الصفحة 35

العقيدة في الإمامة (عند الطرفين)

والقصد من الإمامة في هذا البحث هي الإمامة الكبري للمسلمين، أعني الخلافة والحكم، والقيادة والولاية.

وبما أنّ كتابي إعتمد في أبحاثه على المقارنة بين مذهب أهل السنّة والجماعة، والشيعة الإمامية لا بد لي من إبراز مبدأ الإمامة عند الفريقين، حتّى يتبينّ للقاريء والباحث ماهي الأسس والمعالم التي يرتكز عليها كلّ من الفريقين، ويعرف بالتّالي القناعات التي الزمتني بقبول التحوّل وترك ماكنتُ عليه.

فالإمامة عند الشيعة، هي أصل من أصول الدّين لما لها من الأهمية الكبرى والخطورة العظمى وهي قيادة خير إمة أخرجت للنّاس وما تقوم عليه القيادة من فضائل عديدة وخصائص فريدة أذكر منها، العلم والشجاعة والحلم والنزاهة والعفّة والزهد والتقوى والصلاح الخ.

فالشيعة يعتقدون بأن الإمامة منصب إلهي يعهد به الله سبحانه إلى من يصطفيه من عباده الصالحين ليقوم بذلك الدور الخطير إلا وهو قيادة العالم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وعلى هذا كان الإمام علي بن أبي طالب إماماً للمسلمين بإختيار الله له،

الصفحة 36
وقد أوحى لرسوله لكي ينصّبه علماً للناس، وقد نصّبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ودلّ الأمة عليه وبعد حجة الوداع في غدير خم، فبايعوه «هذا مايقوله الشيعة».

أمّا اهل السنّة والجماعه فيقولون أيضاً بوجوب الإمامه لقيادة الأمّة، ولكنّهم يجعلون للأمة حق إختيار إمامها وقائدها، فكان أبو بكر بن أبي قحافه إماماً للمسلمين بإختيار المسلمين أنفسهم له بعد وفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي سكت عن أمر الخلافة ولم يبينّ للأمّة شيئا منها وترك الأمر شورى بين النّاس.

أين الحقيقه إذا تأمّل الباحث في أقوال الطرفين وتمعّن في حُجج الفريقين بدون تعصّب فسوف يقترب من الحقيقة بدون شك وها أنا سوف أستعرض وإياكم الحقيقة التي وصلت اليها على النحو التالي:

1 - الإمامة في القرآن الكريم: قال الله تعالى: وإذ إبتلى إبراهيم ربّهُ بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً، قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (1) .

في هذه الآية الكريمة يبّيُن الله لنا بأنّ الإمامة منصبٌ إلهي يعطيه الله لمن يشاء من عباده لقوله: جاعلك للناس إماماً كما توضّح الآيه بأن الأمامة هي عهد من الله لا ينالها إلا العباد الصالحين الذين إصطفاهم الله لهذا الغرض لإ نتفائه عن الظالمين الذين لا يستحقّون عهده سبحانه وتعالى.

وقال تعالى: وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا اليهم فعل الخيرات وإقام الصلاه وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (2) .

____________

(1) سورة البقرة آية 124.

(2) سورة الأنبياء آية 73.


الصفحة 37
وقال سبحانه وتعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (1) .

وقال أيضاً: ونريد أن نمنّعلى الذين إستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .

(2) وقد يتوهّم البعض بأنمدلول الآيات المذكوره يُفهم منها بأن الإمامة المقصودة هنا هي النبّوه والرساله وهو خطأ في المفهوم العام للإمامة، لأن كل رسول هو نبي وإمام وليس كل إمام رسول أو نبي !.

ولهذا الغرض أوضح الله سبحانه تعالى في كتابه العزير بأن عباده الصالحين يمكن لهم أن يسألوه هذا المنصب الشريف ليتشرّفوا بهداية النّاس وينالوا بذلك الأجر العظيم قال تعالى: والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً والذين إذا ذُكّروا بآيات ربّهم لم يخرُّوا عليها صُمَّا وعمياناً، والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعيُنٍ وأجعلنا للمتقين إماماً (3) .

كما ان القرآن الكريم إستعمل لفظ الإمامة للتدليل على القادة والحكّام والظالمين الذين يُضلّون أتباعهم وشعوبهم ويقودونهم الى الفساد والعذاب في الدنيا والآخرة، فقد جاء في الذكرالحكيم، حكاية عن فرعون وجنوده، قوله تعالى: فاخذناه وجنوده فنبذناهم في أليمّ فأنظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون الى النّار ويوم القيامة لا ينُصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة هم من المقبوحين (4) .

وعلى هذا الأساس فقول الشيعة هو الأقرب لما أقره القرآن الكريم لأن الله

____________

(1)سورة السجدة آيه 24

(2) سورة القصص آيه 5.

(3) سورة الفرقان آية 71 ـ 74.

(4) سورة القصص آية 41 ـ 42.


الصفحة 38
سبحانه وتعالى أوضح بما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ الإمامة منصب إلهي ويجعله الله حيث يشاء وهو عهد الله الذي نفاه عن الظّالمين وبما إنّ غير علي من صحابة النبي قد أشركوا فترة ما قبل الإسلام فإنهم بذلك يصبحون من الظالمين،فلا يستحقّون عهد الله لهم بالإمامة والخلافة، ويبقى قول الشيعة بأنّ الإمام علي بن أبي طالب إستحقّ وحده دون سائر الصحابة عهد الله بالإمامة لأنّه لم يَعبُد إلا الله وكرّم الله وجهه دون الصحابة لأنه لم يسجد لصنم، وإذا قيل بأنّ الأسلام يجبّ ماقبله، قلنا نعم ولكن يبقى الفُرق كبيراً بين من كان مشركاً وتاب، ومن كان نقيّاً خالصاً لم يعرف إلا الله.

