الصفحة 193
أمّا الخلفاء فكانوا لا يعلمون كثيراً من أحكام القرآن الظاهرية فضلاً عن تأويله، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب التيمّم بأن رجلاً سأل عمر بن الخطاب أيام خلافته فقال: يا أمير المؤمنين إنّي أجنبتُ ولم أجد الماء فماذا أصنع؟ قال له عمر: لا تُصلّ(1)!!

وكذلك لم يعرف حكم الكلالة حتى مات، وهو يقول: وددتُ لو سألتُ رسول اللّه عن الكلالة(2) بينما حكمها مذكور في القرآن الكريم، وهكذا كان عمر الذي يقول عنه أهل السنّة والجماعة بأنّه من الملهمين على هذا المستوى العلمي، فلا تسأل عن الآخرين الذين أدخلوا البدع في دين اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير سوى اجتهادات شخصية.

ولقائل أن يقول: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يُبيّن الإمام عليّ للاُمّة ما اختلفوا فيه بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

____________

1- صحيح مسلم1: 193، كتاب الحيض، باب التيمّم، وصحيح البخاري 1: 87، كتاب التيمّم، باب 338، وحذف منه قوله: "لا تصل" مع إثبات مسلم لها.

2- المصنّف لعبد الرزاق 10: 302 ح19185، وفيه: "لأن أكون سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ثلاثة أحبّ إليّ من حمر النعم: عن الكلالة....".


الصفحة 194
والجواب هو: أنّ الإمام عليّاً لم يألُ جهداً في تبيين ما أشكل على الأُمّة، وكان مرجع الصحابة في كلّ ما أشكل عليهم، فكان يأتي ويوضّح وينصح، فكانوا يأخذون منه مايُعجبهم وما لا يتعارض مع سياستهم، ويدعون ماسوى ذلك، والتاريخ أكبر شاهد على ما نقول.

والحقيقة هي: لولا عليّ بن أبي طالب والأئمة من ولده لما عرف الناس معالم دينهم، ولكنّ الناس ـ كما أعلمنا القرآن ـ لا يحبّون الحقّ فاتبعوا أهواءهم، واخترعوا مذاهب في مقابل الأئمة من أهل البيت الذين كانت الحكومات تحسبُ عليهم أنفاسهم، ولا تترك لهم حريّة التحرّك والاتصال المباشر.

فكان عليّ يصعد على المنبر ويقول للناس: "سلوني قبل أن تفقدوني"(1) ويكفي عليّاً أن ترك نهج البلاغة، والأئمة من أهل البيت سلام اللّه عليهم تركوا من العلم ما ملأ الخافقين، وشهد لهم بذلك أئمّة المسلمين سنّة وشيعة.

وأعود للموضوع فأقول على هذا الأساس: لو قُدّر لعليّ أن يقود الأُمّة ثلاثين عاماً على سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمّ الإسلام، ولتغلغلت العقيدة في قلوب الناس أكثر وأعمق، ولَما كانتْ فتنة صغرى، ولا

____________

1- نهج البلاغة: الخطبة 2: 130، 189، وانظر: كنز العمال 13: 165 ح36502، تاريخ دمشق 42: 397.


الصفحة 195
فتنة كبرى، ولا كربلاء ولا عاشوراء.

ولو تصوّرنا قيادة الأئمة الأحد عشر بعد عليّ، والذي نصّ عليهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذين امتدتْ حياتهم عبر ثلاثة قرون، لما بَقِي في الأرض ديار لغير المسلمين، ولكانت الأرض اليوم على غير مانشاهده اليوم، ولكانت حياتنا إنسانية بمعناها الحقيقي، ولكن قال اللّه تعالى:

{ ألم * أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُـتْرَكُوا أنْ يَـقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ }(1).

وقد فشلت الأُمّة الإسلامية في الامتحان كما فشلت الأُممُ السابقة، كما نصّ على ذلك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) في العديد من المناسبات، وكما أكّد عليه القرآن الكريم في العديد من الآيات(3).

