مقدمّة المركز
الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق اللّه أجمعين، حبيب قلوبنا، أبي القاسم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين، واللعنة الدائمة الموبّدة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
نحمدك اللهمّ ونشكرك أن جعلتنا من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والسائرين على نهجهم القويم، والمتبرّئين من أعدائهم والناصبين لهم البغض والعداء.
لم يكن من ضمن برنامجنا العلمي في "مركز الأبحاث العقائدية" إعادة طبع الكتب التي تمّ طبعها ونشرها لعدّة مرّات، خصوصاً كتب الدكتور التيجانى التي تتنافس في طبعها ونشرها مراكز علميّة كثيرة ومؤسسات ثقافية عديدة، إذ طبعت طبعات متعدّدة وترجمت إلى عدّة لغات عالمية.
(1) "كشف الجاني محمّد التيجاني" لعثمان بن محمّد الخميس، والظاهر أنّه أوّل من تصدّى للردّ على الدكتور التيجاني، إذ أنّ الطبعة الثانية لهذا الكتاب صدرت عن مؤسسة الفجر في لندن سنة 1411هـ، والطبعة الثالثة صدرت عن دار الأمل في القاهرة وكتب عليها "طبعة مزيدة منقّحة".
وبما أن الطبعتين الأُولى والثانية كانت عبارة عن كتيب صغير، لذلك اضطرّ الخميس في طبعته الثالثة أن ينقل من كتاب "الانتصار" ـ الذي يأتي الحديث عنه برقم 2 ـ ثلاث وأربعين صفحة، وذلك من أجل زيادة صفحات كتابه، علماً بأنّه في كتابه هذا الذي يقع في مائتين صفحة تقريباً يحاول الردّ على كتب الدكتور التيجاني الأربعة وهي: "ثم اهتديت" و "فاسألوا أهل الذكر" و "لأكون مع
(2) "الانتصار للصحب والآل من افتراءات السماويّ الضالّ" للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي، صدرت طبعته الأُولى سنة 1418هـ عن مكتبة الغرباء الأثرية في المدينة المنوّرة، وكان المؤلّف ينوي الردّ على كتب الدكتور التيجاني الأربعة التي ذكرناها سابقاً، إلاّ أنّ الذي صدر هو القسم الأوّل منه فقط، وهو ردّ على كتاب "ثم اهتديت".
(3) "منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلامية، مع دراسة لبعض الكتب المذهبيّة وسبل التقريب" لأبي الحسن محيي الدين الحسني، انتهى من تأليفه في الأوّل من رجب سنة 1417هـ، صدر عن مطبعة المدينة في بغداد، وهو ردّ على كتاب الدكتور التيجاني "لأكون مع الصادقين" فقط.
(4) "النشاط الشيعي الإمامي أو الاستنساخ العقدي، التيجاني السماوي نموذجاً"، للزبير دحان ـ صدرت سنة 1423هـ ضمن سلسلة نقد المعتقد برقم 1، وهو ردّ على كتاب "المراجعات" للسيد عبد الحسين شرف الدين، وكتب الدكتور التيجاني.
(5) "بل ضللتَ" لخالد العسقلاني، صدرت سنة 1424هـ عن دار المحدّثين للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، وهو ردّ على كتاب الدكتور التيجاني "ثم اهتديت".
عملنا في هذا الكتاب
(1) قراءة نصّ الكتاب بشكل دقيق، ثمّ تقطيع عباراته إلى عدّة فقرات متناسقة، واستعمال علامات الترقيم حسبما تقتضيه الطرق الفنيّة لتحقيق الكتب.
(2) استخراج كلّ ما يحتاج إلى استخراج: من آيات قرآنيّة كريمة، وأقوال فقهيّة وكلاميّة وتأريخيّة وغيرها، وأحاديث شريفة، وأشعار وغيرها، كلّ ذلك من مصادرها الرئيسيّة.
