تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 7.
وقد روى الذهبي في تذكرة الحفاظ من جزئه الأول الصفحة السابعة عن أبي سلمة قال: قلت لأبي هريرة: أكنتَ تحدّث في زمان عمر هذا؟ فقال: لو كنتُ أُحدّث في زمان عمر مثل ما أُحدّثكم لضربني بمخفقته(2).
كما أنّ عمر بعد منع الحديث والتهديد بالضرب، أقدم هو الآخر على حرق ما دوّنَهُ الصّحابة من الأحاديث، فقد خطب النّاس يوماً قائلا: أيّها النّاس، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتبٌ، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقيّن أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي، فظنّوا أنّه يريد النّظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنّار(3).
كما أخرج ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله، أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة، ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء فليمحه(4).
____________
1- صحيح البخاري 6: 178 في كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً.
2- تذكرة الحفاظ 1: 7.
3- حجيّة السنّة لعبد الغني: 395 ونحوه: الطبقات الكبرى لابن سعد 5: 188، سير أعلام النبلاء للذهبي 5: 59.
4- كنز العمال 10: 292 ح29476، عن ابن عبد البر وأبي خثيمة، جامع بيان العلم وفضله: 77.
فقد روى ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: والله ما مات عمر حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة، وأبي الدرداء، وأبي ذر الغفاري، وعقبة بن عامر. فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله في الآفاق، قالوا: تنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت(1).
ثمّ جاء بعده ثالث الخلفاء عثمان الذي اتّبع نفس الطريق، وسلك ما سطّره له صاحباه من قبل، فصعد على المنبر وأعلن صراحة قوله:
لا يحلُّ لأحد أن يرويَ حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم أسمع به في عهد أبي بكر وعمر(2).
وهكذا دَام الحصار طيلة حياة الخلفاء الثلاثة، وهي خمسة وعشرون عاماً، ويا ليته كان حصاراً في تلك المدّة فحسب، ولكنّه تواصل بعد ذلك، وعندما جاء معاوية للحكم صعد المنبر هو الآخر وقال: إيّاكم وأحاديث إلاّ
____________
1- كنز العمال 10: 293، تاريخ مدينة دمشق 40: 500.
2- الطبقات لابن سعد 2: 336، كنز العمال 10: 295 ح29490، تاريخ مدينة دمشق 39: 180.
ونهج الخلفاء الأمويون على هذا المنوال، فمنعوا أحاديث الرسول الصحيحة، وتفنّنوا في وضع الأحاديث المزوّرة والمكذوبة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتّى ابتُلي المسلمون في كلّ العصور بالمتناقضات، وبالأساطير والمخاريق التي لا تمتُّ للإسلام بشيء.
وإليك ما نقله المدائني في كتابه "الأحداث" قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئتْ الذمّة ممن رَوى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته (يقصد علي بن أبي طالب)، فقامَ الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته.
ثمّ كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.
ثمّ كتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه، وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا إلىّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فلا يأتي أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو
ثمّ كتب معاوية إلى عمّاله: إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، إذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصّحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصّحابة، فإنّ هذا أحبّ إلىّ وأقرُّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقُرأت كتبه على النّاس، فرويت أخبارٌ كثيرة في مناقب الصّحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان:
أُنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوا اسمه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه.
ثمّ شفع ذلك بنسخة أُخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به، واهدموا داره.
فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة، حتّى إنّ الرّجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه.
وأقول: بأنّ المسؤولية في كلّ ذلك يتحمّلها أبو بكر وعمر وعثمان، الذين منعوا من كتابة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بدعوى خوفهم بأن لا تختلط السنّة بالقرآن، هذا ما يقوله أنصارهم والمدافعون عنهم.
وهذه الدّعوى تُضحك المجانين، وهل القرآن والسنّة سُكّر وملح إذا ما اختلطا فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وحتى السكّر والملح لا يختلطان; لأنّ كلّ واحد محفوظ في علبته الخاصّة به، فهل غاب عن الخلفاء أن يكتبوا القرآن في مصحف خاصّ به، والسنّة النّبوية في كتاب خاصّ بها، كما هو الحال عندنا اليوم!! ومنذ دوّنت الأحاديث في عهد عمر ابن عبد العزيز (رضي الله عنه)، فلماذا لم تختلط السنّة بالقرآن، رغم أن كتب الحديث تُعدُّ بالمئات؟! فصحيح البخاري لا يختلط بصحيح مسلم، وهذا لا يختلط بمسند أحمد، ولا بموطأ الإمام مالك، فضلا عن أن يختلط بالقرآن الكريم.