____________

1- العنكبوت: 1 ـ 2.

2- كحديث "اتباع سنّة اليهود والنصارى شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" أخرجه البخاري ومسلم وسبقت الإشارة إليه، وكحديث الحوض الذي يقول فيه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم" (المؤلّف).

3- كقوله تعالى: { أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ } آل عمران: 144، وكقوله سبحانه وتعالى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً } الفرقان: 30 (المؤلّف).


الصفحة 196

الصفحة 197

شواهد أخرى على ولاية عليّ


وكأنّ اللّه سبحانه وتعالى أراد أن تكون ولاية عليّ هي الاختبار للمسلمين، فكلّ اختلاف وقع فبسببها، ولأنّه سبحانه لطيفٌ بعباده فلا يؤاخذ التالين بما فعل الأوّلون، فجلّتْ حكمته، وحفَّ تلك الحادثة بأحداث أُخرى جليلة تشبه المعجزات، حتّى تكون حافزاً للاُمّة فينقلها الحاضرون ويعتبر بها اللاّحقون، عسى أن يهتدوا للحقّ من طريق البحث.

الشاهد الأول: يتعلّق بعقوبة من كذّب بولاية عليّ.

وذلك أنّه بعد شيوع خبر غدير خم وتنصيب الإمام عليّ خليفة على المسلمين، وقول الرسول لهم: "فليبلّغ الشاهد الغائب"; وصل الخبر إلى الحارث بن النعمان الفهري ولم يُعجبْهُ ذلك(1)، فأقبل على

____________

1- يدلّنا على أنّ هناك من الأعراب الذين يسكنون خارج المدينة يبغضون عليّ بن أبي طالب ولا يحبّوه، كما أنّهم لا يحبّون محمّداً، ولذا ترى هذا الجلف يدخل على النبي فلا يسلم ويناديه يامحمّد! وصدق اللّه أن يقول: { الأعْرَابُ أشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ } (المؤلّف).


الصفحة 198
رسول اللّه، وأناخ راحلته أمام باب المسجد، ودخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يامحمّد! إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه، فقبلنا منك ذلك، وأمرتنا أن نصلّي خمس صلوات في اليوم والليلة، ونصوم رمضان، ونحجّ البيت، ونزكّي أموالنا، فقبلنا منك ذلك، ثمّ لم ترضَ بهذا حتّى رفعتَ بضبعي ابن عمّك وفضّلته على الناس، وقُلتَ: "من كنتُ مولاه فعلي مولاه" فهذا شيء منك أو من اللّه؟

فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد احمرّتْ عيناه: "واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّه من اللّه وليس منّي" قالها ثلاثاً.

فقام الحارث وهو يقول: اللّهم إن كان مايقول محمّد حقّاً، فأرسل علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم.

قال: فواللّه مابلغ ناقته حتّى رماه اللّه من السماء بحجر، فوقع على هامته فخرج من دبره ومات، وأنزل اللّه تعالى: { سَألَ سَائِلٌ بِعَذَاب وَاقِـع * لِلْكَافِرينَ لَـيْسَ لَهُ دَافِـعٌ }(1).

وهذه الحادثة نقلها جمع غفير من علماء أهل السنّة غير الذين ذكرناهم(2)، فمن أراد مزيداً من المصادر فعليه بكتاب الغدير

____________

1- المعارج: 1 ـ 2.

2- راجع بألفاظه المختلفة: شواهد التنزيل للحسكاني 2: 381، تفسير الثعلبي: سورة سأل سائل بعذاب واقع، تفسير القرطبي 18: 278 أورده ضمن الأقوال في شأن نزولها، وكذلك في السيرة الحلبية 3: 385، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي 2: 369 ح55 عن الثعلبي، تذكرة الخواص لابن الجوزي: 37، نظم درر السمطين: 93، الفصول المهمة لابن الصباغ: 42، نور الأبصار للشبلنجي: 119 عن تفسير الثعلبي.


الصفحة 199
للعلاّمة الأميني(1).

