الصفحة 317

التقية


وكما قدّمنا بالنسبة إلى القول بالبداء، فإنّ التقيّة هي أيضاً من الأُمور المستنكرة عند أهل السنّة والجماعة، وهم ينبزون بها إخوانهم الشيعة، ويعتبرونهم منافقين إذ يظهرون ما لا يبطنون!!

وكثيراً ماحاورْتُ البعض منهم وحاولتُ إقناعهم بأنّ التقّية ليست نفاقاً، ولكنّهم لم يقتنعوا بل إنك تجد السامع لهذا يشمئزّ أحياناً، ويتعجّب أحياناً أُخرى، وهو يظنّ أنّ هذه العقائد مبتدعة في الإسلام، وكأنّها من مختلقات الشيعة وبدعهم.

ولكن إذا بحث الباحث وأنصف المنصف سيجد أنّ هذه العقائد كلَّها من صلب الإسلام، وهي وليدة القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، بل لا تستقيم المفاهيم الإسلامية السمحاء، والشريعة القويمة إلاّ بها.

والأمر العجيب في أهل السنّة والجماعة، أنّهم يستنكرون عقائد يقولون بها، وكتبهم وصحاحهم ومسانيدهم مليئة بذلك وتشهد عليهم.

فاقرأ معي مايقوله أهل السنّة والجماعة في مسألة التقيّة:


الصفحة 318
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله تعالى: { إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً }(1) قال: التقيّة باللسان، من حمل على أمر يتكلّم به وهو معصية للّه فيتكلّم به مخاف الناس وقلبه مطمئن بالإيمان فإنّ ذلك لا يضرّه، إنما التقيّة باللسان(2).

وأخرج الحاكم وصحّحه، والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عبّاس في قوله تعالى: { إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } قال: التقاة هي التكلّم باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان(3).

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: التقيّة جائزة إلى يوم القيامة(4).

وأخرج عبد بن أبي رجاء إنّه كان يقرأ: (إلا أنْ تتّقوا منهم تقيّةً)(5).

____________

1- آل عمران: 28.

2- الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي 2: 16، وتفسير الطبري 3: 310.

3- السنن الكبرى للبيهقي 8: 209، المستدرك للحاكم 2: 291، تفسير الطبري 3: 310، الدر المنثور 2: 16.

4- الدر المنثور لجلال الدين السيوطي 2: 16.

5- المصدر السابق.


الصفحة 319
وأخرج عبدالرزاق، وابن سعد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وصحّحه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الدلائل، قال: أخذ المشركون عمّار بن ياسر فلم يتركوه حتّى سبّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذكر آلهتم بخير ثمّ تركوه، فلمّا أتى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ماوراءك شيء؟ قال: شرّ، ما تركتُ حتّى نلتُ منك وذكرتُ آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنّ بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلتْ { إلاّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ }(1).

وأخرج ابن سعد عن محمّد بن سيرين: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقي عمّاراً وهو يبكي، فجعل يمسحُ عن عينيه ويقول: "أخذك الكفّار فغطّوك في الماء فقلتَ كذا وكذا، فإن عادوا فقل لهم ذلك"(2).

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه من طريق علي، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: { من كفر باللّه... } الآية، قال: أخبر اللّه سبحانه: أنّ من كفر باللّه من بعد إيمانه فعليه غضَبٌ من اللّه وله عذاب عظيم، فأمّا من أكره فتكلّم بلسانه وخالفه قلبهُ بالإيمان لينجُوا بذلك من عدوّه فلا حرج عليه; لأنّ اللّه

____________

1- سورة النحل: 106، والنصّ في الدر المنثور 4: 132، المستدرك للحاكم 2: 357، وسنن البيهقي 8: 208.

2- الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 249، الدر المنثور 4: 132، سير أعلام النبلاء 1: 411.


الصفحة 320
سبحانه إنمّا يؤاخذ العباد بما عقدتْ عليه قُلوبهم(1).

