الصفحة 435
"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفْد بنحو ما كنت أجيزهم" ونسيتُ الثَّالثة.

نعم، هذه هي رزيّة يوم الخميس التي لعب فيها عمر دور البطولة، فعارض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنعه أنّ يكتب، وبتلك الكلمة الفاحشة التي تعارض كتاب الله، ألا وهي أنّ النّبي يهجر، والبخاري ومسلم نقلاها هُنا بالعبارة الصحيحة التي نطق بها عمر، ولم يُبدِّلاها ما دام اسم عمر غير وارد، ونسبة هذا القول الشنيع للمجهول لا يضرّ.

ولكن عندما يأتي اسم عمر في الرواية التي تذكر بأنّه هو الذي تلفّظ بها، يصعب ذلك على البخاري ومسلم أن يتركاها على حالها; لأنّها تفضَحُ الخليفة، وتظهره على حقيقته العارية، وتكشف عن مدى جُرأته على مقام الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي كان يعارضُه طيلة حياته في أغلب القضايا.

وعرف البخاري ومسلم ومن كان على شاكلتهم بأنّ هذه الكلمة وحدها كافية لإثارة عواطف كلّ المسلمين حتّى أهل السنّة ضدّ الخليفة، فعمدوا إلى التّدليس، فهي مهنتهم المعروفة لمثل هذه القضايا، وأبدلوا كلمة "يهجُر" بكلمة "غلب عليه الوجع"، ليبعدوا بذلك تلك العبارة الفاحشة، وإليك ما أخرجه البخاري ومسلم في نفس موضوع الرزيّة:

عن ابن عباس، قال: لما حُضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب، قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "هلّم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده"، فقال عمر: إنّ النبىّ قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.

فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النّبي كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللّغو

الصفحة 436
والاختلاف عند النّبي قال لهم: قوموا. قال عبد الله بن مسعود: فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزيّة كلّ الرّزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(1).

وبما أنّ مسلماً أخذها عن أُستاذه البخاري، فنحنُ نقول للبخاري: مهْما هذّبْتَ العبارة، ومهما حاولت تغطية الحقائق، فإنّ ما أخرجته كاف وهو حجةٌ عليك وعلى سيّدك عمر; لأنّ لفظ "يهجر" ومعناه يهذي، أو "قد غلب عليه الوجع"، تؤدّي إلى نفس النتيجة; لأنّ المتمعّن يجد أنّ النّاس حتّى اليوم يقولون: مسكين فلان تغلّبت عليه الحُمَّى حتى أصبح يهذي.

وخصوصاً إذا أضفنا إليها كلامه: "عندكم القرآن حسبنا كتاب الله" ومعنى ذلك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انتهى أمره، وأصبح وجوده كالعدم!!

وأنا أتحدّى كلّ عالم له ضمير أن يتمعّن فقط في هذه الواقعة بدون رواسب وبدون خلفيّات، فسوف تثور ثائرته على الخليفة الذي حرم الأُمّة من الهداية، وكان سبباً مباشراً في ضلالتها.

ولماذا نخشى من قول الحقّ ما دام فيه دفاعٌ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبالتالي عن القرآن وعن المفاهيم الإسلاميّة بأكملها، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ}(2).

فلماذا يحاول بعض العلماء حتى اليوم في عصر العلم والنور جهدهم

____________

1- صحيح البخاري 7: 9 كتاب المرضى، باب قول المريض: قوموا عني، صحيح مسلم 5: 76 كتاب الوصية، باب ترك الوصية.

2- المائدة: 44.


الصفحة 437
تغطية الحقائق بما يختلقونه من تأويلات متكلّفة لا تُسْمِنُ ولا تُغْني من جوع؟!

فإليك ما ابتكره العالم محمّد فؤاد عبد الباقي في شرحه لكتاب "اللؤلؤُ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان" عند إيراده لحديث رزيّة يوم الخميس قال يشرح الواقعة: "ائتوني بكتاب" أي ائتوني بأدوات كتاب كالقلم والدواة، أو أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه نحو الكاغد والكتف; والظاهر أنّ هذا الكتاب الذي أراده إنّما هو في النصّ على خلافة أبي بكر، لكنّهم لمّا تنازعوا واشتدّ مرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) عدل عن ذلك، معوّلا على ما أصَّلَهُ من استخلافه في الصّلاة.

