الصفحة 48
معي كيف أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لم يذكر رحمته أو مغفرته عقب ذكر التوبة، كما هو الشأن في بقية الآيات الكريمة، بل عقّبها الله بما هو أشدّ وأرهب، حيث قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} وقد صرّح بذلك عمر بن الخطّاب كما ورد في صحيح البخاري بما نصّه «عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: ثمّ لبثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعلت أهابه، فنزل يوماً منزلا، فدخل الأراك، فلمّا خرج سألته، فقال: عائشة وحفصة، ثمّ قال: كنّا في الجاهليّة لا نعدّ النساء شيئاً، فلمّا جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقّاً في شيء من أمورنا، وكان بيني وبين أمرأتي كلام فأغلظت لي، فقلت لها: وإنّك لهناك، قالت: تقول هذا لي وابنتك تؤذي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأتيت حفصة، فقلت لها: إنّي أحذّرك أن تعصي الله ورسوله، وتقدّمت إليها في أذاه، فأتيت أم سلمة، فقلت لها، فقالت: أعجب منك يا عمر، قد دخلت في أمورنا فلم يبق إلاّ أن تدخل بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزواجه، فرددت، وكان رجل من الأنصار إذا غاب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهدته أتيته بما يكون، وإذا غبت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد أتاني بما يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)»(1)!

____________

1- صحيح البخاري 7: 46 كتاب اللباس، صحيح مسلم 4: 190، باب في الايلاء والاعتزال.


الصفحة 49
وقد قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى}(1) ولكن عائشة لم تقرّ، بل خرجت، وأيّ خروج خرجت تقابل أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) وما أدراك ما علي؟ وذلك لمّا علمت بانعقاد الخلافة له، وكانت حجّتها الإصلاح بين الناس، والطلب بدم عثمان، وهي القائلة: «اقتلوا نعثلا فقد كفر»(2) والغريب أنّ عائشة أرسلت إلى أمّهات المؤمنين تسألهن الخروج معها إلى البصرة، فما أجابها إلى ذلك منهن إلاّ حفصة، لكن أخاها عبد الله أتاها فعزم عليها بترك الخروج فحطّت رحلها بعد أن همّت(3).

أفمن تفعل ذلك تكون مطهّرة مطلقاً؟! إذن كيف تشمل آية التطهير نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! والخطاب في السياق لهن جميعاً والتخصيص بلا دليل، بل الدليل على خلافه.

ثانياً: أنّ الضمير المذكور في الآية عنكم {يطهّركم} إنّما هو ضمير الذكور، والسياق إنّما كان يقتضي ضمير النسوة كما هو الملاحظ، فدلّ اختلاف الضمير على اختلاف المخاطب جزماً.

ثالثاً: لازم ما قلت ـ لو كان صحيحاً ـ تناقض القرآن الكريم، فبينما يخبرنا الله تعالى بتطهيره لهن مطلقاً، يخبرنا في سورة أخرى

____________

1- سورة الأحزاب: 33.

2- تاريخ الطبري 3: 476، الكامل في التاريخ 3: 206.

3- انظر: البداية والنهاية 7: 258، الكامل في التاريخ 3: 208، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 6: 225.


الصفحة 50
بما عرفت، فإمّا أن تلتزم بتناقض القرآن مع ما فيه من الردّ على الله ـ عزّ وجلّ، وإمّا أن تقرّ بعدم شمولها لهن، وإنّها تشمل أهل البيت (عليهم السلام) على ما ذكرناهم سابقاً، ولك الخيار! مع أنّ ما ذكرت من الفهم مخالف لحديث الثقلين المتواتر كما سبق بيانه.



رواية أخرى هامّة في المقام


فقال صاحبي: اذكر لي نصوص أهل البيت على الأئمّة من بعدهم.

