قال حمّاد بن زيد: فذكرتُ هذا الحديث لأيّوب ويونس بن عبيد، وأنا أريدُ أن يحدّثاني به، فقالا: إنّما روى هذا الحديث الحسنُ عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة.
كما أخرج مسلم في صحيحه من كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهيما، حديث أبي بكرة عن الأحنف بن قيس، قال: ذهبتُ لأنصر هذا الرّجُلَ، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريدُ؟ قلت: أنصُرُ هذا الرجُل قال: ارجع فإنّي سمعتُ رسول الله يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النّار"، فقلتُ: يا رسول الله! هذا القاتِلُ، فما بال المقتولُ؟ قال: "إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه"(1).
ومن خلال هذه الأحاديث الموضوعة، يفهم القارئ بوضوح الأسباب التي دعت لوضعه، ويتجلّى أبو بكرة بعداوته إلى ابن عمّ المصطفى، وكيف عمل على خذلان أمير المؤمنين، ولم يكتف بذلك حتّى أخذ يثبّط عزائم الصّحابة الذين أرادوا نصرة الحقّ ضدّ الباطل، فيختلق لهم مثل هذا الحديث
____________
1- أخرج هذا الحديث أيضاً البخاري في كتاب الإيمان باب قوله تعالى: (وَإنْ طَائِفَتَانِ...) (المؤلّف).
أمّا السنّة النبويّة الصحيحة فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام): "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره، واخذل من خذله وأدر الحقّ معه حيث دار"(2)، فموالاة علي هي موالاة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونُصرة أمير المؤمنين واجبة على كلّ مسلم، وخذلانه هو خذلان للحقّ، ونصرة للباطل.
ثمّ لو تأملتَ في حديث البخاري لوجدتَ هناك في سلسلة الرواة واحداً
____________
1- الحجرات: 9.
2- الملل والنحل للشهرستاني 1: 163، السيرة الحلبية 3: 384، وفي ملحقات إحقاق الحقّ 6: 292 عن العقد الفريد واسعاف الراغبين.
وفي مجمع الزوائد للهيثمي 9: 104: وعن عمرو بن ذي مرّ وسعيد بن وهب وعن زيد بن بثيع قالوا: سمعنا علياً يقول: "نشدت الله رجلا سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم لما قام"، فقام ثلاثة عشر رجلا، فشهدوا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فأخذ بيد علي فقال: "من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبه، وابغض من يبغضه، وانصر من نصره واخذل من خذله" رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة".
وقد قال سعد بن أبي وقّاص الذي امتنع هو الآخر عن نصرة الحقّ: "ائتوني بسيف يقول هذا على حقّ وهذا على باطل لأقاتل به"!! وبمثل هذا التمويه يلبس الحقّ بالباطل، وتضيع السّبل الواضحة لتحل محلّها الظلمات!
على أنّنا نجد في كتب السنّة المعتمدة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشّر الكثير من أصحابه بالجنّة، وخصوصاً العشرة الذين اشتهروا بين المسلمين بأنّهم المبشرين بالجنّة.
فقد أخرج أحمد، والترمذي، وأبو داود: أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "أبو بكر في الجنّة، وعمر في الجنّة، وعثمان في الجنّة، وعلي في الجنّة، وطلحة في الجنّة، والزبير في الجنّة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنّة، وسعد بن أبي وقاص في الجنّة، وسعيد بن زيد في الجنّة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة"(1).
وقد صحّ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "ابشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنّة"(2)،
____________
1- مسند أحمد 1: 193، سنن الترمذي 5: 311 ح3830، السنن الكبرى للنسائي 5: 56 ح8194.
2- المستدرك للحاكم 3: 389 وصحّحه، المعجم الأوسط 2: 141.
