الصفحة 38

السنّة النبوية الشريفة
عند أهل السنّة والجماعة وعند الشيعة الإمامية


هي: كلّ ما قاله رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو فعله أو أقرّه، وهي المرجع الثاني عندهم بعد القرآن الكريم في أحكامهم وعباداتهم وعقائدهم.

يضيفُ أهل السنّة والجماعة إلى السنّة النبوية سنّة الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وذلك لحديث يروونه: "عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عِضّوا عليها بالنواجذ"(1).

وليس أدلّ على ذلك من اتباعهم سنّة عمر بن الخطّاب في صلاة التراويح التي نهى عنها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

____________

1- ورد في كثير من مصادر أهل السنّة، انظر على سبيل المثال: سنن ابن ماجة 1: 15 ح42، سنن الترمذي 4: 149 ح2816، المستدرك للحاكم 1: 95، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 46، وصرّح محقّق الكتاب محمد ناصر الدين الألباني بصحته.

2- صحيح البخاري7: 99، (كتاب الأدب، باب 75 ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر اللّه)، ولفظه: "احتجر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حُجيرة مخصّفة أو حصيراً، فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي فيها، فتتبع إليه رجال وجاؤوا يصلّون بصلاته، ثمّ جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضباً، فقال لهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): مازال بكم صنيعكم حتى ظننت أنّه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة".

وهذا النصّ صريح في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفرضها، بل نهاهم عن أدائها كذلك ورغّبهم في الصلاة في بيوتهم.

وهذا النهي استمر في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزمن أبي بكر إلى أن جاء عمر بن الخطاب فابتدع فيهم القيام جماعة في شهر رمضان، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة 2: 510 ترجمة 2934 حيث قال: "قلت: ذكر أبو عمر في التمهيد: أنّ أوّل ما جمع عمر الناس على إمام في رمضان كان سنة أربع عشرة".

وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء 131: "وفي سنة أربع عشرة جمع عمر الناس على صلاة التراويح".


الصفحة 39
والبعض منهم يضيفون إلى سنّة الرسول سنّة الصحابة بأجمعهم ـ أيّ صحابي كان ـ وذلك لحديث يروونه: "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم"(1)، وحديث: "أصحابي أمنةٌ لأمتي"(2).

أمّا حديث "أصحابي كالنجوم"، فهو لا ينسجم مع العقل والمنطق والحقيقة العلمية، إذ إنّ العرب لم يكونوا ليهتدوا في مسيرهم

____________

1- الشفا للقاضي عياض 2: 53.

2- المصنّف لابن أبي شيبة 7: 548 ح3، صحيح مسلم 7: 183، (كتاب فضائل الصحابة، باب 51)، ومسند أحمد بن حنبل 4: 399.


الصفحة 40
الصحراوي لمجرّد اقتدائهم بأيّ نجم من النجوم، وإنّما كانوا يهتدون باتباع نجوم معيّنة محدّدة معروفة لها أسماؤها.

كما أنّ هذا الحديث لا تؤيده الأحداث اللاحقة والممارسات التي بدت من بعض الصحابة بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ منهم من ارتدّ(1)، كما أنّهم اختلفوا في كثير من الأُمور التي سببت الطعن ـ بعضهم في بعض ـ(2)، ولعن بعضهم بعضاً(3)، وقتل بعضهم بعضاً(4)، وأُقيم الحدّ على بعض الصحابة لشرب الخمر والزنا والسرقة وغير ذلك، فكيف يقبل عاقلٌ بهذا الحديث الذي يأمر بالاقتداء بمثل هؤلاء؟! وكيف يكون من يقتدي بمعاوية الخارج على إمام زمانه أمير المؤمنين في حربه للإمام علي (عليه السلام) مهتدياً وهو يعلم أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سمّاه إمام الفئة الباغية(5)؟! وكيف يكون من المهتدين من يقتدي بعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وبسر بن أرطأة وقد قتلوا الأبرياء لتدعيم ملك الأمويين؟!

وأنت أيها القارئ اللبيب إذا قرأت حديث "أصحابي كالنجوم" يتبيّن لك أنّه موضوع; لأنه موجّه إلى الصحابة، فكيف يقول

____________

1- كالّذين حاربهم أبو بكر وسُمّوا بأهل الردّة (المؤلّف).

2- كما طعن أكثر الصحابة في عثمان حتى قتلوه (المؤلّف).

3- كما فعل ذلك معاوية الذي كان يأمر بلعن علي (المؤلّف).