قلت: قبل أن أذكر لك النصوص بالتحديد، سأذكّرك بحديث أعتقد أنّك سمعته من قبل، وهو حديث لا شكّ فيه، مسلّم ; لثبوته بالتواتر المقطوع به، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» أو «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليّة» أو «من مات وليست عليه طاعة مات ميتة جاهلية»(1) حيث ورد بصيغ مختلفة زيادة في التأكيد، والحثّ على معرفة الإمام، والبيعة له.

____________

1- مسند أحمد 4: 96، مجمع الزوائد 5: 218، مسند أبي داود الطيالسي: 259، المعجم الكبير للطبراني 19: 388، مسند الشاميّين للطبري 2: 438، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 154، كنز العمال للمتقي الهندي 1: 103، علل الدارقطني 7: 63، حلية الاولياء لابي نعيم الاصفهاني، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 3: 372، صحيح بن حبان 10: 434، السنة للخلال 1: 81، منهاج السنة النبوية 1: 529.


الصفحة 51
والحديث موجّه للمسلمين كافّة إلى يوم القيامة ـ كما ترى ـ حيث لا نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) فنحن بإزاء هذا الحديث بين أمرين لا ثالث لهما: إمّا أن يكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عرّف لنا هؤلاء الأئمّة المستمرّين على امتداد الزمان بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة فقد ثبت المطلوب، أولم يقم بذلك، ومعناه أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أوقعنا في ميتة الجاهليّة، وحاشاه (صلى الله عليه وآله وسلم) فثبت الأمر الأوّل.

ومن أوضح الروايات التي تؤكّد هذه الحقيقة ما جاء في صحيح البخاري ومسلم: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان»(1) ونفس النصّ ورد أيضاً في مسند أحمد(2)، ونفسه ورد في سنن البيهقي(3)، وغيرها من المصادر الحديثية، ممّا يؤكّد أنّ الإمامة ممتدّة طالما وجد بشر، وأنّ وجوب معرفة الإمام متوجّه إلى كلّ مكلّف، ويجب أن يبحث عنه، وإلاّ مات على غير الإسلام إذا لم يكن قاصراً، وقد تبيّن ممّا سبق أنّ الإمامة الركن الأصيل في الدين، حيث قلنا: إنّه لولا الإمامة لذهب جهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ضياعاً، والعلّة المقتضية لوجودها لم تزل، فلو عرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الملأ الأعلى، ولم يبيّن لنا الأئمّة الهادين بعده لم يكن الدين كاملا، بل يكون قد جرّد من محتواه، وفقد حياته، وأصبح مدعاة للضلال والاختلاف.

____________

1- صحيح البخاري 4: 155، صحيح مسلم 6: 2.

2- مسند أحمد بن حنبل 2: 29، 93، 128.

3- السنن الكبرى 3: 121.


الصفحة 52
فهل من المعقول أن يبعث الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدين يعلم مسبقاً بعدم قيمته وفائدته؟! هل يعقل أن ينزل علينا دينا ناقصاً، وفعل الله دائماً لا يمكن أن يوسم بالنقص؟! إذن لابدّ وأن يكون دينه كاملا، إذن فقد بيّن لنا الأئمّة بعد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ما حدث، وسنبيّنه بالدلائل القطعيّة.


الصفحة 53

المراد من النعمة في آية الإكمال


قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً}(1) وقد نزلت هذه الآية الكريمة بعدما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(2).

أيّ أمر هذا الذي إن لم يبلّغه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فكأنّه لم يبلّغ الرسالة من أساسها؟ وكان ذلك في حجّة الوداع أيّ أنّ كلّ الشريعة من صلاة وصيام وزكاة وأحكام الزواج والطلاق وأحكام الميراث، وما إلى ذلك من أحكام الشريعة قد بلّغه لنا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقطع، والأمر المأمور بإبلاغه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأهميّة بحيث إنّ جهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة ثلاث وعشرين سنة متوقّف على إبلاغه، فهذا الأمر أهمّ من كلّ ما بلّغه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ الأمر المأمور به هو جوهر هذه الرسالة وهو الضامن لاستمرارها حيّة، تؤدّي دورها المفترض لها، وهو المقوّم لها بحيث

____________

1- سورة المائدة: 3.