ثمّ أخذ يشرح معنى هَجَر قال: هجر: ظنّ ابن بطّال أنّها بمعنى اختلط، وابن التين أنّها بمعنى هَذَى; وهذا غير لائق بقدره الرفيع، ويحتمل أن يكون المراد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هجركم، من الهجر الذي هو ضدّ الوصل، لما قد وردَ عليه من الواردات الإلهية، ولذا قال: في الرفيق الأعلى، وقال ابن الأثير: إنّه على سبيل الاستفهام وحذفتْ الهمزة، أي هل تغيّرَ كلامه واخْتَلَطَ لأجل ما به من المرض، وهذا أحسن ما يقالُ فيه، ولا يجعل إخباراً فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان، والقائل كان عمر ولا يُظنُّ به ذلك(1). انتهى كلامه.

ونحن نردّ عليك يا سيادة العالم الجليل أنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، ويكفينا اعترافك بأنّ قائل هذا الفحش هو عُمر! ومن أنبأك بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يكتب خلافة أبي بكر؟ وهل كان عمر ليعترض على ذلك؟

____________

1- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 2: 166، كتاب الوصية.


الصفحة 438
وهو الذي شيّد أركان الخلافة لأبي بكر، وحملَ النّاس عليها غصباً وقهراً حتّى هدَّد بحرق بيت الزّهراء، وهل هناك من ادّعى هذا غيرك يا سيادة العالم الجليل؟

والمعروف عند العلماء قديماً وحديثاً(1)بأنّ علىَّ بن أبي طالب هو المرشّح للخلافة من قبل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إن لم يعترفوا بالنصّ عليه، ويكفيك ما أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الوصايا من جزئه الثالث صفحة 186، قال: ذكروا عند عائشة أنَّ عليّاً رضي الله عنهما كان وصيّاً، فقالت: متى أوصى إليه وقد كنتُ مسندته إلى صدري فدعا بالطسَّتِ، فلقد انخنث في حجري فما شعرتُ أنّه قد ماتَ، فمَتى أوصى إليه؟(2).

والبخاري أخرج هذا الحديث لأنّ فيه إنكار الوصيّة من طرف عائشة، وهذا ما يعجب البخاري، ولكن نحن نقول: بأنّ الذين ذكروا عند عائشة أنّ

____________

1- إنّ هذا الأمر كان معلوماً لدى الصحابة فضلا عن العلماء ويدلّ عليه أُمور:

منها: ما قاله عليّ (عليه السلام): "قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أرى أنّي أحق بهذا الأمر..." (اُسد الغابة 4: 31)، ومنها: ما قاله العباس لعليّ بعد ما توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا علي قم حتى أبايعك ومن حضر... فقال عليّ: وأحدٌ؟ يعني يطمع فيها غيرنا..." (الطبقات لابن سعد 2: 190 ط دار الكتب العلمية). فالمسألة إذاً كانت معلومة واضحة لدى الصحابة ولذا تأخّر قوم عن البيعة وذهبوا إلى بيت فاطمة (عليها السلام) وليس ذلك إلاّ لاعتقادهم أحقية عليّ (عليه السلام) بالأمر دون غيره.

2- لا بأس بذكر ما أورده الشوكاني في نيل الأوطار 6: 145 على القرطبي حينما استشهد بكلام عائشة على نفي الوصية، فقال: "ولا يخفى أنّ نفي عائشة للوصية حال الموت لا يستلزم نفيها في جميع الأوقات، فإذا أقام البرهان الصحيح من يدّعي الوصاية في شيء معين قبل".