4- كحروب الجمل وصفين والنهروان وغيرها (المؤلّف).

5- حديث "ويح عمّار تقتله الفئة الباغية" (المؤلّف).


الصفحة 41
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يا أصحابي اقتدوا بأصحابي؟!

أمّا حديث "يا أصحابي عليكم بالأئمة من أهل بيتي فهم يهدونكم من بعدي" فهو أقرب إلى الحقّ; لأنّه له شواهد عديدة تؤيده في السنّة النبوية.

والشيعة الإمامية يقولون بأنّ المقصود بحديث: "عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" هم الأئمة الاثنا عشر من أئمة أهل البيت سلام اللّه عليهم، وهم الذين أوجب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أُمّته أن تتمسّك بهم وتتبعهم، كما تتمسّك وتتبع كتاب اللّه(1).

ولمَّا آليتُ على نفسي فإنّي لا أستدلُّ إلاّ بما يحتجّ به الشيعة من صحاح أهل السنّة والجماعة، فإنّي قد اقتصرت على ذلك، وإلاّ فإن في كتب الشيعة أضعاف ذلك وبعبارات أكثر صراحة ووضوحاً(2).

على أنّ الشيعة لا يقولون بأنّ أئمّة أهل البيت سلام اللّه عليهم لهم حقّ التشريع، بمعنى أن سنّتهم هي اجتهادٌ منهم، بل يقولون بأنّ كلّ أحكامهم هي من كتاب اللّه وسنّة رسوله التي علّمها رسول اللّه عليّاً، وعلّمها عليّ أولاده، فهو علمٌ يتوارثونه، ولهم في ذلك أدلّةٌ كثيرة

____________

1- وذلك لحديث الثقلين الثابت المتواتر.

2- أضرب لذلك مثلا واحداً: أخرج الصدوق في الإكمال بسنده إلى الإمام الصادق عن أبيه عن جده قال: "قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): الأئمة من بعدي اثنا عشر، أولهم علي وآخرهم القائم، هم خلفائي وأوصيائي" (المؤلّف).


الصفحة 42
نقلها علماء أهل السُنّة والجماعة في صحاحهم ومسانيدهم وتواريخهم.

ويبقى السؤال دائماً يعود بإلحاح: لماذا لم يعمل أهل السنّة والجماعة بمضمون هذه الأحاديث الصحيحة عندهم؟

ثمّ بعد ذلك يختلفُ الشيعة والسنّة في تفسير الأحاديث الثابتة عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما سبق لنا توضيحه في فقرة اختلافهم في تفسير القرآن بالنسبة لمعنى الخُلفاء الراشدين الذي ورد في حديثه (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحّحه كلٌ من الفريقين، ولكن يفسّره السنّة على أنّهم الخلفاء الأربعة الذين اعتلوا منصّة الخلافة بعد رسول اللّه، ويفسّره الشيعة على أنّهم الخلفاء الاثنا عشر، وهم أئمة أهل البيت سلام اللّه عليهم.

ذلك إنّا نرى هذا الاختلاف شائعاً في كلّ ما يتعلّق بالأشخاص الذين زكّاهم القرآن والرسول أو أمر باتّباعهم، مثال ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "علماء أُمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل"(1)، أو: "العلماء ورثةُ الأنبياء"(2).

____________

1- عوالي اللئالي 4: 77 ح67، تاريخ ابن خلدون 1: 325، وفي كليهما بلفظ: "علماء أُمتي كأنبياء بني إسرائيل".

2- التاريخ الكبير للبخاري 8: 337 ح3229، وأورده في صحيحه (كتاب العلم باب 11 من دون أن يسنده)، سنن ابن ماجة 1: 81، الكافي 1: 32 ح2، وقال المناوي في فيض القدير 4: 504: "قال في الكشاف: ما سمّاهم ورثة الأنبياء إلاّ لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنّهم القوام بما بعثوا من أجله".


الصفحة 43
فأهل السنّة والجماعة يعمّمون هذا الحديث على كلّ علماء الأُمة..

بينما يخصّصهُ الشيعة بالأئمة الاثني عشر، ومن أجل ذلك يفضّلونهم على الأنبياء ماعدا أُولي العزم من الرسل.

والحقيقة إنّ العقل يميل لهذا التخصيص:

أولاً: لأنّ القرآن أورث علم الكتاب للذين اصطفى من عباده، وهو تخصيص، كما أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خصّ أهل بيته بأُمور لم يُشركهم فيها بأحد، حتى سمّاهم سفينة النجاة، وسمّاهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، والثقل الثاني الذي يعصم من الضلالة.