(3) بيان صفات الأحاديث الشريفة التي استدلّ بها المؤلّف، وتمييز الصحيح عن غيره، استناداً إلى آراء كبار علماء المسلمين من الفريقين ; ليقف القارئ على صحّة كلام المؤلّف وزيف ادّعاء المخالف له.
(4) إبقاء تعليقات المؤلّف التي كانت في الطبعة السابقة كما كانت، وتمييزها عن عملنا بإضافة كلمة "المؤلّف" في آخرها.
(5) إذا ذكر المؤلّف مصدراً أو مصدرين لكلامه أو للقول أو الحديث الذي يستدلّ به، فإننّا نضيف لها مصادر أُخرى معتبرة عند عامّة المسلمين، ليقف القارئ على حقيقة الأمر.
(6) قمنا بردّ الشبهات التي أثارها عثمان الخميس في كتابه
كذلك قمنا بردّ الإشكالات التي وجهها أبو الحسن محيي الدين الحسني في كتابه "منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلاميّة" على خصوص هذا الكتاب، وهي في الواقع إشكالات واهية تنمّ عن تعصبّ أعمى بعيداً عن روح النقاش والتفاهم الحرّ الذي يسعى صاحبه للوصول إلى الحقيقة.
وأشرنا أيضاً إلى المناظرة العقائدية التي جرت سنة 1423هـ في قناة "المستقلة" بين بعض الوهابيّة وبعض أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والذي كان للدكتور التيجاني دور مهم فيها.
شكر وتقدير
ختاماً فإننا نتقدّم بجزيل الشكر والتقدير لكافة الإخوة الأعزاء في "مركز الأبحاث العقائدية" الذين ساهموا في إحياء هذا الأثر وإخراجه بهذه الحلّة القشيبة، وأخص بالذكر السيّد هاشم الميلاني الذي ساهم في استخراج بعض المصادر، والشيخ لؤي المنصوري
محمّد الحسّون
مركز الأبحاث العقائدية
مقدّمة المؤلّف للطبعة المحقّقة
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيّدنا ومولانا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين، وعلى أصحابه المنتجبين الذين ثبتوا من بعده ولم يغيّروا ولم يبدّلوا وكانوا للّه من الشاكرين، والسلام على أنبياء اللّه أجمعين.
أمّا بعدُ، وخلال السنوات المنصرمة تلقّيت العديد من الرسائل من عدّة مناطق في العالم بخصوص كتابي الثاني "لأكون مع الصادقين" الذي تناولت في أوّله تحليلا للأحداث التي وقعت إبّان وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك تحليلا عقلانيّاً لعقائد الشيعة الإماميّة التي كانت تبدو غريبة على أهل السنّة والجماعة بالخصوص منهم المعاصرين الذين دأبوا على انتقاد الشيعة في كلّ معتقداتهم، وإذا بهم يُفاجأون بأنّ كل ما يعتقده الشيعة الإماميّة إنّما هو حقيقةٌ ثابتةٌ في كتاب اللّه وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأغرب من ذلك أنّ كلّ ما يقول به الشيعة له
وقد لفت نظري بعضهم مشكورين إلى بعض الأخطاء المطبعيّة التي وردت في الكتاب، كما أشار البعض الآخر إلى عدم توافق المصادر المذكورة في صفحاته قد تكون تغيّرتْ في الكتب التي طُبعتْ حديثاً ـ ورغم أنّ الكتاب المذكور طبع عدّة مرّات وتُرجم هو الآخر بعديد اللغات، إلاّ أنّني طلبتُ من مركز الأبحاث العقائدية في مدينة قم المقدّسة بإشراف وإدارة السيد الجليل جواد الشهرستاني والشيخ الفاضل فارس الحسّون(*) أن يولي عنايته، كما أولاها لكتاب "ثمّ اهتديت"، ويخرج كتاب "مع الصادقين" في حلّة جديدة منقّحة ومصحّحة بالتوثيق الذي يليق به لتلبية اقتراح القرّاء الكرام.
