الصفحة 273

التقليد


يقول الشيعة: أمّا فروع الدين، وهي أحكام الشريعة المتعلّقة بالأعمال العبادية: كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، فالواجب في أحكامها أحد الأُمور الثلاثة:

أ ـ أن يجتهد وينظر الإنسان في أدلّة الأحكام إذا كان أهلاً لذلك.

ب ـ أو أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط.

ت ـ أو أن يقلّد المجتهد الجامع للشرائط، بأن يكون من يقلّده حيّاً عاقلاً، عادلاً، عالماً، صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه.

والاجتهاد في الأحكام الفرعيّة واجب كفائي على جميع المسلمين، فإذا نهض به من اجتمعت فيه الشروط سقط عن باقي المسلمين، فيجوز لهم تقليده والرجوع إليه في فروع دينهم; لأنّ رتبة الاجتهاد ليست من الأُمور الميسورة ولا هي في متناول الجميع، بل تحتاج إلى كثير من الوقت والعلوم والمعارف والاطّلاع، وهذا لا يتهيأ إلاّ لمن جدَّ وكدّ وأمضى عمره في البحث والتعلّم، ولا ينال

الصفحة 274
الاجتهاد إلاّ ذو حظٌ عظيم.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أراد اللّه به خيراً فَقّههُ في الدينِ"(1).

وقول الشيعة هذا لا يختلف عن قول أهل السنّة والجماعة، إلاّ في شرط حياة المجتهد.

غير أنّ الخلاف الواضح بينهم هو في العمل بالتقليد، إذ أنّ الشيعة يعتقدون بأنّ المجتهد الجامع للشروط المذكورة هو نائب للإمام (عليه السلام) في حال غيبته، فهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضاء والحكومة بين الناس والرادّ عليه رادّ على الإمام.

فليس المجتهد الجامع للشروط عند الشيعة مرجعاً يرجع إليه في الفتيا فحسب، بل إنّ له الولاية العامّة على مقلّديه، فيرجعون إليه في الأحكام والفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من القضاء، ويعطونه الزكاة وخُمس أموالهم، يتصرّف بها كما تفرضه عليه الشريعة نيابة عن إمام الزمان (عليه السلام).

أمّا عند أهل السنّة والجماعة فليس للمجتهد هذه المرتبة، ولكنّهم يرجعون في المسائل الفقهية لأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب، وهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل.

والمعاصرون من أهل السنّة قد لا يلتزمون بتقليد واحد من

____________

1- الأمالي للمفيد: 158 ح9، سننن الترمذي 4: 137 ح2783.


الصفحة 275
هؤلاء على سبيل التعيين، فقد يأخذون بعض المسائل من أحدهم والبعض الآخر من غيره حسبما تقتضيه حاجتهم، كما فعل ذلك السيد سابق الذي ألّفَ فِقْهاً مأخوذاً من الأربعة; لأنّ أهل السنّة والجماعة يعتقدون بأنّ الرحمة في اختلافهم، فللمالكي مثلاً أن يأخذُ برأي أبي حنيفة إذا وجدَ حلاً لمشكلته قد لا يجده عند مالك(1).

____________

1- اختلفت أقوال أهل السنّة في هذا الأمر:

قال النووي في المجموع 1: 88 المسألة الثالثة من آداب المستفتي: "هل يجوز للعامي أن يتخيّر ويقلّد أي مذهب شاء؟ قال الشيخ: ينظر إن كان منتسباً إلى مذهب بنيناه على وجهين ـ حكاهما القاضي حسين: في أنّ العامي هل له مذهب أم لا؟ ـ أحدهما: لا مذهب له لأنّ المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما، والثاني: ـ وهو الأصح عند القفال ـ له مذهب فلا يجوز له مخالفته...