الصفحة 439
رسول الله أوصى لعلي صادقين; لأنّ عائشة لم تكذّبهم ولم تنْفِ هي نفسها الوصية، ولكنّها سألت كالمستنكرة متى أوصى إليه؟

ونجيبها بأنّه أوصى إليه بحضور أُولئك الصحابة الكرام وفي غيابها هي، ولا شكّ بأنّ أُولئك الصّحابة ذكروا لها متّى أوصى إليه، ولكنّ الحكّام المتسلّطين منعوا ذكر مثل هذه المحاججات، كما منعوا ذكر الوصيّة الثالثة ونسوها، وقامتْ السياسة على طمس هذه الحقيقة.

على أنّ عمر نفسه صرّح بأنّه منع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتابة الكتاب لعلمه بأنّه يختصّ بخلافة علي بن أبي طالب، وقد أخرج ابن أبي الحديد الحوار الذي دار بين عمر بن الخطّاب وعبد الله بن عبّاس، وفيه قال عمر وهو يسأل ابن عباس: هل بقي في نفس عليّ شيء من أمر الخلافة؟ فقال ابن عبّاس: نعم، فقال عمر: ولقد أراد رسول الله في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعتُه من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام(1).

فلماذا تتهرّب يا سيادة العالم من الواقع، وبدلا من إظهار الحقّ، بعدما ولّى عصر الظلمات مع بني أُميّة وبني العبّاس، ها أنتم تزيدون تلك الظلمات غشاوة وأستاراً، فتحجبوا غيركم عن إدراك الحقيقة والوصول إليها؟! وإن كنت قُلتَ الذي قُلتَ عن حسن نيّة، فإني أسأل الله سبحانه أن يهديك ويفتح بصيرتك.

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 12: 21، وذكر ابن أبي الحديد أنّ الخبر نقله أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً. (المؤلّف).


الصفحة 440
6 ـ كما أنّ البخاري فعل الكثير من أجل تبديل وتدليس وتخليط الأحاديث النّبوية; التي يشعر من خلالها أنّ هناكَ توهيناً وانتقاصاً لهيبة أبي بكر وعمر، فها هو يعمدُ إلى حادثة تاريخية مشهورة قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثاً لم يعجب الإمام البخاري، فأعفاه تماماً وكمالا; لأنّه يرفع مكانة علي على حساب أبي بكر.

فقد روى علماء السنّة في صحاحهم ومسانيدهم، كالترمذي في صحيحه، والحاكم في مستدركه وأحمد بن حنبل في مسنده، والإمام النسائي في خصائصه، والطبري في تفسيره، وجلال الدّين السيوطي في تفسيره الدرّ المنثور، وابن الأثير في تاريخه، وصاحب كنز العمّال، والزمخشري في الكشّاف، وغير هؤلاء كثيرون، أخرجوا كلّهم:

إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر (رضي الله عنه) وأمره أن ينادي بهذه الكلمات (وهي براءة من الله ورسوله..)، ثمّ أتبعَهُ عليّاً (رضي الله عنه) وأمره أن ينادي بها هو، فقام علىٌّ (رضي الله عنه) في أيام التشريق فنادى: "إنّ الله برىء من المشركين ورسولُه، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجّنّ بعد العام مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عريان"، ورجع أبو بكر (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله نزل فىّ شيءٌ؟ قال: "لا، ولكنّ جبرئيل جاءني فقال: لن يؤدّي عنك إلاّ أنتَ أو رجلٌ منك"(1).

____________

1- راجعه بألفاظه المختلفة: مسند أحمد 1: 151 وقال محقّق المسند أحمد شاكر:

سنده حسن، ذخائر العقبى: 69، الدر المنثور 3: 209، تاريخ دمشق 42: 348، سنن الترمذي 4: 339، المستدرك 3: 51، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 506 ح72، السنن الكبرى للنسائي 5: 128 والخصائص له أيضاً: 91، مسند أبي يعلى 1: 100 ح104، صحيح ابن حبان 15: 17، تفسير الطبري 10: 84، شواهد التنزيل 1: 305، أنساب الأشراف: 155، تاريخ الطبري 2: 383، فتح القدير للشوكاني 2: 334، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 595 ح1384.