الشاهد الثاني: يتعلّق بعقوبة من كَتم الشهادة بحادثة الغدير، وأصابته دعوة الإمام علي.

وذلك عندما قام الإمام عليّ أيام خلافته في يوم مشهود إذ جمع الناس في الرحبة ونادى من فوق المنبر قائلاً:

"أُنشد اللّه كلّ إمرى مسلم سمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم: (من كنتُ مولاه فعليّ مولاه) إلاّ قام فشهد بما سمع، ولا يقم إلاّ من رآه بعينيه وسمعه بأذنيه".

فقام ثلاثون صحابياً منهم ستّة عشر بدْرياً، فشهدوا إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيده، فقال للناس:

"أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: نعم، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "من كنتُ مولاه فهذا مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه... " الحديث.

ولكنّ بعض الصحابة ممّن حضروا واقعة الغدير أقعدهم الحسدُ أو

____________

1- الغدير 1: 460.


الصفحة 200
البُغْض للإمام، فلم يقوموا للشهادة ومن هؤلاء: أنس بن مالك، حيث نزل إليه الإمام علي من المنبر وقال له: "مالك يا أنس لا تقوم مع أصحاب رسول اللّه، فتشهد بما سَمعتَهُ منه يومئذ كما شهدوا"؟

فقال: يا أمير المؤمنين، كبُرتْ سنّي ونسيتُ.

فقال الإمام عليّ: "إن كنتَ كاذباً فضربك اللّه ببيضاء لا توَاريها العمامة"، فما قام حتّى ابيضّ وجهه برصاً، فكان بعد ذلك يبكي ويقول: أصابتني دعوة العبد الصالح لأنّي كتمتُ شهادته(1).

وهذه القصّة مشهورة ذكرها ابن قتيبة في كتاب المعارف(2) حيث عدّ أنساً من أصحاب العاهات في باب البرص، وكذلك الإمام أحمد بن حنبل في مسنده(3) حيث قال: "فقاموا إلاّ ثلاثة لم يقوموا فأصابتهم دعوته".

وتجدر الإشاره هنا بأن نذكر هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم الإمام

____________

1- نحوه باختلاف شرح الأخبار للقاضي النعمان 1: 232، الارشاد للمفيد 1: 351، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 74.

2- كتاب المعارف لابن قتيبة الدينوري: 580، باب البرص، الغدير للأميني 1: 388، ويذكر أنّ التعليق الوارد بعد النصّ بعدم قبول الحديث ليس من أصل الكتاب بل هو مضاف إليه، بدليل أنّ من نقل النصّ عن المعارف لم يذكر هذه الزيادة، ومضافاً إلى أن السياق يأباها.

3- مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 119، والرواية عن عبد اللّه بن أحمد.


الصفحة 201
أحمد برواية البلاذري، قال بعدما أورد مناشدة الإمام عليّ للشهادة: "وكان تحت المنبر أنس بن مالك، والبراء بن عازب، وجرير بن عبداللّه البجلي، فأعادها فلم يجبه منهم أحد، فقال: "اللّهم من كتم هذه الشهادة وهو يعرفها فلا تخرجه من الدنيا حتّى تجعل به آية يُعرف بها". قال: فبرصَ أنس بن مالك، وعَمىَ البراء بن عازب، ورجع جرير أعرابياً بعد هجرته، فأتى الشراة فمات في بيت أمّه"(1).

وهذه القصّة مشهورة تناقلها جمع كبير من المؤرخين(2).

{ فَاعْتَبِرُوا يَا اُولِي الأبْصَارِ } [ الحشر: 2 ].

والمتتّبع يعرف من خلال هذه الحادثة(3) التي أحياها الإمام عليّ بعد مرور ربع قرن عليها، وبعدما كادتْ تُنسَى، يعرف ماهي قيمة

____________

1- أنساب الأشراف للبلاذري: 157 ح169.