فظهر من هذا أنّ قول أهل السنّة والجماعة يعارض هذا التخصيص الذي أثبته القرآن والسنّة النبوية، وأنّ العقل لا يرتاح إليه، لما فيه من الغموض، وعدم المعرفة بالعلماء الحقيقيّين الذين أذهب اللّه عنهم الرِّجس وطهّرهم، وعدم تمييزهم عن العلماء الذين فرضهم على الأُمّة الحكّام الأمويّون والعبّاسيّون.

وما أبعد الفرق بين أُولئك العلماء، وبين الأئمة من أهل البيت الذين لا يذكر التاريخ لهم أستاذاً تتلمذوا على يديه سوى أن يتلقّى الابن عن أبيه، ومع ذلك فقد روى علماء أهل السنّة في علومهم

الصفحة 44
روايات عجيبة، وخصوصاً الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الجواد الذي أفحم بعلومه أربعين قاضياً جمعهم إليه المأمون وهو لا يزال صبيّاً.

وممّا يؤكّد تميّز أهل البيت عن غيرهم ما يظهر لنا من اختلاف أصحاب المذاهب الأربعة عند أهل السنّة والجماعة في كثير من المسائل الفقهية، بينما لا يختلف الأئمة الاثنا عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في مسألة واحدة(1).

____________

1- كيف يختلفون وقد جعلهم النبي (صلى الله عليه وآله) أحد الثقلين وعدل القرآن، وأوصى بالتمسك بهم، وأنّهم هم العاصم من الضلال؟! فكما لا اختلاف ولا تناقض في القرآن، كذلك لا اختلاف ولا تناقض في أقوال العترة (عليهم السلام)، وهذا ما يدلّ عليه حديث الثقلين الثابت الصحيح عند الفريقين.

قد اعترض صاحب كشف الجاني: 144 بأنّ روايات الشيعة مختلفة فيما بينها ويوجد فيها التعارض والتضارب، وأخذ بنقل بعض كلمات العلماء في ذلك.

وهذا الاعتراض لا يرد على الشيعة، وهو وارد على أئمة السنّة كما ذكر المؤلّف; لأن المؤلّف يتكلّم عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأنّهم لا يختلفون فيما بينهم، ولا يطعن بعضهم بالبعض ولا يكفّر أو يردّ عليه، فلم ينقل أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) ردّ أو خطّأ أبيه الإمام الباقر أو جدّه علي بن أبي طالب، وهكذا بقية الأئمة (عليهم السلام)، بل كانوا سلسلة ذهبية يكمل بعضها البعض.

وهذا بخلاف أئمة المذاهب الأربعة، فإنّا نجدهم أنفسهم يختلفون فيما بينهم فضلا عن اتباعهم، ونجد أنّ أحدهم يتكلّم على الآخر ويطعن فيه، فهذا مالك بن أنس يطعن في أبي حنيفة النعمان، قال الوليد بن مسلم: "قال لي مالك بن أنس: أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟ قلت: نعم، قال: ماينبغي لبلدكم أن يسكن"، العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل 2: 547.

ونقل البخاري عن سفيان بن عيينة عندما جاءه نعي أبي حنيفة قال: "ما ولد في الإسلام مولود شرٌّ منه"، الانتقاء: 150.

وقال ابن عبد البرّ: "وقد تكلّم ابن أبي ذئيب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره، وهو مشهور عنه.. وتحامل عليه [ أي على مالك ] الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسداً لموضع إمامته، وعابه قوم في إنكاره المسح على الخفين في الحضر والسفر، وفي كلامه في علي وعثمان، وفي فتياه بإتيان النساء في الأعجاز"، جامع بيان العلم وفضله 2: 115.

أمّا الشافعي فقد تكلّم فيه يحيي بن معين إمام الجرح والتعديل فقال عنه: "ليس بثقة" المصدر السابق.

وقال ابن عبد البرّ: "وقد صحّ عن ابن معين من طرق أنّه كان يتكلّم في الشافعي" المصدر السابق 2: 394.

فكلام المؤلّف عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم لا خلاف بينهم، بخلاف أئمة مذاهب السنّة. هذا أولا.