الصفحة 441
لكنّ البخاري كعادته دائماً أخرج الحادثة بطريقته المعروفة والمألوفة، قال في صحيحه من كتاب تفسير القرآن باب قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر:

قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنّ أبا هريرة (رضي الله عنه) قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذّنين، بعثهم يوم النّحر يؤذّنون بمنْى: أن لا يحجّ بعد العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذّنَ ببراءة، قال أبو هريرة: فأذّن معنا علي يوم النحر في أهل منىً ببراءة، وأنّ لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريانٌ(1).

فانظر أيها القارئ كيف تتمُّ عملية التشويه للأحاديث والأحداث حسب الأغراض والأهواء المذهبية، فهل هناك شبهٌ بين ما رواه البخاري في هذه القضية، وما رواه غيره من المحدّثين والمفسّرين من علماء أهل السنة؟!

والبخاري هنا يجعل أبا بكر هو الذي بعث أبا هريرة، ومؤذّنين يؤذّنون بمنى أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريانٌ، ثمّ يدخلُ قول حميد بن عبد الرحمن بأنّ رسول الله أردف بعلي بن أبي طالب، وأمره أنْ يؤذّن ببراءة.

ثمّ يأتي من جديد قول أبي هريرة بأنّ علي شاركهم في الأذان يوم

____________

1- صحيح البخاري 5: 202.


الصفحة 442
النحر ببراءة، وأن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان!!

وبهذا الأُسلوب قضى البخاري على فضيلة علي بن أبي طالب، في أنّه هو الذي أَردفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليبلّغ عنه براءة، بعدما جاءهُ جبرئيل وأمره عن الله بعزل أبي بكر من تلك المهمة، وقال له: "لن يؤدي عنك إلاّ أنتَ أو رجلٌ منك".

فصعب على البخاري أن يعزل أبو بكر بوحي من الله تعالى، ويُقدّم عليّ ابن أبي طالب عليه، وهذا ما لا يرتضيه البخاري أبداً، فعمد إلى الرواية فدَلّسها كغيرها من الرّوايات.

وكيف لا يتنبّه الباحث لهذا الدّس والتزوير، وخيانة الأمانة العلمية، خصوصاً وهو يقرأ أنّ أبا هريرة يقول: بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذّنين بعثهم يوم النحر! فهل كان أبو بكر هو الذي يُسيّرُ الأُمورَ حتى في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وكيف أصبح المبعوث هو البَاعث الذي يختارُ مؤذّنينَ من بين الصحابة يا تُرى؟

وتمعّن في أُسلوب البخاري كيف قلَّب كلّ شيء، فأصبح علي بن أبي طالب ـ المبعوث من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأداء تلك المهمّة التي لا يصلح لها سِواهُ ـ شريكَ النّداء مع أبي هريرة وبقية المؤذّنين، دون التعرّض لعزل أبي بكر ولا رجوعه يبكي ـ كما في بعض الروايات ـ ولا التعرّض إلى قول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "جاءني جبرئيل فقال: لن يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجلٌ منك"؟!

لأنّ ذلك الحديث هو بمثابة وسام الشّرف الذي قلّده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن عمِّه ووصيّه على أُمّته علي بن أبي طالب، ثمّ هو صريح بأنّ ذلك

الصفحة 443
ماجاء به جبرئيل حسب الحديث النّبوي، فلا يبقى بعده مجال للمتأوّلين أمثال البخاري في أنّه رأيُ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو كسائر البشر، والذي يُخطئُ، كغيره، فالأولى للبخاري حينئذ أنْ يُبعدَ هذه الرواية ويطرحها كلّياً من حسابه كما طرح غيرها.

فتراه يخرج في صحيحه في كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالحَ فلان بن فلان، قول الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب: "أنتَ منِّي وأنا منك" في قضية اختصام علي وجعفر وزيد على ابنة حمزة، في حين أنّ ابن ماجة، والترمذي، والنسائي، والإمام أحمد، وصاحب كنز العمّال، كلّهم يخرجون قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "علي منّى وأنَا من علي، ولا يؤدّي عنّي إلاَّ أنَا أو علي"(1)قالها في حجّة الوداع، ولكن أنّى للبخاري أن يُخرجَ ذلك؟!