وأخرج أبن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلتْ هذه الآيه في أُناس من أهل مكّة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة: أن هاجروا فإنّا لا نرى أنكم منّا حتّى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم، فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية: { إلاّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ }(2).

وأخرج البخاري في صحيحه في باب المداراة مع الناس، ويذكر عن أبي الدرداء قال: "إنّا لنُكشّر في وجوه أقوام وأن قلوبنا لتلعَنُهم"(3).

وأخرج الحلبي في سيرته قال: لمّا فتح رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مدينة خيبر، قال له حجاج بن علاط: يارسول اللّه إن لي بمكّة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أُريد أن آتيهم فأنا في حلّ إن أنا نلتُ منكَ، وقلتُ شيئا؟ فأذن له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول مايشاء(4).

____________

1- الدر المنثور 4: 132، تفسير الطبري 14: 238، سنن البيهقي 8: 209.

2- الدرّ المنثور 4: 132، تفسير القرطبي 10: 181.

3- صحيح البخاري 7: 102، كتاب الأدب، باب 83 المداراة مع الناس.

4- السيرة الحلبية 3: 76، مسند أحمد 3: 138، المصنّف لابن أبي شيبة 5: 466 ح9771، السنن للنسائي 5: 194 ح8646.


الصفحة 321
وجاء في كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي قوله: "إن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب"(1).

وأخرج جلال الدين السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر، قال: "ويجوز أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر، والتلفّظ بكلمة الكفر، ولو عمّ الحرامُ قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً، فإنّه يجوز استعمال مايحتاج إليه"(2).

وأخرج أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى: { إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } قال: يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء، فتتّقوهم بإظهار المولاة من غير اعتقاده لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم، كما جاء عن قتادة في قوله تعالى: { لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ }(3) قال: لا يحلّ لمؤمن أن يتّخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى: { إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } يقتضي جواز

____________

1- إحياء علوم الدين 3: 202 كتاب آفات اللسان، بيان ما رخص فيه من الكذب.

2- الأشباه والنظائر: 207 ـ 208.

3- آل عمران: 28.


الصفحة 322
إظهار الكفر عند التقيّة"(1).

وأخرج البخاري في صحيحه عن قتيبة بن سعيد، عن سفيان، عن ابن المكندر، حدّثه عن عروة بن الزبير، أنّ عائشة أخبرته أنّه استأذن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل، فقال: إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، فلمّا دخل ألاَنَ له الكلام، فقلت: يارسول اللّه قلت ماقلت ثمّ أَلْنتَ له في القول؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

"أي عائشة، إن شرّ الناسُ منزلة عند اللّه من تركه أو ودعه الناس اتّقاء فُحِشِه"(2).

وهذا يكفينا دلالة بعد استعراض ماسبق على أنّ أهل السنّة والجماعة يؤمنون بجواز التقيّة إلى أبعد حدودها من أنّها جائزة إلى يوم القيامة كما مرّ عليك، ومن وجوب الكذب كما قال الغزّالي، ومن إظهار الكفر وهو مذهب الجمهور من أهل العلم كما اعترف بذلك الرازي، ومن جواز الابتسام في الظاهر واللعن في الباطن كما اعترف بذلك البخاري، ومن جواز أن يقول الإنسان مايشاء وينال من رسول اللّه خوفاً على ماله كما صرّح بذلك صاحب السيرة

____________

1- أحكام القرآن للرازي الجصاص 2: 12.

2- صحيح البخاري7: 86، كتاب الأدب، باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب.


الصفحة 323
الحلبية، وأن يتكلّم بما فيه معصية اللّه مخافة الناس كما اعترف به السيوطي.

فلا مبرّر لأهل السنّة والجماعة في التشنيع والإنكار على الشيعة من أجل عقيدة يقولون بها هم أنفسهم، ويروونها في صحاحهم ومسانيدهم بأنّها جائزة بل واجبة، ولم يزد الشيعة على ماقاله أهل السنّة شيئاً، سوى أنّهم اشتهروا بالعمل بها أكثر من غيرهم، لما لاقوه من الأمويين والعباسيين من ظلم واضطهاد، فكان يكفي في تلك العصور أن يقال: هذا رجل يتشيّع لأهل البيت ليلاقي حتفه، ويُقتلُ شرّ قتلة على يد أعداء أهل البيت النبوي.