2 ـ الإمامة في السنّة النبوية: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الإمامة أقوالاً متعدّدة رواها كّل من الشيعة والسنة في كتبهم ومسانيدهم فمرّة تحدث عنها بلفظ الإمامة ومرّة بلفظ الخلافة وآخرى بلفظ الولاية أو الإمارة.

جاء في الإمامة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«خيار أئمتكم الذين تحبّونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم».

قالوا يارسول الله أفلا ننابذهم بالسيف فقال «لا ما أقاموا فيكم الصلاة»(1) .

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:

(يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنونّ بسنّتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»(2) .

____________

(1)صحيح مسلم ج 6 / 24 باب خيار الأئمة وشرارهم.

(2) صحيح مسلم ج 6 /20 باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن.


الصفحة 39
وجاء في الخلافة قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

«لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعه أو يكون عليكم إثنا عشر خليفه كلّهم من قريش»(1) .

وعن جابر بن سمرة قال سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «لايزال الإسلام عزيزاً إلى إثنا عشر خليفة ثم قال كلمه لم افهمها فقلتُ لأبي، ما قال ؟ فقال كلّهم من قريش»(2) .

وجاء في الإمارة قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف بريء ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلّوا»(3) .

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم في لفظ الإمارة أيضاً:

«يكون إثنا عشر أميراً كلهم من قريش»(4) .

وجاء عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم محذراً أصحابه:

«ستحرصون على الإمارة وستكون ندامه يوم القيامة فنعم المرضعةُ وبئسِتالفاطمةُ»(5) .

وجاء الحديث أيضاً بلفظ الولاية.

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

«ما من وال َيلي رعيّةٌ من المسلمين فيموت وهو غاشً لهم إلا حرّمَ الله عليه

____________

(1) صحيح مسلم ج 6 /4 باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.

(2) صحيح مسلم ج 6 /3 وصحيح البخاري ج 8 / 105 وص 128.

(3) صحيح مسلم ج 6 / 23 باب وجوب الإنكار على الإمراء.

(4) صحيح البخاري ج 8 /127 باب الإستخلاف.

(5) صحيح البخاري ج 8 / 106 باب مايكره من الحرص على الإمارة.


الصفحة 40
الجنّة»(1) .

كما حدث صلّى الله عليه وآله وسلّم بلفظ الولاية:

(لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم إثنا عشر رجلاً كلّهم من قريش»(2) .

وبعد هذا العرض الوجيز عن مفهوم الإمامة أو الخلافة التي إستعرضتها من القرآن الكريم ومن السنّة النبّوية الصحيحة بدون تفسير ولا تأويل، بل إعتمدتُ على صحاح أهل السنّه دون غيرهم من الشيعة لأنّ هذا الأمر (أعني الخلافة في إثني عشر كلهم من قريش) عندهم من المسلّمات لا غبار عليها، ولا يختلف فيها إثنان منهم، مع العلم بأنّ بعض علماء أهل السنّة والجماعة يصرحون بأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال:

«يكون بعدي إثنا عشر خليفة كلهم من بني هاشم».

(3) . وعن الشعبي عن مسروق قال بينما نحن عند أبن مسعود نعرض مصاحفنا عليه إذ قال له فتى:هل عهد اليكمنبيكم كمخليفة يكون من بعده قال: إنك لحديث السنّ وإن هذا شيء ما سألني عنه أحد قبلك، نعم عهد إلينا نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم إنه يكون بعده إثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل …»(4) .

وبعد هذا فلنستعرض أقوال الفريقين على صحّة إدّعاء كلّ منهما من خلال النصوص الصريحة، كما نناقش تأويل كلّ منهما في هذه المسألة الخطيرة التي فرقت المسلمين من يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى يومنا هذا، وقد نشأ من ذلك إختلاف المسلمين الى مذاهب وفرق ومدارس كلامية وفكرية، بعد أن كانوا أمّة واحدة. فكل خلاف وقع بين المسلمين سواء في الفقه أو في التفسير

____________

(1) صحيح البخاري ج 8 /106باب مايكره من الحرص على الإمارة.

(2) صحيح مسلم ج 6 ص 3 باب الخلافة في قريش.

(3) ينابيع المودة ج 3 /104

(4) ينابيع المودة ج 3 /105.


الصفحة 41
للقرآن أو في فهم السنّة النبوية الشريفة منشؤه وسببه الخلافة وما أدراك مالخلافة التي أصبحت بعد السقيفة أمراً واقعاً يُستنكر بسببها أحاديث صحيحة وآياتّ صريحه وتُخْتلقْ من أجل تثبيتها وتصحيحها أحاديث أخرى لا أساس لها في السنّة النبوية الصحيحة، وهذا يذكرني بإسرائيل والأمر الواقع ذلك إن الرؤساء والملوك العرب إجتمعوا وإتفقوا أن لا إعتراف بإسرائيل ولا تفاوض معها ولا سِلْمّ فما أُخِذَ بالقوّة لا يستردّ بغير القوة وبعد سنوات قليلة إجتمعوا من جديد ليقطعوا هذه المرّة علاقاتهم مع مصر التي إعترفت بالكيان الصهيوني وبعد سنوات قليلة أعادوا علاقاتهم مع مصر ولم يطعنوا بعلاقتها بإسرائيل مع أنّ أسرائيل لم تعترف بحق الشعب الفلسطيني ولم تغيّر شيئاً من موقفها بل زادت في تعنّتها وضاعفت قمعها للشعب الفلسطيني، فالتاريخ يعيد نفسه وقد إعتاد العربُ التسليم بالأمر الواقع.


الصفحة 42

رأي أهل السنة والجماعة في الخلافة ومناقشته

رأيهم معروف وهو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم توفي ولم يُعين أحداً للخلافة، ولكن أهل الحل والعقد من الصحابةإجتمعوا في سقيفه بني ساعدة، وولّوا أمرهم أبا بكر الصديق لمكانته من رسول الله، ولأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إستخلفه في الصلاة أيام مرضه، فقالوا: رضَيهُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمر ديننا فكيف لا نرضاه لأمر دنيانا ؟ ويتلخص قولهم في:

1 ـ الرسول لم ينص على أحد.

