الصفحة 388
الظهر والعصر قبل الزوال أو بعد الغروب، كما لا يجوز لنا أن نصلّي فريضتي المغرب والعشاء قبل الغروب ولا بعد منتصف الليل.

وشكرت السيّد محمّد باقر الصدر، وإن كنت اقتنعت بكلّ أقواله، غير أنّي لم أجمع بين الفريضتين بعد مغادرته إلاّ عندما رجعت إلى تونس، وانهمكت بالبحث واستبصرت.

هذه قصتي مع الشهيد الصدر رحمة اللّه عليه في خصوص الجمع بين الفريضتين، أرويها ليتبّين إخواني من أهل السنّة والجماعة أوّلاً كيف تكون أخلاق العلماء اللذين تواضعوا حتى كانوا بحقّ ورثة الأنبياء في العلم والأخلاق.

وثانياً: كيف نجهل ما في صحاحنا، ونشنّع على غيرنا بأُمور نعتقد نحن بصحتها، وقد وردت في صحاحنا.

فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده(1) عن ابن عباس قال: صلّى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة مقيماً غير مسافر سبعاً وثمانياً.

وأخرج الإمام مالك في الموطأ(2) عن ابن عباس قال: صلّى

____________

1- مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 221، وصحّحه أحمد محمّد شاكر محقّق الكتاب.

2- موطأ الإمام مالك 1: 93 كتاب قصر الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين.


الصفحة 389
رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر.

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر قال: عن ابن عبّاس قال: صلّى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر(1).

كما أخرج عن ابن عباس أيضاً قال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الظُهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، قال: قلتُ لابن عباس: لِم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أُمّتَهُ(2).

ومّما يدلّك أخي القارئ أنّ هذه السنّة النبّوية كانتْ مشهورة لدى الصحابة ويعملون بها مارواه مسلم أيضاً في صحيحه في نفس الباب قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غَرُبت الشمسُ وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاّة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنّة لا أمٌ لك، ثمّ قال: رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

____________

1- صحيح مسلم 2: 151، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.

2- المصدر نفسه.


الصفحة 390
وفي رواية أُخرى قال ابن عباس للرجل: لا أُمّ لك أتعلّمنا بالصلاة وكنّا نجمعُ بين الصلاتين على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

وأخرج الإمام البخاري في صحيحه في باب وقت المغرب قال: حدّثنا آدم قال: حدّثنا شعبة، قال حدثنا عمرو بن دينار، قال: سمعتُ جابر بن يزيد عن ابن عباس قال: صلّى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعاً جميعاً، وثمانية جميعاً(2).

كما أخرج البخاري في صحيحه(3) في باب وقت العصر: قال سمعتُ أبا أُمامة يقول: صلّينا مع عمر بن عبدالعزيز الظهر، ثم خرجنَا حتّى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلّي العصرَ، فقلتُ: ياعمّ ماهذه الصلاة التي صلّيت؟ قال: العصْرُ، وهذه صلاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) التي كنْا نصلّي معه(4).

____________

1- المصدر نفسه.

2- صحيح البخاري1: 140، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب.

3- صحيح البخاري1: 138، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت العصر.

4- ولأجل هذه الروايات المصرّحة بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بين الصلوات من دون سفر أو مرض أو عذر وقع أهل السنّة في الاضطراب لتوجيه ذلك، مع ما يصرّحون به من بطلان الجمع بين الصلاتين من دون عذر أو سفر أو مرض، ولذلك جاءوا بتأويلات باردة لم يقتنعوا أنفسهم بها:

قال النووي في شرحه لمسلم 5: 224 بعد نقله للروايات المتقدّمة: "هذه

=>


الصفحة 391

____________

<=

الروايات الثابتة في مسلم كما تراها، وللعلماء فيها تأويلات ومذاهب، وقد قال الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأُمّة على ترك العمل به إلاّ حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر.

وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله...

وأمّا حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به، بل لهم أقوال:

منهم من تأوّله على أنّه جمع بعذر المطر، وهذا مشهور عن جماعة من الكبار المتقدّمين، وهو ضعيف بالرواية الأُخرى: من غير خوف ولا مطر.