وقد روى مسلم في صحيحه أنّ عبد الله بن سلام بشّره رسول الله بالجنة(2). وصحّ عنه قوله: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"(3)وكذلك صحّ عنه أنّ جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة في الجنّة(4)وأنّ فاطمة الزهراء سيّدة النساء في الجنّة(5)، وأنّ أُمّها خديجة بشّرها جبرئيل ببيت من قصب في الجنّة(6)، وصحّ عنه قوله: "صهيب سابق الروم إلى الجنّة، وبلال سابق الحبشة إلى الجنّة، وسلمان سابق الفرس إلى الجنّة"(7).
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تختصّ أحاديث البشارة بالجنّة إلاّ على هؤلاء العشرة، فلا تجد مجمع ولا مجلس إذا ما تحدّثوا عن الجنة إلاّ وجاءوا بذكر العشرة المبشّرين بالجنّة؟!!
ونحنُ لا نحسدهم على ذلك، ولا نضيّق رحمة الله الواسعة التي وسعت كلّ شيء، ولكن نقول فقط بأنّ هذه الأحاديث تتناقض وتتعارض مع
____________
1- المعجم الكبير للطبراني 6: 215، تاريخ دمشق 60: 176، وفي المستدرك للحاكم 3: 137 ذكر ثلاثة "عليّ وعمّار وسلمان" وصححه.
2- صحيح مسلم 7: 160 فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن سلام.
3- مسند أحمد 3: 3، 62، سنن ابن ماجة 1: 44، المستدرك 3: 167 وقال: "هذا حديث قد صحّ من أوجه كثيرة، وأنا أتعجّب أنهما لم يخرّجاه".
4- المعجم الكبير 2: 107، مجمع الزوائد 9: 273 وحسّنه.
5- صحيح البخاري 4: 209 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب فاطمة.
6- صحيح البخاري 2: 203 كتاب العمرة، باب متى يحلّ المعتمر، صحيح مسلم 7: 133 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أُمّ المؤمنين.
7- المعجم الكبير 8: 111، مجمع الزوائد 9: 300 وحسّنه.
كما أنّ عمّار بن ياسر قُتِل في حرب صفين التي أشعل نارها معاوية بن أبي سفيان، وكان عمّار متواجداً بسيفه مع علي بن أبي طالب، فقتلته الفئة الباغية، كما نصّ على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أنّ سيّد الشهداء سيّد شباب أهل الجنة الإمام الحسين، تواجد بسيفه هو وأهل بيت المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) مقابل جيش يزيد بن معاوية، وقد قتلوهم كلّهم ولم ينجُ منهم إلاّ علي بن الحسين.
فعلى رأي هؤلاء الكذّابين، فإنّ كلّ هؤلاء في النّار القاتلين والمقتولين; لأنّهم التقوا بسيوفهم.
وواضحٌ أنّ الحديث لا يمكن أن تصح نسبته إلى من لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى، وهو كما قدّمنا يصطدم مع المنطق والعقل، ويناقض كتاب الله وسنّة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والسؤال الذي يطرح هنا: كيف يغفل البخاري ومسلم عن مثل هذه الأكاذيب، ولا يتنبهون لها؟ أمّ أنّ لهما في أمثال هذه الأحاديث مذهب وعقيدة؟
التّناقض في الفضائل
ومن الأحاديث المتناقضة التي تجدها في الصّحاح، هو تفضيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على كلّ الأنبياء والمرسلين، وأحاديث أُخرى ترفع من شأن
وأعتقد بأنّ اليهود الذين أسلموا في عهد عمر وعثمان، أمثال: كعب الأحبار، وتميم الدّاري، ووهب بن منبّه، هم الذين وضعوا تلك الأحاديث على لسان بعض الصّحابة الذين كانوا معجبين بهم، أمثال أبي هريرة، وأنس ابن مالك وغيرهم.
فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} :
عن أنس بن مالك حكاية طويلة تحكي إسراء النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ عروجه إلى السماوات السّبع، ثم إلى سدرة المنتهى، وقصّة فرض الصّلوات الخمسين التي فرض على محمّد وأُمّته، وبفضل موسى رُدتْ إلى خمس، عمليّة وما فيها من الكذب الصريح، والكفر الشنيع من أنّ الجبّار ربّ العزّة دنا فتدلّى حتّى كان من النّبي قاب قوسين أو أدنى، وغيرها من التخريف، ولكن ما يُهمّنا في هذه الرواية هو أنّ محمّداً لمّا استفتح السّماء السّابعة، وكان فيها موسى، وأنّ الله رفعه في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: ربِّ لم أَظُنَّ أنْ يُرْفع علىَّ أَحَدٌ(1).
وأخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأخرج البخاري في صحيحه كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة
____________
1- صحيح البخاري 8: 204، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا..).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "فأتينا على السّماء السّادسة، قيل: من هذا؟ قيل: جبرئيل، قيل: من معك؟ قال محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ولنعم المجيءُ جاء.
فأتيتُ على موسى فسلّمتُ عليه، فقال: مرحباً بكَ من أخ ونبىٍّ، فلمّا جاوزتُ بَكَى، فقيل: ما أَبْكَاكَ؟ فقال: يا رَبِّ هذا الغُلاَمُ الذي بُعِثَ بعْدِي يدخُلُ الجنّةَ من أُمّتِهِ أفْضلُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتي".
كما أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها: عن أبي هريرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا سيّد الناس يوم القيامةِ، وهل تدرون ممّ ذلك; يُجمع النَّاسُ الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الدّاعي، وينفذُهم البصَرُ، وتدنو الشمسُ فيبلغُ النّاسَ من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملونَ، فيقولُ النّاسُ: ألا ترونَ ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض النّاس لبعض: عليكم بآدم.
فيأتونَ آدم (عليه السلام)، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بَلغَنَا؟ فيقول آدم: إنّ ربّي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبلهُ مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشجرة فعَصَيتُهُ،
وتمضي الرواية وهي طويلة جدّاً ـ ونحن دائماً نريد الاختصار ـ إلى أن يطوف النّاس على نوح، ثمّ على إبراهيم، ثمّ على موسى، ثمّ على عيسى، وكلّهم يقول: نفسي، نفسي، نفسي، ويذكر خطيئته أو ذنبه، عدا عيسى لم يذكر ذنباً، ولكنّه قال: نفسي! نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمّد.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فيأتوني، فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقعُ ساجداً لربّي عزّ وجلّ، ثم يفتَحُ الله علىَّ من محامده وحسنِ الثّناء عليه شيئاً لم يفتحهُ على أحد قبلي، ثمّ يقال: يا محمّد، ارفع رأسَكَ، سَلْ تُعْطَه، واشفع تُشفع.
فأرفع رأسي، فأقول: أُمّتي يا ربّ أُمتي ياربّ، فيقال: يا محمّد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثمّ قال: والذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكّة وحُمير، أو كما بين مكّة وبُصرى".
وفي هذه الأحاديث يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه سيّد النّاس يوم القيامة! ويقول بأنّ موسى قال: يا ربّ ما كنت أظنُّ أنْ يُرفَعَ عليَّ أحَدٌ، ويقول بأنّ موسى بكى وقال: يا ربّ هذا الغلامُ الذي بُعثَ بعدي يدخُلُ الجنة من أُمته أفضلُ ممّا يدخُل من أُمتي.
ونفهم من خلال هذه الأحاديث بأنّ كلّ الأنبياء والمرسلين من آدم حتى
وقد مرّ بنا في خلال أبحاث سابقة قول موسى لمحمّد ليلة الإسراء والمعراج، ولما فرض الله عليه خمسين صلاة، قال له موسى: أنا أعلم بالنّاس منك.