2- راجع بألفاظها المختلفة: تاريخ ابن عساكر المسمّى بتاريخ دمشق 42: 208، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد تحقيق محمد أبو الفضل 19: 217، المعجم الكبير للطبراني 5: 175، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي: 23، السيرة الحلبية 3: 385.

3- وهو مناشدة الإمام عليّ يوم الرحبة الصحابة ليشهدوا بحديث الغدير، وقد روى هذه الحادثة جمع غفير من المحدّثين والمؤرخين سبق الإشارة إليهم، أمثال: أحمد بن حنبل، وابن عساكر، وابن أبي الحديد، وغيرهم (المؤلّف).


الصفحة 202
الإمام عليّ وعظمته، ومدى علّو همّته وصفاء نفسه، وهو في حين أعطى للصّبر أكثر من حقّه، ونصح لأبي بكر وعمر وعثمان ما علم أنّ في نُصحهم مصلحة الإسلام والمسلمين، كان مع ذلك يحمِلُ في جنباته حادثة الغدير بكلّ معانيها، وهي حاضرة في ضميره في كلّ لحظات حياته، فما أن وجد فرصة سانحة لبعثها وإحيائها من جديد حتّى حمل غيره للشّهادة بها على مسمع ومرأى من الناس.

وانظر كيف كانت طريقة إحياء هذه الذكرى المباركة، وما فيها من الحكمة البالغة لإقامة الحجّة على المسلمين، من حَضر منهم الواقعة ومن لم يحضر، فلو قال الإمام: أيّها الناس لقد أوصى بي رسول اللّه في غدير خم على الخلافة، لما كان لذلك وقعاً في نفوس الحاضرين، ولاحتجوا عليه عن سكوته طوال تلك المدّة.

ولكنّه لما قال: أنشدُ اللّه كلّ إمرئ مسلم سمع رسول اللّه يقول ماقال يوم غدير خم إلاّ قام فشهد، فكانت الحادثة منقولة بحديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على لسان ثلاثين صحابياً، منهم ستّة عشر بدريّاً، وبذلك قطع الإمام الطريق على المكذّبين والمشكّكين، وعلى المحتجّين عن سكوته طوال تلك المدّة، لأنّ في سكوت هؤلاء الثلاثين معه وهم من عظماء الصحابة لدليل كبير على خطورة الموقف، وعلى أنّ السكوت فيه مصلحة الإسلام كما لا يخفى.


الصفحة 203

تعليق على الشورى


رأينا في ما سبق بأنّ الخلافة على قول الشيعة هي باختيار اللّه سبحانه، وتعيين رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وحي يوحى به إليه.

وهذا القول يتماشى تماماً مع فلسفة الإسلام في كلّ أحكامه وتشريعاته، إذ أنّ اللّه سبحانه هو الذي { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ }(1).

وبما أنّ اللّه سبحانه أراد أنّ تكون أُمّة محمّد خير أُمّة أُخرجت للنّاس، فلابدّ لها من قيادة حكيمة، رشيدة، عالمة، قويّة، شجاعة، تقية، زاهدة، في أعلى درجات الإيمان، وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن اصطفاه اللّه سبحانه وتعالى، وكيّفه بميّزات خاصّة تؤهّله للقيادة والزعامة، قال اللّه تعالى: { اللّهُ يَصْطَفِي مِنْ المَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }(2).

وكما أنّ الأنبياء اصطفاهم اللّه سبحانه فكذلك الأوصياء، وقد

____________

1- القصص: 68.

2- الحج: 75.


الصفحة 204
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "لكلّ نبيّ وصيّ، وأنا وصيّي عليّ بن أبي طالب"(1).

وفي حديث آخر قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا خاتم الأنبياء وعليّ خاتم الأوصياء"(2).

وعلى هذا الأساس فإنّ الشيعة سلّموا أمرهم للّه ورسوله، ولم يبق منهم من يدّعِ الخلافة لنفسه أو يطمع فيها، لا بالنصّ ولا بالاختيار:

أولاً: لأنّ النصّ ينفي الاختيار والشورى.