فكان لابدّ له من العمل بالتقيّة اقتداء بما أشار عليهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق إنّه قال "التقيّة ديني ودين آبائي"(1) وقال: "من لا تقيّة له لا دين له"(2).

وقد كانت التقيّة شعاراً للأئمة أهل البيت أنفسهم دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم ومحبّيهم، وحقناً لدمائهم واستصلاحاً لحال المسلمين الذين فُتنُوا في دينهم، كما فُتنَ عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) وحتى أكثر.

____________

1- الكافي 2: 219 ح12، ولفظه: "التقية من ديني ودين آبائي".

2- الكافي 2: 217 ح2، ولفظه: "لا دين لمن لا تقية له".


الصفحة 324
أمّا أهل السنّة والجماعة فقد كانوا بعيدين عن ذلك البلاء; لأنّهم كانوا في معظم عهودهم على وفاق تام مع الحكّام، فلم يتعرّضوا لا لقتل ولا لنهب ولا لظلم، فكان من الطبيعي جدّاً أن ينكروا التقيّة ويشنّعون على العاملين بها، وقد لعب الحكّام من بني أميّة وبني العباس دوراً كبيراً في التشهير بالشيعة من أجل التقيّة.

وبما أنّ اللّه سبحانه أنزل فيها قرآناً يُتلى وأحكاماً تُقضى، وبما أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل هو نفسه بها، كما مرّ عليك في صحيح البخاري، وأنّه أجاز لعمّار بن ياسر أن يسبّه ويكفر إذا عاوده الكفّار بالتعذيب، وبما أنّ علماء المسلمين أجازوا ذلك اقتداء بكتاب اللّه وسنّة رسوله; فأيّ تشنيع وأيّ استنكار بعد هذا يصحّ أنْ يوجّه إلى الشيعة؟!

وقد عمل بالتقية الصحابة الكرام في عهد الحكّام الظالمين(1)

____________

1- روى ابن حزم في المحلّى 8: 336 مسألة 1409 عن ابن مسعود أنه قال: "ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عنّي سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به"، ثم قال ابن حزم: "ولا يعرف له من الصحابة مخالف".

وقال السرخسي في المبسوط 24: 46 و 47: "وقد كان حذيفة ممّن يستعمل التقية على ما روى أنه يداري رجلا... وعن جابر بن عبداللّه قال: لا جناح عليّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها".

وكذلك استخدم التقيّة التابعين ومتشرعة الاُمّة الإسلاميّة:

=>


الصفحة 325
أمثال معاوية الذي كان يقتل كلّ من امتنع عن لعن عليّ بن أبي طالب، وقُصة حجـر بن عدي الكندي وأصحابه مشهورة(1) وأمثال

____________

<=

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 4: 227: "لما استخلف الوليد قدم المدينة فدخل المسجد، فرأى شيخاً قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قالوا: سعيد بن المسيّب. فلمّا جلس أرسل إليه، فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين! فقال: لعلّك أخطأت باسمي أو لعلّه أرسلك إلى غيري، فردّ الرسول، فأخبره، فغضب وهمّ به. قال: وفي الناس يومئذ تقية..".

وقال أيضاً في السير 10: 481 ـ في ترجمة سعدويه بن سليمان، وبعد أن وصفه بالحافظ الثبت الإمام ـ: "وأما أحمد بن حنبل فكان يغض منه، ولا يرى الكتابة عنه، لكون أجاب في المحنة تقية..".

وقال في ترجمة أبو نصر التمار 10: 571: ".. وقال أبو الحسن الميموني: صحّ عندي أنه ـ يعني أحمد ـ لم يحضر أبا نصر التمار حين مات، فحسبت أنّ ذلك لما كان أجاب في المحنة.