وإن لم يكن منتسباً، بني على وجهين ـ حكاهما ابن برهان: في أنّ العامي هل يلزمه أن يتذهّب بمذهب معيّن يأخذ برخصة وعزائمه؟ ـ أحدهما: لا يلزمه... فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء، أم يجب عليه البحث عن أشدّ المذاهب وأصحّها أصلا ليقلد أهله؟ فيه وجهان... والثاني: يلزمه، وبه قطع أبو الحسن الكيّا، وهو جار في كلّ من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم".

فالمسألة إذاً خلافية بينهم، هذا من حيث النظر والتأمل، أمّا من حيث العمل فهم كما قال الشاطبي في الموافقات 4: 77: "وقد أدّى إغفال هذا الأصل [ أي أنّ الشريعة كلّها ترجع إلى قول واحد في فروعها وان كثر الخلاف كما أنّها في أُصولها كذلك ] إلى أن صار كثير من مقلّدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال إتباعاً لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق، ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب إتباعاً للغرض والشهوة...".

ثمّ ذكر عدّة حكايات تتعلّق بالموضوع إلى أن قال:

"وذكر ابن باجي في كتاب التبيين لسنن المهتدين... وربما زعم بعضهم أنّ النظر والاستدلال الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيّها شاء دون أن يخرج عنها ولايميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك، فيقضي في قضية بقول مالك، وإذا تكرّرت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفاً للقول الأول لا لرأي تجدّد له... وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدّم أنّه كان يقول معلناً غير مستتر أنّ الذي لصديقي عليّ إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه...".

والغرض من هذا العرض السريع إنّما هو بيان الاختلاف والاضطراب الذي وقعوا فيه، وليس ذلك إلاّ للبعد عن هدي الثقلين.

فما ذكره في كشف الجاني: 159 ناشئ من قلّة الاطلاع والمجادلة بغير حقّ. أضف إلى أن المؤلّف لم يقل بأنّ المالكي يحقّ له الأخذ بمذهب الحنفي حتى لو كان لديه حلّ لمشكلته عند المذهب المالكي، وإنّما قيّد بقوله: (إذا وجد حلاّ لمشكلته قد لا يجده عند مالك)، وعليه فالمؤلّف عبارته سلمية وواضحة جداً، لا كما حاول عثمان الخميس إيهام القارئ بأنّ المؤلّف افترى هذا الكلام على أهل السنّة وأخذ بنقل عبارات لا ربط لها بالموضوع.


الصفحة 276

الصفحة 277
وأضربُ لذلك مثلاً حتّى يتبينّ للقارئ فيفهم المقصود: كان عندنا في تونس (في وقت المحاكم القضائية) فتاةٌ بالغة أحبّتْ رجُلاً وأرادتْ الزواج منه، ولكنَّ أباها رفض أن يزوجَها من هذا الشاب لسبب "اللّه أعلم به"، فهربت الفتاة من بيت أبيها وتزوّجتْ ذلك الشاب بدون إذن أبيها، ورفع الأب شكوى ضِدَّ الزوج.

ولّما حَضرَتْ الفتاة وزوجها لدى القاضي، وسألَها عن السبب في الهروب من البيت والزواج بدون إذن وليّها، قالتْ: سيّدي، أنا عمري خمسة وعشرون عاماً، وأحبْبتُ الزواج من هذا الرجل على سنّة اللّه ورسوله، ولأنّ أبي يريد أن يزوّجني بمن أكره، فتزوّجتُ على رأي أبي حنيفة الذي يعطيني حقّ الزواج بمن أحبّ لأنىّ بالغة.

يقول القاضي رحمة اللّه عليه (روى لي بنفسه هذه القصّة): "فجئنا في المسألة فوجدناها على حقّ، وأعتقد بأنّ أحد العلماء المطّلعين هو الذي لَقّنَها ماذا تقول". يقول هذا القاضي: فرددتُ دعوة الأب وأمضيتُ الزواج، فخرج الأب غَاضباً يضرب يديه على بعضها ويقول: "حَنّفَتْ الكَلْبَة" أي إن ابنته تركت مالك واتبعتْ أبا حنيفة، وكلمة الكلبة فيها إهانة لابنته التي قال فيما بعد بأنّه يتبرّأ منها.