2 ـ لاتكون الخلافة إلا بالشورى.

3 ـ إستخلاف أبي بكر وقع من طرف كبار الصحابة.

نعم هذا رأيي عندما كنت مالكيا أدافع عنه بكل ما أوتيت من قوّة وأستدلّ عليه بآيات الشورى. وأحاول جهدي التبجّح بأنّ الأسلام هو دين الديمقراطيه في الحكم وإنه السباقُ لهذا المبدأ الإنساني الذي تفخرُ به الدّول المتحضرة الراقية.

وأقول: إذا كان الغربُ ماعرف النظام الجمهوري إلا في القرن التاسع عشر فإن الإسلام عرفه وسبقهم إليه في القرن السادس.


الصفحة 43
ولكن وبعد لقائي بعلماء الشيعة وقراءة كتبهم والإطلاع على أدلّتهم المقنعة التي هي موجودة في كتبنا غيّرتُ رأيي الأول لمّا أسفرت الحجة عن وجهها لأنه لا يليق بجلال الله سبحانه أن يترك أمة بدون إمام وهو القائل: إنّما أنتَ منذرٌ ولكلّ قوم هادٍ كما لايليق برحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّه يترك أمته بدون راعٍ، وبالخصوص إذا عرفنا أنه كان يخشى على أمته الفرقة(1) والإنقلاب على ألأعقاب(2) . والتنافس على الدنيا(3) حتى يضرب بعضهم رقاب بعض(4) ، ويتبعوا سنن اليهود والنصارى(5) .

واذا كانت أمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر تبعث الى عمر بن الخطاب حين طعّن فتقول له: «إستخلف على أمة محمد ولا تدعهم بعدك هملاً فإنّي أخشى عليهم الفتنة»(6) .

وإذا كان عبدالله بن عمر يدخل على أبيه حين طُعن فيقول له: «أن الناس زعموا أنك غير مُستخلفٍ، وإنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك وتركها رأيتَ أنه قد ضيّع فرعاية الناس أشد»(7) .

وإذا كان أبو بكر نفسه وهو الذي إستخلفه المسلمون بالشورى يحطّم هذا المبدأ ويسارع الى إستخلاف عمر من بعده ليقطع بذلك دابر الخلاف والفرقة والفتنة، وهو الأمر الذي تنبأ به علي (عليه السلام) حينما شدد عليه عمر لمبايعة أبي بكر فقال له:

____________

(1) الترمذي وأبو داود وإبن ماجة ومسند أحمد بن حنبل ج 2 /332.

(2) صحيح البخاري ج 7 / 209 باب الحوض. وج5 /192.

(3) صحيح البخاري ج 4 /63

(4) صحيح البخاري ج 7 /112.

(5) صحيح البخاري ج 4 / 144 وج 8 /151.

(6) الإمامة والسياسة لإبن قتيبة ج 1 /28.

(7)صحيح مسلم ج 6 /5 باب الإستخلاف وتركه.


الصفحة 44
«إحلب حلباً لك شطره وأشدد له اليوم يردده عليك غداً»(1) .

أقول إذا كان أبو بكر لا يؤمن بالشورى فكيف نصدّق بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك الأمر بدون إستخلاف وهل إنه لم يكن يعلم ما عمله أبو بكر وعائشة وعبدالله بن عمر، وما يعلمه كل النّاس بالبداهة، من إختلاف الآراء وتشتت الأهواء عندما يوكل اليهم أمر ألإختيار بالخصوص اذا كان الأمر يتعلق بالرئاسة وإعتلاء منصة الخلافة، كما وقع ذلك بالفعل حتّى في أختيار أبي بكر يوم السقيفة إذ إنّنا رأينا خلاف سيد الأنصار سعد بن عبادة وإبنه قيس بن سعد، وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوّام(2) والعباس بن عبدالمطلب وسائر بني هاشم وبعض الصحابة الذين كانوا يرون الخلافة حقّاً لعلي (عليه السلام) وتخلّفوا في داره عن البيعة حتّى هُدِّدوا بالحرق(3) .

في مقابل ذلك نرى الشيعة الإمامية يثبتون عكس مقالة أهل السنة ويؤكدون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيّنَ عليّاً للخلافة ونصّ عليه في عدة مناسبات وأشهرها في غدير خـم.

وإذا كان الأنصاف يقتضي منك أن تستمع الى خضمك ليدلي برأيه وحجّته في قضية وقع الخلافة فيها معك، فكيف إذا إحتجّ خصمك بما تشهد أنتَ نفسك بوقوعه»(4) .

وليس دليل الشيعة دليلاً واهياً أو ضعيفاً حتّى يمكنك التغاضي عنه وتناسيه بسهولة وإنما الأمر يتعلقُ بآيات من الذكر الحكيم أُنزلتْ بهذا الشأن وأولاها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من العناية ما سارت به الركبـان

____________

(1)الإمامة والسياسة لإبن قتيبه ج 1 /18.

(2) صحيح البخاري ج 8 /26باب رجم الحبلي من الزنا

(3) تاريخ الخلفاء لإبن قتيبة ج 1 /18 وما بعدها

(4) وذلك إنه ليس هناك دليل عند الشيعة إلا وفي كتب السنة مصداقة.


الصفحة 45
وتناقله العام والخاض حتّى ملأتْ كتب التاريخ والأحاديث وسجّله الرواة جيلاً بعد جيل.

1 ـ ولاية علي في القرآن الكريم

قال الله تعالى: إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فأنّ حزب الله هو الغالبون (1)

أخرج الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره الكبير(2) بالإسناد الى أبي ذرّ الغفاري قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين وإلا صمّتا ورأيته بهاتين وإّلا عميتا، يقول:.