وثانياً: لأنّ النصّ قد وقع من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أشخاص معدودين ومعيّنين بأسمائهم(3)، فلا يتطاول إليها منهم متطاول، وإن فعل فهو فاسقٌ خارج عن الدين.

أمّا الخلافة عند أهل السنّة والجماعة فهي بالاختيار والشورى،

____________

1- تاريخ ابن عساكر الشافعي 42: 392، المناقب للخوارزمي: 83 ح 74، ينابيع المودة 2: 79 ح96 عن الديلمي، الرياض النضرة 4: 119 ح 1373 عن البغوي في معجمه.

2- ينابيع المودة 2: 73 ح 35 عن الديلمي.

3- روى العدد البخاري ومسلم ومضى تخريجه، وروى العدد والأسماء صاحب ينابيع المودّة 3: 281 الباب 76 في بيان الأئمة الاثني عشر بأسمائهم.


الصفحة 205
وبذلك فتحوا الباب الذي لا يمكن غلقه على أيّ واحد من الأُمّة، وأطمعوا فيها كلّ قاص ودان، وكل غث وسمين، وحتّى تحوّلت من قريش إلى الموالي والعبيد، وإلى الفرس والمماليك، وإلى الأتراك والمغول.

وتبخّرتْ تلك القيم والشروط التي اشترطوها في الخليفة; لأنّ غير المعصوم بشر مليء بالعاطفة والغرائز، وبمجرّد وصوله إلى الحكم لا يؤمن أن ينقلب ويكون أسوأ ممّا كان، والتاريخ الإسلامي خير شاهد على مانقول.

وأخشى أن يتصوّر بعض القرّاء بأنّني أُبالغ، فما عليهم إلاّ أن يتصفّحوا تاريخ الأمويين والعباسيين وغيرهم حتّى يعرفوا بأنّ من تَسَمّى أمير المؤمنين كان يتجاهر بشرب الخمر ويلاعب القرود ويلبسهم الذهب، وأنّ (أمير المؤمنين) يُلبس جاريتهُ لباسَه لتصلّي بالمسلمين، وأنّ (أمير المؤمنين) تموت جاريته حبّابَة فيسلبُ عقلهُ، وأن (أمير المؤمنين) يطربُ لشاعر فيقبّل ذكرّه.

ولماذا نستغرق في هؤلاء الذين حكموا المسلمين بأنّهم لا يمثّلون إلاّ الملك العضوض ولا يمثّلون الخلافة، وذلك للحديث الذي يروونه، وهو قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "الخلافة من بعدي ثلاثون

الصفحة 206
عاماً ثمّ تكون ملكاً عضوضاً"(1).

وليس هذا موضوع بحثنا، فمن أراد الاطلاع على ذلك فعليه مراجعة تاريخ الطبري، وتاريخ ابن الأثير، وأبي الفداء، وابن قتيبة وغيرهم.

وإنّما أردتُ بيان مساوئ الاختيار وعقم النظرية من أساسها; لأنّ من نختاره اليوم قد ننقم عليه غداً، ويتبيّن لنا بأنّنا أخطأنا ولم نُحسن الاختيار، كما وقع ذلك لعبدالرحمن بن عوف نفسه عندما اختار للخلافة عثمان بن عفّان وندم بعد ذلك، ولكن ندمه لم يُفد الأُمّة شيئاً بعد توريطها.

وإذا كان صحابي جليل من الرعيل الأوّل، وهو عثمان، لا يفي بالعهد الذي أعطاه لعبدالرحمن بن عوف، وإذا كان صحابي جليل من الرعيل الأوّل، وهو عبدالرحمن بن عوف، لا يُحسن الاختيار، فلا يمكنُ لعاقل بعد ذلك أن يرتاح لهذه النظرية العقيمة، والتي ماتولّد عنها إلاّ الاضطراب وعدم الاستقرار وإراقة الدّماء.

فإذا كانت بيعة أبي بكر فلتةً، كما وصفها عمر بن الخطاب، وقد وقى اللّه المسلمين شرّها، وقد خالف وتخلّف عنها جمع غفير من

____________

1- صحيح ابن حبان 15: 392، فتح الباري 8: 61، سير أعلام النبلاء 3: 157، البداية والنهاية 3: 266.