والمسألة هي اختلاف في اجتهاد المذاهب، فبينما يرى مالك إنّ الفتاة البكر لا يصحّ زواجها إلاّ بإذن ولي الأمر وحتى إذا كانت ثيباً، فهو شريكها في الزواج فلا تنفرد به وحدها ولابدّ من موافقته، يرى

الصفحة 278
أبو حنيفة: إنّ البالغة بكراً كانتْ أم ثيباً، لها أن تنفرد باختيار الزوج، وأن تنشئ العقد بنفسها(1).

فهذه المسألة الفقهيّة فرّقتْ بين الأب وابنته حتّى تبرّأ منها، وكثيراً ماكان الآباء يتبرّؤون من بناتهم لعدّة أسباب، منها: الهروب من البيت مع رجُل تحبُّ الزواج منه. ولهذا التبرّئ عواقب وخيمة، إذ أنّ الأب يلجأ في أغلب الأحيان إلى حرمان ابنته من الميراث وتبقى الفتاة عدوّة للإخوة الذين يتبرّؤون بدورهم من أُختهم التي جلبت لهم العار.

فليست القضية ـ إذن ـ كما يقول أهل السنّة بأنّ في اختلافهم رحمة، أو على الأقلّ ليست الرحمة في كلّ القضايا الخلافية.

ويبقى بعد هذا خلاف آخر بينهما ألا وهو تقليّد الميّت، فأهل السنّة يقلّدون أئمةً ماتوا منذ قرون، وأغلق عندهم باب الاجتهاد من ذلك العهد، وكلّ من جاء بعدهم من العلماء اقتصروا على الشروح والمدوّنات شعراً ونثراً لفِقه المذاهب الأربعة، وقد تعالت أصوات المنادين من بعض المعاصرين بِفَتحِ الباب والرجوع للاجتهاد، لما تقتضيه مصلحة الزّمان، ولما استجدّ من أمور كانت مجهولة في زمن الأئمة الأربعة.

____________

1- راجع كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري 4: 34.


الصفحة 279
أمّا الشيعة فلا يجوّزون تقليد الميّت، ويرجعون في كلّ أحكامهم إلى المجتهد الحي الجامع للشروط التي ذكرناها سابقاً، وذلك بعد غيبة الإمام المعصوم، والذي كلّفهم بالرجوع إلى العلماء العدول في زمن غيبته وحتّى ظهوره.

فالسنّي المالكي مثلاً يقول: هذا حلال وهذا حرام على قول الإمام مالك، وهو ميّت منذ أكثر من اثني عشر قرناً، وكذلك يقول السنّي الحنفي والشافعي والحنبلي; لأنّ الأئمة عاشوا في عصر واحد وتتلمذ بعضهم على بعض.

كما لا يعتقد السنّي في عِصمة هؤلاء الأئمة الذين لم يدّعوها لأنفسهم، بل جوّزوا عليهم الخطأ والصواب، ويقولون بأنّهم مأجورون في كلّ اجتهاداتهم، فلهم أجران إن أصابوا ولهم أجرٌ واحد إذا أخطاؤا.

والشيعي الإمامي مثلاً عنده مرحلتان في التقليد.

المرحلة الأولى: وهي زمن الأئمة الاثني عشر، وقد امتدّت هذه المرحلة ثلاثة قرون ونصف تقريباً، وفيها كان الشيعي يقلّد الإمام المعصوم الذي لا يقول برأيه واجتهاده، وإنّما بعلم وروايات توارثها عن جدّه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول في المسألة: روى أبي، عن جدّي، عن جبرئيل، عن اللّه عَزَّ وَجلّ.