«عليٌّ قائد البررة وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله».

أماإنّي صلّيت مع رسول الله ذات يوم، فسأل سائل في المسجد، فلم يُعطه أحد شيئاً، وكان علي راكعاً فأومأ بخنصره إليه وكان يتختّم بها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، فتضرّع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عزًّ وجلّ يدعوه فقال: اللّهم إن أخي موسى سألك «قال ربّ إشرح لي صدري ويسّر لي أمري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، وأجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري، كي نسبّحك كثيراً ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً» فأوحيتَ إليه «قد أوتيتَ سؤالك ياموسى» «اللّهم وإنّي عبدك ونبيك، فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري، وأجعل لي وزيراً من أهلي عليَّاً أشدد به ظهري» قال أبو ذر، فوالله ما إستتمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الكلمه حتى هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآيه: إنما وليكم الله

____________

(1)سورة المائدة آية 55 ـ 56.

(2) أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الثعلبي المتوفي سنه 337 هجريه ذكره إبن خلكان وقال: كان أوحد زمانه في علم التفسير صحيح النقل موثوق به.


الصفحة 46
ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاه وهم راكعون، ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون (1) .

ولا خلاف عند الشيعة في إنها نزلت في علي بن أبي طالب رواية عن أئمه أهل البيت (عليهم السلام) وهي من الأخبار المتسالم عليها عندهم فقد رويتْ في العديد من كتب الشيعة عندهم مثل:

1 ـبحار الأنوار للمجلسي

2 ـ إثبات الهداة للحر العاملي.

3 ـ تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي

4 ـ تفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية.

5 ـ الغدير للعلامة الأميني ـ وغير هؤلاء كثير ـ.

كما روي نزولها في علي بن أبي طالب من علماء السنة والجماعة جمع غفير أذكر منهم فقط علماء التفسير.

1 ـ تفسير الكشاف للزمخشري ج 1 / 649.

2 ـ تفسير الطبري ج 6 / 288.

3 ـ زاد المسير في علم التفسير لإبن الجوزي ج2/383.

4ـ تفسير القرطبي ج 6 س 219.

5 ـ تفسير الفخر الرازي ج 12 / 26.

6 ـ تفسير إبن كثير ج 2 / 71.

7 ـ تفسير النسفي ج 1 / 289.

8 ـ شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 1 ص 161.

9 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج 2 / 293.

10 ـ أسباب النزول للإمام الواحدي ص 148.

____________

(1)الجمع بين الصحاح الستة. صحيح النسائي ـ مسند أحمد ـ إبن حجر في صواعقه وكذلك رواها إبن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.


الصفحة 47
11 ـ أحكام القرآن للجصّاص ج 4 / 102.

12 ـ التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي ج 1 / 181.

وما لم أذكره من كتب السنة أكثر مما ذكرت.

2ـ أية البلاغ تتعلق أيضاً بولاية علي

قال تعالى: يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربّك وأن لم تفعل فما بلّغتَ رسالته والله يعصمك من الناس (1) .

يقول بعض المفسّرين من أهل السنّة والجماعة بأن هذه الآية نزلت في بداية الدعوة عندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقيم حرساً يحرسونه خوفاً من القتل والإغتيال فلما نزلتْ والله يعصمك من الناس قال «إذهبوا فإنّ الله قد عصمني».

فقد أخرج إبن جرير وإبن مردويه عن عبدالله بن شفيق قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعقبّه ناس من أصحابه فلما نزلت والله يعصمك من الناس فخرج فقال:

«يا أيها الناس إلحقوا بملاحقتكم فإنّ الله قد عصمني من الناس»(2) .

وأخرج إبن حبان وإبن مردويه عن أبي هريره قال كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر تركنا له أعظم دوحه وأظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه فقال: يامحمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله يمنعني منك. ضع عنك السيف فوضعه، فنزلت والله يعصمك من الناس (3) .

____________

(1) سورة المائدة آية 67

(2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج 3 / 119.

(3) نفس المصدر السابق.


الصفحة 48
كما أخرج الترمذي والحاكم وأبو نعيم عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُحرسُ حتّى نزلتْ والله يعصمك من ألناس فأخرج رأسه من القبّة: فقال أيها الناس، إنصرفوا فقد عصمني الله.

وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الدلائل وإبن مردويه وإبن عساكر عن إبن عبّاس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُحرسُ وكان يرسل عمّه معه أبو طالب كل يوم رجلاً من بني هاشم يَحرسونه، فقال: ياعّمْ إن الله قد عصمني لا حاجه لي إلى من تبعث.

ونحن إذا تأمّلنا في هذه الأحاديث وهذه التأويلات وجدناها لا تستقيم ومفهوم الآية الكريمة ولا حتى مع سياقها تُفيد بأنها نزلتْ في بداية الدعوة حتى وإن البعض يصرّح بأنها في حياة أبي طالب يعني قبل الهجرة بسنوات كثيرة وبالخصوص رواية أبي هريرة التي يقول فيها «كنّا إذا صحبنا رسول الله في سفر تركنا له أعظم دوحه … الخ» فهذه الرواية ظاهرة الوضع لأن أبا هريرة لم يعرف الإسلام ولا رسول الله إلا في السنة السابعة للهجرة النبوية كما يشهد هو نفسه بذلك(1) فكيف يستقيم هذا؛ وكل المفسّرين سنّة وشيعة أجمعوا على أن سوره المائدة مدنية وهي آخر ما نزل من القرآن ؟؟؟

فقد خرج أحمد وأبو عبيد في فضائله والنحاس في ناسخه والنسائي وإبن المنذر والحاكم وإبن مردويه والبيهقي في سننه عن جُبير بن نفير قال: حججتُ فدخلتُ على عائشة، فقالت: لي ياجبير تقرأ المائدة ؟ فقلتُ نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فإستحلّوه، وما وجدتم من حرام فحرّموه(2) .