قلت: أجاب تقية وخوفاً من النكال. وهو ثقة بحاله والحمد للّه".

وقال في السير 11: 87: "قال سعيد بن عمرو البرذعي: سمعت الحافظ أبا زرعة الرازي يقول: كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار، ولا عن يحيى بن معين، ولا عن أحد ممن أجاب في المحنة. قلت: هذا أمر ضيق ولا حرج على من أجاب في المحنة، بل ولا على من أجبر على صريح الكفر عملا بالآية. وكان يحيى (رحمه الله) من أئمة السنّة، فخاف من سطوة الدولة، وأجاب تقية".

1- ذكر في كشف الجاني: 161 أن المؤلّف ادّعى على معاوية ثلاث دعاوى:

=>


الصفحة 326

____________

<=

أ ـ إنّ الصحابة كانوا يستخدمون التقية مع معاوية.

وقال: "هذا كذب".

ب ـ إنّ معاوية كان ظالماً.

وقال: "هذا كذب، بل هو إمام عادل".

جـ ـ إنّ معاوية كان يقتل شيعة عليّ والممتنعين عن لعنه.

وقال: "هذا كذب".

وهذه التكذيبات الثلاثة ليست صحيحة، بل الحقّ مع المؤلّف من كون معاوية ظالماً، وكان الصحابة يتوقون بطشه وكيده.

ومن يقرأ كلام عثمان الخميس في كشف الجاني يرى العجب العجاب، ويخيل إليه أنه لم يطلع على الكتب التاريخية والروائية التي ذكرت جرائم معاوية وما ارتكبه بحقّ أهل البيت وشيعتهم، وما اقترفه من ظلم وتعدّي بحقّ الشريعة الإسلامية والسنّة النبوية.

وأمّا ما ذكره التيجاني، فهو الصواب الذي نطقت به الأخبار وطفحت به الآثار:

أما النقطة الأُولى:

فإنّ الصحابة كانوا يستخدمون التقية مع معاوية، لاتقاء شرّه وأذاه والابتعاد عن الوقوع في فلك ظلمه وبطشه:

فقد أخرج ابن عساكر بسنده قال: "لمّا قدم بسر بن أرطأة المدينة أخذ الناس بالبيعة، فجاءت بنو سلمة، وتغيب جابر، قال: لا أبايعكم حتى يجيء جابر، قال: فانطلق جابر الى أُم سلمة فسألها، فقالت: هذه بيعة لا أرضاها، إذهب فبايع تحقن دمك" تاريخ دمشق: 11: 235، الاستيعاب لابن عبد البر 1:

=>


الصفحة 327

____________

<=

241 ـ 246.

وكذلك استخدم التقيّة التابعين ومتشرعة الأُمّة الإسلاميّة: قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 4: 227: "..لما استخلف الوليد قدم المدينة فدخل المسجد، فرأى شيخاً قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قالوا: سعيد بن المسيّب: فلمّا جلس أرسل إليه، فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين! فقال: لعلّك أخطأت باسمي أو لعلّه أرسلك إلى غيري، فردّ الرسول، فأخبره،فغضب وهم به. قال: وفي الناس يومئذ تقيّة..".

وقال أيضاً في السير 10: 481 ـ في ترجمة سعدويه بن سليمان، وبعد أن وصفه بالحافظ الثبت الإمام ـ: "وأمّا أحمد بن حنبل فكان يغض منه، ولا يرى الكتابة عنه، لكونه أجاب في المحنة تقيّة..".

وقال في ترجمة أبو نصر التمار 10: 571: "..وقال أبو الحسن الميموني: صحّ عندي أنّه ـ يعني أحمد ـ لم يحضر أبا نصر التمار حين مات، فحسبت أنّ ذلك لما كان أجاب في المحنة.

قلت: أجاب تقيّة وخوفاً من النكال. وهو ثقة بحاله والحمدللّه".