7 ـ أضف إلى ذلك أنّ الإمام مسلم أخرج في صحيحه من كتاب الإيمان، باب الدّليل على أنّ حبّ الأنصار وعلىّ من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النّفاق:

عن علىّ قال: "والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، إنّه لعهْدُ النبىُّ الأُمّي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليَّ: أنْ لا يُحبّني إلاّ مؤمنٌ، ولا يبغضُني إلاّ منافِقٌ".

____________

1- مسند أحمد 4: 165، سنن ابن ماجة 1: 44 ح119، سنن الترمذي 5: 299 ح3803 وصححه، المصنف لابن أبي شيبة 7: 495 ح8، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 584 ح1320، السنن الكبرى للنسائي 5: 45 ح8147، المعجم الكبير للطبراني 4: 16، الجامع الصغير للسيوطي 2: 177 ح5595، كنز العمال 11: 603 ح32913، تاريخ دمشق 42: 345، تهذيب الكمال للمزي 5: 35، سير أعلام النبلاء 8: 212 وسنده صحيح.


الصفحة 444
وأكّد المحدّثون وأصحاب السنن قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لعَلي: "ولا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافقٌ"(1).

أخرجه الترمذي في صحيحه، والنسائي في سننه، ومسند أحمد بن حنبل، والبيهقي في سننه، والطبري في ذخائر العقبى، وابن حجر في لسان الميزان، ولكنّ البخاري رغم ثبوت هذا الحديث عنده، والذي أخرجه مسلم ورجاله كلّهم ثقات لم يخرج هذا الحديث; لأنّه فكّر ثمّ قدّر، بأنّ المسلمين سيعرفون نفاق كثير من الصّحابة، ومن المقرّبين للرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

بهذه الإشارة التي رسمها من لا ينطق عن الهَوى إن هُو إلاّ وحيٌّ يُوحَى، كما أن الحديث في حدّ ذاته فضيلة كبرى لعلي وحدَه دونَ سائر الناس، إذ به يُفرقَ الحقّ من الباطل، ويعرفُ الإيمان من النّفاق.

فهو آية الله العُظمى، وحجّته الكبرى على هذه الأُمة، وهو الفتنةُ التي يختبر الله بها أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نبيّها، ورغم أن النّفاق هو من الأسرار الباطنية التي لا يطّلعُ عليها إلاّ من يعلم خائنة الأعيُن وما تُخفي الصدور، ولا يعرفها إلاّ علاّم الغيوب، فإنّ الله سبحانه تفضّلا منه ورحمةً بهذه الأُمّة وضع لها علامةً، ليهلك من هلك عن بيّنة، وينجو من نجا عن بينة.

____________

1- مسند أحمد 1: 95 وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح وهو مكرّر 642"، سنن الترمذي 5: 306 ح3819 وصحّحه، السنن الكبرى للنسائي 5: 137 ح8487، مسند أبي يعلى 1: 251 ح291، المعجم الأوسط 2: 337، تاريخ بغداد 8: 416، تاريخ دمشق 42: 271، أُسد الغابة 4: 26، تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 10، سير أعلام النبلاء للذهبي 5: 189، الإصابة 4: 468، البداية والنهاية 7: 391 وغيرها من المصادر.


الصفحة 445
وأضْربُ لذلك مثالا واحداً على ذكاء البخاري وفطنته من هذه النّاحية، ولذلك أعتقد شخصيّاً بأنّ أهل السنّة من الأسلاف فضّلوه وقدّموه لهذه الخاصيّة التي يمتاز بها على غيره، فهو يحاول جهده أن لا يتناقض بأحاديث تخالف مذهبه الذي اختاره وتبنّاه.