____________

(1) فتح الباري 6 /31 البدايه والنهاية ج 8 / 102 سير أعلام النبلاء للذهبي ج/ 436 الإصابه لإبن حجر ج 3 /287.

(2) جلال الدين السيوطي الدر المنثور3 / 3.


الصفحة 49
كما أخرج أحمد والترمذي وحَسّنه الحَاكمْ وصَححّه، وإبن مردويه والبيهقي في سننه عن عبدالله بن عمرو قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة(1) .

وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرطني قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجّة الوداع، فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته، فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2) .

وأخرج إبن جرير عن الربيع بن أنس قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في المسير في حجة الوداع وهو راكب راحلته، فبركت به راحلته من ثـقلها(3) .

وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المائدة من آخر القرآنتنزيلاً، فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها(4) .

فكيف يقبل العاقل المنصف بعد كل هذا، إدّعاء من قال بنزولها في أوّل البعثة النبّوية ؟ وذلك لصرفها عن معناها الحقيقي، أضف إلى ذلك إن الشيعة لا يختلفون في إن سورة المائدة هي آخر القرآن نزولاً وإن هذه الآية بالذات يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك … والتي تسمّى آية البلاغ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجه عقيب حجة الوداع في غدير خمّ قبل تنصيب الإمام علي عَلماً للناسِ ليكونَ خليفته من بعده وذلك يوم الخميس وقد نزل بها جبرائيل (عليه السلام) بعد مضي خمس

____________

(1) نفس المصدر السابق.

(2) الدر المنثور في التفسير المأثور3 /4.

(3) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي3 /4.

(4) نفس المصدر السابق.


الصفحة 50
ساعات من النهار فقال: يامحمد أن الله يقرؤك السلام ويقول: يا أيها الرسول يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس .

على أن قوله سبحانه وتعالى وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالته يدلّ دلالة واضحة بأن الرسالة إنتهت أو هي على وشك النهاية، وإن بقي فقط أمرٌ مهمّ لايكتمل الدّينُ إلا به.

كما تُشعر الآية الكريمة بأن الرسول كان يخشى تكذيب النّاس له إذا مادعاهم بهذا الأمر الخطير، ولكن الله سبحانه لم يُمهله التأجيلْ فالأجل قد قَرُبَ، وهذه الفرصة هي أحسن الفرص وموقفها هو أعظم المواقف إذ إجتمع معه صلّى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة الف رافقوه في حجّة الوداع وما زالت قلوبهم عامرة بشعائر الله مستحضرة نعي الرسول نفسه اليهم.

وقوله لهم: لَعلّي لا ألقاكم بعد عامكم هذا ويوشك أن يأتي رسول ربّي وأدعى فأجيب، وهم سيفترقون بعد هذا الموقف الرّهيب للعودة الى ديارهمولعلّهم لا تُتاحُ لهم فرصة اللّقاء مرّة أخرى بهذا العدد الكبير وغدير خم هو مفترق الطرقات فلا يمكن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يُفوّتَ هذه الفرصة باي حال من الأحوال. كيف وقد جاءه الوحي بما يشبه التهديد على أن كل الرّسالة منوطة بهذا البلاغ والله سبحانه قد ضمن له العصمة من الناس فلا داعي للخوف من تكذيبهم فكم كُذِبتْ رسُلٌ من قبله ولكن لم يُثنَهم ذلك عن تبليغ ما أمروا به فما على الرسول إلا البلاغ ولو علم الناس مُسبّقاً بأن أكثرهم للحق كارهون(1) ولو علم فإن منهم مكذبين(2) ماكان سبحانه أن يتركهم دون إقامة الحجّة عليهم لئّلا يكون للناس على الله حجّةً بعد الرّسُل وكان الله عزيزاً

____________

(1)سورة الزخرف آية 78.

(2) سورة الحاقة آية 49.


الصفحة 51
حكيماً(1) .

على إن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة في من سبقه من إخوانه الرسل الذين كذّبتهم أممهم قال تعالى: وإن يكذّبوك فقد كذّبتْ قبلهم قوم نوح وعادٌ وثمودُ وقومُ إبراهيمَ وقومُ لوطٍ وأصحابُ مدينَ، وكُذِبَ موسى فأمليتُ للكافرين، ثم أخذتُهُمْ فكيف كان نكيرِ .(2)

ونحن إذا تركنا التعصّب المقيت، وحب الإنتصار للمذهب لوجدنا أن هذا الشرح هو المناسب لعقولنا ويتماشى مع سياق الآية والأحداث التي سبقتها وأعقبتها.

وقد أخرج كثير من علمائنا نزولها في غدير خمّ في شأن تنصيب الإمام علي وصححّوا تلك الروايات ووافقوا بذلك إخوانهم من علماء الشيعة، وأذكر على سبيل المثال من علماء السنه:

1 ـ الحافظ أبو نعيم في كتاب نزول القرآن

2 ـ الإمام الواحدي في كتاب أسباب النزول ص 150.

3 ـ الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره الكبير.

4 ـ الحاكم الحسكاني في كتابه شواهد التنزيل لقواعد التفضيل ج1 /187

5 ـ جلال الدين السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسيبر بالمأثور ج 3 / 117.

6 ـ الفخر الرّازي في تفسيره الكبير ج 12 /50.

7 ـ محمد رشيد رضا في تفسير المنار ج 2 /86 ج 6 / 463.

8 ـ تاريخ دمشق لأبن عساكر الشافعي ج 2 /86.

9 ـ فتح القدير للشوكاني ج 2 / 60.

____________

(1)سوره النساء آية 165.

(2) سورة الحج آية 42 ـ 44.


الصفحة 52
10 ـمطالب السؤول لإبن طلحه الشافعي ج 1 /44.

11 ـ الفصول المهمة لإبن الصباغ المالكي ص 25.

12 ـ يانبيع المودّة للقندوزي الحنفي ص 120.