2- سورة المائدة: 67.


الصفحة 54
لولاه لأصبحت عديمة الفائدة بلا جدوى.

وممّا سبق بيانه علم أنّ هذا الأمر لم يكن إلاّ أمر الإمامة وتعيين الأئمّة من بعده، فلولاهم لما قام للدين عمود، والنعمة من معانيها الواضحة في القرآن الكريم هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذا قال تعالى {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} والشاهد على النعمة بالمعنى الذي ذكر قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1).

إذ لم تذهب العداوة بين الأوس والخزرج، ـ التي طالت مائة سنة، حيث لا يضعون سلاحاً لا باليل ولا بالنهار، حتّى شبّ على ذلك جيل بأكمله فلم تذهب تلك العداوة ولم تخمد نارها إلاّ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو النعمة المرادة في الآية، ولكنّها كانت نعمة لم تتمّ بعد، ليس المراد، ذاته الشريفة (صلى الله عليه وآله وسلم) بل المراد تماميّتها بالنسبة إلى الأمّة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) فبالأئمّة تمّت النعمة، وكمل دين الله سبحانه وتعالى.

فقال صاحبي: إنّ آية الإكمال سابقة لآية التلبيغ، وبين الأولى والثانية أربع وستّون آية، فكيف تكون اللاحقة قد نزلت قبل السابقة؟

قلت: الجواب واضح، فالقرآن الكريم الذي بين أيدينا لم يجمع مرّتباً بحسب تسلسل نزول الآيات، فيمكن أن يقدّم اللاحق على السابق، أو تأخّر السابق على اللاحق، والذي يتدبّر القرآن ; ليخرج

____________

1- سورة آل عمران: 103.


الصفحة 55
منه بموضوع متكامل إنّما يتدبّر تدبّراً متكاملا بتتبّع الآيات كلّها ذات الصلة بالموضوع المبحوث عنه، فلاضير من هذا الذي ذكرت مع أنّ هذا قليل في القرآن الكريم، ويدرك بقليل من التأمّل، مع أنّ ما ذكرت من تمامة الدين قبل تبليغ هذا الأمر إذ كيف يكمل الدين وبعد لم يتم تعيين الإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! مع ما عرفت من الأهميّة البالغة لهذا الأمر، وكيف يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ثمّ بعد ذلك يعيّن الإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! فهذا كلام مضطرب للغاية، لا يمكن أن يصدر من حكيم.



نصوص تعيّن اثني عشر معرِّفاً


وإليك ما سألت بعضاً من الأحاديث الناصّة على عددهم وأسمائهم، فقد روى الشيخان (البخاري ومسلم) واللفظ للأوّل: عن جابر بن سمرة «يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي: إنّه قال: كلّهم من قريش»(1).

ورواية مسلم(2): «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلا، كلّهم من قريش».

في رواية أخرى «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي له فيهم اثنا عشر خليفه».

____________

1- صحيح البخاري 8: 127.

2- صحيح مسلم 6: 3.


الصفحة 56
وفي رواية ثالثة «لا يزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة».

وعن أبي داود(1) وفي ينابيع المودّة عن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا الحسين (عليه السلام) على فخذيه، وهو يقبّل عينيه، ويقبّل فاه، ويقول: «أنت سيّد ابن سيّد أخو سيد، أنت إمام ابن إمام أخو إمام، أنت حجّة ابن حجّة، أنت أبو حجج تسعة تاسعهم قائمهم»(2).

وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون»(3).

عن عباية بن ربعي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا سيّد النبيين، وعلي سيّد الوصيّين، إنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أوّلهم علي وآخرهم القائم المهدي»(4).

عن علي (عليه السلام) قال: «الأئمّة من ولدي فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله، هم العروة الوثقى، وهم الوسيلة إلى الله تعالى»(5).

____________

1- سنن أبي داود 2: 309، وانظر: مسند أحمد بن حنبل 5: 87، سنن الترمذي 3: 340، المستدرك للحاكم 3: 617، وغيرها من المصادر.

2- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 2: 316، 394.

3- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 2: 316.

4- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 2: 316.

5- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 2: 318.


الصفحة 57
وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قدم يهودي يقال له نعثل، فقال: يا محمّد، أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين، فإن أجبتني عنها أسلمت على يديك، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «سل، يا أبا عماره»، فسأل إلى أن قال: فأخبرني عن وصيّك من هو؟ فما من نبي إلاّ وله وصي، وأنّ نبيّنا موسى بن عمران (عليه السلام) أوصى يوشع بن نون.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ وصيّي علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمّة من صلب الحسين، قال: يا محمد، فسمّهم لي، قال: إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمّد، فإذا مضى محمّد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمّد، فإذا مضى محمّد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنه الحجّة محمّد المهدي، فهؤلاء اثنا عشر...» الخ(1).

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ خلفائي وأوصيائي وجميع حجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر: أوّلهم أخي وآخرهم ولدي»، قيل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أخوك؟ قال: «علي بن أبي طالب (عليه السلام)»، قيل: فمن ولدك؟ قال: «المهديّ الذي يملأها قسطاً وعدلا، كما ملئت ظلماً وجوراً، والذي بعثني بالحق بشيراً لولم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيه ولدي المهدي، ينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه، وتشرق

____________

1- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 3: 382.


الصفحة 58
الأرض بنور ربّها، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب»(1).

وعن أبي سليمان ـ راعى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ليلة أسري بي إلى السماء، قال لي الجليل جلّ جلاله: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه.

فقلت: والمؤمنون،

قال: صدقت،

قال: من خلّفت في أمّتك؟

قلت: خيرها.

قال: علي بن أبي طالب؟

قلت: نعم يا ربّ.

قال: يا محمّد، إنّي اطّلعت إلى أهل الأرض اطّلاعة فاخترتك منهم، فشققت لك اسماً من أسمائي، فلا أذكر في موضع إلاّ ذكرت معي، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطّلعت ثانية فاخترت منهم علياً فسميته باسمي، يا محمّد، خلقتك، وخلقت علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ولد الحسين من نوري، وعرضت ولا يتكم على أهل السماوات والأرض، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن يجحدها كان عندي من الكافرين، يا محمّد، لو أنّ عبداً من عبيدي عبدني حتّى ينقطع، أو يصير كالشن البالي، ثمّ جائني جاحداً لولايتكم ما غفرت له يا محمّد، تحبّ أن تراهم؟

____________

1- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 3: 295.


الصفحة 59
قلت: نعم، يا ربّ.

قال لي: انظر إلى يمين العرش، فنظرت، فإذا علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وعلي بن محمّد والحسن بن علي ومحمد المهدي كأنه كوكب دري بينهم وقال: يا محمّد، هؤلاء حججي على عبادي وهم أوصيائي، والمهدي منهم...» أيضاً أخرجه الحموي(1).

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ علياً وصيّي، ومن ولده القائم المنتظر المهدي، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً، والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً إنّ الثابتين على القول بإمامته في زمان غيبته لأعزّ من الكبريت الأحمر»، فقام إليه جابر بن عبد الله فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وللقائم من ولدك غيبة؟

قال: «إي وربّي، لا يمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين»، ثمّ قال: «يا جابر، إنّ هذا أمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله، فإيّاك والشكّ، فإنّ الشكّ في أمر الله ـ عزّ وجلّ ـ كفر»(2).

وعن عمر بن قيس، قال: كنّا جلوساً في حلقة فيها عبد الله بن مسعود، فجاء أعرابي، فقال: أيّكم عبد الله بن مسعود؟

____________

1- ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي 3: 383.

2- ينابيع المودة للقندوزي 3: 296.


الصفحة 60
قال: أنا عبد الله بن مسعود.