فقد أخرج في صحيحه من كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب هبة الرّجل لامرأته والمرأة لزوجها:

قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، قالت عائشةُ رضي الله عنها: لما ثَقُلَ النّبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فاشتدّ وجعُهُ، استأذن أزواجه أن يُمرضَ في بيتي فأذِنَّ لَهُ، فخرجَ بينَ رجُلينِ تَخُطُّ رجلاَهُ الأرضَ، وكانَ بينَ العبّاسِ وبين رجل آخَرَ، فقال عبيد الله: فذكرتُ لابن عبّاس ما قالتْ عائشةُ، فقال لي: وهلْ تدري من الرَّجُلُ الذي لم تُسَمِّ عائشة؟ قلتُ: لا! قال: هو علىّ بن أبي طالب.

وهذا الحديث بالضبط أخرجه ابن سعد في طبقاته بسند صحيح في جزئه الثاني في صفحة 29، وكذلك صاحب السيرة الحلبية، وغيرهم من أصحاب السنن وفيه: "إنّ عائشة لا تَطيبُ له نفساً بخير"(1).

والبخاري أسقط هذه الجملة التي يستفاد منها أنّ عائشة تبغض عليّاً ولا تَطيق ذكر اسمه، ولكن فيما أخرجه كفاية ودلالة واضحة لمن له دراية بمعارض الكلم; وهل يخفى على أىّ باحث قرأ التاريخ ومحّصة، بغض أُمّ

____________

1- مسند أحمد 6: 228، عنه الألباني في إرواء الغليل 1: 178 وصحّحه، الطبقات الكبرى 2: 233، السيرة الحلبية 3: 486.


الصفحة 446
المؤمنين لسيّدها ومولاها علي بن أبي طالب(1)، حتّى إنّها عندما وصلَ إليها خَبرُ قتلِه سجدتْ شكراً لله(2).

وعلى كلّ حال رحمَ الله أُمّ المؤمنين وغفرَ لهَا كرامةً لزوجها، ونحنُ لا نضيّق رحمة الله التي وسعتْ كلّ شي، وكان بودّنا لو لم تكن تلك الحروب والفتن والمآسي، التي تسبّبتْ في تفريقنا وتشتيت شملنا وذهاب ريحنا، حتى أصبحنا اليوم طعمة الآكلين، وهدف المستعمرين، وضحيّة الظّالمين، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

انتقاصُ أهل البيت روايات تعجب البخاري

ومع الأسف الشديد فإنّ الإمام البخاري اختار طريقه، وسلك سبيله ضمن مدرسة الخُلفاء التي شيّدتها السلطة الحاكمة، أو أنّ تلك المدرسة هي التي اختارت البخاري وأمثاله، وصنعتْ منهم ركائز وأركان ورموز لتدعيم سلطانهم، وترويح مذهبهم، وتصريف اجتهاداتهم التي أصبحتْ في عهد الأمويين والعباسيين سوقاً رائجة، وسلعة رابحة لكلّ العلماء الذين تسابقوا وتَباروا لتأييد الخليفة، بكلّ أساليب الوضع والتّدْليس الذي يتماشى

____________

1- جاء في الغدير 1: 666 عن الحافظ ابن سمان كما في الرياض النضرة 3: 115، وذخائر العقبى: 68، ووسيلة المآل: 119، والمناقب للخوارزمي: 160 ح191، والصواعق المحرقة: 179 عن الحافظ الدارقطني عن عمر وقد جاءه أعرابيان يختصمان فقال لعليّ: اقض بينهما، فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا؟ فوثب إليه عمر وأخذ بتلبيبه وقال: ويحك ما تدري من هذا، هذا مولاي ومولى كلّ مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن.

2- مقاتل الطالبيين: 55 وفيه: "لما أن جاء عائشة قتل عليّ سجدت".


الصفحة 447
والسّياسة القائمة، كلّ ذلك لينالوا عند الحاكم الجاه والمال، فباعوا أُخراهم بدنياهم، فما ربحت تجارتهم، ويوم القيامة يندمون ويخسرون.