ومنهم من تأوّله على أنّه كان في غيم فصلّى الظهر ثمّ انكشف الغيم وبان أنّ وقت العصر دخل فصلاّها، وهذا أيضاً باطل; لأنّه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر لا احتمال فيه في المغرب والعشاء.

ومنهم من تأوّله على تأخير الأُولى إلى آخر وقتها فصلاّها فيه فلمّا فرغ منها دخلت الثانية فصلاّها فصارت صلاته صورة جمع، وهذا أيضاً ضعيف أو باطل; لأنّه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب واستدلاله بالحديث لتصويب فعله، وتصديق أبي هريرة له، وعدم إنكاره; صريح في ردّ هذا التأويل.

ومنهم من قال: هو محمول على الجمع بعذر المطر أو نحوه ممّا هو في معناه من الأعذار، وهذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا، واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا...

وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع بين الحضر للحاجة لمن لا يتّخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن ابن إسحاق المروزي عن

=>


الصفحة 392
ومع وضوح هذه الأحاديث، فإنّك لا تزال تجد من يشنّع بذلك على الشيعة، وقد حدث ذلك مرّة في تونس، فقد قام الإمام عندنا في مدينة قفصة ليشنّع علينا ويُشهّر بنا وسط المصلّين قائلاً: أرأيتم هذا الدين الذي جاؤوا به، إنّهم بعد صلاة الظهر يقومون ويصلّون العصر، إنّه دين جديد ليس هو دين محمّد رسول اللّه، هؤلاء يخالفون القرآن الذي يقول: { إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً }(1) وما ترك شيئاً إلاّ وشتم به المستبصرين.

وجاءني أحد المستبصرين وهو شاب على درجة كبيرة من الثقافة، وحكى لي ماقاله الإمام بألم ومرارة، فأعطيته صحيح البخاري وصحيح مسلم، وطلبت منه أن يطلعه على صحّة الجمع وهو من سنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّني لا أُريد الجدال معه، فقد سبق لي أن جادلته بالتي هي أحسن، فقابلني بالشتم والسب والتهم الباطلة.

____________

<=

جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، ويؤيّده ظاهر قول ابن عبّاس: أراد أن لا يحرج أُمّته، فلم يعلّله بمرض ولا غيره، واللّه أعلم".

وتعليقاً على قول النووي نقول: إنّ تقيد جواز الجمع "للحاجة لمن لا يتخذه عادة" تأويل باطل لا دليل عليه، بعد تصريح الروايات بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع من دون عذر ولا سفر ولا مرض.

ومن المحتمل قوياً أنّ سبب ذلك هو مخالفة شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، كما تقدّم التصريح بذلك من بعض علماء السنّة في بعض المسائل، إذ ارتكبوا خلاف سنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ الشيعة تفعله كما فعله النبي وآل بيته (عليهم السلام).

1- النساء: 103.


الصفحة 393
والمهم أنّ صديقي لم ينقطع من الصلاة خلفه، فبعد انتهاء الصلاة جلس الإمام كعادته للدرس، فتقدّم إليه صديقي بالسؤال عن الجمع بين الفريضتين، فقال: إنّها من بدع الشيعة، فقال له صديقي: ولكنّها ثابتة في صحيح البخاري ومسلم، فقال له: غير صحيح، فأخرج له صحيح البخاري وصحيح مسلم وأعطاه، فقرأ باب الجمع بين الصلاتين، يقول صديقي: فلمّا صدمته الحقيقة أمام المصلّين الذين يستمعون لدروسه، أغلق الكتب وأرجعها إليّ قائلاً: هذه خاصّة برسول اللّه، وحتى تصبح أنت رسول اللّه فبإمكانك أن تصلّيها، يقول هذا الصديق: فعرفت أنّه جاهل متعصّب، وأقسمت من يومها أن لا أُصلّي خلفه(1).