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.
أنظر أيها القارئ إلى هذه الرواية، كيف أشار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عمر بأن يكتب السُّنن، وخالفهم جميعاً واستبدّ برأيه، بدعوى أنّ قوماً قبلهم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها، وتركوا كتاب الله، فأين هي دعوى الشورى التي يتشدّق بها أهل السنّة والجماعة؟! ثمّ أين هؤلاء القوم الذين أكبّوا على كتبهم وتركوا كتاب الله، لم نسمع بهم إلاّ في خيال عمر بن الخطّاب؟! وعلى فرض وجود هؤلاء القوم فلا وجه للمقارنة، إذ إنّهم كتبوا كتباً من عند أنفسهم لتحريف كتاب الله، فقد جاء في القرآن الكريم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}(2).
أمّا كتابة السنن فليستْ كذلك; لأنّها صادرة عن نبي معصوم لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلاّ وحىٌّ يُوحَى، وهي مُبيّنة ومفسّرة لكتاب الله، قال
____________
1- كنز العمال 10: 291 ح29474 عن ابن عبدالبر، المصنّف لعبد الرزاق 11: 257 ح20484، نحوه الطبقات لابن سعد 3: 287، جامع بيان العلم وفضله: 76.
2- البقرة: 79.
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أوتيتُ القرآن ومثله معه"(2)، وهذا أمرٌ بديهي لكلّ من عرف القرآن، فليس هناك الصّلوات الخمس، ولا الزكاة بمقاديرها، ولا أحكام الصّوم، ولا أحكام الحجّ، إلى كثير من الأحكام التي بيّنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكلّ ذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(3).
وقال: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(4).
وليتَ عُمر عرف كتاب الله وأكبّ عليه; ليتعلّمَ منه الامتثال إلى أوامر الرّسول، ولا يُناقشها ولا يطعن فيها(5).
وليته عرف كتاب الله وأكبّ عليه، ليتعلّم منه حكم الكلالة(6)التي ما عرفها حتى مات، وحكم فيها أيّام خلافته بأحكام متعدّدة ومتناقضة، وليتَه عرف كتاب الله وأكبْ عليه; ليتعلّم منه حكم التيمّم الذي ما عرفه حتّى أيام خلافته، وكان يفتي بترك الصّلاة لمن لم يجد الماء(7)، وليتَه عرف كتاب الله وأكبّ عليه ليتعلّم منه حكم الطّلاق مرّتان، فإمساك بمعروف أو تسريح
____________
1- النحل: 44.
2- مسند أحمد 4: 131، تفسير ابن كثير 1: 4.
3- الحشر: 7.
4- آل عمران: 31.
5- صحيح البخاري1: 37 باب كتابة العلم، و 5: 138، في رزية الخميس.
6- صحيح مسلم 2: 81، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً.
7- صحيح البخاري 1: 90، صحيح مسلم 1: 193 باب التيمّم وفيه: "إنّ رجلا أتى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال: لا تصلِّ...".
والحقيقة التي لا مجال لدفعها، هي أنّ الخلفاء منعوا من انتشار الأحاديث، وهدّدوا من يتحدّث بها، وضربوا عليها الحصار; لأنّها تفضح مخطّطاتهم، وتكشف مؤامراتهم، ولا يجدون مجالا لتأويلها كما يتأولون القرآن; لأنّ كتاب الله صامتٌ وحمّالٌ أوجه، أمّا السُّنن النبويّة فهي أقوال وأفعال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يمكن لأحد من النّاس دفعها.
ولذلك قال أمير المؤمنين علي لابن عباس عندما بعثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تُخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقُولون، ولكن حاججهم بالسنّة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً"(2).
أبو بكر يسلّم الخلافة لصاحبه عمر ويخالف بذلك النصوص الصّريحة
يقول الإمام علي (عليه السلام) في هذا الموضوع بالذّات:
"أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنّه ليعلمُ أنّ محلي منها محلّ القطب من الرّحى، ينحدر عني السّيلُ ولا يرقى إلىَّ الطير، فسدلتُ دونها ثوباً، وطويتُ عنها كشحاً، وطفقتُ أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين
____________
1- صحيح مسلم4: 183 في كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث من جزءه الأول.
2- نهج البلاغة3: 136، الخطبة 77.
(شتان ما يومي على كورها | ويوم حيّان أخي جابر) |
فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها، فصيّرها في حوزة خشناء، يغْلظُ كلامُها، ويخشنُ مسُّها، ويكثُرُ العثَارُ فيها، والاعتذار منها..." الخطبة(1).