الصفحة 207
الصحابة، وإذا كانت بيعة عليّ بن أبي طالب بعد ذلك على رؤوس الملأ، ولكنّ بعض الصحابة نكث البيعة، وانجرّ عن ذلك حرب الجمل، وحرب صفين، وحرب النهروان، وزهقت فيها أرواح بريئة، فكيف يرتاح العُقلاء بعد ذلك لهذه القاعدة التي جُرّبتْ وفشلتْ فشلاً ذريعاً من بدايتها، وكانتْ وبالاً على المسلمين، وبالخصوص إذا عرفنا أنّ هؤلاء الذين يقولون بالشورى يختارون الخليفة، ولا يقدرون بعد ذلك على تبديله أو عزله، وقد حاول المسلمين جهدهم عزل عثمان فأبى قائلاً: لا أنزع قميصا قمّصنيه اللّه(1)؟!

وممّا يزيدنا نفوراً من هذه النظرية ما نراه اليوم في دول الغرب المتحضّرة، والتي تزعم الديمقراطية في اختيار رئيس الدولة، وترى الأحزاب المتعدّدة تتصارع وتتساوم وتتسابق للوصول إلى منصّة الحكم بأيّ ثمن، وتصرف من أجل ذلك البلايين من الأموال التي تخصّص للدّعاية بكلّ وسائلها، وتُهدر طاقات كبيرة على حساب المستضعفين من الشعب المسكين الذي قد يكون في أشدّ الحاجة إليها، وما إن يصل أحدُهم إلى الرئاسة حتى تأخذه العاطفة، فُيولّي أنصاره وأعضاء حزبه وأصدقاءه وأقاربه في مناصب الوزراء والمسؤوليات العظمى والمراكز المهمّة في الإدارة، ويبقى الآخرون

____________

1- تاريخ الطبري 3: 405.


الصفحة 208
يعملون في المعارضة مدّة رئاسته المتفق عليها أيضاً، فيخلقون له المشاكل والعراقيل، ويحاولون جهدهم فضحهُ والإطاحة به، وفي كلّ ذلك خسارة فادحة للشعب المغلوب على أمره.

فكم من قيم إنسانية سقطتْ، وكم من رذائل شيطانية رُفِعتْ باسم الحرية والديمقراطية وتحت شعارات برّاقة، فأصبح اللواط قانوناً مشروعاً، والزنا بدلاً من الزواج تقدّماً ورُقياً، وحدّث في ذلك ولا حرج.

فما أعظم عقيدة الشيعة في القول بأنّ الخلافة أصل من أُصول الدين، وما أعظم قولهم بأنّ هذا المنصب هو باختيار اللّه سبحانه، فهو قولٌ سديدٌ ورأيٌ رشيد يقبله العقل ويرتاح إليه الضمير، وتؤيّده النصوص من القرآن والسنّة، ويُرغم أُنوف الجبابرة والمتسلّطين، والملوك والسلاطين، ويفيض على المجتمع السكينة والاستقرار.


الصفحة 209

الاختلاف في الثقلين


عرفنا فيما سبق ومن خلال الأبحاث المتقدّمة رأي الشيعة وأهل السنّة في الخلافة، وما فعله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه الأُمّة على قول الفريقين.

فهل ترك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لأُمّته شيئاً تعتمد عليه وترجع إليه في ما قد يقع فيه الخلاف الذي لابدّ منه، والذي سجّله كتاب اللّه بقوله تعالى:

{ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإنْ تَـنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأوِيلا }(1)؟!

نعم، لابدّ للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يترك للأُمّة قاعدة ترتكز عليها، فهو إنّما بُعث رحمة للعالمين، وهو حريصٌ على أن تكون أُمّته خير الأُمم ولا تختلف بعده، ولهذا روى عنه أصحابه والمحدّثون بأنّه قال:

____________

1- النساء: 59.