بعد ذلك طلبت من صديقي بأن يرجع إليه ليطلعه على أنّ ابن عباس كان يصلّي تلك الصلاة، وكذلك أنس بن مالك وكثير من الصحابة، فلماذا يريد هو تخصيصها برسول اللّه، أو لم يكن لنا في رسول اللّه أُسوة حسنة؟ ولكن صديقي اعتذر لي قائلاً: لا داعي

____________

1- يحكى أنّ رجلين خرجا للصيد ولقيا سواداً بعيداً، فقال الأوّل: إنّه غراب، وعانده الثاني بأنّه عنزة، وتعاندا، وأصرّ كلّ منهما على رأيه، ولكنّهما عندما اقتربا من السواد فإذا به غراب انزعج وطار هارباً، فقال الأوّل: ألم أقل لك بأنّه غراب هل اقتنعت الآن، ولكن صديقه أصرّ على رأيه وقال: سبحان اللّه عنزة تطير؟ (المؤلّف).


الصفحة 394
لذلك وإنّه لا يقتنع ولو جاءه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وإنّه والحمد للّه وبعد أن عرف كثير من الشباب هذه الحقيقة، وهي الجمع بين الصلاتين، رجع أغلبهم إلى الصلاة بعد تركها، لأنّهم كانوا يعانون من فوات الصلاة في وقتها، ويجمعون الأوقات الأربعة في الليل فتمل قلوبهم، وأدركوا الحكمة في الجمع بين الفريضتين لأنّ كلّ الموظفين والطلبة وعامّة الناس يقدرون على أداء الصلوات في أوقاتها وهم مطمئنون، وفهموا قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "كي لا أحرج أُمّتي".


الصفحة 395

السجود على التربة


أجمع علماء الشيعة على القول بأفضلية السجود على الأرض; لما يروونه عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قول جدهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "أفضل السجود على الأرض"(1).

وفي رواية أخرى: "لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض غير مأكول ولا ملبوس"(2).

وقد روى صاحب وسائل الشيعة عن محمّد بن علي بن الحسين بإسناده عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: "السجود على الأرض أفضل لأنّه أبلغ في التواضع، والخضوع للّه عزّ وجلّ "(3).

وفي رواية أُخرى عن محمّد بن الحسن بإسناده عن إسحاق بن

____________

1- الوسائل 5: 367، ولفظه: "السجود على الأرض أفضل...".

2- المصدر نفسه 5: 343.

3- المصدر نفسه 5: 367.


الصفحة 396
الفضل: أنّه سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن السجود على الحصر والبواري المنسوجة من القصب، فقال: "لا بأس، وأنّ يسجد على الأرض أحب إليَّ، فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحبّ ذلك، أن يمكّن جبهته من الأرض، فأنا أحبّ لك ما كان يحبّه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) "(1).

أمّا علماء أهل السنّة والجماعة، فلا يرون بأساً في السجود على الزرابي والفرش، وإن كان عندهم أفضلية في الحصر.

وهناك بعض الروايات التي يخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما تؤكّد أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت له خُمرة مصنوعة من سعف يسجد عليها، فقد أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الحيض عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة قالت: قال لي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "ناوليني الخُمرة من المسجد"، قالت: فقلت: أنّي حائض، فقال: "إن حيضتك ليست في يدك"(2) (يقول مسلم: والخُمرة هي السجادة الصغيرة مقدار ما يسجد عليها).

وممّا يدلّنا على أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحبّ السجود على

____________

1- المصدر نفسه 5: 368.

2- صحيح مسلم1: 168، كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، سنن أبي داود 1: 109 ح261 باب الحائض تناول من المسجد.


الصفحة 397
الأرض ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعتكف في العشر الأواسط من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج صبيحتها من اعتكافه، قال: "من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة ثمّ أنسيتها، وقد رأيتني أمجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها بكلّ وتر"، فمطرت السماء في تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين(1).

وممّا يدلّنا أيضاً على أنّ الصحابة كانوا يفضّلون السجود على الأرض، وذلك بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما أخرجه الإمام النسائي في سننه في باب تبريد الحصى للسجود عليه، قال: أخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا عباد عن محمّد بن عمرو، عن سعيد بن الحرث، عن جابر بن عبد اللّه قال: كنّا نصلّي مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر،

____________

1- صحيح البخاري2: 256، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر.