الصفحة 280
المرحلة الثانية: وهي زمن الغيبة التي امتدّت حتى اليوم، فالشيعي يقول: هذا حلال وهذا حرام على رأي السيّد الخوئي أو السيّد الخميني مثلاً، وكلاهما حىّ، ورأيهما لا يتعدّى الاجتهاد في استنباط الأحكام من نصوص القرآن والسنّة على روايات أئمة أهل البيت أولاً، ثمّ الصحابة العدول ثانياً.

وهم عندما يبحثون في روايات أئمة أهل البيت بالدرجة الأُولى، ذلك لأنّ هؤلاء الأئمة يرفضون استعمال الرأي في الشريعة ويقولون: ما من شيء إلاّ وللّه فيه حكم، فإذا ما فقدنا حكماً في مسألة ما فليس ذلك يعني أنّ اللّه سبحانه أهمله، ولكن قُصُورِنا وجَهْلِنا لم يصلا بنا إلى معرفة الحكم، فالجهل بالشيء وعدم معرفته ليس دليلاً على عدمه، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْء }(1).

____________

1- الأنعام: 38.


الصفحة 281

العقائد التي يُشنّع بها أهل السنّة على الشيعة


ومن العقائد التي يُشّنع بها أهل السنّة على الشيعة ما هو من محض الشغب المقيت الذي أولده الأمويّون والعبّاسيون في صدر الإسلام، بما كانوا يحقدون على الإمام عليّ ويبغضونه، حتّى لعنوه على المنابر أربعين عاماً.

فلا غرابة أنْ يشتموا كلّ من تَشيّعَ له ويرموه بكلّ عار وشنار، حتى وصل الأمر بهم أن يقال لأحدهم يهودي أحبّ إليه من أن يقال له شيعي. ودأَب أتباعهم على ذلك في كلّ عصر ومصر، وأصبح الشيعي مسبّة عند أهل السنّة والجماعة; لأنّه يخالفهم في معتقداتهم وخارج عن جماعتهم، فهم يقذفونه بما شاؤوا، ويرمونه بكلّ التّهم، وينبزونه بشتّى الألقاب، ويخالفونه في كلّ أقواله وأفعاله.

ألا ترى بأنّ بعض علماء أهل السنّة المشهورين يقولون: "بأنّ لبس الخاتم في اليد اليمنى هو سنّة نبوية، ولكن يجبُ تركُهَا لأنّ الشيعة اتخذوا ذلك شعاراً لهم".

وهذا حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي يقول: إنّ تسطيح القبور هو

الصفحة 282
المشروع في الدين، لكن لّما جعلته الرافضة شعاراً لهم عدلنا عنه إلى التسنيم(1).

وهذا ابن تيمية الموصوف بالمصلح المجدّد عند بعضهم يقول: ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذ صارت شعاراً لهم ـ أى للشيعة ـ فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلا يتميّز السنّي من الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحبّ(2).

وقال الحافظ العراقي عندما تساءل عن كيفيّة إسدال العمامة: لم أرَ مايدلّ على تعيين الأيمن إلاّ في حديث ضعيف عند الطبراني، وبتقدير ثبوته فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن ثمّ يردّها إلى الجانب الأيسر كما يفعله بعضهم، إلاّ أنّه صارَ شعاراً للإماميّة فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم(3).

سبحان اللّه! ولا حول ولا قوّة إلا باللّه! انظر أخي القارئ إلى هذا

____________

1- راجع كتاب الصراط المستقيم للبياضي 3: 206، وكتاب الغدير للأميني 10: 210.

2- منهاج السنّة لابن تيمية 4: 154 في الردّ على الوجه الخامس للعلاّمة الحلّي في بيان وجوب اتّباع مذهب الحقّ.

3- شرح المواهب للزرقاني 5: 13.


الصفحة 283
التعصّب الأعمى كيف يُجيز لهؤلاء "العلماء" أن يخالفوا سنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ الشيعة تمسّكتْ بتلك السنن حتّى صارت شعاراً لهم، ثمّ هم لا يتحرّجون من الاعتراف بذلك صراحة.