فلبّوا طلبي هذا مشكورين، وكان من إنتاجهم هذا العمل الكبير الذي يعجزُ عنه كلّ كاتب ومؤلف، فجزاهم اللّه عن الإسلام
____________
*- كتبتُ هذه المقدّمة حينما كان الشيخ فارس الحسّون حيّاً، إلاّ أنه انتقل إلى رحمة اللّه تعالى قبل إكمال هذا العمل، فأخذ أخوه الشيخ محمّد الحسّون على عاتقه إدارة المركز وإكمال أعماله، فقام بمراجعة هذا الكتاب مراجعة علميّة وتهيئته للطبع، فله من اللّه الأجر والثواب ومنّي جزيل الشكر والتقدير "المؤلّف".
وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.
الفقير لرحمة ربّه محمد التيجاني السماوي
بتاريخ 1 جمادى الأوّل 1424
(التوبة: 119)
[ لماذا .. ثم اهتديت ]
الحمد للّه ربّ العالمين، المتفضّل علينا بالهداية والعناية والتمكين، والمنعم على عباده بكلّ خير وسعادة ليكونوا صالحين، مَنْ توكّل عليه كفاه وحفظه منْ كيد الشياطين، ومن تنكّب عَنْ صراطه فهو من المخذولين.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ناصرالمستضعفين والمظلومين، وحبيب المساكين الذين آمنوا باللّه رغبة فيما أعدّه سبحانه لعباده الصادقين..
وعلى آله الطيّبين الطاهرين، الذين أعلا اللّه مقامهم على سائر المخلوقين، ليكونوا قدوة العارفين، ومنار الهدى، وسفينة النجاة التي من تخلّف عنها كان من الهالكين..
ثم الرضى والرضوان على أصحابه الميامين الذين بايعوه وناصروه ولم يكونوا من الناكثين، وثبتوا بعده على العهد وما بدّلوا وما انقلبوا وكانوا من الشاكرين..
وعلى من تبعهم بإحسان وسار على هديهم، من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
ربّ وافتح بصيرة كلّ من يقرأ كتابي على الحقيقة التي تهدي بها عبادك المخلصين.
أما بعد; فقد لقي كتابي "ثم اهتديت" قبولاً حسناً لدى القرّاء الأعزّاء الذين أبدوا بعض الملاحظات الهامّة حول موضوعات متفرقّة في الكتاب المذكور، وطلبوا المزيد من التوضيح في المسائل التي اختلف في فهمها كثير من المسلمين سنّةً وشيعة.
ومن أجل رفع اللَبس والغموض عن ذلك لمن أراد التحقيق والوقوف على جَلّية الأمرِ، فقد ألّفتُ هذا الكتاب بنفس الأُسلوب الذي اتبعته هناك، ليسهل على الباحث المنصف الوصول إلى الحقيقة من أقرب سبلها، كما وصلتُ إليها من خلال البحث والمقارنة، وقد أسميته ـ على بركة اللّه ـ "مع الصادقين"، اقتباساً من قوله تعالى: { يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّـقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }(2).
ومَنْ مِنَ المسلمين يرفض أو يزهد في أن يكون مع أولئك الصادقين؟!
هذا ما اقتنعتُ به شخصياً، وما أحاول توضيحه لغيري ما استطعتُ
____________
1- طه: 25 ـ 28.
2- التوبة: 119.
وقد اعترض البعض على عنوان الكتاب السابق "ثمّ اهتديت"; لانطوائه على غموض قد يبعث على التأمّل والتساؤل حول ما إذا كان الآخرون على ضلالة؟ وما مدلول تلك الضلالة إن قُصد هذا المعنى؟
وعلى هذا الاعتراض أُجيب موضحاً:
أولاً: جاء في القرآن الكريم لفظ الضلالة بمعنى النسيان، قال تعالى: { قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَاب لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى }(1)، وقال عزَّ وجلّ: { أنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الاُخْرَى }(2).