وهذا لم يكف، فاختلقوا روايات أُخرى تقول بتفضيله (أي موسى على محمّد) على لسان محمّد نفسه، فإليك بعض هذه الروايات:
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة (وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله):
عن أبي هريرة قال: استبَّ رَجُلٌ من المسلمين ورَجُلٌ من اليهودِ، فقالَ المسلمُ: والذي اصطفى محمّداً على العالمين في قسم يُقسِمُ به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسَى على العالمين، فرفع المسلم يدهُ عند ذلك فلطَمَ اليهودىُّ.
فذهب اليهودىُّ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخبرَهُ بالذي كان من أمره وأمرِ المسلم، فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تُخيِّروني على موسى، فإنّ النّاس يصعقونَ يومَ القيامةِ، فأكون أوَّلَ من يفيقُ، فإذا موسى باطِشٌ بجانب العَرْشِ، فلا أدري أكان فيمن صَعِقَ فأفاقَ قبلي، أو كان ممّن استثنى الله".
قال: "لا تُخيِّروني من بين الأنبياء، فإنّ النّاس يصعقون يوم القيامة، فأكون أوّل من يفيقُ، فإذا أنا بموسَى آخِذٌ بقائمة من قوائم العرشِ، فلا أدري أفاق قبلي أمْ جُزِيَ بصعقةِ الطُّور"(1).
كما أخرج البخاري في صحيحه في كتاب تفسير القرآن، سورة يوسف عليه الصلاة والسلام، باب قوله (فلمّا جاءه الرسول):
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يرحَمُ الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبْثت في السجن ما لبث يوسفُ لأجبتُ الدّاعي، ونحنُ أحقُّ من إبراهيم إذ قال لَهُ: أو لم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي.
ولم يكفهم كلّ ذلك حتّى جعلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الشاكين حتّى في مصيره عند ربّه، فلا الشفاعة، ولا المقام المحمود، ولا تفضيله على الأنبياء والمرسلين، ولا تبشير بالجنة لأصحابه; إذا كان هو نفسه لا يعرفُ مصيره يوم القيامة، إقرأ معي هذه الرواية التي أخرجها البخاري، وأعجب أو لا تعجب:
أخرج البخاري في صحيحه باب في الجنائز من كتاب الكسوف من
____________
1- صحيح البخاري 5: 196، 8: 48.
عن خارجة بن زيد بن ثابت، أنّ أُمّ العلاء أمرأةً من الأنصار بايعت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أخبرتْهُ أنّهُ اقتسم المهاجرونَ قرعةً، فطارَ لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا، فوجِعَ وجعَهُ الذي توفّيَ فيه، فلمّا توفِّي وغُسِّل وكُفِّنَ في أثوابه دخَلَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلُتُ: رحمة الله عليك أبا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عليكَ لقدْ أكرمَكَ الله.
فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "وما يدريك أنّ الله أكرمه"؟ فقُلتُ: بأبي أنتَ يا رَسولَ الله، فمن يكرِمُهُ الله، فقال (عليه السلام): "أمَّا هو فقد جاءه اليقينُ، والله إنّي لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنَا رسول الله ما يُفْعَلُ بي". قالت: فوالله لا أزكّي أحداً بعده أبداً.
إنّ هذا لشيء عجاب والله! فإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم بالله أنّه لا يدري ما يفعَلُ به، فماذا يبقى بعد هذا؟!
وإذا كان الله سبحانه يقول: {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَـفْسِهِ بَصِيرَةٌ}(1)وإذا كان الله يقول لنبيّه: {إنَّا فَـتَحْنَا لَكَ فَـتْحاً مُبِيناً * لِـيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَـقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَـتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَـنْصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً}(2).
وإذا كان دخول الجنة للمسلمين موقوفاً على اتباعه واطاعته والتصديق به، فكيف نصدّق هذا الحديث الذي لا أقبح منه، نعوذ بالله من عقيدة بني أُميّة الذين ما كانوا يؤمنون يوماً بأنّ محمّداً هو رسول الله حقّاً، وإنّما كانوا
____________
1- القيامة: 14.