13 ـ الملل والنحل للشهرستاني ج 1 / 163.

14 ـ إبن جرير الطبري في كتاب الولاية.

15 ـ إبن سعيد السجستاني في كتاب الولاية.

16 ـ عمدة القاريء في شرح البخاري لبدر الدين الحنفي ج 8 /584.

17 ـ تفسير القرآن لعبد الوهاب البخاري.

18 ـ روح المعاني للألوسي ج2 / 384.

19 ـ فرائد السمطين للحمويني ج 1 / 185.

20 ـ فتح البيان في مقاصد القرآن للعلامة سيد صديق حسن خان ج 3 / 63.

فهذا نزرٌ يسيرٌ ممّن يحضرني وهناك أضعاف هؤلاء من علماء أهل السنّة ذكرهم العلاّمة الأميني في كتاب الغدير.

فماذا ياتُرى فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عندما أمره ربّه بإبلاغ ما أنزل اليه ؟؟

يقول الشيعة، بأنّه جمع النّاس على صعيد واحد في ذلك المكان وهو غدير خمّ، وخطبهم خطبة بليغة طويله وأشهدهم على أنفسهم فشهدوا بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أولى بهم من أنفسهم وعند ذلك رفع يد علي بن أبي طالب وقال:

«من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأنصر من نصره وإخدل من خذله وأدر الحق معه حيث دار»(1) .

____________

(1) وهو مايسمّى بحديث الغدير وقد أخرجه علماء الشيعة وعلماءالسنّة على حد سواء.


الصفحة 53
ثمَّ البسه عمامته وعقد له موكباً وأمر أصحابه بتهنئته بإمرة المؤمنين ففعلوا وفي مقدّمتهم أبو بكر وعمر يقولان بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصحبت وأمسيت مولى كل مؤمن ومومنة(1) .

وبعدما فرغوا أنزل الله عليه اليوم اكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .

هذا مايقوله الشيعة وهو عندهم من المسلمات ولا يختلف فيه عندهم إثنان، فهل لهذه الحادثة ذكرٌ عند أهل السنّة والجماعة ؟ وحتى لا ننحاز إليهم ويُعحبنا قولهم: فقد حذّرنا الله سبحانه بقوله: ومن النّاس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهدُ الله على مافي قلبه وهو الدّ الخصام.. (2)

فالواجب أن نحتاط ونبحث هذا الموضوع بكل حذر ونْنظرُ في أدلّه الفريقين بكل نزاهه مبتغين في ذلك رضاه سبحانه.

والجواب نعم، إن كثيراً من علماء أهل السنّة يذكرون هذه الحادثة بكل أدوارها وها هي بعض الشواهد من كتبهم.

1 ـ أخرج الإمام أحمد بن حنبل من حديث زيد بن أرقم قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بواد يقال له وادي خم، فأمر بالصلاة فصلاها بهجير، قال فخطبنا، وظلّل لرسول الله بثوب على شجرة سمرة من الشمس فقال:

«ألستم تعلمون، أو ألستم تشهدون إني أولى بكل مؤمن من نفسه ؟

____________

(1)أحمد بن حنبل في مسنده ج 4 /281 والطبري في تفسيره والرازي في تفسيره الكبير ج 3 /636 وإبن حجر في صواعقهوالدارقطني والبيهقي والخطيب البغدادي والشهرستاني وغيرهم.

(2) سورة البقرة آية 204.


الصفحة 54
قالوا: بلى قال: فمن كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللَّهم وال من والاه وعاد من عاداه …»(1) .

2 ـ أخرج الإمام النسائي في كتاب الخصائص عن زيد بن أرقم قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمّمن، ثم قال:

(كإني دُعيت فاجبتُ وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي فأنظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض، ثم قال: إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن، ثم إنه أخذ بيد علي فقال: من كنتُ وليّه فهذا وليّه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال أبو الطفيل فقلتُ لزيد: سمعته من رسول الله فقال: وإنّه ماكان في الدوحات أحد إلا ورآه بعينيه وسمعه بأذنيه»(2) .

3 ـ أخرج الحاكم النيسابوري عن زيد بن أرقم من طريقين صحيحين على شرط الشيخين قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجّة الوداع ونزل غدير خمّ، أمر بدوحات فقممن فقال:

«كإني دعيتُ فأجْبتُ وإني تركتُ فيكم الثقيلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله تعالى وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لم يفترقا حتّى يردا عليّ الحـوض، ثم قال: إن الله عزّ وجلّ مولاي وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال: من كنتُ مولاه فهذا وليّه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه …»(3) .

4 ـ كما أخرج هذا الحديث مسلم في صحيح يُسْنده الى زيدُ بن أرقم

____________

(1) مسند أحمد بن حنبل ج 4 / 372.

(2) النسائي في كتاب الخصائص ص 21.

(3) مستدرك الحاكم ج 3 / 109.


الصفحة 55
ولكنّه إختصره فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً بماءٍ يُدعى خّماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال:

«أمّا بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيبُ وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وإستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي …»(1) .

تعليق ـ بالرغم من أن الإمام مسلم إختصر الحادثة ولم يروها بكاملها إلا إنها بحمد الله كافية وشافية ولعلّ الإختصار كان من زيد بن أرقم نفسه لما إضطرته الظروف السياسية الى كتمان حديث الغدير وهذا نفهمه من سياق الحديث إذ يقول الرّاوي: إنطلقتُ أنا وحُصين بن سبرة وعمر بن مسلم الى زيد بن أرقم، فلمّا جلسنا إليه قال له حُصين، لقد لقيتَ يازيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعتَ حديثه وغزوتَ معه وصلّيتَ خلفه، لقد لقيتَ يازيدُ خيراً كثيراً، حدثنا يازيد ماسمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: يا إبن أخي والله لقد كبرتْ سنّي وقدُمَ عهدي ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعِي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما حدّثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلّفونيه، ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خُمَّاً …

فيبدوا من سياق الحديث إن حُصيناً سأل زيد بن أرقم عن حادثة الغدير وأخرجه أمام الحاضرين بهذا السؤال وكان بدون شك يعلم بأن الجواب صريح على ذلك يسبّب له مشاكل مع الحكومة التي كانت تحمِلُ الناس على لعن علي بن أبي طالب، ولهذا نجده يعتذر للسائل بأنه كبُرتْ سنّه وقدُم عهده ونسي بعض

____________

(1)صحيح مسلم ج 7 /122 باب فضائل علي بن أبي طالب وذكر الحديث أيضاً الإمام أحمد والترمذي وإبن عساكر وغيرهم.