وثانياً: يوجد بعض الاختلافات في الروايات المنقولة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا لا يعني أنّ الأئمة اختلفوا فيما بينهم أو أن ذلك عيب في مذهبهم; وذلك لأنّ الاختلاف ناشئ من عوامل أُخرى كالكذب عليهم كما كُذِبَ على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكالدسّ والوضع، واختلاف الحكم باختلاف زمانه ومكانه، وكاستخدام التقية في بعض الأحيان لدفع جور السلطان، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة.

مضافاً إلى أنّ هذا غير مقصور على الشيعة وحدهم، فأهل السنّة الخلاف بينهم شاسع والهوّة بينهم كبيرة جداً، يمكن بأدنى إطلاع ملاحظتها.

ومن هذا يتضح أنّ صاحب كتاب كشف الجاني يخلط في كلامه في الاختلاف بين الأئمة أنفسهم، ووجود بعض الاختلاف بين الروايات المنقولة عنهم، والتي هي أمر طبيعي نتيجة بعد الزمن والعوامل الأُخرى المؤثّرة; إذ المؤلّف كلامه عن الأمر الأوّل وهم الأئمة، بينما عثمان الخميس اعترض عليه بالأمر الثاني وهو وجود بعض الاختلافات بين الروايات المنقولة عن الأئمة، فلاحظ حتى لا يقع خلط في الكلام.


الصفحة 45

الصفحة 46
ثانياً: لو أخذنا بقول أهل السنّة والجماعة في تعميم هذه الآيات والأحاديث على كلّ علماء الأُمّة، لوجب أن تتعدّد الآراء والمذاهب على مرّ الأجيال، ولأصبح هناك آلاف المذاهب، ولعلّ علماء أهل السنّة والجماعة تفطّنوا لما لهذا الرأي من سخافة وتفريق لوحدة العقيدة، فأسرعوا إلى غلق باب الاجتهاد منذ زمن بعيد.

أمّا قول الشيعة فهو يدعو إلى الوحدة والالتفاف حول أئمة معروفين، خصّهم اللّه تعالى والرسول بكلّ المعارف التي يحتاجها المسلمون في كلّ العصور، فلا يمكن لأيّ مدّع بعد ذلك أن يتقوّل على اللّه وعلى الرسول ويبتدع مذهباً يُلزم الناس باتّباعه.

فاختلافهم في هذه المسألة كاختلافهم في المهدي الذي يؤمن به الفريقان، ولكنّ المهدي عند الشيعة معلوم معروف أبوه وجدّه، وعند

الصفحة 47
أهل السنّة والجماعة لا يزالُ مجهولاً وسيولد في آخر الزمان، ولذلك ترى كثيراً منهم ادّعى المهدية، وقد قال لي شخصياً الشيخ إسماعيل صاحب الطريقة المدنية بأنّه هو المهدي المنتظر، وقالها أمام صديق لي كان من أتباعه ثم استبصر فيما بعد.

أمّا عند الشيعة، فلا يمكن لأيّ مولود عندهم أن يدّعي ذلك، وحتّى لو سَمّى أحدهم ابنه بالمهدي فهو تيمُّناً وتبرّكاً بصاحب الزمان، كما يُسمّي أحدُنا ابنهُ محمداً أو علياً، وإنّ ظهور المهدي عندهم هو في حدّ ذاته معجزة، لأنّه وُلِد منذ اثني عشر قرناً وتغيّبَ.

ثم بعد كلّ هذا قد يختلف أهل السنّة والجماعة في معنى الحديث الثابت الصحيح عند الفريقين، حتى لو كان الحديث لا يتعلّق بالأشخاص، ومن ذلك مثلاً حديث: "اختلاف أُمّتي رحمة"(1).

____________

1- أحكام القرآن للجصاص 2: 37، تفسير القرطبي 4: 159، الجامع الصغير للسيوطي 1: 48 ح288، شرح النووي على صحيح مسلم 11: 91 وقال:

"وقد اعترض على حديث اختلاف أُمتي رحمة رجلان: أحدهما مغموض عليه في دينه وهو عمرو بن بحر الجاحظ، والآخر معروف بالسخف والخلاعة وهو إسحاق بن إبراهيم الموصلي"، ثم ذكر أقوالهما وردها.

وفي كنز العمال 10: 136 ح2886: "عن نصر المقدسي في الحجّة، والبيهقي في رسالة الأشعرية بغير سنده، وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعلّه خرج به في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا".