الصفحة 398
فآخذ قبضة من حصى في كفي أبرّدهُ ثم أحوّله في كفّي الآخر، فإذا سجدت وضعته لجبهتي(1).

أضف إلى كلّ ذلك أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"(2).

وقال أيضاً: "جعلت لنا الأرض كلّها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً"(3).

فكيف يتعصّب المسلمون ضد الشيعة لأنّهم يسجدون على الأرض بدلاً من السجود على الزرابي؟!

وكيف يصل بهم الأمر إلى تكفيرهم والتشنيع عليهم وقذفهم زوراً وبهتاناً بأنّهم عبّاد الأصنام؟!

وكيف يضربونهم في السعودية لمجرّد وجود التربة في جيوبهم أو في حقائبهم؟!

____________

1- سنن النسائي 2: 204 باب تبريد الحصى للسجود عليه وصرّح الشيخ الألباني بصحته، وأيضاً في صحيح سنن أبي داوود: ح 427، وفي مشكاة المصابيح: 1011 وصرّح الشيخ الألباني بصحته، مسند أحمد 3: 327 وصرّح محقّق الكتاب حمزة أحمد الزين بصحته.

2- صحيح البخاري1: 86، كتاب التيمم، باب التيمم.

3- صحيح مسلم2: 64، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، الحديث الرابع.


الصفحة 399
أهذا هو الإسلام الذي يأمرنا باحترام بعضنا، وعدم إهانة المسلم الموحّد الذي يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحجّ البيت، وهل يعقل عاقل بأنّ الشيعي يتكبّد تلك الأتعاب، ويخسر تلك الخسائر، ويأتي لحجّ بيت اللّه الحرام وزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يعبد الحجارة كما يحلو للبعض أن يصوروه؟!

أفلا يعتقد أهل السنّة والجماعة بقول الشهيد محمّد باقر الصدر الذي نقلته في كتابي الأوّل "ثمّ اهتديت" عندما سألته عن التربة فقال: نحن نسجد للّه على الأرض، فهناك فرق بين السجود على التراب، والسجود للتراب!

وإذا كان الشيعي يحتاط ليكون سجوده طاهراً ومقبولاً عند اللّه فيمتثل أوامر رسول اللّه والأئمة الأطهار من أهل البيت، وخصوصاً في زماننا هذا الذي أصبحت فيه كلّ المساجد مفروشة بالزرابي الوثيرة، وفي البعض بما يسمى (Moquette) وهي مادة مجهولة الصنع لدى عامة المسلمين ولم تصنع في بلاد إسلامية، ولعلّ البعض منها فيها ما لا يجوز السجود عليه، أفيحقّ لنا أن ننبُذَ هذا الشيعي الذي يهتم بصحة صلاته، ونتّهمه بالكفر والشرك بمجرّد شبهة زائفة؟


الصفحة 400
والشيعي الذي يهتمّ بأُمور دينه وخصوصاً بصلاته التي هي عمود الدين، فتراه ينزع حزامه وينزع ساعته لأنّ فيها حزاماً من الجلد الذي لا يعلم منشأه، وفي بعض الأوقات ينزع سرواله الافرنجي ليصلّي في سروال فضفاض، كلّ ذلك احتياطاً واهتماماً بتلك الوقفة العظيمة بين يدي اللّه لكي لا يقابل ربّه بشي يكرهه، أيستحقّ هذا منّا الاستهزاء والنفور، أم يستحقّ الاحترام والاكبار; لأنّه عظّم شعائر اللّه { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ }(1)؟

ياعباد اللّه اتقوا اللّه وقولوا قولاً سديداً.

{ وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }(2).(3).

____________

1- الحج: 32.

2- النور: 14 ـ 15.

3- هناك بعض الأراجيف ذكرها صاحب كتاب منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلامية: 165، يذكر فيها أنّ الشيعة تستخدم السجود على التربة لقضية طائفية وليست دينية، وأنّ السجود على التربة في متطاول الزمن يؤدّي إلى تقديسها.