كما ورد في القرآن الكريم لفظ الضلالة تعبيراً عن حالة التحقيق والبحث والتفتيش، قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم: { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى }(3)، أي وجدك تبحث عن الحقيقة فهداك إليها.
والمعروف من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قبل نزول الوحي عليه كان يهجر قومه في مكّة ليختلي في غار حرّاء الليالي العديدة باحثاً عن الحقيقة.
____________
1- طه: 52.
2- البقرة: 282.
3- الضحى: 7.
فعنوان كتابي الأوّل يتضمّن هذا المعنى.
ثانياً: وعلى فرض أنّ العنوان يتضمّن معنى الضلالة التي تقابل الهداية فيما نقصده على المستوى الفكري من إصابة المنهج الإسلامي الصحيح الذي يضعنا على الصراط المستقيم، كما عقّب بعض القرّاء بذلك; فليكن كذلك، وهو الواقع الذي يتهيّب مواجهته البعض بروح رياضية بنّاءة، وَنفَس موضوعيٍّ خلاّق.. ينسجم في الفهم مع قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
"تركتُ فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً"(2).
____________
1- ورد الحديث بألفاظ مختلفة: ففي سنن ابن ماجة 2: 1395 ح 4169، وكذلك سنن الترمذي 4: 155 ح2828 بلفظ: "الكلمة الحكمة ضالّة المؤمن حيثما وجدها فهو أحقّ بها".
وفي المصنّف لابن أبي شيبة 8: 317 ح160 عن سعيد بن أبي بردة قال: "كان يقال: الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها إذا وجدها".
وعن عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة: "الحكمة ضالّة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق".
وورد بألفاظ أُخر أيضاً.
2- حديث الثقلين ـ بألفاظه المختلفة ـ حديث صحيح متواتر، صحّحه الألباني في عدّة أماكن منها سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 355 ح1761، واعترض على من ضعّفه ممن هو حديث عهد بهذه الصناعة، وسبب القول بضعفه ناشئ من ناحيتين ـ كما قال الألباني ـ:
1 ـ الاقتصار على بعض المصادر، ممّا سبب فوات الكثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها الصحيحة أو حسنة فضلاً عن الشواهد والمتابعات.
2 ـ عدم الالتفات إلى أقوال المصحّحين للحديث من العلماء.
والحاكم بضلالة من لم يتمسك بالكتاب والعترة هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا غيره.
وقد أُورد هذا الاعتراض ـ أيضاً ـ في المناظرة التي جرت بين الشيعة والوهابية في قناة المستقلّة سنة 1423هـ، المناظرة العاشرة.
وعلى كلّ حال، فأنا مقتنع بأنّني اهتديت بفضل اللّه سبحانه وتعالى إلى التمسك بكتاب اللّه وعترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه، لقد جاءت رسل ربّنا بالحق.
فكتابي الأوّل والثاني يحملان عناوينَ من القرآن الكريم، وهو أصدق الكلام وأحسنه، وكلّ ما جمعته في الكتابين إن لم يكن الحقّ فهو أقرب مايكون إليه; لأنّه ممّا اتفق عليه المسلمون سنةً وشيعة، وما ثبت عند الفريقين أنّه صحيح، فكانت النتيجة ولادة هـذين الكتابين بحمد اللّه: "ثمّ اهتديتُ" و"لأكون مع الصادقين".