قال: هل حدّثكم نبيّكم كم يكون بعده من الخلفاء؟

قال: نعم، اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل(1).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: دخل جندل بن جنادة بن جبير اليهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:... إلى أن قال أخبرني يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أوصيائك من بعدك لأتمسّك بهم.

قال: «أوصيائي الاثنا عشر».

فقال جندل: هكذا وجدناهم في التوراة، وقال: يا رسول الله سمّهم لي، فقال: «أوّلهم سيّد الأوصياء، أبو الأئمّة علي، ثمّ ابناه الحسن والحسين، فاستمسك بهم، ولا يغرّنّك جهل الجاهلين، فإذا ولد علي بن الحسين زين العابدين يقضي الله عليك، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة لبن تشربه».

فقال جندل: وجدنا في التوراة وفي كتب الأنبياء (عليهم السلام) إيليا وشبّر وشبيرا، فهذه أسماء علي والحسن والحسين، فمن بعد الحسين؟ وما أسماؤهم؟

قال: «إذا انقضت مدّة الحسين فالإمام ابنه علي ويلقّب بزين العابدين، فبعده ابنه محمّد يلقّب بالباقر، فبعده ابنه جعفر يدعى بالصادق، فبعده ابنه موسى يدعى بالكاظم، فبعده ابنه علي يدعى بالرضا، فبعده ابنه محمّد يدعى بالنقي والزكي، فبعده ابنه علي يدعى

____________

1- ينابيع المودة للقندوزي 2: 314.


الصفحة 61
بالتقي والهادي، فبعده ابنه الحسن يدعى بالعسكري، فبعده ابنه محمّد يدعى بالمهدي والقائم والحجّة فيغيب، ثمّ يخرج، فإذا خرج يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً، طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبّتهم، أولئك الذين وصفهم الله في كتابه وقال: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}(1) ثمّ قال تعالى {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}(2)» فقال جندل: الحمد لله الذي وفّقني لمعرفتهم...(3).

وأكتفي بهذا القدر من الروايات، وإن كان قليلا فهو كاف في الإيصال إلى المطلوب. وكماترى كلّ ما جئت به من أحاديث هي من كتبك.

وأعتقد أنّ شمس الحقيقة قد سطعت بلا حجاب، وانقشعت ظلمة الجهل والريب بلا إياب.

استفسار

فقال صاحبي: لله درّك، فقد أوضحت لي ما كان ملتبساً بواضح البرهان، بما لا يدع مجالا لشكّ أو شبهة، لكن ثمّة استفسار بسيط، وهو ما الموقف ممّن خلفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهراً؟

فقلت له: كتاب الله واضح وصريح، قال تعالى: {مَنْ يُطِعْ

____________

1- سورة البقرة: 302.

2- سورة المجادلة: 22.

3- ينابيع المودة للقندوزي 3: 284.


الصفحة 62
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْغَالِبُونَ}(2) إلى غيرها من الآيات الكريمة.

وهناك خطبة للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة تسمّى بـ «الشقشقية» تناول (عليه السلام) فيها ما كان من أمر الخلافة، راجع النهج شرح الشيخ محمّد عبده، تحقيق الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل طبعة دار الأندلس صفحة: 39 وما بعدها.

وراجع أيضاً خطبة الزهراء (عليها السلام) التي ألقتها في مجلس يضمّ الخليفة الأوّل وحشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ; لتطلع على حقيقة الأمر، وقد ذكرها الأستاذ توفيق أبو علم في كتابه (فاطمة الزهراء) ضمن سلسلة أهل البيت، فراجعها هناك ـ إن شئت ـ بالرغم من حذفه لمقطع مهم بها، ولكن ما ذكره فيه البلغة.

ولأوضّح لك جليّة الحال، إليك هذا البيان: قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}(3).

____________

1- سورة النساء: 80.

2- سورة المائدة: 55، 56.

3- سورة آل عمران: 144.