وأنا أقول: الحمد للّه الذي أظهر الحقّ لذي عينين ولكلّ مخلص يبحث عن الحقيقة، الحمد للّه الذي أظهر لنا بأنّ الشيعة هُمُ الذين يتبعون سنّة رسول اللّه وذلك بشهادتكم أنْتُم! كما شهدتم على أنفسكم بأنّكم تركتُم سنّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عمداً لتخالفوا بذلك أئمة أهل البيت وشيعتهم المخلصين، واتبعتم سنّة معاوية بن أبي سفيان، كما شهد بذلك الإمام الزمخشري عندما أثبت إن أوّل من تختّم باليسار خلاف السنّة النبوية هو معاوية بن أبي سفيان(1).

واتبعتُم سنّة عمر في بدعته للتراويح خِلافاً للسنّةِ النبوية التي أمرت المسلمين بصلاة النافلة في بيوتهم فُرادى لا جماعة، كما أثبت ذلك البخارىُ في صحيحه(2) وكما اعترف عمر نفسه بأنّها بدعة ابتدعها مع أنّه لم يصلها لأنّه لا يؤمن بها.

فقد جاء في البخاري عن عبدالرحمن بن عبدالقارىّ أنّه قال:

____________

1- الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار 4: 24.

2- صحيح البخاري7: 98، كتاب الأدب، باب 75 ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر اللّه عزّ وجلّ.


الصفحة 284
خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاع متفرّقون يصلّي الرجلُ لنفسه، ويصلّي الرجلُ فيُصَلَّي بصلاته الرهطُ، فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عَزمَ فجمعهم على أُبي بن كعب، ثمّ خرجتُ معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمرُ: نعم البدعةُ هذه...(1).

ومن المستغرب عدّها نعمة بعد نهي الرسول عنها!! وذلك عندما رفعوا أصواتهم وَحَصّبوا بابَهُ ليصلّي بهم نافلة رمضان، فخرج إليهم مغضباً فقال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم):

"مازال بكم صنيعكم حتّى ظننتُ أنّه سيكتَبُ عليكم، فعليكم في الصلاة في بيوتكم فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة"(2).

كما اتّبعتم سنّة عثمان بن عفّان، وهي إتمام صلاة السفر خلافاً لسنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي صلاّها قصراً(3).

____________

1- صحيح البخاري2: 252، كتاب صلاة التراويح، باب فضل ليلة القدر.

2- صحيح البخاري7: 98، كتاب الأدب، باب 75 ما يجوز من الغصب والشدة لأمر اللّه عزّ وجل.

3- صحيح البخاري2: 34، كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، وفي الباب الخامس أيضاً من نفس الكتاب: "أنّ عائشة أتمت الصلاة في السفر كما أتمّها عثمان، وقد خالفا بذلك سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ".


الصفحة 285
ولو أردت أن أُحصي ما خالفتُم به سنّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لاستوجب ذلك كتاباً خاصّاً، ولكن تكفي شهادتكم في ما أقررتم به على أنفسكم، وتكفي شهادتكم أيضاً بإقراركم بأنّ الشيعة الروافض هم الذين اتّخذوا سنّة النبي شعاراً لهم.

أفبعد هذا يبقى دليل على قول الجهلة الذين يدّعون بأنّ الشيعة اتّبعوا علي بن أبي طالب، أمّا أهل السنّة فإنّهم اتّبعوا رسول اللّه؟ أيريد هؤلاء أن يثبتوا بأنّ عليّاً خالفَ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وابتدع ديناً جديداً؟ كبُرت كلمة تخرجُ من أفواههم، فعليّ هو محض السنّة النبوية، وهو مفسّرُها والقائم عليها، وقد قال فيه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم):

"عليّ منّي بمنزلتي من ربّي"(1).