فالناس ناس، والزمان زمان، فأنتَ ترى اليوم نفس الأساليب ونفس السّياسة، فكم من عالم جليل هو حبيس داره لا يعرفه النّاس، وكم من جاهل تربّع على منبر الخطابة، وإمامة الجماعة، والتحكّم بمصير المسلمين; لأنّه من المقرّبين الذين نالوا رضَى النظام وتأييده، وإلاّ قل لي بربّك كيف يفسّر عزوف البخاري عن أهل بيت النبي الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً؟

كيف يفسّر عداء البخاري لهدي الأئمة الذين عاصر وعايش البعض منهم زمن البخاري، ولم يروِ عنهم إلاّ ما هو مكذوب عليهم; للحطّ من قدرهم السّامي، والطعن في عصمتهم الثابتة بالقرآن والسنّة، وسنوافيك ببعض الأمثلة على ذلك.

ثمّ إنّ البخاري ولّى وجهه شطر النّواصب والخوارج الذين حاربوا أهل البيت وقتلوهم، فتراه يروي عن معاوية، وعن عمرو بن العاص، وعن أبي هريرة، وعن مروان بن الحكم، وعن مقاتل بن سليمان الذي عُرف بالدّجال(1)، وعن عمران بن حطّان عدوّ أمير المؤمنين وعدوّ أهل البيت،

____________

1- قال ابن حبان في كتاب المجروحين 3: 14 "كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم وكان شبيهاً يشبّه الرب بالمخلوقين" وعن أبي حنيفة قال: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه" سير أعلام النبلاء 7: 202، ومقاتل هذا وقع في سند رواية رواها البخاري في تاريخه

=>


الصفحة 448

____________

<=

الكبير 4: 292 ح2866. وقال الذهبي في كتاب ميزان الاعتدال 1: 160 رقم 5960 ترجمة علي بن هاشم: "ترك البخاري إخراج حديثه فإنّه يتجنّب الرافضة كثيراً... ولا نراه يتجنّب القدريّة ولا الخوارج ولا الجهميّة".

وقد ذكر صاحب كتاب كشف الجاني: 139 أنّ معاوية وعمرو بن العاص وأبا هريرة صحابة، والصحبة كافية للحكم بالعدالة كما هو مبنى السنّة، وقد قدّمنا فيما سبق بعض أحوال معاوية، وبعض تصرّفات أبي هريرة وتدليساته؟.

وذكر صاحب كشف الجاني أنّ مروان بن الحكم غير متّهم في حديثه.

وهذا رميٌ للكلام بدون تثبت; إذ ذكره الذهبي في كتابه المغني في الضعفاء 2: 397 ترجمة 6166، وقد ذكر في مقدّمة كتابه أنّه خصّصه في: (ذكر الكذابين الوضاعين، ثمّ على ذكر المتروكين الهالكين ثمّ على الضعفاء من المحدّثين الناقلين، ثمّ على الكثير الوهم من الصادقين، ثمّ على الثقات الذين فيهم شيء من اللين.. ثمّ على خلق كثير من المجهولين..".

وفي صحيح ابن حبّان 3: 396: "قال أبو حاتم رضي الله عنه: عائذ بالله أن نحتجّ بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شيء من كتبنا".

وقال عنه الشيخ الألباني في مختصر صحيح البخاري 1: 190: "فيه كلام معروف عند المحدّثين".

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب 10: 92: "وعاب الإسماعيلي على البخاري تخريج حديثه وعدّ من موبقاته أنّه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل".

وقال ابن حزم: "مروان بن الحكم أوّل من شقّ عصى المسلمين بلا شبهة ولا تأويل، وإنه قتل النعمان بن بشير أوّل مولود في الإسلام للأنصار" المغني في معرفة رجال الصحيحين: 235. هذا من جهة منزلة مروان بن الحكم عند المحدّثين.

وأمّا سيرته وأفعاله فهي كالنار على المنار، مليئة بالخيانة والحقد على المسملين، قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال 4: 89: "له أعمال موبقة، نسأل

=>


الصفحة 449

____________

<=

الله السلامة، رمى طلحة بسهم".

وفي سير أعلام النبلاء 1: 35: "عن قيس قال: رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم فوقع في ركبته فما زال ينسح حتى مات، رواه جماعة عنه.

ولفظ عبد الحميد بن صالح: هذا أعان على عثمان ولا أطلب بثأري بعد اليوم.