وقال في السير 11: 87: "قال سعيد بن عمرو البرذعي: سمعت الحافظ أبا زرعة الرازي يقول: كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار، ولا عن يحيى بن معين، ولا عن أحد ممن أجاب في المحنة. قلت: هذا أمر ضيق ولا حرج على من أجاب في المحنة، بل ولا على من أجبر على صريح الكفر عملاً بالآية. وكان يحيى (رحمهم الله) من أئمة السنّة، فخاف من سطوة الدولة، وأجاب تقيّة".

وفي كتاب الثقات لابن حبان 2: 299: "... فدخل جابر على أُم سلمة وقال:

=>


الصفحة 328

____________

<=

يا أُماه إنّي خشيت على دمي، وهذه بيعة ضلال! فقالت: أرى أن تبايع، فخرج جابر فبايع بسر بن أرطأة لمعاوية كارهاً".

فهذا جابر تأمره أم سلمة أن يحقن دمه ويبايع، أي يتقي بسر بن أرطأة الذي أرسله معاوية للمدينة لأخذ البيعة له، بل ويصرّح في رواية ابن حبان أنها بيعة ضلال مع أنه بايع!! وحينئذ لا معنى لبيعته إلاّ أنها تقية من بني أمية وبطش معاوية.

وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار: "قوله: إن زياد بن أبي سفيان، وقع التحديث بهذا في زمن بني أمية، وأمّا بعدهم فما كان يقال له إلاّ زياد بن أبيه، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد... فلمّا كان في أيام معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأنّ زياداً ولده فاستلحقه معاوية بذلك وخالف الحديث الصحيح: إنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، وذلك لغرض دنيوي... وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان، وما وقع من أهل العلم في زمان بني أمية فإنّما هو تقية". نيل الأوطار: 5: 194.

فهذه رواية وشهادة من علم من أعلام أهل السنّة على سطوة معاوية وظلمه التي حدث بالصحابة وغيرهم لاستخدام التقية معه.

وأمّا النقطة الثانية:

فإنّ معاوية كان ظالماً معتدياً على حقّ اللّه وحقّ عباده، بل ارتكب معاوية ما هو أشدّ من الظلم والبغي والخروج على الإمام الذي تجب طاعته، وهذه الروايات والأقوال تبين ظلم معاوية وبغيه:

1 ـ روي البيهقي وابن أبي شيبة وابن عساكر بسند متصل عن عمّار بن ياسر أنه: "لا تقولوا كفر أهل الشام، ولكن قولوا فسقوا أو ظلموا" السنن الكبرى

=>


الصفحة 329

____________

<=

8: 174، مصنّف ابن أبي شيبة: 8: 722، تاريخ ابن عساكر 1: 347.

2 ـ وعن علي (عليه السلام) أنه قال: "لا تقولوا كفر أهل الشام: ولكن قولوا فسقوا أو ظلموا"، كنز العمال: 5: 567.

وأما أقوال علماء السنّة في ظلم معاوية وبغيه فهي:

1 ـ قال الإمام ابن خزيمة: "... وكلّ من نازع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في إمارته فهو باغ. على هذا عهدت مشايخنا وبه قال ابن ادريس ـ يعني الشافعي ـ (رحمه الله) " الاعتقاد للبيهقي: 502، تحقيق عبد اللّه محمّد الدرويش.

2 ـ وقال الإمام أبو منصور البغدادي: "أجمع أصحابنا على أنّ عليّاً (رضي الله عنه) كان مصيباً في قتال أصحاب الجمل وفي قتال أصحاب معاوية بصفّين. وقالوا في الذين قاتلوه في البصرة: إنهم كانوا على الخطأ، وأمّا أصحاب معاوية فإنّهم بغوا وسمّاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بغاة في قوله لعمّار: "تقتلك الفئة الباغية"، ولم يكفروا بهذا البغي" أصول الدين: 289 ـ 290، ونحوه في كتاب الفرق بين الفرق: 350.