يعرفُ كلّ محقّق وباحث بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ بالخلافة وعيّن علي ابن أبي طالب قبل وفاته، كما يعرف ذلك أغلب الصّحابة، وفي مقدّمتهم أبو بكر وعمر، ولهذا كان الإمام علي يقول: "وإنه ليعلمُ أنَّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى".
ولعلّ ذلك ما دعا أبو بكر وعمر أن يمنعا رواية الحديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قدّمنا في الفصل السّابق، وتمسّكا بالقرآن لأنّ القرآن وإن كان فيه آية الولاية، غير أنّ اسم علي لم يذكر صراحة كما هو الحال في الأحاديث النّبوية، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من كنت مولاه فهذا علىٌّ مولاه"(2)، و"علىّ مني
____________
1- نهج البلاغة 1: 30، الخطبة 3، المعروفة بالشقشقية.
2- مسند أحمد 1: 84 وصرّح محقّق الكتاب الشيخ أحمد شاكر بصحة متن الحديث وقال: (ورد عن طرق كثيرة، ذكر المناوي في شرح الجامع الصغير في الحديث 9000 عن السيوطي أنّه قال: "حديث متواتر"...)، سنن ابن ماجة 1: 45 ح121، سنن الترمذي 5: 297 ح3797، المستدرك للحاكم 3: 110، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 590، وغيرها من المصادر الكثيرة. وهو حديث متواتر كما صرّح الشيخ الألباني في صحيحته 4: 343.
____________
1- صحيح مسلم 7: 120 كتاب الفضائل، باب فضائل علي بن أبي طالب، سنن الترمذي 5: 302، ح3808، المستدرك للحاكم 3: 109، السنن الكبرى للبيهقي 9: 40، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 496، كتاب السنّة: 586، السنن الكبرى للنسائي 5: 44 ح8138، وغيرها.
2- قريب منه في تاريخ الطبري 2: 63، الخصائص للنسائي: 49 ح65 في حكاية يوم الدار ونزول قوله تعالى: (وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ).
3- سنن الترمذي 5: 632 ح3712 وقال: "هذا حديث حسن غريب"، خصائص أمير المؤمنين 109 ح89 ـ 90، مسند أحمد بن حنبل 4: 437، فضائل الصحابة 2: 605 ح1035، مسند أبي داود الطياسي: 111ح 829، المصنّف لابن أبي شيبة 6: 375 ح32112، صحيح ابن حبان 5: 373 ح6929، المستدرك 3: 110، وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولم يتعقبه الذهبي بشيء، حلية الأولياء 6: 294، سلسلة الأحاديث الصحيحة 5: 261 ح2223، البداية والنهاية 7: 351، مختصر إتحاف السادة المهرة 9: 170ح741 وقال البوصيري: رواه أبو داود الطيالسي بسند صحيح.
ولأجل وضوح دلالة هذا الحديث على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنكره ابن تيمية وطعن فيه، قال في منهاج سنته 4: 104: "قوله: (وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي) كَذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بل هو في حياته وبعد مماته وليّ كلّ مؤمن، وكلّ مؤمن وليّه في المحيا والممات. فالولاية التي هي ضدّ العداوة لا تختصّ بزمان، أما الولاية التي هي الامارة فيقال فيها: والي كل مؤمن بعدي".
ويكفي ردّاً على كلام ابن تيمية ما ذكره شيخ السلفية المحدّث محمّد ناصر الدين الألباني في سلسلته الصحيحة 5: 263 إذ قال بعد تخريجه الحديث: "فمن العجب حقّاً أن يتجرّأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنّة (4/104) كما فعل بالحديث المتقدّم هناك..فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث إلاّ التسرّع والمبالغة في الردّ على الشيعة".
وهذا يدلّ دلالة واضحة بأنّ هؤلاء الصّحابة، وعددهم ثلاثون، ما كانوا ليتكلّموا لولا أن طلب منهم أمير المؤمنين ذلك، فلو لم يكن علىّ خليفة وبيده القوّة لأقعدهم الخوف عن أداء الشّهادة، كما وقع ذلك فعلا من بعض الصّحابة الذين أقعدهم الخوف أو الحسد عن الشهادة، أمثال أنس بن مالك، والبرّاء بن عازب، وزيد بن أرقم، وجرير بن عبد الله البجلي، فأصابتهم دعوة علي بن أبي طالب(3).