وفي فيض القدير للمناوي 1: 271 قال: "وروى من أنّ مالكاً لما أراده الرشيد على الذهاب معه إلى العراق، وأن يحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن; فقال مالك: أمّا حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه; لأنّ الصحابة ـ رضي اللّه تعالى عنهم ـ افترقوا بعد موته (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمصار فحدّثوا، فعند كلّ أهل مصر علم، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): اختلاف أُمتي رحمة".

ومن هذا يتضح أنّ ما ذكره صاحب كتاب كشف الجاني من أنّ المؤلّف افترى على أهل السنّة ونسب الحديث إلى مصادرهم وهو غير موجود، ما هو إلاّ غفلةٌ ناشئة عن قلّة الاطلاع ومراجعة الكتب، فإنّ المصادر السنّية أوردت هذا الحديث كما قدمناه آنفاً.


الصفحة 48
الذي يفسّره أهل السنة والجماعة: بأنّ اختلاف الأحكام الفقهية في المسألة الواحدة هو رحمة للمسلم الذي بإمكانه أن يختار أي حكم يناسبه ويتماشى مع الحلّ الذي يرتضيه، ففي ذلك رحمة به، لأنّه إذا كان الإمام مالك مثلاً متشدّداً في مسألة ما، فإن بإمكان المسلم أن يُقلّد أبا حنيفة المتساهل فيها.

أمّا عند الشيعة فهم يفسّرون الحديث على غير هذا المعنى، ويروون أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لمّا سُئل عن هذا الحديث: "اختلاف أُمّتي رحمة"؟ قال: صدق رسول اللّه، فقال السائل: إذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم نقمة؟ فقال الصادق: ليس حيثُ ذهبت

الصفحة 49
ويذهبون ـ يعني في هذا التفسير ـ إنّما قصد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): اختلاف بعضهم إلى بعض، يعني يسافر بعضهم إلى بعض وينفر إليه ويقصده لأخذ العلم عنه، واستدلّ على ذلك بقول اللّه تعالى: { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَـتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُـنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }(1).

ثمّ أضاف قائلاً: فإذا اختلفوا في الدين صاروا حزب إبليس(2).

وهو كما ترى تفسير مقنعٌ; لأنّه يدعو لوحدة العقيدة، لا للاختلاف فيها(3).

ثم إنّ الحديث بمفهوم أهل السنّة والجماعة غير معقول، لأنّه يدعو للاختلاف والفُرقة وتعدّد الآراء والمذاهب، وكلّ هذا يعارض القرآن الكريم الذي يدعونا للوحدة والالتفاف حول شيء واحد، يقول سبحانه: { وَإنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }(4).

____________

1- التوبة: 122.

2- نحوه في معاني الأخبار للصدوق: 157.

3- البسملة في الصلاة مكروهة عند المالكية، وواجبة عند الشافعية، ومستحبة عند الحنفية، والحنابلة قالوا بإخفاتها إذا صلّى في الصلاة الجهرية (المؤلّف).

4- المؤمنون: 52.


الصفحة 50
ويقول { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا }(1).

ويقول: { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }(2).

فأيّ نزاع وأيّة تفرقة هي أكبر من تقسيم الأُمّة الواحدة إلى مذاهب وأحزاب وفرق يخالف بعضهم بعضاً، ويسخر بعضهم من بعض، بل ويكفّر بعضهم بعضاً، حتى يستحلّ بعضهم دم البعض الآخر، وهو ما وقع بالفعل على مرّ العصور، والتاريخ أكبر شاهد على ذلك.

هذا، وقد حذّرنا سبحانه من النتائج الوخيمة التي تصير إليها أُمّتنا إذا تفرّقت، فقال سبحانه: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ }(3)، { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء }(4)، { وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }(5).

وتجدر الإشارة هنا بأنّ معنى (شيعاً) لا علاقة لها بالشيعة كما توهّم بعض البُسطاء عندما جاءني ينصحني على زعمه قائلاً: يا

____________

1- آل عمران: 103.

2- الأنفال: 46.

3- آل عمران: 105.

4- الأنعام: 159.

5- الروم: 31 ـ 32.


الصفحة 51
أخي باللّه عليك دعنا من الشيعة، فإن اللّه يمقُتهم وحذّر رسوله أنْ يكون منهم.

قلتُ: وكيف ذلك؟

قال: { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء }.

وحاولتُ إقْناعهُ بأن "شِيَعاً" معناها أحزاباً ولا علاقة لها بالشيعة، ولكنّه ومع الأسف الشديد لم يقتنع، لأنّ سيّده إمام المسجد هكذا علّمه وحذّره من الشيعة، فلم يعدْ يتقبّل غير ذلك!