الصفحة 56
الذي كان يَعِي ثم يُضيف طالباً من الحاضرين بأن يقبلوا مايحدّثهم به ولا يكلّفوه ما يريد السّكوت عنه.

ومع خوفه، ومع إختصاره للحادثه وإقتضابها فقد أوضح زيد بن أرقم (جزاه الله خيراً) كثيراً من الحقائق وأْلمحَ لحديث الغدير بدون ذكره، وذلك قوله قام فينا رسول الله صّلى الله عليه وآله وسلّم خطيباً بماء يدعى خُمّاً بين مكة والمدينة، ثم بعد ذلك ذكر فضل علي وإنه شريك القرآن في حديث الثقلين كتاب الله وأهل بيتي بدون أن يذكر إسم علي وترك للحاضرين أن يستنتجوا ذلك بذكائهم لأن كلّ المسلمين يعرفون أن علياً هو سيد أهل بيت النبوه.

ولذلك نرى حتّى الإمام مسلم نفسه فهم من الحديث ماتفهمناه وعرف ماعرفناه فتراه يخرج هذا الحديث من فضائل علي بن أبي طالب رغم أن الحديث ليس فيه ذكر لإسم علي بن أبي طالب(1) .

5 ـ أخرج الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح عن زيد بن أرقم وعن حذيفه بن أسيد الغفاري قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بغدير خمّ تحت شجراتفقال:

«أيها الناس يوشك أن أدعى فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا نشهد إنك قد بلغتَ وجاهدتَ ونصحتَ، فجزاه الله خيرا. فقال: اليس تشهدون أن لا إالله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن جنته حق وأن ناره حقً، وأن الموت حق وأن البعث حق بعد الموت، وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعثُ من في القبور ؟ قالوا: بلا نشهد بذلك. فقال اللَّهم إشهد، ثم قال: يا أيها الناس أن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنتُ مولاه فهذا مولاه ـ يعني علياً ـ اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، ثم قال: ياأيها الناس إني فرطكم، وإنكم واردون علي الحوض، حوض أعرض ما بين بصري الى

____________

(1)صحيح مسلم ج 7 /122 باب فضائل علي بن أبي طالب.


الصفحة 57
صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضة، وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين، كيف تخلفوني فيهما الثقل الأكبر كتاب الله عزّ وجلّ سبب طرفه بيد الله تعالى وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا، وعترتي أهل بيتي فإنه نبأني اللطيف الخبير إنهما لن ينقضيا حتى يردا عليّ الحوض»(1) .

6 ـ كما أخرج الإمام أحمد من طريق البراء بن عازب من طريقين، قال: كنا مع رسول الله، فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا الصلاه جامعة، وكسح لرسول الله صلّى الله عليه وآلله وسلّم، تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي، فقال: «الستم تعلمون إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون إني أولى بكل مؤمن من نفسه ؟ قالوا: بلى قال: فأخذ بيد علي، فقال:

من كنتُ مولاه فعلي مولاه، اللّهم وال من والله وعاد من عاداه، قال فلقيَهُ عمر بعد ذلك، فقال له: هنيئاً يا بن أبي طالب أصبحتَ وأمسيتَ مولى كل مؤمن ومؤمنة»(2) .

وبإختصار فقد روي حديث الغدير من أعلام أهل ألسنّة زيادة عمّن ذكرنا، الترمذي وإبن ماجة، وإبن عساكر وأبي نعيم، وإبن الأثير، والخوارزمي، والسيوطي، وإبن حجر الهيثمي، وإبن الصباغ المالكي والقندوزي الحنفي، وإبن المغازلي وإبن كثير، والحمويني والحسكاني، والغزالي، والبخاري في تاريخه.

على أن العلاّمة الأميني صاحب كتاب الغدير ذكر من علماء أهل السنه

____________

(1)إبن حجر في صواعقه ص 25 نقلاً عن الطبراني والحكيم الترمذي

(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل الجزء الرابع صفحة 281. كذلك في كنز العمّال جزء 15 ص 117. فضائل الخمسة من الصحاح الستّة ج 1 / 350


الصفحة 58
والجماعة الذين رووا حديث الغدير وأخرجوه في كتبهم على إختلاف طبقاتهم ومذاهبهم في القرن الأول للهجرة وحتى القرن الرابع للهجرة فكان عددهم يزيد عن ثلثمائه وستين عالماً، ولمن أراد التحقيق فعليه بمراجعة كتاب الغدير(1) .

أفيمكن بعد كلّ هذا. أن يقول قائل بأنّ حديث الغدير هو من مختلقات الشيعة.

والعجب الغريب أنّ أغلب المسلمين عندما تذكر له حديث الغدير، لا يعرفه أو قل لمْ يسمع به والأعجب من هذا كيف يدّعي علماء أهل السنّة بعد هذا الحديث المجمع على صحّته، بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يستخلف وترك الأمر شورى بين المسلمين.