وهذا الكلام غريب من صاحبه; لأنّ الشيعة تؤمن بأنّ السجود على التربة

=>


الصفحة 401

____________

<=

ممّا أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يعمله هو وأصحابه، وقد نقل المؤلّف روايات متعدّدة في هذا المعنى، مروية في صحاحهم، فبعد هذا لا معنى للقول بأنّ الشيعة تستخدم السجود على التربة لغرض طائفي، اللهم إلاّ أن يكون فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فعل طائفي لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، ولا يجرأ مسلم أن يتفوّه بهذا الكلام على صاحب الرسالة المقدّسة.

وأمّا مسألة أنّ السجود على التربة يؤدّي في متطاول الزمن إلى تقديسها، فهذا أمرٌ لم يحصل ولن يحصل، إذ إن الشيعة على مدى أربعة عشر قرناً تسجد على التربة واعتقادهم فيها واحد; فأهل القرن الرابع عشر يعتقدون نفس اعتقاد أهل القرن الأول والثاني: من أنّ التربة يسجد عليها ولا يسجد إليها، وأنّها لا تقدّس بحيث يؤدّي تقديسها إلى الإخلال بالتوحيد، والشيعة من مبدأهم إلى اليوم يرون التربة شيئاً أُمروا بالسجود عليه في الصلاة لا السجود إليه، هذا اعتقادهم قديماً وحديثاً ولم ولن يتغيّر إلى أن تقوم الساعة.

والعجب منه أنّه ذكر في النقطة (4) من كتابه أنّ التربة بدأت منذ عهد الصفويين، وهذا غريب جدّاً، إذ إنّ الروايات التي نقلها المؤلّف من سجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة على التربة مروية في البخاري ومسلم والترمذي، وهؤلاء قبل الدولة الصفوية بقرون متطاولة، فكيف تجرّأ وتكلّم بهذا الكلام؟!

والحقيقة أنّ التعصّب الأعمى يؤدّي بصاحبه في بعض الأحيان إلى التهجّم على خصمه بأشياء كاذبة، أو مصطنعة يصطنعها من عنديات نفسه، جرياً وراء الهوى والتعصّب الطائفي، والواقع أنّه أحقّ بالطائفيّة من الشيعة الذين رماهم بهذا التهمة الشنيعة، وللّه في خلقه شؤون.


الصفحة 402

الصفحة 403

الرجعة (العودة إلى الحياة)


هذه المسألة ممّا اختصت الشيعة بالقول بها، وأنا بحثت في كتب السنّة فلم أجد لها أثر يذكر.

وهم يعتمدون في ذلك على أخبار وروايات رووها عن الأئمة الأطهار ـ سلام اللّه عليهم ـ في أنّ اللّه سبحانه وتعالى سيُحيي بعض المؤمنين وبعض المجرمين المفسدين لينتقم المؤمنون من أعدائهم أعداء اللّه في الدنيا قبل الآخرة.

ولو صحّت هذه الروايات، وهي صحيحة ومتواترة عند الشيعة، فلا تلزم أهل السنّة والجماعة إذا لم يثقوا بصحتها، ومن ثمّ فإنّهم غير ملزمين بوجوب الاعتقاد بها; لأنّ أئمة أهل البيت حدّثوا بها عن جدهم (صلى الله عليه وآله وسلم)! كلا لأنا ألزمنا أنفسنا بالإنصاف في البحث وعدم التعصّب، فلا نكلّفهم إلاّما ألزموا به أنفسهم وأخرجوه في صحاحهم، ولأنّ روايات الرجعة لم ترد عندهم، فهم أحراراً في عدم الأخذ بها ورفضها، هذا في صورة ما إذا أراد أحد الشيعة أن يفرض عليهم تلك الروايات.


الصفحة 404
أمّا وأنّ الشيعة لم يفرضوا على أحد أن يقول بالرجعة; ولا أنّهم يقولون بكفر من يكذّبها، فلا داعي لكلّ هذا التشنيع والتهويل على الشيعة، سيما وأنّهم يفسّرون بعض الآيات بنحو يوافق ذلك، وذلك كما في قوله تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ اُمَّة فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ }(1).