ولم ينعم أبو تراب (عليه السلام) بالخلافة، فكانت أيامه كلّها محن وفتن، ومؤامرات وحروب شُنّتْ عليه من كلّ حدب وصوب، وبرزت تلك الأحقاد
____________
1- مسند أحمد 4: 370 وفيه أيضاً "وقال أبو نعيم: فقام ناس كثير فشهدوا...".
2- مسند أحمد 1: 119 وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر بصحته، وفيه أيضاً: "فقام إلاّ ثلاثة لم يقوموا، فدعا عليهم فأصابتهم دعوته".
3- أنساب الأشراف 157 ح169، ونحوه السيرة الحلبية 3: 385، المعجم الكبير 5: 175، تاريخ دمشق 42: 208، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19: 218.
ولم تطل المدّة حتى اعتلى سدّة الخلافة معاوية بن أبي سفيان، فواصل المخطّط، كما قدّمنا في منع الأحاديث إلاّ ما كان في زمن عمر، وذهب شوطاً أبعد من ذلك، فانتدب من الصّحابة والتّابعين زمرة لوضع الأحاديث، فضاعت سنّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في خضمّ تلك الأكاذيب والأساطير والفضائل المختلقة.
واستمرّ المسلمون على ذلك قرناً كامِلا، وأصبحتْ سنّة معاوية هي المتّبعة لدى عامّة المسلمين، وإذا قلنَا سنّة معاوية فمعناه السنّة التي ارتضاها معاوية من أفعال الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، وما أضافه هو وأتباعه من وضع وتزوير، ولعْن وسبّ لعلي وأهل بيته وشيعته من الصّحابة المخلصين.
ولذلك أعود وأكرر بأنّ أبا بكر وعمر نجحا في هذا المخطّط لطمس السّنن النبويّة بدعوى الرجوع إلى القرآن، فإنّك ترى اليوم وبعد مرور أربعة عشر قرناً، إذا ما حاججتَ بالنّصوص النّبوية المتواترة التي تُثبتُ بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عيّنَ عليّاً خليفةً لَهُ، فسيُقال لك: دعنا من السنّة النبويّة التي أُختلِفَ فيها وحسبُنَا كتاب الله، وكتاب الله لم يذكر بأنّ علياً هو خليفة النّبي، بل
____________
1- نحوه الكافي 8: 361، أنساب الأشراف: 458.
وهذه هي حجّتُهم، فما كلّمتُ أحداً من علماء أهل السنّة إلاّ وكانت الشورى هي شعارُهم وديدنهم.
وبقطع النّظر على أنّ خلافة أبي بكر كانت فلتةً وقى الله المسلمين شرّها(1)، فلم تكن عن مشورة كما يدّعي البعض، بل كانت بالغفلة وبالقوة والقهر والتهديد والضرب(2)، وتخلّف عنها وعارضها الكثير من خيرة الصّحابة، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، وسعد بن عبادة، وعمّار، وسلّمان، والمقداد، والزبير، والعبّاس، وغير هؤلاء كثيرون، كما يعترف بذلك جلّ المؤرّخين لهذا الحدث.
ولنغضّ الطّرف عنها ونأتي إلى استخلاف أبي بكر لعمر بعده، ونسأل أهل السنّة الذين يتشدّقون بمبدأ الشورى: لماذا عيّنَ أبو بكر خليفته، وفرضه على المسلمين بدون أن يترك الأمر شورى بينهم كما تدّعون؟
ولمزيد من التّوضيح وكالعادة لا نستدل إلاّ بكتب أهل السنّة، أُقدّم إلى القارئ كيفية استخلاف أبي بكر لصاحبه.
ينقل ابن قتيبة في كتابه تاريخ الخلفاء، في باب مرض أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما، قال:
"... ثمّ دعا عثمان بن عفّان فقال: أكتب عهدي، فكتب عثمان وأملى
____________
1- البخاري 8: 26 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة، باب رجم الحبلى من الزنا.
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة1: 26، بيعة أبي بكر وكيفية أخذ البيعة من عليّ (عليه السلام).
ثمّ ختم الكتاب ودفعه، فدخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنّه استخلف عمر، فقالوا: نراك استخلفتَ علينَا عمر، وقد عرفتَهُ، وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليتَ عنّا، وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسائلك، فما أنت قائل؟ فقال أبو بكر: لئن سألني الله لأقولن: استخلفت عليهم خيرهم في نفسي"(1).