أعود إلى الموضوع فأقول: بأنّي كنتُ في حيرة قبل استبصاري عندما أقرأ حديث: "اختلاف أُمّتي رحمة"، وأُقارنه مع حديث "ستفترق أُمّتي إلى اثنتين وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ واحدة"(1).

____________

1- سنن ابن ماجة (كتاب الفتن) 2: 493: ح3993، مسند أحمد 3: 120، والترمذي في كتاب الإيمان، باب 18 ما جاء في افتراق هذه الأُمة، وكتاب السنّة لابن أبي عاصم ح64، وصرّح محقّق الكتاب الشيخ محمد الألباني بصحته قائلا: "الحديث أخرجه ابن ماجة 3993 باسناد المصنّف هذا، وصححه البوصيري، والحديث صحيح قطعاً; لأنّ له ستّ طرق أُخرى عن أنس، وشواهد عن جمع من الصحابة.. وقد خرجته في الصحيحة 203 من حديث أبي هريرة و204 من حديث معاوية".

وألّف محمّد بن إسماعيل الصنعاني كتاباً بعنوان (افتراق الأُمة)، وقال فيه: "له طرق عديدة ساقها ابن الأثير... في جامع الأُصول"، ثمّ قال: "إذا عرفت هذا، فالحديث قد استشكل من جهتين:

الجهة الأُولى: ما فيه من الحكم على الأكثر بالهلاك، وذلك ينافي الأحاديث الواردة في الأُمة بأنّها أُمة مرحومة، وبأنّها أكثر الأُمم في الجنّة..

الجهة الثانية: من جهة الاشكال في تعين الفرقة الناجية، فقد تكلّم الناس فيها كلّ فرقة تزعم أنّها هي الفرقة الناجية.." افتراق الأُمّة: 46 ـ 78.

وقد تعرّض الشيخ الألباني إلى هذا الإشكال ـ أيضاً ـ وحاول الإجابة عليه نقلا عن غيره، لكن دون جدوى، راجع الصحيحة 1: 402 و 414.

وإذا تدبّر المسلم في هذا الحديث الذي نطق به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخبر بأنّ أُمته ستفترق كما افترقت الأُمم السابقة عليها، مع ما يلمسه المسلم بأُم عينيه من اختلاف المسلمين فيما بينهم، ومن أنّ كلّ فرقة أو طائفة ترى أنّها هي الحقّ، وأنّها الفرقة الناجية..

إذا تأمّل المسلم هذا يعرف أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لابد وأن ينصب طريقاً ينجو من الضلال ويخلص عباد اللّه من جحيم النار، بحيث يكون هذا الطريق علماً ومناراً وحافظاً لما أُنزل من القرآن والسنة النبوية المطهرة.

وهذا الطريق قد بيّنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين المتواتر الذي قال فيه: "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا"، وحديث السفينة الذي ذكره المؤلّف; فإن أهل البيت هم المنجون من الضلال والتيه المؤدي إلى النار كما في حديث الافتراق.


الصفحة 52
وأتسائل: كيف يكون اختلاف الأُمة رحمة، وفي نفس الوقت يوجب دخول النار؟

وبعد قراءتي لتفسير الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لهذا الحديث زالت الحيرة وانحلّ اللغْزُ، وعرفتُ بعد ذلك بأنّ الأئمة من أهل

الصفحة 53
البيت هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وهم بحقّ ترجمان القرآن والسنّة، وحقيق بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول في حقّهم: "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق"(1)، و "لا تتقدّموهم فتهلكوا، ولا تتخلّفوا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم"(2).

وكان حقيق بالإمام علي (عليه السلام) أن يقول: "أُنظروا أهل بيت نبيكم، فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم

____________

1- مستدرك الحاكم 2: 343 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، المعجم الصغير للطبراني 1: 139 و 2: 22، المعجم الأوسط 4:10 و 5: 355 و 6: 85، المعجم الكبير 3: 45 ـ 47 و 12: 27، الجامع الصغير للسيوطي 2: 533 ح8162، الصواعق المحرقة 2: 445 وقال: "وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً"، الدر المنثور عن المستدرك 3: 334، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 168، الشيخ صالح المقبلي في كتاب العلم الشامخ: 520.