المقدمة
بسم اللّه الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فإنّ الدين يعتمد بنحو أساسي على العقائد التي تكون منه مجموعة الأُصول والمرتكزات التي يؤمن بها معتنقو هذا الدين أو ذاك، والتي لابدّ أن يقوم إيمانهم بها على الدليل القاطع والبرهان الجلي الذي ينطلق من المسلّمات العقلية التي يؤمن بها جميع الناس، ليتسنّى له إقناعهم بما يدعوهم إليه. ورغم ذلك، فإنّه ثمّة أفكار يصعب على العالم تفسيرها، مثلما يصعب على العقل التصديق بها عند الوهلة الأُولى، من ذلك مثلاً أن تكون النار "برداً وسلاماً"، في حين أنّ العلم والعقل يتفقان على أنّها حرارةٌ مهلكة! أو أنّ تقطَّع الطير إلى أجزاء متناثرة فوق الجبال، ثم تُدعى فتأتي تسعى، في حين أنّ العلم والعقل يستبعدان ذلك، أو أن يُشفى الأعمى والأبرص والأكمه بمجرّد مسح عيسى (عليه السلام)، بل وإحياء الموتى، في حين أنّ العلم والعقل لا يجدان تفسيراً لهذا..
وهي أُمور تندرج في باب المعجزات التي أجراها اللّه تعالى
وإنّما أجرى اللّه سبحانه وتعالى تلك المعجزات والخوارق على أيدي أنبيائه ورسله عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، ليُفهم العباد بأنّ عُقولهم قاصرة عن الإدراك والإحاطة بكلّ شيء; لأنه سبحانه لم يؤتهم من العلم إلاّ قليلاً، ولعلّ في ذلك صلاحهم وكمالهم النسبي، فقد كفر الكثير بنعمة اللّه، وأنكر الكثير وجوده سبحانه، واغترّ الكثير منهم بالعلم والعقل حتى عبدوهما من دون اللّه، هذا مع قلّة العلم وقصور العقل، فكيف لو أعطاهم علم كلّ شيء؟!
ونظراً لأهمية العقيدة ومركزيتها في إيمان المسلم، فإنّ كتابي هذا قد تناول جملة من العقائد الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، والتي كانت مسرحاً لاختلاف فرق المذاهب الإسلامية، فَعَقدتُ فصلاً خاصاً بمعتقدات أهل السنّة والشيعة في القرآن الكريم والسنّة النبوية، ثمّ تطرّقت بعد ذلك لسائر المسائل التي اختلفوا فيها وشنّع بعضهم على البعض الآخر بدون مبرّر; هادفاً من ذلك بيان ما رأيته الحقّ، راغباً في مساعدة من يريد البحث عنه، آملاً أن يساهم ذلك في قيام الوحدة الإسلامية على أساس فكريٍّ متين، واللّه أسأل أن يوفّقنا جميعاً لما يحبّ ويرضى، ويجمع كلمة المسلمين على الصواب، إنّه عزيز قدير.
القرآن الكريم عند أهل السنة والجماعة
وعند الشيعة الإمامية الاثني عشرية
هو كلام اللّه المنزل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المرجع الأعلى للمسلمين في أحكامهم وعباداتهم وعقائدهم، من شكّ فيه أو أهانه فقد برئ من ذمة الإسلام، فهم ـ المسلمون كافة ـ متفقون على تقديسه واحترامه، والتعبّد بما ورد فيه، ولكنهم اختلفوا في تفسيره وتأويله.
ومرجع الشيعة في التفسير والتأويل يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشروحات الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، ومرجع أهل السنّة والجماعة يعود إلى أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، ولكنهم يعتمدون على الصحابة ـ دون تمييز ـ أو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة في نقل الأحاديث وشرحها وتفسيرها.
وبطبيعة الحال نشأ من ذلك اختلاف في العديد من المسائل الإسلامية وخصوصاً الفقهية منها.
وإذا كان الاختلاف بين المذاهب الأربعة من مدرسة أهل السنّة
وكما ذكرت في مستهلّ الكتاب فإنّني سوف لن أتطرّق إلاّ إلى بعض الأمثلة بغية الاختصار، وعلى من يريد البحث والاستزادة أن يغوص في أعماق البحر لاستخراج ما يمكنه من الحقائق الكامنة والجواهر المخفيّة.