2- الفتح: 1 ـ 3.
النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتناقض مع العلم والطبّ
إنّ العلم يثبتُ بما لا شكّ فيه أنّ هناك بعض الأمراض التي تنقل بالعَدوى، وهذا ما يعرفه أغلب النّاس حتّى غير المثقّفين، أمّا طلبة العلوم الذين يدرسون علم الطّب في الجامعات، فإنّهم إذا ما قيل لهم بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينكر ذلك، فإنّهم سيسخرون ويجدون منفذاً للطّعن على نبي الإسلام، خصوصاً منهم الأساتذة العِلمانيين الذين يبحثون عن ثغرات مثل هذه.
ومع الأسف الشّديد فإنّ من الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم تؤكّد على عدم العدوى، وفيها أيضاً ما يؤكّد أنّ هناك عدوى، ونحن إذ نسجّل هنا هذه التناقضات تحت عنوان النّبي يتناقض، لا نؤمن بأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تناقض مرةً واحدة في أقواله أو في أفعاله، ولكن جرياً على العادة، لجلب مُهجة القارئ حتى يتنبّه إلى الأحاديث التي وضعت كذباً وبهتاناً على صاحب الرّسالة المعصوم، ويعرف قصدنا من تخريج أمثال هذه الأحاديث لتنزيه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإعطائه مكانته العلميّة التي سبقتْ كلّ العلوم الحديثة.
فليس هناك نظرية علمية صحيحة تتعارض مع حديث نبوىٌّ صحيح، وإذا ما تعارضتْ أو تناقضت عرفنا بأنّ الحديث مكذوب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا من ناحية.
ومن ناحية أُخرى فإنّ الحديث نفسه قد يعارضه حديث آخر يتماشى
ومثال على ذلك أسوق حديث العدوى لأنه مُهِمٌّ في البحث، ويعطينا صورة حقيقة على تناقض الصّحابة والرّواة والوضّاعين، لا على تناقض صاحب الرّسالة (صلى الله عليه وآله وسلم)، فذلك لا يمكن أبداً.
فالبخاري في صحيحه يذكر الحديثين، وأنا أقتصر عليه لأنّه أصحّ الكتب عند أهل السنّة، لئلا يذهب المتأوّلون عدّة مذاهب، فيقول قائل بأنّه قد يثبت عند البخاري حديثاً، ويثبت عكسه عند غيره من المحدّثين، ويلاحظ القارئ بأنني في هذا الباب اقتصرت على البخاري وحده، في تناقض الأحاديث.
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الطّب، في باب لا هامة:
عن أبي هريرة قال: قال النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا عَدْوَى ولا صَفَرَ ولا هامة"، فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكُونُ في الرمْلِ كأنّها الظّباءُ، فيخالطها البعيرُ الأجربُ فيجْرِبُهَا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "فمن أعدى الأوّل"؟
انظر إلى هذا الأعرابيُّ كيف يهتدي بفطرته إلى طبيعة الأمراض المعدية، من خلال البعير الأجرب الذي يجرب كلّ الإبل إذا خالطها، بينما لا يجد الرّسول جواباً على سؤال الأعرابي يقنعهُ به، فيقول: "فمن أعدى الأول"؟ ويصبح هو الذي يسأل.