ومن حكم بضعف الحديث كصاحب كتاب "منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلامية" ص 34 ـ ليس لحكمه قيمة علمية ما دام لم يبتنِ على الأُسس العلمية والموضوعية.

2- هذا الحديث ورد في ذيل حديث الثقلين، لكن بلفظ التثنية لا الجمع، إلاّ في الفقرة الأخيرة، انظر: المعجم الكبير للطبراني 5: 167، وعنه في الدر المنثور للسيوطي 2: 60، الصواعق المحرقة 2: 439 الآية الرابعة من الآيات النازلة فيهم و2: 653 (باب وصية النبي (صلى الله عليه وآله) بآل البيت).


الصفحة 54
في ردى، فإن لبدوا فالبدوا وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلّوا ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا"(1).

وقال (عليه السلام) في خطبة أُخرى يعرّف بها قدر أهل البيت (عليهم السلام): "هم عيش العلم وموتُ الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم وصمتهم عن حكم منطقهم، لايخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام، بهم عاد الحقّ الى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل"(2).

نعم، صدق الإمام علي فيما بيّنه، فهو باب مدينه العلم(3)، فهناك

____________

1- نهج البلاغة 1: 189، الخطبة: 96 من كلام له في أصحابه وأصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).

2- نهج البلاغة2: 232، الخطبة: 237.

3- قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب"، أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك 3: 126، وقال: "هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه".

وقال الفتني في تذكرة الموضوعات ص95: "والحديث حسن لا صحيح ولا كذب".

وذكر المناوي في فيض القدير 3: 60 الحديث وشرحه وردّ على من طعن فيه فقال: (2705 ـ "أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب"، فإنّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلّها، أو لابدّ للمدينة من باب، فأخبر أنّ بابها عليّ كرم اللّه وجهه، فمن أخذ طريقه دخل الجنّة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى.

وقد شهد له بالأعلمية الموافق والمخالف والمعادي والمحالف...

قال الحراني: قد علم الأولون والآخرون أنّ فهم كتاب اللّه منحصر إلى علم عليّ، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع عن القلوب الحجاب حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغيّر بكشف الغطاء...

وتعقّبه جمع أئمة، منهم الحافظ العلائي فقال: من حكم بوضعه فقد أخطأ، والصواب أنه حسن باعتبار طرقه، لا صحيح ولا ضعيف...

وقال الزركشي: الحديث ينتهي إلى درجة الحسن المحتج به ولا يكون ضعيفاً...

وفي لسان الميزان: هذا الحديث له طرق كثيرة في المستدرك أقلّ أحوالها أن يكون للحديث أصلا، فلا ينبغي إطلاق القول عليه بالوضع.

ورواه الخطيب في التاريخ باللفظ المزبور من حديث ابن معاوية عن الأعمش... ثمّ قال: قال القاسم: سألت ابن معين عنه فقال: هو صحيح...

وأفتى بحسنه ابن حجر، وتبعه البخاري فقال: هو حديث حسن).

وقد أفرد العلماء رسائل خاصة في هذا الحديث، منها: (كتاب فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم عليّ) للحافظ أحمد بن الصديق الغماري، وكتاب (رفع الارتياب عن حديث الباب) لعليّ بن محمّد العلوي، وقد ورد هذا الحديث في مصادر كثيرة نذكر منها:

مسند أبي يعلى 2: 58، المعجم الكبير 11: 55، نظم درر السمطين 11: 113، الجامع الصغير 11: 415، كنز العمال 11: 600 و 13: 147، تهذيب التهذيب 7: 296، تهذيب الكمال 18: 77، تاريخ بغداد 11: 49، ينابيع المودة 2: 58، شواهد التنزيل 1: 426، أُسد الغابة 4: 22.

وبعد الإيضاح المتقدم، فمن يحكم بكذب هذا الحديث كصاحب كتاب منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلامية: 34، يكون حكمه جزافاً ناشئاً من التعصّب وإغماض الجفون عن رؤية الحق.


الصفحة 55

الصفحة 56
فرق كبير بين من عقل الدين عقل وعاية ورعاية، وبين من عقله عقل سماع ورواية.

والذين يسمعون ويروون كثيرون، فكم كان عدد الصحابة الذين يجالسون رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويسمعون منه الأحاديث وينقلونها بغير فهم أو علم، فيتغيّر معنى الحديث، وقد يؤدّي إلى العكس الذي قصده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد يؤدّي بعض الأحيان إلى الكفر، لصعوبة إدراك الصحابي للمعنى الحقيقي(1).