يتفق أهل السنّة مع الشيعة في القول بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن للمسلمين كلّ أحكام القرآن وفسّر كلّ آياته، ولكنهم اختلفوا في من ينبغي الرجوع إليه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بغية التعرّف إلى ذلك البيان والتفسير: فذهب أهل السنّة إلى الاعتماد على الصحابة ـ دون تمييز ـ ومن بعدهم الأئمة الأربعة وعلماء الأُمة الإسلامية.
أما الشيعة فقالوا: إنّ الأئمة من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم المؤهلون لذلك وصفوة من الصحابة المنتجبين; فأهل البيت (عليهم السلام) هم أهل الذكر الذين أمرنا اللّه تعالى بالرجوع إليهم في قوله عزَّ وجلَّ: { فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }(1)، وهم الذين اصطفاهم اللّه تعالى
____________
1- النحل: 43، وقد ذكرت مصادر التفسير عند أهل السنّة عدّة أقوال في تفسير هذه الآية، منها: أنّها تعني أهل البيت (عليهم السلام)، راجع: جامع البيان للطبري 14: 145 و 17: 8، تفسير القرطبي 11: 272، تفسير ابن كثير 2: 591، وزعم باطلا أنّ قول الإمام الباقر (عليه السلام): "نحن أهل الذكر" الوارد في تفسير الآية بمعنى الأُمة لا أهل البيت (عليهم السلام).
وفي لفظ مسلم: "كتاب اللّه... أهل بيتي، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي"، قالها ثلاث مرّات(3).
ومن المعلوم أنّ أهل البيت (عليهم السلام) كانوا أعلم الناس وأورعهم وأتقاهم وأفضلهم، وقد قال فيهم الفرزدق:
إن عُدَّ أهلُ التُقَى كَانُوا أئِمَّتُهُم | أو قِيلَ مَنْ خَيرُ أهْلُ الأَرضِ قِيلَ هُمُ |
وأسوق هنا مثالاً واحداً للتذكير بطبيعة الرابطة بين أهل
____________
1- فاطر: 32.
2- ورد بألفاظ وأسانيد مختلفة، راجع: الطبقات لابن سعد 2: 194، مسند ابن الجعد: 397، مسند أحمد 3: 14 وفي غير موضع منه، المستدرك للحاكم 3:109 وصححه، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 639 ح1553 ـ 1555، السنن الكبرى للنسائي 5: 45 ح8148، سير أعلام النبلاء 9: 365، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 163، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 630.
3- صحيح مسلم 7: 123، (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب).
فهذه الآيات تشير بدون لبس إلى أنّ أهل البيت (عليهم السلام) وعلى رأسهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الذين يدركون معاني القرآن الغامضة، لأنّا لو أمعنّا النظر في القَسَم الذي أقسَم به ربّ العزّة والجلالة لوجدنا مايلي:
إذا كان اللّه تعالى يُقسم بالعصر وبالقلم وبالتين وبالزيتون، فعظمة القَسَم بمواقع النجوم بيّنة، لما تنطوي عليه من أسرار وتأثير على الكون بأمره سبحانه، ونلاحظ تعزيز القسم في صيغة النفي والإثبات، فبعد القَسم يؤكد سبحانه: { إنَّهُ لَـقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْـنُون }، والمكنون ما كان باطناً ومستتراً، ثم يقول عزّ وجلّ: { لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ }، و (لا) هنا للنفي، ويمسّه تعني يدركه ويفهمه، وليس المقصود بها لمس اليد(2)، فهناك فرقٌ بين اللّمس
____________
1- الواقعة: 75 ـ 79.
2- ذكر القرطبي في تفسيره عند ذكره عدّة تفاسير لها، منها: ما نقله عن الحسين بن الفضل حيث قال: "لا يعرف تفسيره وتأويله إلاّ من طهّره اللّه من الشرك والنفاق".
وقال الآلوسي أيضاً في تفسيره روح المعاني في ذيل الآية ـ بعد ما ذكر أنّ المطهّرين هم الملائكة ـ: "ونفي مسّه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه وعلى ما فيه".