قلت: قاتل طلحة في الوزر بمنزلة قاتل علياً".

وقال عنه الذهبي في تاريخ الإسلام 1: 234: "كان يوم الحرّة مع مسلم بن عقبة، وحرّضه على أهل المدينة..."، وارجع إلى حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صحيح مسلم 4: 121 "من أراد أهلها بسوء (يريد المدينة) أذابه الله كما يذوب الملح في الماء" فهو ممّن شمله دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من أصحاب النار.

وفي سير أعلام النبلاء 3: 477: "كان مروان أميراً علينا، فكان يسبّ رجلا كلّ جمعة، ثمّ عزل بسعيد بن العاص، وكان سعيد لا يسبه، ثمّ أُعيد مروان فكان يسبّ، فقيل للحسن: ألا تسمع ما يقول؟ فجعل لا يردّ شيئاً.." وقد ذكر في تاريخ الإسلام 1: 235 اسم ذلك الرجل الذي كان يسبه مروان وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وذكر في كشف الجاني أيضاً بأنّ المؤلّف كذب حينما قال: بأنّ البخاري يروي عن المجسّمة والمجاهيل!

وهذا ـ أيضاً ـ من جهل صاحب كتاب كشف الجاني إذ بمراجعة بسيطة لمقدّمة فتح الباري وغيرها يجد أنّ هنالك العديد من المجاهيل بل والمتهمين بالكذب ممّن روى البخاري عنهم، نورد بعض الأسماء ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى مقدّمة فتح الباري:

فمن الرواة المجاهيل الذين روى عنهم البخاري:

1ـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة: قال القطان الفاسي: لا يعرف حاله. هدي الساري إلى فتح الباري، ابن حجر 548.

2ـ أسباط أبو اليسع: قال أبو حاتم: مجهول. المصدر السابق 549.

=>


الصفحة 450

____________

<=

3ـ الحسين بن الحسن بن يسار: قال أبو حاتم: مجهول. المصدر السابق ص560.

4ـ أُسامة بن حفص أو ابن جعفر المدني: قال اللالكائي: مجهول، وقال الأزدي ضعيف. ميزان الاعتدال 1: 174، رقم 704، هدي الساري: 386، المغني في معرفة الرجال الصحيحين: 28 رقم 131.

5ـ ثور بن زيد الديلي: قال اليبهقي: مجهول. ميزان الاعتدال 1: 373.

6ـ الحسن بن إسحاق بن زياد أبو علي الليثي المروزي: قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: هو مجهول، وقال الذهبي: مجهول الجرح والتعديل 3: 2، ميزان الاعتدال 2: 227، المغني في الضعفاء 1: 244.

7ـ حصين بن محمّد الأنصاري السالمي: قال الذهبي: فيحتجّ به في الصحيحين،ومع هذا فلا يكاد يعرف. ميزان الاعتدال 1: 554.

8ـ عبد الواحد بن عبد الله بن كعب النصري: قال ابن حزم: مجهول. تهذيب التهذيب 6: 436، الضعفاء لابن الجوزي 2: 156.

9ـ محمّد بن يزيد الكوفي الحزامي: قال أبو حاتم: مجهول. هدي الساري: 443.

ومن الرواة المتهمين بالكذب الذين روى عنهم البخاري:

1ـ أسيد بن زيد الجمّال: قال النسائي: متروك، وقال ابن معين: حدّث بأحاديث كذب، وقال ابن خلفون: وذكر ابن الاعراتي عن عباس بن محمّد الدورقي عن يحيى بن معين قال: أسيد بن زيد الجمال: كذاب، ذهب إليه في الكرخ ونزل دار الحذائين فأردت أن أقول: ياكذاب، ففرقت من شفار الحذائين. المصدر السابق 552، المعلم بشيوخ البخاري ومسلم: 114 رقم 88.

2ـ شجاع بن الوليد بن قيس السكوني: اتهمه يحيى بن معين بالكذب. المصدر السابق ص575.

3ـ عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس: متّهم بالكذب. المصدر السابق

=>