____________

1- مثال ذلك ما رواه أبو هريرة من "إنّ اللّه خلق آدم على صورته"(*)، ولكن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أوضح الأمر فقال: إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سمع رجلين يتسابان، فقال أحدهما للآخر: قبح اللّه وجهك ووجه من يشبهك، فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن اللّه خلق آدم على صورته" أي إنّك بسبّك من يشبهه قد سببت آدم لأنّه يشبهه (المؤلّف).

____________________________________

*- ذكر عثمان الخميس في كشف الجاني ص: 145 أن التيجاني دلّس في الحديث ولم يذكر صدر الحديث وهو: "إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه فإنّ اللّه خلق آدم على صورته".

وهذا الإشكال ناشئ من قلّة تتبّع عثمان الخميس، فإنّ الرواية وردت بعدّة صيغ عن أبي هريرة، فمنها الصيغة المتقدّمة، ومنها ما رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنّة: 210 عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على صورته"، وصرّح الألباني بصحة الحديث، ومنها: "لا يقولنّ أحدكم قبح اللّه وجهك ولا وجه من أشبه وجهك، فإنّ اللّه خلق آدم على صورته" السنّة: 29.

مع أنّ الإتيان بصدر الرواية لا يؤثّر على التجسيم الذي يؤمن به عثمان الخميس في شيء، فهؤلاء علماء السلفية يفتون بأن للّه صورة لأجل هذه الرواية، قال ابن تيمية في نقض أساس التقديس: "لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أنّ الضمير عائد إلى اللّه، فإنه مستفيض من طرق متعدّدة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدلّ على ذلك".

وقال في موضع آخر منه: "علماء الأُمة لم تنكس إطلاق القول بأن اللّه خلق آدم على صورة الرحمن بل كانوا متفقين على إطلاق مثل هذا" نقلاً عن رسالة القول المبين: 49.

وقال أحمد بن حنبل: "من قال إن اللّه خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه" بطلان التأويلات لأبي يعلى 1: 88.

وقال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: "قال رجل لأبي: إنّ فلاناً يقول في حديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، "إن اللّه خلق آدم على صورته" فقال على صورة الرجل قال أبي: كذب هذا، هذا قول الجهمية وأيّ فائدة في هذا" إبطال التأويلات 1: 88.

وقد ألّف أحد دعاة السلفية ـ وهو سليمان بن ناصر العلوان ـ كتاباً بعنوان "القول المبين في إثبات الصورة لربّ العالمين"، قال ابن باز في فتاويه 1: 314: "ثبت عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصحيحين أنّه قال عليه الصلاة والسلام: "إنّ اللّه خلق آدم على صورته"، وجاء في رواية أحمد وجماعة من أهل الحديث: "على صورة الرحمن"، فالضمير في الحديث الأوّل يعود إلى اللّه تعالى...".

بينما أئمة أهل البيت وشيعتهم ينزّهون اللّه سبحانه وتعالى عن ذلك ويرجعون الضمير إلى الإنسان، والمعنى: لا تضرب أخاك فإنّ اللّه خلق آدم على صورة أخيك، وينزّهون اللّه عن التشبيه بخلقه صورة كانت أو وجهاً أو قدماً.

كما أنّ حديث الثقلين يثبت الأعلمية والمرجعية لأهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم معصومون مطهّرون من الخطأ والنسيان وغيره كما ثبت بآية التطهير، فهم الأعلم بسنّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من غيرهم، يتعين على المسلم أخذ السنّة منهم; لمرجعيّتهم المطلقة بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).


الصفحة 57

الصفحة 58
أمّا الذين يعون العلم ويرعونه فقليلون جدَّاً، وقد يُفني الإنسانُ عمره في طلب العلم ولايحصل منه إلاّ على اليسير، وقد يتخصّص في باب من أبواب العلم أو فنّ من فنونه ولا يمكنه أن يحيط بكلّ أبوابه، ولكنّ المعروف أنّ أئمه أهل البيت (عليهم السلام) كانوا مُلمّين وعارفين بشتّى العلوم، وهذا ما أثبته الإمام عليّ كما يشهد المؤرخون، وكذلك محمّد الباقر، وجعفر الصادق الذي تتلمذ على يديه آلاف الشيوخ في شتى العلوم والمعارف: من فلسفة وطب وكيمياء وعلوم طبيعية وغيرها.


الصفحة 59

الصفحة 60