ويذكر بعض المؤرّخين: أنّ أبا بكر لمّا استدعى عثمان ليكتب عهده، أُغْمِيَ عليه أثناء الإملاء، فكتب عثمان اسم عمر بن الخطّاب، فلمّا أفاق قال: اقرأ ما كتبتَ، فقرأ وذكر اسم عمر، فقال: أنّى لك هذا؟ قال: ما كنتَ لتعدُوه، فقال: أصبتَ.
فلمّا فرغ من الكتاب دخل عليه قوم من الصحابة منهم طلحة، فقال له: ما أنت قائل لربّك غداً وقد وليّت علينا فظّاً غليظاً، تفرق منه النّفوس وتنفضّ عنه القلوب؟
فقال أبو بكر: أسندوني وكان مستلقياً، فأسندوه فقال لطلحة: أبالله
____________
1- تاريخ الخلفاء لابن قتيبة المعروف بالإمامة والسياسة 1: 37.
وإذا كان المؤرّخون يتّفقون على استخلاف أبي بكر لعمر بدون استشارة الصّحابة، فلنا أن نقول بأنّه استخلفه رغم أنف الصّحابة وهم له كارهون، وسواء أقال ابن قتيبة: "دخل عليه المهاجرون والأنصار فقال: قد علمت بوائقه فينا" أم كما قال غيره: "دخل عليه قوم من الصّحابة منهم طلحة فقال له: ما أنت قائل لربِّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً تفرق منه النفوس وتنفضّ عنه القلوب" فالنتيجة واحدة، وهي إنّ الصّحابة لم يكن أمرهم شورى، ولم يكونوا راضين عن استخلاف عمر، وقد فرضه عليهم أبو بكر فرضاً بدون استشارتهم، والنتيجة هي التي تنبأ بها الإمام علي عندما شدّد عليه عمر بن الخطّاب ليبايع أبا بكر، فقال له: "أحلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً"(2).
وهذا بالضبط ما قاله أحد الصّحابة لعمر بن الخطاب، عندما خرج بالكتاب الذي فيه عهد الخلافة، فقال له: ما في الكتاب يا أبا حفص؟ قال: لا أدري، ولكنّي أوّل من سمع وأطاع، فقال الرّجل: لكني والله أدري ما فيه،
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 163، البداية والنهاية لابن كثير 5: 16: "وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطّاب". تاريخ الطبري 3: 433، ط روائع التراث، الكامل في التاريخ 2: 425 والذي قال عن تاريخه: "لم أنقل إلاّ من التواريخ المذكورة، والكتب المشهورة ممّن يعلم بصدقهم فيما نقولوه وصحة ما دونوه ولم أكن كالخابط في ظلماء الليالي، ولا كمن يجمع الحصباء واللآلي" الكامل في 1: 3 المقدّمة.
2- الإمامة والسياسة 1: 29.
وبهذا يتبيّن لنا بوضوح لا شكّ فيه بأنّ مبدأ الشورى الذي يطبّل له أهل السنّة لا أساس له عند أبي بكر وعمر، أو بتعبير آخر: إنّ أبا بكر هو أوّل من هدم هذا المبدأ وألغاه، وفتح الباب أمام الحكّام من بني أُميّة أن يُعيدوها ملكية قيصرية يتوارثها الأبناء عن الآباء، وكذلك فعل بنوالعبّاس من بعدهم، وبقيت نظرية الشورى حُلماً يراود أهل السنّة والجماعة لم ولن يتحقّق.
وهذا يذكّرني بمحاورة دارت بيني وبين عالم من علماء الوهّابية السعوديين في مسجد نيروبي بكينيا على مشكلة الخلافة، وكنتُ من أنصار النصّ على الخليفة، وأنّ الأمر كلّه لله يجعله حيث يشاء، ولا دخل لاختيار الناس في ذلك.
وكان هو من أنصار الشورى، ويدافع عنها دفاعاً مستميتاً، وكان حوله مجموعة من الطلبة الذين يأخذون العلم عنه، وهم يؤيّدونه في كلّ ما يقول، بدعوى أنّ حجّته من القرآن الكريم، إذ يقول تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ}(2)ويقول: {وَأمْرُهُمْ شُورَى بَـيْنَهُمْ}(3).
ولمّا عرفْتُ أنّني مقهور مع هؤلاء لأنّهم تعلّموا من أستاذهم كلّ الأفكار الوهّابية، كما عرفت أنّهم غير قابلين للاستماع إلى الأحاديث الصّحيحة، وهم يتشبثون ببعض الأحاديث التي يحفظونها وأغلبها من الموضوعات،
____________
1- الإمامة والسياسة 1: 38.
2- آل عمران: 159.
3- الشورى: 38.