فقد جاء في تفسير القمّي عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن أبي عبداللّه جعفر الصادق (عليه السلام) قال: "ما يقول الناس في هذه الآية { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ اُمَّة فَوْجاً } "؟ قلت: يقولون: إنّه في يوم القيامة: قال: "ليس كما يقولون، إنّها في الرجعة، أيحشر اللّه في القيامة من كلّ أُمّة فوجاً ويدع الباقين؟ إنّما آية القيامة: { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أحَداً } "(2).

كما جاء في كتاب عقائد الإمامية للشيخ محمّد رضا المظفر قوله: "إنّ الذي تذهب إليه الإمامية أخذاً بما جاء عن آل البيت (عليهم السلام) ; إنّ اللّه تعالى يعيد قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعزّ فريقاً ويذلّ فريقاً آخر، ويديل المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد عليه

____________

1- النمل: 83.

2- الكهف: 47، والنص في تفسير القمي 2: 106.


الصفحة 405
وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

ولا يرجع إلاّ من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد، ثمّ يصيرون من بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقّونه من الثواب أو العقاب، كما حكى اللّه تعالى في قرآنه الكريم تمنّي هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت اللّه، أن يخرجوا ثالثاً لعلّهم يصلحون: { قَالُوا ربَّـنَا أمَتَّـنَا اثْنَتَيْنِ وَأحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلَى خُرُوج مِنْ سَبِيل }(1) "(2).

أقول: إذا كان أهل السنّة والجماعة لا يؤمنون بالرجعة فلهم كامل الحقّ، ولكن ليس من حقّهم أن يشنّعوا على من يقول بها لثبوت النصوص عنده، فليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، ولا حجّة للجاهل على العالم، وليس عدم الإيمان بالشي دليل على بطلانه، فكم من حجّة دامغة عند المسلمين لا يؤمن بها أهل الكتاب من يهود ونصارى.

وكم من اعتقادات وروايات عند أهل السنّة والجماعة بخصوص الأولياء والصالحين وأصحاب الطرق الصوفية تبدوا مستحيلة

____________

1- المؤمن: 11.

2- كتاب عقائد الإمامية للمظفر: 94 (العقيدة الثانية والثلاثون).


الصفحة 406
ومنكرة، ولكن لا تستدعي التشنيع والتهويل على عقيدة أهل السنّة والجماعة.

وإذا كانت الرجعة لها سند في القرآن والسنّة النبوية، وهي ليست مستحيلة على اللّه الذي ضرب لنا أمثلة منها في القرآن الكريم كقوله تعالى:

{ أوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ }(1).

أو كقوله سبحانه وتعالى:

{ ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ اُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أحْيَاهُمْ }(2).

وقد أمات اللّه قوماً من بني إسرائيل ثمّ أحياهم، قال تعالى:

{ وَإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(3).

وقال في أصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم موتى أكثر من

____________

1- البقرة: 259.

2- البقرة: 243.

3- البقرة: 55 ـ 56.


الصفحة 407
ثلثمائة عام: { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَـيْنِ أحْصَى لِمَا لَبِثُوا أمَداً }(1).

فهذا كتاب اللّه يحكي أنّ الرجعة وقعت في الأُمم السابقة، فلا يستحيل وقوعها في أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخصوصاً إذا روى ذلك أئمة أهل البيت سلام اللّه عليهم، فهم الصادقون العالمون.

أمّا قول بعض المتطفّلين بأن القول بالرجعة هو القول بالتناسخ الذي يقول به بعض الملحدين; فهو قول ظاهر الفساد والبطلان، ويقصدون من ورائه التشنيع والتهويل على الشيعة; إذ أنّ القائلين بالتناسخ لا يقولون بأنّ الإنسان يرجع إلى الدنيا بجسمه وروحه وصورته وكنهه، إنّما يقولون بأن الروح تنتقل من إنسان مات إلى جسد إنسان آخر يولد من جديد أو حتى إلى حيوان.

وهذا كما نعلم بعيد كلّ البعد عن عقيدة المسلمين القائلين بأنّ اللّه يبعث من في القبور بأجسامهم وأرواحهم.

فليست الرجعة من التناسخ في شيء، وهو قول الجهلة الذين لا يفقهون أو المغرضين غير الورعين.

____________

1- الكهف: 12.


الصفحة 408