الصفحة 63
فقد بيّن سبحانه أنّ بعد انقضاء حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا ستحدث فتنة، وهي الانقلاب على الأعقاب، وستحتفظ فئة بثباتها ويقينها وهم {الشاكرين} كما هي العادة والسنّة في الأمم السابقة بعد انقضاء حياة رسلهم، وهي سنّة تاريخيّة، ولإثبات هذه الحقيقة قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَات وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(1) فحدوث ما كان من أمر الخلافة أمر ليس بعزيز وله نظائر كثيرة في التاريخ كما حدّثنا القرآن الكريم.

أمّا سبب هذا الاختلاف فهو الظلم المتمثّل في الكبر والحسد اللذين كانا أُسّ الشقاق والمعصية منذ بداية الخلقة.

وشاهد ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في باب قول المريض قوموا عنّي: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ثمّ لمّا حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده»، فقال عمر: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللغو

____________

1- سورة البقرة: 253.


الصفحة 64
والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قوموا.

قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم»(1).

مع أنّه سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في اليوم الثامن من شهر ذي الحجّة ـ أي قبل سبعين يوماً تقريباً من وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ ما رواه زيد بن أرقم: «ثمّ لمّا رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجّة الوداع، ونزل غدير خمّ، أمر بدوحات فقممن، فقال: كأنّي قد دعيت فأجبت، إنّي قد تركت الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله تعالى وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، ثمّ قال: إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ مولاي، وأنا مولى كلّ مؤمن، ثمّ أخذ بيد علي (رضي الله عنه) فقال: من كنت مولاه فهذا وليّه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» وذكر الحديث بطوله، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله»(2).

____________

1- صحيح البخاري 7: 9، 8: 161، صحيح مسلم 5: 76، المصنف لعبد الرزاق 5: 438، السنن الكبرى للنسائي 3: 433، صحيح بن حبان 14: 562. وغيرها من المصادر.

2- المستدرك للحاكم 3: 109، وانظر حول حديث الغدير مجمع الزوائد للهيثمي 9: 164، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 93، المعجم الكبير للطبراني 5: 166، البداية والنهاية لابن كثير 5: 228، وغيرها من المصادر الكثيرة، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ـ بعد ان نقل الحديث ـ: حديث صحيح بنظرية، بل الأول منه متواتر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يظهر لمن تتبع اسانيده وطرقه وما ذكرت منها كفاية، سلسلة الاحاديث الصحيحة 4: 343، 344، التعليق على الحديث رقم 1750.


الصفحة 65
وأورده أيضاً ابن أبي شيبة في مصنّفه ونصّه: حدّثنا مطلب بن زياد، عن عبد الله بن محمّد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا بالجحفة بغدير خمّ، إذ خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخذ بيد علي فقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»(1) أَبَعدَ ما سمع ذلك مباشرة من المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول مقولته تلك؟ فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي أمّته باتّباع الكتاب والعترة، ويكرّر وصيّته قبل وفاته بلحظات حتّى لا تضلّ الأمّة ويطلب ممّن حوله كتف ودواة لكي يكتب تلك الوصية حرصاً منه (صلى الله عليه وآله وسلم) وفجأة يخرج ذلك الشخص وبكل جرأة على مقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: حسبنا كتاب الله!!

لا ليس هذا فحسب، بل يتّهم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بما اتّهمه مشركوا قريش في بداية الدعوة من الهذيان! سبحان الله، نفس المنطق ونفس الأهداف.

بالله عليك إذا كنت معاصراً لتلك الأحداث، وكنت ممّن تَشرّف بالوجود في تلك اللحظات، وسمعت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمرك بأن تأتي له بورقة وقلم، أو كتف ودواة ; ليكتب للأمّة كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، فهل كنت ستقول ما قاله ذاك الشخص؟ أم ستسارع في تلبية الأمر؟ قطعاً ستسارع في تلبية أمر حبيب الله ورسوله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن ما حدث في ذلك الوقت شيء آخر. وحسبنا الله ونعم الوكيل {وَسَيَعْلَمُ

____________

1- المصنّف لابن أبي شيبة 7: 495، 496.