أي كما أنّ محمّداً هو الوحيد الذي يُبلّغُ عن ربّه، فعلىٌ هو الوحيد الذي يبلّغ عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّ ذنب عليّ هو إنّه لم يعترف بخلافة من قبله، وذنبُ شيعته أنّهم اتّبعوه في ذلك، فرفضوا أن ينْضَوُوا تحت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولذلك سمّوهم

____________

1- المناقب للخوارزمي: 297 ح292، ذخائر العقبى: 64، وورد بلفظ: "عليّ منّي بمنزلة رأسي من بدني"، وفي تاريخ بغداد 7: 13، والجامع الصغير 2: 177، وكنز العمال 11: 603 ح32914، والصواعق المحرقة 2: 366 (في فضائل علي (عليه السلام)).


الصفحة 286
"الروافض".

فإذا أنكر هؤلاء السنّة على معتقدات الشيعة وأقوالهم فهو لسببين:

أوّلهما: العداء الذي أجج ناره حُكّام بني أُميّة بالأكاذيب والدعايات واختلاق الروايات المزوّرة.

وثانيهما: لأنّ معتقدات الشيعة تتنافى وما ذهبوا إليه من تأييد الخلفاء، وتصحيح أخطائهم واجتهاداتهم مقابل النصوص، خصوصاً حكّام بني أُميّة وعلى رأسهم معاوية ابن أبي سفيان.

ومن هنا يجد الباحث المتتبع أنّ الخلاف بين الشيعة وأهل السنّة نشأ يوم السقيفة وتفاقم، وكلّ خلاف جاء بعده فهو عيالٌ عليه، وأكبر دليل على ذلك أنّ العقائد التي يُشنّع أهل السنّة على إخوانهم من الشيعة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع الخلافة وتتفرّع منه، كعدد الأئمة، والنص على الإمام، والعصمة، وعلم الأئمة، والبداء، والتقية، والمهدي المنتظر، وغير ذلك.

ونحن إذا بحثنا في أقوال الطرفين مجرّدين من العاطفة، فسوف لا نجد بُعداً شاسعاً بين معتقداتهم، ولا نجدُ مُبرّراً لهذا التهويل وهذا التشنيع; لأنّك عندما تقرأ كتب السنّة الذين يشتمون الشيعة، يخيّل إليك بأنّ الشيعة ناقضوا الإسلام، وخالفوه في مبادئه وتشريعه،

الصفحة 287
وابتدعوا ديناً آخر! بينما يجد الباحث المنصف في كلّ عقائد الشيعة أصْلاً ثابتاً في القرآن والسنّة، وحتّى في كتب من يُخالفهم في تلك العقائد ويُشنّع بِها عليهم.

ثمّ ليس هناك في تلك العقائد مايخالف العقل أو النقل أو الأخلاق، وليتبَينّ لك أيها القارئ اللبيب صحّة ما أدّعيه سأستعرض معك تلك العقائد.


الصفحة 288

الصفحة 289

العصمة


يقول الشيعة: ونعتقدُ أنّ الإمام كالنّبي يجبُ أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سنّ الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً.

كما يجبُ أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان; لأنّ الأئمة حفظة الشرع والقوّامين عليه، حالهم في ذلك حال النبي، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق(1).

نعم، هذا كما نرى هو رأي الشيعة في موضوع العصمة، فهل فيه ما ينافي القرآن والسنّة؟ أو مايقول العقل باستحالته؟ أو مايشين الإسلام ويُسيء إليه؟ أو ما يُنقصُ قدر النّبي أو الإمام؟

حاشا وكلاّ، لم نجد في هذا القول إلاّ التأييد لكتاب اللّه وسنّة نبّيه، وما يتماشى مع العقل السليم ولا يناقضه، وما يرفع من قيمة

____________

1- عقائد الإمامية للمظفر: 75 (العقيدة رقم 24).


الصفحة 290
النبي والإمام ويشرّفه.