وهذا أيضاً يذكّرني بالطبيب الذي سأل الأُمّ التي جاءتْ بولدها المصاب بالحصبة: هل عندكم في البيت أو في الجيران من هو مصاب بهذا الداء؟
نعم، فالهواء يحمل الجراثيم والأمراض المعدية، وقد يصيب قرية كاملة أو مدينة بأكملها، ولذلك وُجِدَ التلقيح والوقاية لما قد تحمله الرّياح من أمراض فتّاكة كالوباء والطّاعون وغير ذلك، فكيف يخفى كلّ ذلك على من لا ينطق عن الهوى؟ إنّه رسول ربّ العالمين الذي لا يعزب عن علمه شيء، إنّه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
ولذلك نحن نرفض هذا الحديث ولا نقبله أبداً، ونقبل الحديث الثاني الذين أخرجه البخاري نفسه، وفي نفس الصفحة ونفس الباب، وفي نفس الحديث إذ يقول: وعن أبي سلمة سَمِعَ أبَا هريرة بعدُ يقولُ: قال النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يوردَنَّ مُمرضٌ على مُصِحٍّ"، وأنكر أبو هريرة حديثه الأوّل، قلنا: ألم تحدّث أنّه لا عَدْوى، فرطن بالحبشية، قال أبو سلمة: فما رأيتهُ نَسِيَ حديثاً غَيرَهُ.
مع أنّ الحديثين المتناقضين "لا عدوى"، "ولا يوردنّ مُمْرض على مُصحّ" رواهما أيضاً مسلم في صحيحه في كتاب السّلام، باب لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، ولا نوء ولا غول، ولا يوردنّ ممرض على مصحٍّ.
ومن خلال هذه الأحاديث نعلم أنّ حديث: "لا يوردن ممرض على
وممّا يزيدنا تأكيداً بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أسبق مما أثبته العلمُ حديثاً في خصوص الأمراض المعدية، إنّه كان يحذّر المسلمين من الطّاعون ومن الجذام ومن الوباء وغير ذلك.
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأنبياء، باب حدّثنا أبو اليمان، وكذلك مسلم في صحيحه كتاب السّلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة وغيرها:
عن أُسامة بن زيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "الطّاعُونُ رجْسٌ أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتُم به بأرض فَلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتُم بها فَلا تخرجوا فراراً منه" وفي رواية لا يخرجكم إلاّ فراراً منه.
وقد صحّ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله في هذا المعنى: "فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد"(2)، وقوله: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفّس في الإناء"(3)، وقوله: "إذا
____________
1- عمدة القارئ شرح صحيح البخاري 21: 428.
2- صحيح البخاري 7: 17 كتاب الطبّ، باب الجذام.
3- صحيح البخاري 1: 47 كتاب الوضوء، باب النهي عن الاستنجاء باليمين.
كلّ ذلك ليُعلّم أمّته النظافة وأسباب الصحة والوقاية، لا أن يقول لهم: "إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه" وهذا سبق الحديث عنه فليراجع.
على أنّنا نجد التناقض ظاهراً حتى فيما يختصّ بالهامة التي كان يتشاءم العرب بها، وهي الطائر المعروف من طير الليل، وقيل هي البومة وهو تفسير مالك بن أنس، فإذا كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "لا هامة"، فكيف يتناقض ويتعوّذ منها؟!
فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق، باب يزفّون النسلان في المشي من جزئه الرابع صفحة 119:
عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: كان النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يعوّذُ الحسنَ والحسينَ، ويقول: "إنّ أباكما كان يعوّذُ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامّة من كلّ شيطان وهامّة ومن كلّ عين لامَّة".
نعم، أردنا في هذا الفصل أن نذكر بعض الأمثلة من الأحاديث المتناقضة التي تُنسبُ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو منها بريء.
وهناك مئات الأحاديث الأُخرى المتناقضة التي أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقد ضربنا عليها صفحاً لما عوّدنا القارئ دائماً بالاختصار والإشارة، وعلى الباحثين أن يكبّوا على دراسة ذلك عسى أنْ يُطّهر الله بهم سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويثيبهم الأجر العظيم، ويكونوا سبباً في تنقية الحق من الأباطيل، ويُقدِّموا إلى الرجل الجديد أبحاثاً قيّمة تكون في
____________
1- صحيح مسلم 1: 162 كتاب الطهارة، بابا حكم ولوغ الكلب.
{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأهُ اللّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً * يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّـقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِـحْ لَكُمْ أعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِـعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}(1).
____________
1- الأحزاب: 69 ـ 71.