الصفحة 210
"تركتُ فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا علىَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما".

وهذا الحديث صحيح ثابت أخرجه المحدّثون من الفريقين السنّة والشيعة، ورووه في مسانيدهم وفي صحاحهم عن طريق مايزيد على ثلاثين صحابياً.

وبما أنّني وكالعادة لا أحتج بكتب الشيعة ولا بأقوال علمائهم، فكان لزاماً عليَّ أن أذكر فقط علماء السنّة الذين أخرجوا حديث الثقلين معترفين بصحته حتى يكون البحث دائماً موضوعياً يتصف بالعدل والإنصاف (وإن كان العدل والإنصاف يقتضي ذكر قول الشيعة أيضاً).

وهذه قائمة وجيزة عن رواة هذا الحديث من علماء السنّة:

1 ـ صحيح مسلم، كتاب فضائل علي بن أبي طالب 7: 122.

2 ـ صحيح الترمذي 5: 328.

3 ـ الإمام النسائي في خصائصه: 21.

4 ـ الإمام أحمد بن حنبل 3: 17.

5 ـ مستدرك الحاكم 3: 109.

6 ـ كنز العمّال 1: 154.


الصفحة 211
7 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 194.

8 ـ جامع الأُصول لابن الأثير 1: 187.

9 ـ الجامع الصغير للسيوطي 1: 353.

10 ـ مجمع الزوائد للهيثمي 9: 163.

11 ـ الفتح الكبير للنبهاني 1: 451.

12 ـ أُسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير 2: 12.

13 ـ تاريخ ابن عساكر 5: 436.

14 ـ تفسير ابن كثير 4: 113.

15 ـ التاج الجامع للأُصول 3: 308.

أضف إلى هؤلاء ابن حجر الذي ذكره في كتابه الصواعق المحرقة معترفاً بصحته(1)، والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته على شرط الشيخين(2)، والخوارزمي الحنفي(3)، وابن المغازلي الشافعي(4)، والطبراني في معجمه(5)، وكذلك صاحب السيرة النبوية في هامش

____________

1- الصواعق المحرقة 2: 437 (الآية الرابعة من الآيات الواردة في فضلهم).

2- راجع المستدرك للحاكم مع تلخيص الذهبي3: 109، كتاب معرفة الصحابة، باب مناقب أهل بيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).

3- المناقب للخوارزمي: 154 ح182.

4- المناقب لابن المغازلي: 234.

5- المعجم الكبير 3: 65 ح 2678.


الصفحة 212
السيرة الحلبية، وصاحب ينابيع المودة(1) وغيرهم...

فهل يجوز بعد هذا أن يدّعي أحد أن حديث الثقلين "كتاب اللّه وعترتي" لا يعرفه أهل السنّة، وإنما هو من موضوعات الشيعة؟!

قاتل اللّه التعصّب والجمود الفكري والحميّة الجاهلية.

إذن، فحديث الثقلين الذي أوصى فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسّك بكتاب اللّه وعترته الطاهرة، هو حديث صحيح عند أهل السنّة كما مرّ علينا، وعند الشيعة هو أكثر تواتراً وسنداً عن الأئمة الطاهرين.

فلماذا يشكّك البعض في هذا الحديث، ويحوّلون جهدهم أن يبدّلوه بـ "كتاب اللّه وسنّتي"؟! ورغم أنّ صاحب كتاب "مفتاح كنوز السنّة" يخرّج في صفحة 478 بعنوان "وصيّته (ص) بكتاب اللّه وسنّة رسوله" نقلاً عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة، غير أنّك إذا بحثت في هذه الكتب الأربعة المذكورة فسوف لن تجد إشارة من قريب أو من بعيد إلى هذا الحديث، نعم قد تجد في البخاري "كتاب الاعتصام في الكتاب والسنّة" ولكنّك لاتجد لهذا الحديث وجوداً!!

وغاية مايوجد في صحيح البخاري وفي الكتب المذكورة

____________

1- ينابيع المودة 1: 99 ح13.