ولنبدأ بحثنا في استقراء القرآن الكريم.

قال تعالى: { إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }(1).

فإذا كان إذهاب الرجس الذي يشمل كلّ الخبائث، والتطهير من كلّ الذنوب لا يفيد العصمة، فما هو المعنى إذن؟

يقول اللّه تعالى:

{ إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ }(2).

فإذا كان المؤمن التقي يعصمه اللّه من مكايد الشيطان إذا حاول استفزازه وإضلاله، فيتذكّر ويبصر الحقّ فيتّبعه، فما بالك بمن اصطفاهم اللّه سبحانه وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟

ويقول تعالى: { ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا }(3) والذي يصطفيه اللّه سبحانه يكون بلا شكّ معصوماً من الخطأ، وهذه الآية بالذات هي التي احتجّ بها الإمام الرضا من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على العلماء الذين جمعهم الخليفة العبّاسي المأمون

____________

1- الأحزاب: 33.

2- الأعراف: 201.

3- فاطر: 32.


الصفحة 291
ابن هارون الرشيد، وأثبت لهم بأنّهم (أي أئمة أهل البيت) هم المقصودون بهذه الآية، وبأنّ اللّه اصطفاهم وأورثهم علم الكتاب، واعترفوا له بذلك(1).

____________

1- راجع عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق 2: 208 ح1، والأمالي: 615 ح843.

ولا يخفى أنّ كلمة الاصطفاء استعملت في القرآن بعدّة معاني:

منها: ما لا يدلّ على العصمة.

ومنها: ما يدلّ عليها.

فمن القسم الأوّل: قوله تعالى حكاية عن نبيّه في حقّ طالوت: { إنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة: 247 ]، فالاصطفاء هنا بمعنى الاختيار للملك، والملك لا يحتاج العصمة، بل يحتاج العلم والقوةّ، أمّا العصمة فهي خاصّة بمن يريد إبلاغ شيء عن اللّه تعالى، أمّا الملوك فهم حكّام وليسوا برسل ولا أنبياء، والآية جاءت ردّاً لقول المعترضين حيث قالوا: { أنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ... }.

ومن القسم الثاني: أي الاصطفاء الدالّ على العصمة قوله تعالى: { يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي... } [ البقرة: 144 ]، وقوله تعالى: { إنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ } [ آل عمران: 33 ]، كما قد استدلّ الفخر الرازي في كتابه على عصمة الأنبياء ص30 بهذه الآيات على وجوب عصمة الأنبياء، ثمّ قال: "لا يقال الاصطفاء لا يمنع من فعل الذنب، بدليل قوله تعالى: { ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللّهِ } قسّم المصطفين إلى الظالم والمقتصد والسابق، لأنّا نقول الضمير في قوله: { فَمِنْهُمْ } عائد إلى قوله: { مِنْ عِبَادِنَا } لا إلى قوله: { الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا }، لأن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب".

وقال الطباطبائي في تفسير الميزان 17: 45 بعد ذكر الأقوال في الآية: { ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } قال: "وقيل: وهو المأثور عن الصادقين (عليهما السلام) في روايات كثيرة مستفيضة أنّ المراد بهم ذريةّ النبي (صلى الله عليه وآله) من أولاد فاطمة (عليها السلام)... وقد نصّ النبي (صلى الله عليه وآله) على علمهم بالقرآن وإصابة نظرهم فيه وملازمتهم إياه بقوله في الحديث المتواتر المتفق عليه: إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، وعلى هذا فالمعنى: بعدما أوحينا إليك القرآن ـ ثم للتراخي الرتبي ـ أورثنا ذريتك إياه، وهم الذين اصطفينا من عبادنا...".