وكذلك الفخر الرازي في تفسيره رجّح كون (لا) بمعنى النفي لا النهي وأنّها إخبار عن عدم مسّ غير المطهّرين له، ثم قال: "إلاّ المطهّرون" هم الملائكة طهرهم اللّه في أوّل أمرهم وأبقاهم.. ولو كان المراد نفي الحدث لقال: لا يمسّه إلاّ المطهرون أو المطّهّرون بتشديد الطاء والهاء، والقراءة المشهورة الصحيحة (المطهرون) من التطهير لا من الاطهار، وعلى هذا يتأيد ما ذكرناه من وجه آخر من حيث إنّ بعضهم كان يقول: هو من السماء، ينزل به الجن ويلقيه عليه.. فقال: لا يمسّه الجن وإنّما يمسّه المطهّرون الذي طُهّروا عن الخبث" التفسير الكبير 30: 431 ـ 433.
وقد خلط صاحب كتاب "منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلامية": 25 بردّه على المؤلّف بين استعمال المسّ في اللمس وبين مساواة المسّ للمس في المعنى، فالمسّ يستخدم بمعنى اللمس الحسي، وبمعنى المسّ المعنوي كمسّ العقل ونحوه، ولهذا تقول: هذا ممسوس، بمعنى فيه جنون، وإن شيئاً مسّ عقله فجنه.
ويستخدم المس بمعنى اللمس أيضاً، ولكن هذا لا يعني أنّ المسّ عين اللمس ونفس معناه كما توهمه صاحب كتاب "منهج أهل البيت" ليفسّر الآية المباركة باللمس المادي الذي يعني حمل الكلام على النهي، وقد لاحظت كلمات بعض المفسرين في إبطال كون النفي بمعنى النهي، وإنّما هو إخبار عن عدم مسّ القرآن لغير المطهّر من الخبائث والآثام.
____________
1- الأعراف: 201.
فالمسّ هنا يتعلّق بالعقل والإدراك لا بلمْسِ اليد.
وكيف يُقسم اللّه سبحانه وتعالى بأن لا يلمس القرآن باليد إلاّ من تطهّر، والتاريخ يحدّثنا بأنّ بعض الجبّارين قد عبثوا به ومزّقوه، وقد شاهدنا الاسرائيليين يدوسونه بأقدامهم ـ نستجير باللّه ـ ويحرقونه عندما احتلّوا بيروت في اجتياحهم السيئ الصيت، وقد نقلت أجهزة التلفزة عن ذلك صوراً بشعة ومذهلة؟!
فالمدلول لقوله تعالى هو أنّه لا يدرك معاني القرآن المكنون إلاّ نخبة من عباده الذين اصطفاهم وطهّرهم تطهيراً.
والمطهَّرون في هذه الآية اسم مفعول، أي: وقع تطهيرهم، وقد قال عزَّ وجلّ: { إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }(2).
فقوله تعالى: { لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ }، معناه: لا يدرك حقيقة القرآن إلاّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، ولذلك قال فيهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأُمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا
____________
1- البقرة: 275.
2- الأحزاب: 33.
وما يذهب إليه الشيعة في ذلك يستند إلى القرآن الكريم وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المرويّة حتى في صحاح أهل السنّة كما وجدنا.
____________
1- المستدرك للحاكم 3: 149 وقال: "حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه"، ورواه السيوطي في الجامع الصغير 2: 680 ح 9313 مختصراً بلفظ: "النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأُمتي"، وقال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير 6: 386: "شبّههم بنجوم السماء وهي التي يقع بها الاهتداء، وهي الطوالع والغوارب والسيّارات والثابتات، فكذلك بهم الاقتداء وبهم الأمان من الهلاك"، ثمّ ذكر أنّ تعدّد طرقه ربما يصيّره حسناً.
ورواه أحمد في الفضائل 2: 671، وأورده القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة 1: 72، وابن حجر الهيتمي في الصواعق 2: 445.