فهل هناك للخلافة حديث أبلغ من هذا وأصرح يا عباد الله ؟؟ وإني لأذكر مناقشتي مع أحد علماء الزيتونة في بلادنا عندما ذكرتُ له حديث الغدير محتجّاً به على خلافة الإمام علي فاعترف بصحّته، بل وزاد في الحبل وصلة فاطلعني على تفسيره للقرآن الذي ألّفه بنفسه، والذي يذكر فيه حديث الغدير ويصححه ويقول بعد ذلك:

«وتزعم الشيعة بأن هذا الحديث هو نصّ علىخلافة سيدنا علي كرّم الله وجهه، وهو باطل عند أهل السنّة والجماعة لأنه يتنافىمع خلافة سيدنا أبي بكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق وسيدنا عثمان ذي النورين، فلا بدّ من تأويل لفظ المولى الوارد في الحديث على معنى المحب والناصر، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم، وهذا ما فهمه الخلفاء الرّاشدون والصحابة الكرام رضي الله عليهم تعالى أجمعين، وهذا ما أخذه عنهم التابعون وعلماء المسلمين، فلا عبرة لتأويل الرافضة لهذا الحديث لأنهم لايعترفون بخلافة الخلفاء ويطعنون في صحابة الرسول وهذا وحده كافٍ لردّ أكاذيبهم وإبطال مزاعمهم» إنتهي كلامه في

____________

(1)كتاب الغدير للعلاّمة الأميني في إحدى عشر مجلداً وهو كتاب قيّم جمع فيه صاحبه كل ما يتعلّق بحديث الغدير من كتب أهل السنّة والجماعة.


الصفحة 59
الكتاب.

سألته: هل الحادثة وقعتْ بالفعل في غدير خم ؟

أجاب: لو لم تكن وقعتْ ما كان ليرويها العلماء والمحدّثون ! قلتُ: فهل يليق برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجمع أصحابه في حرّ الشمس المحرقة ويخطب لهم خطبة طويلة ليقول لهم بأنّ علي محبّكم وناصركم ؟ فهل ترضون بهذا التأويل ؟

أجاب: أن بعض الصحابة إشتكى عليَّا وكان فيهم من يحقد عليه ويبغضه، فأراد الرسول أن يزيد حقدهم فقال لهم بأنّ علياً محبّكم وناصركم، لكي يحبّوه ولا يبغضوه.

قلتُ: هذا لايتطلّب إيقافهم جميعاً والصلاة بهم وبدأ الخطبة بقوله: الستُ أولى بكم من أنفسكم لتوضيح معنى المولى، وإذا كان الأمر كما تقول فكان بإمكانه أن يقول لمن إشتكى منهم عليّاً «إنّه محبّكم وناصركم» وينتهي الأمر بدون أن يحبس في الشمس تلك الحشود الهائلة وهي أكثر من مائةالف فيهم الشيوخ والنساء، فالعقل لا يقنع بذلك أبداً !

فقال: وهل العاقل يصدق بأن مائة الف صحابي لم يفهموا مافهمتَ أنتَ والشيعة ؟؟

قلتُ: أولاً لم يكن يسكن المدينة المنوّرة إلا قليلٌ منهم. وثانياً: إنهم فهموا بالضبط مافهمتهُ أنا والشيعة ولذلك رووا العلماء بأن أبا بكر وعمر كانا من المهنّئين لعلي بقولهم: «بخ بخ لك يا إبن أبي طالب أمسيت وأصبحت مولى كل مؤمن».

قال: فلماذا لم يبايعوه إذاً بعد وفاة النبيّ ؟ أتراهم عصوا وخالفوا أمر النبي ؟ أستغفر الله من هذا القول.

قلتُ: إذا كان العلماء من أهل السنّة يشهدون في كتبهم بأنّ بعضهم ـ

الصفحة 60
أعني من الصحابة ـ كانوا يخالفون أوامر النبّي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبحضرته(1) ، فلا غرابة في ترك أوامره بعد وفاته، وإذا كان أغلبهم يطعنُ في تأميره أسامة بن زيد لصغر سنه رغم إنها سرّية محدودة ولمدّة قصيرة فكيف يقبلون تأمير علي على صغر سنه ولمدّة الحياة وللخلافة المطلقة ؟ ولقد شهِدتَ أنتَ بنفسك بأن بعضهم كان يبغض علياً ويحقد عليه !!.

أجابني متحرّجاً: لو كان الإمام علي كرّم الله وجهه ورضي الله عنه يعلَمُ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إستخلفه، ماكان ليسكتَ عن حقه وهو الشجاع الذي لا يخشى أحداً ويهابه كل الصحابة.

قلتُ: سيدي هذا موضوع آخر لا أريد الخوض فيه لأنك لم تقتنع بالأحاديث النبوية الصحيحة وتحاول تأويلها وصرفها عن معناها حفاظاً عل كرامة السلف الصالح، فكيف أقنعك بسكوت الإمام علي أو بإحتجاجه عليهم بحقّه في الخلافة ؟

إبتسم الرّجل قائلاً أنا والله من الذين يفضّلون سيدنا علياً كرّم الله وجهه على غيره، ولو كان الأمر بيدي لما قدّمتُ عليه أحداً من الصحابة لأنه باب مدينة العلم وهو أسد الله الغالب، ولكن مشيئة الله سبحانه هو الذي يقدّم من يشاء ويؤخّر من يشاء لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون.

إبتسمتُ بدروي له وقلتُ: وهذا أيضاً موضوع آخر يجرّنا للحديث عن القضاء والقدر وقد سبق لنا أن تحدّثنا فيه وبقي كلٌ منّا على رأيه، وإنّي لأعجب ياسيدي لماذاكلّما تحدثتُ مع عالم من علماء أهل السنّه وأفحمته بالحجّة سرعان ما يتهرب من الموضوع الى موضوع آخر لاعلاقة له بالبحث الذي نحن بصدده قال: وأنا باقٍ على رأيي لا أغيّره. ودّعته وإنصرفتُ. وبقيت أفكّرُ ملياً لماذا لا أجد

____________

(1) صحيح البخاري ومسلم إذ أخرجا عدة مخالفات لهم كما في صلح الحديبية وكما في رزية يوم الخميس وغير ذلك كثير.