3 ـ وقال الإمام البيهقي: "وأمّا خروج من خرج على أمير المؤمنين عليّ (رضي الله عنه) مع أهل الشام في طلب دم عثمان، ثمّ منازعته إيّاه في الإمارة فإنّه غير مصيب فيما فعل و... إنّ الذي خرج عليه ونازعه كان باغياً، وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) قد أخبر عمّار بن ياسر بأنّ الفئة الباغية تقتله، فقتله هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ (رضي الله عنه) في حرب صفّين" الاعتقاد للبيهقي: 501.

4 ـ قال الإمام القرطبي: "... فتقرّر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين

=>


الصفحة 330

____________

<=

أنّ عليّاً كان إماماً، وأنّ كلّ من خرج عليه باغ، وأنّ قتاله واجب حتى يفيء إلى الحقّ وينقاد إلى الصلح" تفسير القرطبي 1: 318.

وقال في المفهم: "قوله: (وأهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي ـ ثلاثاً) هذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته.. ومحبّتهم ووجوب الفروض المؤكدة... هذا مع ما علم من خصوصيّتهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأنّهم جزء منه، فإنّهم أُصوله التي نشأ منها وفروعه التي تنشأ عنه، ومع ذلك فقابل بنو أميّة عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق، فسفكوا من أهل البيت دماءهم، وسبوا نساءهم وخربوا ديارهم، وجحدوا شرفهم وفضلهم، واستباحوا سبّهم ولعنهم، فخالفوا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيته، وقابلوه بنقيض مقصوده وأُمنيته.." المفهم لما أُشكل من صحيح مسلم 6: 304.

وفي اللغة: البغي: بمعنى الظلم والفساد، لسان العرب 14: 78.

5 ـ وصف الإمام الذهبي ـ وهو المعروف بميله لمذهب أهل الشام ـ معاوية بأنه المربي لأهل الشام على النصب والعداء لأهل البيت (عليهم السلام)، على خلاف ما نطق به القرآن، وطفحت به الآثار من وجوب مودّة ومحبة أهل البيت (عليهم السلام)، فيخالف معاوية القرآن ويسنّ قوانين وسنن على هواه، يقول الإمام الذهبي: "وخلف معاوية خلف كثير يحبّونه ويغالون فيه ويفضلونه... وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق ونشأوا على النصب" سير أعلام النبلاء 3: 128 (ترجمة معاوية بن أبي سفيان).

وقال في وصف طائفة معاوية: "هم طائفة من المؤمنين بغت على الإمام

=>


الصفحة 331

____________

<=

عليّ، وذلك بنصّ قول المصطفى صلوات اللّه عليه لعمّار: "تقتلك الفئة الباغية".. ولا نرتاب أنّ عليّاً أفضل ممّن حاربه، وأنّه أولى بالحقّ رضي اللّه عنه" سير أعلام النبلاء 8: 209.

ولا بأس بالإشارة إلى ما في كلام الذهبى من تهافت، طبقاً لنشأته الشامية ومايحملونه تجاه أهل البيت (عليهم السلام) إذ أنّه وصف أتباع معاوية بأنّهم بغاة، وأنّهم نشأوا على النصب الذي غذّاهم معاوية به، ثمّ يأتي بعد ذلك ويصفهم بـ (الإيمان)! مع أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): "لا يُحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق" صحيح مسلم 1: 61.

فمبغض عليّ (عليه السلام) يكون ناصبيّاً منافقاً بحكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا معنى لأن نصف من حكم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفاقه بالإيمان! اللهمّ إلاّ على مبنى الشاميّين النواصب الذين يرون النصب ديانة وإيماناً وحبّ عليّ كفراً ونفاقاً!! وللّه في كلام المحدّثين شؤون.