والذي يؤيّد كون الآية بالتفسير الشيعي اضطراب أهل السنّة في تفسيرها; لأنّهم أرجعوا ضمير { فمنهم } إلى الوارثين، ومن جانب آخر فسّر الظالم لنفسه بالكافر، فيكون الكافر وارثاً للكتاب، وهذا لا يمكن الأخذ به، ولأجل ذلك قال القرطبي في تفسـيره بعد أن ذكره الآية: "فيه أربع مسائل: الأولية هذه الآية مشكلة; لأنه قال عزّ وجل: { اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } ثمّ قال: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ }، وقد تكلّم العلماء فيها من الصحابة والتابعين... قال النحاس: فمن أصـح ما روي في ذلك ; ما روي عن ابن عباس { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } قال: الكافر.." الجامع لأحكام القرآن 14: 221.

وبما أنّ الكافر لا يمكن أن يكون وارثاً للكتاب; لأنّه يجحده وينكره، فلابدّ من أن تكون الوراثة لأناس مطهرّين مصطفين من اللّه سبحانه وتعالى، وأُولئك هم أهل البيت عترة النبي (صلى الله عليه وآله).

وبعد ما عرضنا من الإيضاح للآية المباركة، يكون ما ذكره في كشف الجاني: 160 مجانباً للصواب وبعيداً عن الأُسس العلمية الرصينة.


الصفحة 292

الصفحة 293
هذه بعض الأمثلة ممّا جاء في القرآن الكريم، وهناك آياتٌ أُخرى تفيد العصمة للأئمة كقوله: { أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنَا }(1) وغيرها، ولكن نكتفي بهذا القدر روماً للاختصار دائماً.

وبعد القرآن الكريم فإليك ماورد في السنّة النبوية قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا أيّها الناس إنّي تارك فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا: كتَاب اللّه وعترتي أهل بيتي"(2).

وهو كما ترى صريحٌ بأنّ الأئمة من أهل البيت معصومون أوّلاً; لأنّ كتَاب اللّه معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو كلام اللّه، ومن شكّ فيه كفر.

ثانياً: لأنّ المتمسّك بهما "الكتاب والعترة" يأمنُ من الضلالة، فدلّ هذا الحديث على أنّ الكتاب والعترة لا يجوز فيهما الخطأ.

وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة

____________

1- الأنبياء: 73.

2- مضى تخريجه فيما تقدّم.


الصفحة 294
نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق"(1).

وهو كما ترى صريح في أنّ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) معصومون عن الخطأ، ولذلك يأمل وينجوا كلّ من ركب سفينتهم، وكلّ من تأخّر عن ركوب سفينتهم غرق في الضلالة.

وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أحَبّ أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنّة التي وعدني ربي، وهي جنّة الخلد، فليتولّ عليّاً وذريته من بعده، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة"(2).

وهو كما ترى صريح في أنّ الأئمة من أهل البيت ـ وهم عليّ وذريته ـ معصومون عن الخطأ; لأنّهم لن يُدخلوا الناس الذين يتّبعوهم في باب ضلالة، ومن البديهي أنّ الذي يجوز عليه الخطأ لا يمكنُ له هداية الناس.

وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا المنذرُ وعلىٌّ الهادي، وبك ياعليّ يهتدي المهتدون من بعدي"(3).

____________

1- مضى تخريجه فيما تقدّم.

2- مضى تخريجه فيما تقدّم.

3- تفسير الطبري 13: 142 في تفسير قوله تعالى: { ولكلّ قوم هاد }، عنه فتح الباري 8: 285 وقال: "أخرجه الطبري باسناد حسن"، كنز العمال 11:

620 ح33012 عن الديلمي، شواهد التنزيل للحسكاني 1: 381، نظم درر السمطين: 90، تاريخ دمشق 42: 359، الدر المنثور للسيوطي 4: 45 عن ابن جرير وابن مردويه وأبي نعيم والديلمي وابن عساكر وابن النجار، وفي المستدرك، باب فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن عليّ بلفظ: "رسول اللّه المنذر وأنا الهادي" وقال: "صحيح الاسناد ولم يخرجاه".