6 ـ وقال ابن تيمية الحراني: "بخلاف سبّ علي فإنّه كان شائعاً في أتباع معاوية، ولهذا كان عليّ وأصحابه أولى بالحقّ وأقرب إلى الحقّ من معاوية وأصحابه.. وكان سبّ عليّ ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها: الطائفة الباغية، كما رواه البخاري في صحيحه عن خالد الحذّاء، عن عكرمة قال: قال ليّ ابن عباس ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه، فانطلقنا، فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى به، ثمّ أنشأ يحدّثنا، حتّى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنّا نحمل لبنّة لبنّة، وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي (صلى الله عليه وسلم) فجعل ينفض التراب عنه ويقول: "ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، قال: يقول عمّار:

=>


الصفحة 332

____________

<=

أعوذ باللّه من الفتن.

ورواه مسلم عن أبي سعيد ـ أيضاً ـ قال:...

وهذا أيضاً يدلّ على صحة إمامة عليّ، ووجوب طاعته، وأنّ الداعي إلى طاعته داع إلى الجنّة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار، وإن كان متأوّلا.

وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال عليّ، وعلى هذا فمقاتله مخطئ وإن كان متأولا أو باغ بلا تأويل، وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليّاً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين.

وكذلك أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة عليّ في قتال البغاة المتأولين، قال: أيجعل طلحة والزبير بغاة! ردّ عليه الإمام أحمد فقال: ويحك! وأيّ شيء يسمه أن يضع في هذا المقام. يعني إن لم يقتدِ بسيرة عليّ في ذلك لم يكن معه سنّة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة" الفتاوى لابن تيمية 4: 267 ـ 268.

7 ـ وقال الإمام ابن كثير الدمشقي: "وهذا مقتل عمّار بن يسار (رضي الله عنه) مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قتله أهل الشام، وبان وظهر سرّ ما أخبر به الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أنّه تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك عليّاً محقّ، وأنّ معاوية باغ" البداية والنهاية 7: 296.

8 ـ وقال ابن حجر العسقلاني: "... ثبت أنّ أهل الجمل وصفين والنهروان بغاة" التلخيص الحبير 4: 44.

وقال بعد ذكره لحديث الخوارج: "وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم منقبة عظيمة لعليّ، وأنه كان الإمام الحقّ، وأنه كان على الصواب في قتال

=>


الصفحة 333

____________

<=

من قاتله في حروبه في الجمل وصفين وغيرهما" فتح الباري 12: 299.

وقال ـ أيضاً ـ بعد أن ذكر حديث عمّار: "وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوّة، وفضيلة ظاهرة لعليّ ولعمّار، ورد على النواصب الزاعمين أنّ عليّاً لم يكن مصيباً في حروبه" فتح الباري 12: 113.

وفي هذا يشير ابن حجر إلى عثمان الخميس ومن على شاكلته الذين يدافعون عن معاوية بن أبي سفيان حيفاً على علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعلى الذين يمدحون صلح الحسن (عليه السلام) نكاية بعلي بن أبي طالب، وطعناً مبطناً في حربه على بغاة الجمل وصفين الذين فرّقوا كلمة المسلمين، واستباحوا دماء المسلمين لأجل مصالحهم الخاصّة ومنافعهم الآنية.

9 ـ وقال الإمام شمس الدين الشربيني: "فصل: في قتال البغاة:

جمع باغ، والبغي الظلم ومجاوزة الحدّ، سُمّوا بذلك لظلمهم وعدولهم عن الحقّ، والأصل فيه آية { وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا }.. (ويقاتل أهل البغي) وجوباً كما استفيد من الآية المتقدمة، وعليها عول عليّ ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ في قتال صفين والنهروان" الاقناع 2: 22.

10 ـ وقال الشيخ ملاّ علي القاري: (.. "تقتلك الفئة الباغية" أي الجماعة الخارجة على إمام الوقت وخليفة الزمان، قال الطيّبي: ترّحم عليه بسبب الشدة التي يقع فيها عمار من قبل الفئة الباغية، يريد به معاوية وقومه فإنّه قتل يوم صفين.

وقال ابن مالك: اعلم أنّ عمّاراً قتله معاوية وفئته، فكانوا طاغين باغين بهذا الحديث; لأنّ عمّاراً كان في عسكر عليّ، وهو المستحقّ للإمامة فامتنعوا عن بيعته.

=>